fbpx
دراسات

تجديد المشروع الحضاري الإسلامي المحاور والاستراتيجيات عند د. سيف عبد الفتاح (ج 3)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

أنتقل الآن من مقام التأصيل إلى مقام التفعيل، وقد قال الدكتور سيف الدين: ((إن التأصيل إذا لم يلحق بتفعيل وتشغيل.. ظللنا نراوح في المكان لا نمارس عملية الاجتهاد الحقيقي [1]). لذا حاولت في هذا الفصل إبراز المحاور والاستراتيجيات التي ينبغي أن يكون عليها مدار هذا التجديد المنشود للمشروع الإسلامي.

وتعد هذه السياسات والبرامج ثمرة هذا البحث؛ لذا شرحت هنا مطالب التجديد المنشود للمشروع الحضاري الإسلامي كما تظهر في الرؤية التجديدية للدكتور سيف الدين، وبدأت برؤية الدكتور سيف الدين في تجديد الخطاب الإسلامي؛ حيث طرح فيها مرتكزات إعادة بناء الخطاب الديني، وجعَله قاعدة لانطلاق المشروع الحضاري الإسلامي ضمن خطاب إسلامي متجدد، ثم أتبعتها ببيان محاور واستراتيجيات تجديد المشروع الإسلامي في رؤية الدكتور سيف.

المبحث الأول: رؤية الدكتور سيف في تجديد الخطاب الإسلامي

في مقال له [2] عرض الدكتور سيف الدين عبد الفتاح رؤيته لتجديد الخطاب الإسلامي، وعرض محاور الخطاب الإسلامي الإنساني الجديد الذي تحتاج إليه الأمة.

وملخص رؤيته في هذا الشأن: أنه نظر لقضية تجديد الخطاب الديني على أنها فرع عن عملية أكبر هي: التجدد الحضاري وتجديد الأمة[3]، ووافق الدكتور المسيري في أهمية تأسيس الخطاب الإسلامي على: دعم المشترك الإنساني، ومواجهة سلبيات مشروع الحداثة الغربية، لكنه أضاف -إلى هذه المنهاجية الدفاعية- محورا آخرَ (بنائيًّا) يتعلق بإسهام الخطاب الإسلامي في بناء النهضة داخل المجتمعات الإسلامية بعد استيعاب رؤى رواد النهضة الحضارية في عملية البناء الحضاري؛ بما يعني: ضرورة تأسيس ((خطاب بنّاء يحفز طاقات الأمة الداخلية والذاتية، والمتمثلة في قدراتها النابعة[4]، بحيث يشكل كل ذلك قاعدة لانطلاق هذا المشروع الحضاري ضمن خطاب إسلامي متجدد)).

وإليكم تفصيلَ رؤية الدكتور/ سيف في تجديد الخطاب الإسلامي:

اغتصاب عملية التجديد [5]:

يرى الدكتور سيف الدين أن الانقلاب منذ أتى يقوم بالتدليس على الكلمات، ويحاول أن يقوم بملئها بمعانٍ مغلوطة وخطاب زائف لا يبتغي منه إلا أن يُحدث انقلابًا في الأفهام وقلبًا للمعاني، وقد مارس ذلك في كثير من المفاهيم التي استولى عليها واغتصبها من جملة ما وضع يده عليه، وحكم فيه بأمره، وعبث به أنى شاء … ومن جملة هذه الكلمات: الحديث عن “تجديد الخطاب الديني” .. فهو تحت هذا العنوان يمكن أن يعبث بأي شيء من دون أي ضوابط في ظل حديث أشبه بالمهاترات والمزايدات لا يمكن أن يعبر بحال عن صحيح الدين أو عما يمكن أن يحمله هذا الدين للبشرية.

الحديث إذن عن عملية التجديد الحقيقية لا عملية مغتصبة من جملة ما اُغتصب، ويلعب الدور الأقبح في ذلك هؤلاء الذين إلى دائرة علماء السلطان ينفذون كلام الجهلة والساقطين الذين لا يملكون أي أهلية إلا بكونهم اغتصبوا السلطة وتجرؤوا وفق ممارسات استهانتهم بمقام الدين[6].

عرض رؤية الدكتور المسيري في تجديد الخطاب الإسلامي وبناء الدكتور سيف عليها:

اهتم الدكتور سيف الدين بعرض رؤية المسيري في تجديد الخطاب الإسلامي والبناء عليها؛ حيث قدَّم الدكتور المسيري رؤية نقدية عالية المستوى ليس فقط للفكر الغربي، ولكن أيضًا للواقع الإسلامي، واستطاع من خلال الناظم الإسلامي أن يؤسس لمعالم خطاب إسلامي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة وضروراتها وفقه النهوض الذي يتعلق بكيانها.

ما قدمه المسيري –كما يرى د. سيف- ليس نقدًا سطحيًا من موقعٍ خارج منظومة الفكر الغربي، بل هو تحليل متعمق في قلب الظاهرة، فالتقدم والتغيير لا يكون باللحاق بالغرب، فهذه التبعية هي نفسها مصدر قتل الإبداع؛ لأنه إذا كان المطلوب اللحاق بالغرب فمعنى ذلك: أنك لا تبدع وإنما تقلد.. وهذا ما دعاه إلى تسمية جيل النهضة بأنه كان جيلًا مقلدًا؛ حيث تحول التأليف إلى ترجمة، وأصبح الذي يجيد لغة أجنبية مؤلفًا بغض النظر عن مقدرته الإبداعية، فيركز على أن يفهم فقهاء الأمة طبيعة هذه الحداثة الغربية، ويدركوا أنها ليس فيها مطلق، وأنها نسبية، وأنها -في نهاية الأمر- تفتت الإنسان وتحوله إلى مادة استعمالية.

الحاجة عند المسيري تحتاج إلى رؤية تولِّد من رحم الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهي ليست مسألة معقدة، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، فإذا تطوَّرَ الخطاب الديني يجب الاعتراف بذلك والتعاون معه؛ لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن وهذه الأمة، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات؛ لذا يوجه المسيري دعوة للعلمانيين والماركسيين للتحلي بالموضوعية، وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث.

كما يركز المسيري على أن المعرفة أساس للتجديد؛ فسبب الفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن هو قلة معرفتنا بعدونا، فالمعرفة شرط لمن أراد دخول المعركة.

وبالنهاية يدعو المسيري إلى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على التجاور والإنسان الروحاني الرباني، مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.

فهو المفكر الجريء بانتقاد حركة الاستنارة المادية المتطرفة وما قادت إليه الغرب -والعالم وراءه- من ضياع وصراعات وانتكاس في الغايات والممارسات، وانسداد في أفق المعرفة والمصير الإنساني.

(الإسلامي لابد أن يكون إنسانيًا، والإنساني المرتبط بالفطرة يجب أن يكون متضمنا إسلاميًا)، إنها القاعدة الذهبية التي آمن بها المسيري، حينما أكد على إنسانية الإسلام والإسلامي، وأن رحلته الفكرية كانت محاولة للبحث عن الإنسان، فرغم التحولات التي مر بها فإن مكونات رؤيته وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج، فجوهر رؤيته للعالم: أن الإنسان كائن فريد وليس كائنًا ماديًا، وأن المساواة بين البشر مسألة ضرورية.

الإنسان بلا شك يعيش في عالم المادة وجزء منها، لكن فيه ما يجعله يتجاوز السقف المادي.

هذه الرؤية الأساسية هي الخيط الناظم في كل ما يكتب، وفي تطور حياته الفكرية، حسب تعبير المسيري نفسه، حتى ذهب البعض إلى العامل الإنساني أو “المشترك الإنساني” هو مفتاح العالم النقدي المسيري[7].

نقد وتطوير الدكتور سيف لرؤية المسيري في تجديد الخطاب الإسلامي:

يرى الدكتور سيف الدين أن هذه السمات -التي أشار إليها الدكتور المسيري بخصوص الخطاب الإسلامي الجديد- تشكل رصدًا لأهم مفاصل ومعالم هذا الخطاب الإسلامي الجديد كما يحدده جاعلًا إياه متمحورًا حول مواجهة مشروع الحداثة الغربية، وهو أمر قد يتفق فيه معه الكثيرون باعتبار أن العلاقة مع الغرب كانت من أهم العوامل الداعية إلى صياغة خطاب إسلامي جديد.

لكن من المهم التأكيد على أن دواعي هذا الخطاب لا تنحصر في هذا الداعي الأوحد (مواجهة مشروع الحداثة الغربية)، ولكن قد يتجدد هذا الخطاب لاعتبارات تتعلق بمفاصل النهضة الداخلية وشروطها التي تسهم في تحقيقها على أرض الواقع؛ ذلك أن عملية البناء لهذه التصورات النهضوية قد ترتبط بدواعي الضرورات والحاجات لهذا الواقع الذي يفرض قضايا بعينها تشكل لبنات في عملية النهوض الحضاري؛ ذلك أنه بالإمكان أن تستثمر كل الإمكانات الذاتية في عملية النهوض وفي إطار:

خطاب بناء يحفز طاقاتِ الأمة الداخلية والذاتية، والمتمثلة في قدراتها النابعة، بحيث يشكل كلُّ ذلك قاعدةً لانطلاق هذا المشروع الحضاري ضمن خطاب إسلامي متجدد

ورغم اهتمام (المسيري) بهذا الجانب البنائي في تأسيس النهضة ضمن الرؤية الإسلامية إلا أن البعض قد يتوقف عند حد المنهاجية الدفاعية التي تقوم على قاعدة مواجهة الحداثة الغربية والتعامل معها، وغاية الأمر أنه:

من الضروري الجمع بين تلك الرؤية الدفاعية، والرؤية النقدية، وكذلك الرؤية البنائية المستقبلية

والحجة في ذلك: أن هؤلاء الذين عُنُوا بالخطاب الإسلامي الجديد وصياغته قد اختلفوا في زوايا النظر ومجهر الاهتمام، وقدموا -في مجموعهم- رؤية إذا ما أحسن صياغتها قدمت معالم رؤية استراتيجية لخطاب إسلامي جديد يُعنَى بالمواجهة كما يعنى بعملية البناء، وإن الرؤية في خطاب ذلك التوجه من مثل ما قدمه مالك بن نبي، والبشري، والسنهوري، والشاوي، والعوا، ومحمد عمارة، وشريعتي، والأساتذة: حامد ربيع ومنى أبو الفضل ونادية مصطفى، وغير هؤلاء كثير، قد شكلوا باجتهاداتهم معالم صياغة جديدة للخطاب الإسلامي وفق زوايا اهتمامهم واختلاف ملكاتهم[8].

إن الخطاب الذي يجب أن يتحقق هو:

الخطاب الذي يحقق الجمعَ بين الحقائق الكونية والوعي بقضية الهوية والسيادة؛ لأن القضايا الإسلامية لا يمكن تناولها بعيدا عن نسيجها الحضاري المتماسك[9].

المبحث الثاني: محاور واستراتيجيات تجديد المشروع الحضاري الإسلامي في رؤية د. سيف

حاولت في هذا المبحث إبراز المحاور التنفيذية التي ينبغي أن يكون عليها مدار التجديد المنشود للمشروع الإسلامي كما تظهر في الرؤية التجديدية للدكتور سيف الدين.

وقد اجتهدت في التقاط هذه المحاور من بين ثنايا الاستراتيجيات التجديدية المبثوثة في مقالات المشروع الإسلامي الكبير دون أن أتمكن من التقيد بترتيب المقالات في النشر؛ لأن هذه المحاور أقرب إلى أن تكون خريطة منظومية منتشرة في المقالات كلها.

هذا، وقد راعيت في عرض هذه المحاور الجمع بين مطلبي: (تجديد المشروع)، و(التجديد بالمشروع)، وهما مطلبان متكاملان.

وعليه فالتجديد المنشود للمشروع الحضاري الإسلامي ينبغي أن يقوم على المحاور الآتية:

أولًا- تفعيل آلية النقد الذاتي واستيعاب النقد الخارجي:

يعد النقد –في مشروع الدكتور/ سيف- ركنا من أركان الرؤية التجديدية المتكاملة التي تتألف من ثلاثة عناصر من الضروري الجمع بينها هي: “الرؤية الدفاعية، والرؤية النقدية، والرؤية البنائية المستقبلية”.

يقول الدكتور سيف: ((إذا تأكد لدينا أن مشروعنا الإسلامي الكبير غير قابل للإغفال فضلًا عن الاستئصال، وإذا نبهنا على إشكالية الاختزال؛ سواء اختزاله في أحد مجالات فاعليته (السياسة، الدعوة، المقاومة، الخدمة الاجتماعية، الفكر، التربية، بناء وتجديد المجتمع المتماسك..)، فإن ذلك لا يعني بحال أنه مشروع فوق النقد، سواء النقد الذاتي من داخله، أو النقد من مساحات تختلف معه جذريًا.

ومن ثم نؤكد أن النقد الذاتي فضيلة إسلامية يجب أن يتمتع بها هذا المشروع بروافده ومساراته وسلوكياته ونظرياته … كما أن النقد فريضة نابعة من خاصية هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

نحن أولى بكلمة الحق والمراجعة، ولا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فينا إن لم نسمعها… ومرادنا ليس إلا الإصلاح.. وأولى شيء بالإصلاح هو النفس الفردية والجمعية، ولن يقوم إصلاح إلا على يد صالحين مصلحين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].

ثم إن النقد الذاتي ضرورة حياتية عمرانية أشبه بعمليات حيوية في الجسم تتعلق بالمسح الوقائي ثم رصد السموم والأخطار، ثم مواجهتها.. إن افتقاد النقد الذاتي يصيب الجسد بمرض (الإيدز الاجتماعي).

وهذا لا يمنع من التنبيه لبعض الأمور في هذا المقام:

المشروع الإسلامي مليء بنماذج النقد الذاتي والبيني (أي: بين التكوينات الإسلامية)، وكثير منها شهدت سجالات مشهورة. نعم، كثير من هذه العمليات غير علمي أو ممنهج، لكن هذا لا ينفي أن ثمة أعمالا منهجية وموضوعية ممتازة.

إن المشروع الإسلامي لا يقبل دعوات النقد الاتهامية أو التشكيكية، أو التي تحاول أن تجعل من مثل هذه الدعوات سوقًا لترويج فرية “الفشل” و”التسبب في تراجع الثورات”.. الخ، خاصة إذا جاءت ممن باعوا كل مبدأ وخانوا كل عهد، وتسببوا في خراب الثورة والديمقراطية، وتحالفوا مع كل فاسد ومستبد، وبرروا القتل والقمع، وروّجوا الأكاذيب، وطبلوا وزمروا للانقلاب والحكم العسكري والتدخل الأجنبي، وهاجموا مفاهيم الأمة والرابطة الإسلامية لحساب تصهين علني قبيح.. عفوًا، لن نقبل الحق من أعداء الحق؛ لأن في ذلك غفلة واستغفالًا، والحق والنصح له أبواب أخرى لا تحصى.

المشروع الإسلامي عصيٌّ على الهدم؛ لأنه فعلًا يمارس النقد الذاتي، وإن كان بدرجات ونوعيات تحتاج إلى مزيد عناية وجِدِّية.. لكن ماذا عن المشروعات المنكوسة والمعكوسة، تلك التي فرقت العرب وقتلت الشعوب باسم القومية والصمود والممانعة، وتلك التي برَّرت القتل والتنكيل باسم الليبرالية، وخانت إرادة الشعوب وهي لا تستحي أن تتحدث عن الديمقراطية (وتَنَكُّرِ الإسلاميين لها!!)، وتلك التي رفعت شعارات: العدالة ومقاومة الظلم والتهميش والإفقار وما إليه، ثم أعماها حقدها الأيديولوجي فركعت للرأسمالية المتوحشة، وهاجمت الخيارات الشعبية لا لشيء إلا لأنهم يحصدون كل مكسب، فضلًا عن أدعياء الوطنية الذين ضيعوا الوطن لحساب مطامعهم الأنانية.

المشروع الإسلامي يحتاج إلى نقد على مستواه من السعة والعمق، وأن يكون الناقد واعيًا بتحدياته الذاتية والخارجية وبتنوع استجابات الإسلاميين؛ ومن ثم فلا يعمم الأحكام ويغفل أن بعض المشروع يوازن بعضه.

مثال على ذلك: الذين أثاروا الضجة حول العنف أين موقفهم من السلميين؟ وأين موقفهم من المقاومة المشروعة؟ ولماذا يميلون للتعميم الأعمى واضح العمدية؟ ثم الموقف من الديمقراطية: لماذا ينزل النقد غير البناء على السلفيين دون نظر في تطورات الموقف التأصيلي والشرعي لدى بقية المفكرين الإسلاميين.. وكذلك الموقف من الثورة: نعم الإخوان ومن شابههم إصلاحيون لا ثوريون (راجع كتاب النقد الذاتي للحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية ج1 ص 218-220)، وقد كان لذلك دور في تعثرهم وتعثر الثورة، لكن ماذا عن غيرهم من أدعياء الثورية الذين لا يريدون فيها شعبًا ولا ديمقراطية، أو شرطهم الوحيد: ثورة أو ديمقراطية بلا إسلاميين؟

إن النقد الذاتي للمشروع الإسلامي لن يتوقف، سواء حال نجاحِه وتقدمه أو حال تعثره في بعض المسارات، لكن يجب أن يكون نقدًا بناءً ومضيفًا وموضوعيًا، سواء من قِبَل أهله ورواده، أو من قبل المنصفين من غيرهم مهما كانت شدتهم، أما النقض والنقمة على المشروع والرمي بالأباطيل .. فلا نلتفت إليه، ويجب ألا يؤثر في سير القافلة. وليس هناك نقد للنقد؛ حتى لا يتحول إلى دوامات لا مخرج منها، والأفضل أن يُشفع النقدُ بأطروحات وبدائل تسد الثغرة وتكمل النقص وتعالج الأمراض؛ حتى تكون نصيحة متكاملة وتصحيحات متواصلة[10])).

والناقد البصير باحث عن مواطن الاتفاق قبل مواضع الافتراق، وهو “يتحيز لجملة من المبادئ والقيم الواضحة التي يرى د. سيف أننا لا نفعلها أو لا نحسن تفعيلها.. إما أن نتجاوزها ونتوجه مباشرة لمواضع الخلاف فنتخاصم، أو ندخل إليها مداخل هدم وصراع فنتخاصم أيضا[11]“.

ومن شروط قبول النقد: أن يبين الناقد المعايير التي بنى عليها نقده، وإلا لم يتميز النقد البناء عن الهدام، ويرى الدكتور/ سيف الدين أن إجراء النقد -وإصدار الحكم- من غير معايير ..  صورة من صور غياب المنهجية، وهو من عمل الشيطان؛ لأنه قال لربه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، ولم يبين معيار تفضيل النار على الطين، فلم يُقبَل منه هذا التعليل؛ لأن غياب المعيار يعني صدور الحكم عن هوًى واعتساف لا عن عدل وإنصاف[12].

ثانيا- تكاملية أطراف المشروع الحضاري الإسلامي:

من مطالب التجديد والإصلاح البارزة في رؤية الدكتور سيف: أن يتضمن المشروع الحضاري الإسلامي منهجية علمية وعملية تكفل للمدارس الإسلامية أن تتكامل فيما بينها، وأن يحل هذا التكامل محل التصارع والتنافس غير المحمود الذي يضعف الصف، ويبدد الجهود، ويفتح الثغرات التي يتسلل منها أعداء المشروع؛ لإجهاض النهضات التي لاحت بوادرها.

وفي هذا الإطار يقول الدكتور سيف: ((إن خرائط الاتجاهات قد تتنوع مسارًا وأولويات واهتمامات، حتى إنه يمكن الحديث عن مشروعات مختلفة أكثر مما يمكن الحديث عن مشروع واحد جامع إلا إذا تكاملت هذه المشروعات وتقدمت إلى معنى الجوامع والموافقات فيما بينها؛ تحقيقًا لجامعية الأمة كأهم شرط من شروط مواجهة التحديات كمقدمة لنهوض الأمة واستئناف مشروعها الحضاري مكانة وتمكينًا [13])).

ولا يخفى أن من مكملات هذا المطلب: أهمية أن تكون لدى المدارس الإسلامية القابلية للتشارك مع المدارس الأخرى في القدر المشترك الذي يتفق الجميع على ضروريته في تحقيق الإصلاح المنشود.

ثالثا- تفعيل الخبرة التاريخية:

يعد هذا المطلب من المطالب الضرورية لإنضاج المشروع بدروس الخبرة التاريخية الثرية، وإكسابه قدرا من المناعة ضد الإخفاقات التي يرجع كثير منها إلى غياب الوعي بالسنن الماضية.

وفي بيان أهمية الخبرة التاريخية في إنضاج المشروع الحضاري الإسلامي يقول الدكتور سيف الدين: ((لا يمكن دراسة المشروع المتعلق بالتغيير الحضاري العربي الإسلامي إلا في ضوء الذاكرة التاريخية والحضارية للمشاريع المتعلقة بالأمة العربية والإسلامية، ومن جانب آخر فإن التعرف على هذا المشروع التغييري العربي الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية هذا المشروع ضمن اجتهادات المشروعات الأخرى وضمن سياقات البيئة الكلية المحيطة بها جميعًا…

هذه السمات والدلالات يمكن استخلاصها من المرور على مراحل أو حالات ثلاث سابقة مثلت لحظات فارقة معبّرة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة:

الحالة الأولى.. يمكن تسميتها “الحالة الأندلسية”: 

وهي حالة عجيبة؛ إذ برزت فيها إرهاصات ظهور “الدولة – القومية” في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلف هو “ملوك الطوائف” … تلك الدويلات التي كرست التشرذم، كاشفةً عن القابلية لتحقق الاستئصال الذي تم بعد ذلك.

لقد قَدِم المسلمون إلى هذه البقاع ومعهم مشروع فكري فاستطال وجودهم إلى أن ذبلت الفكرة، ثم جاءهم الغرب بفكرته “قوية” وإن لم تكن ذات قيمة، فكان لا بد أن يَستأصل الشأفة؛ كلٌّ كان يصدِّر أمامه مشروعًا حضاريًا حملته “الفكرة” أكثر مما حملته القوة العسكرية.

الحالة الثانية.. ويمكن تسميتها “الحالة الصليبية”:

وهي اللحظة الثانية الكبرى للاحتكاك مع الغرب، كان التنازع فيها في جوهره – على خلاف ظاهره – فكريًا رمزيًا؛ تنازعًا على رمز “بيت المقدس”.

في هذه الحالة أيضًا كانت دويلات “شرقنا” الإسلامي تمثل تكرارًا لنموذج طوائف “غربنا” الأندلسي.. لكن مع تميز قد يبدو ضئيل القيمة؛ هو الاعتراف الأسمى والرمزي بمظلة الأمة والخلافة. لكن يلاحظ أن هذا الاعتراف وهذا الاستظلال – رغم رمزيته وشكليته – فربما هو الذي ولّد – سراعًا – خمائر مقاومة وتجميع؛ فكان أن انبلج النوريون والأيوبيون؛ مما أحدث حالة من المد والجزر لم تزل تتدافع فيها قابليات الوهن المفرّقة مع خمائر عزة مجمِّعة، فيسترد المسلمون بيت المقدس، ثم تؤخذ منهم بصورة عجيبة..

هذه التجربة والتي قبلها أفرزتا مقولات مهمة منها:

– أن الغزو حين يكون عسكريًا بحتًا يسهل التغلب عليه، وحين يصحبه مشروع فكري – ولو كان رمزيًا – فإنه يعمّر زمنًا (حتى يصل إلى قرنين في الحالة الصليبية، بينما كان ما بين سقوط بغداد باجتياح مغولي وبين عين جالوت عامان فقط). إن المشروع الفكري يطيل أَمَدَ الفعل الاستعماري وإن كان باطلًا.

– أن أمراء التغلب (ساعتها)، رغم أنه بتغلبهم واستيلائهم برزت الدويلات الممزقة؛ إلا أنهم أيضًا استطاعوا أن يؤسِّسوا معادلات صعودهم واستيلائهم على السلطة في توازن مع استخدام تلك القوة – من جانب آخر – للقيام بوظيفة “حماية الأمة”.

لقد كانت قوتهم هذه سلاحًا ذا حدّين؛ فهي التي مكنتهم – من ناحيةٍ – من حماية الأمة، لكن – من ناحية أخرى – فإن تشرذم هذه القوة كان يصبُّ في ضعف الكيان العام؛ الأمر الذي استثمره العُدوان الصليبي.

وهذا الأمر – للأسف – لا تقوم به اليوم دول – قومية صناعتها التجزئة واحتراف التبعية؛ تَصْدَع بالسيادة حيث يجب ألا تصدع بها، وتتخلى عنها حيث تجب تقويتها والاحتماء بها.

إن عالم المسلمين لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج “ملوك وحكام الطوائف”، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة.

 الحالة الثالثة.. “الحالة العثمانية” :

وشهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا – القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة الاحتلال.

لقد طرح الغرب مشروعه واضحًا إبان هذه المرحلة، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية، وقومية الكلية البروتستانتية السورية، التي انتهت بالبعث “ربًّا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثانِ”، مرورًا بثورة الشريف الكبرى … التي لم تكن تمثل إلا الغفلة الكبرى بعد نشوب الحرب العالمية الأولى[14])).

رابعا- الاعتبار المدروس لخريطة تحديات الواقع:

فهذا مطلب ضروري يكفل للمشروع الحضاري الإسلامي أن يسير بخطى ثابتة، ويحفظ طاقات أبنائه من أن تهدر في معارك وهمية لا طائل من خوضها.

يقول د. سيف: ((إننا أمام عناصر قسمة جديدة لا بد من ملاحظتها وأخذها في الاعتبار إذا ما أردنا رؤية خريطة التحديات على حقيقتها، ذلك أن كثيرًا من الدراسات في هذا المقام قد تنجح -بدرجة أو بأخرى- في رسم خريطة التحديات، إلا أنها قد لا تفلح في رصد هذه التحديات ضمن الوسط والبيئة المحيطة بها.

ويمكن تصنيف التحديات السياسية الداخلية إلى قسمين يعالج كل قسم في باب:

القسم الأول: المتعلق ببناء الأمة والتحديات المتعلقة بذلك، وهو يتضمن إثارة جملة التحديات المختلفة في كل ما يتعلق بقضايا الهوية والتعددية، وما يحيط بذلك وما يتولد عنه من قضايا؛ مثل العلاقة بين الإسلام والعروبة، والإسلام والتعددية.

أما القسم الثاني: فهو المتعلق بالكيان السياسي والعلاقة السياسية، وهذا يشتمل بدوره على مناقشة جملة من الإشكاليات والتحديات من مثل: إشكالية العلمانية وتأسيس النظم السياسية، إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية. وكذلك إشكالية العلاقة بين أطراف العملية السياسية وما يرتبط بذلك من ترجمة هذه العلاقة إلى أشكال مؤسسية مستقرة وفاعلة. وهذا يثير بدوره جملة الأزمات التي تواجه النظم السياسية في بلدان العالم الإسلامي (أزمة الهوية، أزمة الشرعية، أزمة المشاركة، أزمة التغلغل، أزمة التوزيع … إلخ)، وإمكانات مواجهتها وتقديم أنماط استجابة فاعلة لها.

في تفاصيل المشروع الإسلامي الكبير لا بد أن تلقى كل هذه الأمور وضوحًا في الرؤية واجتهادًا يستوعب معطيات الواقع ولكنه لا يخضع لإملاءاته؛ ليتعرف على مداخل تفسيره ومسالك تغييره[15])).

وبخصوص التحديات الخارجية طرح الدكتور سيف رؤية تقوم على النظر إلى ثلاثة عناصر، فقال:

((حين النظر إلى التحديات الخارجية في عالم المسلمين فإنه من المهم أن تتخذ الرؤية والمشروع الإسلامي هذه الأمور الثلاثة في اعتبارها؛ حتى يمكنها مواجهة تلك التحديات الخارجية بوعي وفاعلية.

أولها: الدولة القومية وعناصر القسمة الجديدة.

ثانيها: النظام الدولي والمتغير والثابت فيه…

ثالثها: الانقلاب العالمي في مفاهيم الاتصال والمعلوماتية والتطورات التقنية.

يقدم برتران بادي أحد علماء الاجتماع السياسي الفرنسيين أطروحة مهمة حول الدولة والنماذج اللاغربية لها ..

الدولة (علم اجتماع الدولة): وفيها يشكك في إمكانية تعميم الدولة – الأمة الغربية ورؤيتها باعتبارها التوجه الضروري والوحيد .. وفي العالم الإسلامي أكثر مما في غيره يوجد تنوع للأنظمة والممارسات السياسية يتطلب الدراسة والتفسير بدقة.

الدولتان: هذا كتاب آخر لـ “بادي” يحيلنا إلى ضرورة التعرف على علم الفروق بين نمطين من الدول: (الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام)، هذه الفروق تشير إلى الأزمة التي تمثلها فرضية الحداثة الشاملة على التفكير السوسيولوجي الذي حاول تعميم تجربة النمو الغربية على كل المناطق من العالم ..

يؤكد بادي: “لا يمكن أن تدرك بشكل سليم الهوية الاجتماعية التاريخية للحداثة السياسية (المنبثقة) من الغرب -من أجل الخروج من نظام القرون الوسطى المأزوم- إلا بمقارنتها بهوية نظام سياسي آخر مبني ضمن سياق مختلف، وفي مواجهة رهانات مختلفة، ومولد لرؤية وممارسة للسياسي من طبيعة مختلفة.

إن البناءات السياسية متعددة تاريخيًا، وهي ما تزال متباينة، ولا يمكن للسوسيولوجيا السياسية الغربية أن تقنعنا بعكس ذلك، حتى لو قلصت الحقيقة السياسية إلى تمثل تصوري مركزي أو وحيد.

يتحدث بادي عن واقع تعيشه بلدان الجنوب التي تخلصت من الاستعمار المباشر، ولكنها لم تتخلص من التبعية السياسية والثقافية. فانتهاء عهد الاستعمار لم يعنِ تلقائيًا أنه قدم لمجتمعات العالم الثالث … تنظيمات تتفق مع تقاليدها، بل الملاحظ أن ظاهرة التبعية السياسية والثقافية لم تنته بل زادت.

ورغم أن قادة الجنوب يتحدثون كثيرًا عن القطيعة مع المستعمرين السابقين فإنهم يستوردون قوانينهم ونموذجهم للتنمية وأشكالهم الديمقراطية (رغم أنهم يشكلونها بطريقتهم الخاصة). ويقومون -هم ومثقفوهم- بالتفكر والعمل والبناء تبعًا لأنماط النظم والمفاهيم الغربية، ولكن هذا التغريب المفروض يفشل، والتطعيم مشوه يتم على نحو عشوائي.

هذا التقييم النابع من (الفروق والخصوصيات) (والتغريب المفروض) (والتطعيم المشوه) (والظواهر العشوائية) لا بد أنها ستجد تأثيرًا على العلاقات الدولية تستند إلى مقولة بادي: “التاريخ لم ينته” .

إن التبعية الثقافية المتناقضة في إنجازاتها، الخيالية في طموحاتها، الساذجة في مسلماتها، التي كثيرًا ما تتسبب في صراعات عنيفة .. تزداد ترسخًا وانتشارًا، بل وتتوطد سيطرتها على المسرح الدولي.

هذا يحيلنا بدوره كيف للمشروع الإسلامي أن يتخذ المواقف الواعية والسياسات الداعمة للتعامل مع تحدي العولمة[16])).

وعن طريقة التعاطي مع تحدي العولمة طرح الدكتور سيف (العالمية) بديلا إسلاميا إنسانيا لتلافي سلبيات العولمة، فقال:

((إن الحديث عن علاقة الإسلام بالعولمة -أو موقفه منها- يجب أن يتجاوز التوفيق بين الإسلام والعولمة “ليندمج في العالم الجديد، ويقوم برسالته من خلال تطويره وتجديده بالاجتهاد”، وليس كما نكرر دائمًا في المنتديات وندافع عنه ضد تهم التخلف، وإنما علينا أن نسأل: ما هي إشكالات العولمة مع الإنسان والمجتمع؟ لأن الإسلام في جوهره رؤية للعالم بما يشتمل على رؤية للإنسان والمجتمع الإنساني، ومقاصده هي مقاصد حفظِ إنسانيةِ هذا الإنسان وتماسكِ هذا المجتمع.

القضية ليست رفضًا أو قبولا، إنما الإشكالية الأكبر هي طرح الأسئلة الحقيقية وإدراك طبيعة العولمة التي نتحدث عنها؛ حتى نستطيع التعامل مع قضاياها بوضوح وبشكل متفاعل ونقدي وتوليدي بناء، بدلًا من التعامل مع أسطورة كأساطير سبقت، فالدولة القومية التي كانت في حينها قضاءً لا مرد له، وحتمية تاريخية لبناء أمة ودولة لا دافع لها، فتم بناء الدولة على أشلاء الأمة، وتبين الآن في مرحلة “ما بعد” القومية ما فعلته “الدولة القومية” –كمفهوم- من جرائم في حق المجتمع.

فهل يمكن ضمن هذا التصور المقارنة بين رؤيتين للعالمية: العولمة المستندة إلى النموذج المعرفي الغربي، والعالمية المستندة إلى النموذج المعرفي الإسلامي، هل هذا جائز؟، وإن جاز فما هي المتطلبات المنهجية لإجراء مثل هذه المقارنات ضمن هذه المستويات المتعددة؟ [17])).

خامسا- إبراز وتوظيف الجانب الإنساني المستبطَن في المشروع الحضاري الإسلامي:

يعد هذا الجانب الإنساني من أهم الخصائص الذاتية في المشروع الحضاري الإسلامي، كما يفيد إبرازه كثيرا في تغيير الصورة النمطية التي تلصِق بهذا المشروع كلَّ ما هو عنيف.

وقد اهتم كثير من المفكرين المعاصرين بإبراز النزعة الإنسانية للمشروع الإسلامي، وهنا يقفز اسم المسيري باعتباره أحد أبرز الأسماء التي عنيت بإبراز هذا الجانب، وقد اهتم أستاذنا الدكتور/ سيف بعرض رؤية المسيري في هذا الشأن مع نقدها والإضافة إليها، وتقدم بيان ذلك عند عرض رؤية الدكتور سيف في تجديد الخطاب الإسلامي.

وفي هذا الاتجاه أكد أستاذنا الدكتور سيف الدين أهمية إبراز: النموذج المقاصدي وعلاقته بحقوق الإنسان؛ ورسَم إشارات مهمة حول الإمكانات التي يتيحها النموذج المقاصدي في التنظير لحقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية فقال تحت هذا العنوان [18]:

النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان:

تعتبر مقاصد الشريعة من أهم عناصر تأسيس الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان … فهي لب عمليات التأصيل لنظرية حقوق الإنسان؛ لمراعاة هذه الأصول في حق الناس جميعًا، أفرادًا أو جماعات، ذواتًا أو أغيارا، إن عناصر الحفظ مراعاة في حق الجميع وفي كافة المجالات.

هذه المقاصد الأساسية للمجتمع الإنساني من الشمول بحيث يندرج في مضمونها كافة الحقوق، ما كان منها ذا مضمون ديني أو خلقي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وما إلى ذلك مما يتعلق بجميع نواحي الحياة، فإن فكرة المقاصد تتسع مساحتها لتستوعب الجديد من الحقوق، ويمكن للمنهج المقاصدي أن يحرك عناصر بناء أجندة متميزة من الحقوق، وعناصر مهمة من الضوابط في عملية تنظيمها أو ممارستها.

ليست تلك سوى إشارات مهمة في الإمكانات التي يتيحها النموذج المقاصدي في تنظير حقوق الإنسان، والأمر ما يزال في حاجة لمزيد من التفصيل لا يتسع المقام له، كانت هذه أفكار للنظر الاجتهادي والتجديدي التي يجب الاهتمام بها في دائرة تجديد المشروع الإسلامي ذاته[19])).

هذا، ولا يكتفى من دعاة التجديد بالاقتصار على تجلية النزعة الإنسانية التي تعد من الخصائص الذاتية للمشروع الحضاري الإنساني الإسلامي، بل لا بد من توظيف هذه النزعة الإنسانية في إنجاز مطالب الإصلاح لهذا الواقع البئيس، ومن أهم هذه المطالب: تحرير العلوم الإنسانية من بؤس المادية الوضعية التي أعادت تشكيل مفهوم الإنسان ليؤول أمره إلى أن يصير (مادة استعمالية) على حد تعبير المسيري.  

وفي هذا المعنى يقول الدكتور سيف: ((الأمر الذي يؤكده هذا المفهوم (الحكم الراشد) بدا كأمر حاولت فيه جملة الدراسات الغربية أن تعود بالمفهوم إلى محضن المادية التي شكل بها الغرب عالم معارفه، ومن هنا فإن هذا المفهوم الذي تعلق بالحكم الراشد ما لبث أن تحول لذات الدائرة في إطار تضمينات مادية طافحة تربط الحكم الراشد بمجالات بعينها مثل الاقتصاد والشركات وإدارة الأعمال، وهو أمر يدل على أن الغرب حتى حينما يستدعي الأمر أن يستخدم كلمات من طبيعة معنوية.. فإنه لا يلبث أن يعود إلى أدراجه بحيث يحول المفهوم إلى الدائرة المادية ويصبغه بها [20])).

سادسا- تعميق النظر في تجديد فقه السياسة الشرعية:

من الحاجات الملحة التي سبق وأشرنا إليها: ضرورة التعمق في تجديد فقه السياسة الشرعية على نحو يجعله مستوعبًا للتطورات الكبيرة التي طرأت على هذا المجال في الفترة التي أعقبت حقبة التدوين لهذا الفقه وكان من شأن هذه التطورات أن غيرت شكل العالم، وأنتجت واقعا مختلفا عن الواقع الذي شهدته حقبة التدوين وكان المسلمون فيه هم الطرف الأقوى في المعادلة الدولية.

-وكان من جهود الدكتور سيف الدين في هذا الإطار: عنايته بتحرير المفاهيم السياسية من الفلسفات المادية التغريبية المناقضة للرؤية الإسلامية، باعتبار أن تحرير المفاهيم هو المدخل الأساسي لصناعة أي رؤية نظرية[21]، وقد تقدم الكلام في ذلك مع سَوْق أمثلة على المفاهيم التي عُنِي الدكتور سيف بتحريرها.

-وفي هذا الإطار كذلك دعا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح لبناء آلية عملية واقعية شرعية لعمل صياغة عصرية للشكل الذي يمكن أن تقوم عليه الوحدة الإسلامية في الوقت الراهن، مع الاستفادة بجميع التجارب الاتحادية الناجحة.

ومما يجدر التنبيه عليه في هذا السياق أن الدكتور/ سيف الدين حين يدعو إلى توحيد الأمة تحت مظلة الخلافة فهو لا يعني أن تعود الخلافة بالشكل الذي كانت عليه في التاريخ؛ لأننا لسنا متعبدين بهذه الأشكال التاريخية، وهي وليدة السياق الذي تبلورت في إطاره، و(التجارب تُعتَبَر ولا تستنسخ) كما قرر الدكتور سيف الدين، وإنما تعبدَنا اللهُ تعالى بتوحيد الأمة بالشكل الممكن في السياق الحضاري الراهن مع تحقيق جوهر الخلافة الراشدة وهو: الحكم الراشد[22]، باعتبار أن الفاعلية الحضارية لا تكون إلا بعد تحقق الجامعية.

وبناء عليه فالمطلوب هو توحيد الأمة -بما يحقق الجامعية والرشد- بالشكل الممكن الذي تسمح به الظروف وتتحول به الإمكانيات إلى مكنة والمكنة إلى تمكين على حد تعبير الدكتور/ سيف الدين الذي تأثر فيه بنظرية أستاذه/ حامد ربيع.

وهذا كلام الدكتور/ سيف الدين الذي يؤكد أنه يعي جيدا اختلاف الظروف الدولية، وحجمَ التحديات التي تواجه مطلب الوحدة؛ ولهذا فإنه دعا إلى ((استقراء الإمكانيات الحالية للبلدان الإسلامية، وضمن الأزمات التي تعايشها، ومدى قدرتها على تأسيس كيان إسلامي جيوبوليتيكي[23] مستقبلي، يمْكن له أن يكون قوة عالمية جديدة، وذلك من خلال الاستقصاء الذاتي الحالي لهذه البلدان من جهة، وضمن تموقعها داخل بناء من التوازنات الدولية الراهنة والاستراتيجيات العالمية المعاصرة من جهة أخرى … تجاه هذا الواقع الجديد يغدو التساؤل: هل يمكن أن تتكون من العالم الإسلامي قوة جيوستراتيجية مستقبلية تقف في المستوى نفسه مع القوى العظمى المعاصرة على الرغم من لحظة الانكسار والتأزم التاريخي الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم؟ والجواب: هو نعم، إلا أن ذلك سوف يتطلب مدة زمنية، لكن هذه المدة الزمنية لن تكون طويلة؛ لأن حركة التاريخ المعاصر قد اكتسبت تسريعًا هائلًا -بفضل ثورة الاتصالات- في تطور الأحداث وتبادل المواقع الحضارية بشكل قد يبدو مفاجئًا في لحظات ما من لحظات التاريخ المعاصر أو من لحظات الخارطة المستقبلية المقبلة.

إن هذه النهضة -الآنية والآتية- هي نهضة تقودها المجتمعات الإسلامية التي باتت مفتوحة على الحداثة وعلى إدراك الهدف البعيد المدى للاستراتيجيات الغربية المعاصرة التي أمست مباشرة وتحضر لضربة جديدة لهذا العالم أكثر عنفًا من السابق ووفق تكتيك مفتوح.

 ومن هنا سيكون على العالم الإسلامي -وبشكل دينامي طبيعي وتلقائي ووفق الدينامية التاريخية نفسها والتكتيك المفتوح نفسه- أن يكتشف له استراتيجية عامة لمواجهة تتجاوز الاستراتيجيات السابقة التي أخفقت في تحقيق تأمين حضاري للشعوب الإسلامية؛ فإنّ فشَل السياقات السياسية والحضارية الماضية سيفتح تلقائيًا أمام العالم الإسلامي ضرورة تحويل كيانه الجغرافي السياسي الحضاري إلى كيان جيوبوليتيكي حضاري ثم إلى كيان جيوستراتيجي حضاري ثم إلى كيان دولي يتمثل في قوة عظمى لها كينونتها المؤثرة على الساحة العالمية[24])).

فهذا كلام خبير يعي طبيعة السياق الذي يتحرك فيه، ويطرح استراتيجية تتلاءم مع هذه الطبيعة، فلا يبقى مجال للتقليل من شأن أطروحته التوحيدية بحجة اختلاف الظروف.

وقد سمعت الدكتور سيف الدين يستحسن ما سبق أن دعا إليه السنهوري من ضرورة إقامة عصبة أمم شرقية على غرار عصبة الأمم التي أقامتها القوى الدولية بعد الحرب العالمية الأولى.

وهذا دليل آخر على أن رؤية الدكتور/ سيف الدين لا تجمد عند الأشكال التاريخية للوحدة الإسلامية، وإن كانت هذه التجارب التاريخية الوحدوية تبقى شاهدة على أن تحقيق الوحدة -الجامعة لأشتات الأمة- مقدمةٌ ضرورية لحل الأزمة الحضارية الراهنة كما قرر الدكتور/ سيف الدين.

-وفي هذا الإطار التجديدي، وسعيا منه في دعم المنظومة الحقوقية للسياسة الشرعية، عني الدكتور سيف الدين بتبصير الناس بخطورة الاستبداد على الأفراد والمجتمعات؛ لصناعة رأي عام إسلامي داعم للحكم المبني على الشورى ورضا الأمة.

يقول الدكتور سيف: ((يؤكد المستشار البشري على ضرورة أن نؤسس علمًا للاستبداد؛ للتعرف على مداخله والعوامل التي تشكل قابليات له، والاجتهاد في تأسيس هذا العلم صار من الضرورات البحثية والمقتضيات العملية.

يعتبر كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي من الكتب الجديرة بالقراءة والدراسة، وقد مرت على تأليفه سنوات طويلة إلا أنه يشخص الحالة الراهنة بصورة دقيقة.

هذا الكتاب “نص حر” يحرك كل مفردات الحرية والكرامة والإرادة، إنه يطالب بكتاب للعلوم السياسية مغموس قلمه في محبرة الحرية والتضحية من أجلها، إنه يواجه كيمياء السلطة واستبدادها ويقاوم تكنولوجيا الاستبداد وتجلياتها.

ولو تدبرنا الأمر بما يحدث من تطورات في الحالة المصرية حتى وصلنا إلى محطة غاية في الخطورة وهي الحالة الانقلابية، فإن الكتاب يشير، ومن طرف خفي، في استراتيجية أسئلته الكبرى: كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد.

لو كان الأمر لي لجعلت الكتاب أحد الكتب التي يدرسها الطلاب، حتي تتعرف الأجيال على الاستبداد وتحاربه، ولكن هذا لن يتحقق إلا في ظل دولة عادلة، يُدرس بدلًا من كتب التربية الوطنية الصانعة للمستبد، المروجة لسلطانه وطغيانه؛ بالحديث تارة عن الزعيم الملهم، وتارة عن زعيم يقطر بالحكمة، فيسهل تداول الخطاب المنافق “بناء على توجيهات الزعيم”.

إنه يشير إلى جهالة الشعوب التي تشكل قابليات للاستبداد، و”الجندية” التي تشكل أخطر آليات الاستبداد: “شدة الجندية الجبرية العمومية”، اجتماع هذين الأمرين تمكين لحال الاستبداد، وكأنه يشير من كتابه المفتوح إلى استبداد الانقلاب …

وعن الحكومة المستبدة يقول الكواكبي: “الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعًا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرًا أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصًا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طباعًا وخصالًا أعلاهم وظيفة وقربًا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة”.

هذا الكلام النفيس يوحي لنا أن تأسيس هذا العلم صار من واجب الوقت … فليكن هذا محل اجتهاد المشروع الإسلامي الذي كان وما يزال أكثر من اكتوى بنيران ويلاته، ولنتعلم الدرس: كيف تفقد الشعوب حصانتها ضد الاستبداد؟ وما هي قواعد مؤسساته وشبكات فساده [25])).

سابعا- تكثيف السعي في تعظيم سلطان الأمة:

وهذا من أهم المطالب التي يجب أن يعنى بها المشروع الحضاري الإسلامي في مسيرته التجديدية الإصلاحية، وإنما أخرته في الذِّكر؛ لأن ما سبق يعد بمثابة الأدوات الممهدة لتحقيق هذا المطلب.

وتكمن أهمية هذا المطلب في أن مصادرة سلطة الأمة لصالح نفر قليل من المستبدين هو من أعظم العوائق التي تحول بين الأمة الإسلامية وبين استعادة ريادتها الحضارية.

وتحقيق هذا المطلب (تعظيم سلطان الأمة) يقتضي إنجاز عدة إجراءات يتعلق بعضها بالتحديات الخارجية وبعضها بتحديات الداخل، ومن هذه الإجراءات:

الجامعية والوحدة:

وفي هذا الصدد يركز الدكتور سيف بالأساس على عنصر” الأمة الجامعة” باعتبارها المقدمة أو الأساس في بناء أي مشروع حضاري للأمة؛ وذلك من خلال تكتل إقليمي يضم كل دول العالم الإسلامي ( عربية وغير عربية )، وأن يضم كل الطوائف المذهبية الإسلامية “السنية والشيعية” ثم بعد ذلك ترسم هذه الأطياف كلها (التي تنتمي إلى المرجعية الإسلامية) رؤية مشتركة لتحديد الخطوط العريضة للمشروع.

وفي هذا الإطار تحدث الدكتور عن ضرورة تحقيق مقصد وحدة الأمة بين الشيعة والسنة باعتبارها مقدمة لعملية بناء مشروع حضاري عمراني للأمة، ولأن التحديات مشتركة بينهم لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال تصور استراتيجي يحقق جامعية وفاعلية الأمة وتأهيلها لمعاني الرافعية للنهضة والدافعية لعمرانها. [26]

ويقول الدكتور/ سيف: ((إن مفهوم “الأمة” كان يرتبط عادة بمشروع  إصلاحي: فعبد الرحمن الناصر حين طبَّق مبدأ “النصرة والموالاة” وسار عكس تيار الشرذمة الطوائفي .. أفرز مشروعًا إصلاحيًا قوامه “الأمة الجامعة” فدانت له الأندلس.. وكذا بقايا السلاجقة (زنكي وابنه نور الدين..) والأكراد (الأيوبيون..) الذين ارتقوا على واقع “الشعوبية” وأيقنوا أن لا سبيل إلى استرداد بيت المقدس إلا من بعيد؛ من “الجبهة الموحدة”: شمال العراق مع الشام مع مصر، مع الاعتراف بالمظلة، ورفض كل الرموز المناوئة الهادمة للمظلة، هؤلاء عرفوا سر المسألة: (الأمة الجامعة) فأفلحت مساعيهم.

لقد كان كلٌ من هؤلاء يرجع – إبان الأزمة – إلى الأمة، “يفيء إلى أمر الله”، “يتحيز إلى فئته”، في عمليات كرّ وفرّ تشيد الإطار ولا تهدمه[27])).

دعم الجماعة الوطنية:

إن مطلب تعظيم سلطان الأمة يقتضي تقوية المجتمع وكياناته الأهلية؛ كي يتحقق التوازن الذي يمنع من تهميش المجتمع وابتلاع الدولة إياه. وتقوية المجتمع تتم بإنجاز كثير من المطالب لا يتسع المقام لتفصيل المقال فيها، غير أني أود هنا أن أشير إلى اثنين من أهم هذه المطالب التي أكد عليها الدكتور سيف الدين، وهما: تحقيق مفهوم الجماعة الوطنية، ودعم الجماعات الوسيطة..

تحقيق مفهوم (الجماعة الوطنية): وهو النموذج الذي بشر به الحكيم البشري؛ باعتباره وسيلة لتدارك سلبيات الاستنساخ المشوه لتجربة (الدولة القومية الغربية) في المحيط العربي-الإسلامي، فضلا عن إسهام (الجماعة الوطنية) في حل الإشكاليات العالقة المرتبطة بهذا الاستنساخ المشوه؛ كإشكالية المواطنة وإشكالية السيادة[28].

ويرتبط بهذا المطلب ضرورة دعم وتقنين الدور المهم الذي تقوم به دوائر الانتماء الفرعية المتحاضنة (الجماعات الوسيطة) في تمكين المجتمع وحفظ حيويته ومكافحة تغول الدولة.

ومن شأن تراجع هذه الجماعات الوسيطة أن ينذر بخطر داهم على منظومة الحقوق والحريات، ويمهد لحصول الاستبداد المدعوم بإمكانات الدولة الحديثة في التغول.

فلا بد إذن أن يراعي المشروع الحضاري الإسلامي العمل على دعم هذه الجماعات الوسيطة؛ حتى تعمل بكل طاقتها في تقوية المجتمع.

يقول الدكتور سيف: ((وكما يشير البشري فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها.

ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم، إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة.. إن الفرد دائمًا داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تغيير أوضاعه.. كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، وكل ما هو مطلوب: ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى، ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتيبها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض … هذا الاجتهاد لا بد أن يقف عليه المشروع الإسلامي تنظيرًا وتطبيقًا، فيتعرف على مقتضياته والبحث في مآلاته، القضية في المجتمعات المعاصرة لم تعد في الدولة القومية ولكن في معادلة الدولة القوية الفاعلة الهادفة لترسيخ واستلهام معنى الأمة في اتساع أفقها وجماعة وطنية في توثيق عراها وتمكينها[29])).

-والحديث عن تمكين الأمة وتعظيم سلطانها في مواجهة من يريد أن يجردها من صلاحيتها لصالح شرذمة من المستبدين.. يجرنا إلى الحديث عن التجديد والحكم الراشد الذي يعد من أهم مرتكزات التمكين للأمة في رؤية الدكتور سيف الدين:

وفي هذا يقول الدكتور سيف[30]: ((يقدم الحكم الراشد رؤية رحبة تتعلق بنموذج الحكم وارتباطه بالأصول الشورية والعلاقة بين معايير الحكم ومعايير المساءلة والشفافية بما يؤسس لحكم صالح: فيؤسس لعلاقة سياسية سوية من جانب، ويُشيّد معمار العلاقات بين الدولة والمجتمع من جانب آخر، بحيث يستلهم في صياغاته معاني المرجعية والشرعية والدافعية والجامعية والفاعلية. يجد في ذلك المنظور الإسلامي الحضاري تقاليد راسخة من مداخل متنوعة يمكن الوقوف عليها ضمن سياقات مقارنة تحفز عناصر الرشادة في العمليات السياسية والإدارية، وتؤكد على متطلبات المؤسسية وفاعليتها فضلًا عن ضرورة بناء الاستراتيجيات الكلية والحضارية، والعلاقة السوية بين الدولة والمجتمع، وصياغة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم بما يحقق مقاصد الحكم الصالح وأهم ما يرتبط به في التأكيد على حقوق الإنسان وتحقيق فاعليات الأمن الإنساني الشامل في منظوره الحضاري والعمراني والتنموي.

ظهور مفهوم الحكم الراشد يتعلق -بشكل عام- بقضية: كيفية الإفادة من الموارد العامة، وبناء الاستراتيجيات، وصياغة السياسات العامة، وتفعيل كل الطاقات المتعلقة بالمجال العام والقيم العامة وكذا المصلحة العامة، كما أن تحقيق التنمية مرتبط -ارتباطًا مباشرًا- بتحقيق ما نطلق عليه “الحكم الراشد”.

وتتنوع عناصر الحكم الراشد، وإن كان في مقدمتها؛ قدرة الدولة على إدارة الموارد العامة، وكذلك الالتزام بتحقيق الصالح العام، وأيضًا الشفافية، وحكم القانون، والمشاركة، فضلًا عن رأس المال الاجتماعي.

ولاشك أن هذه التصورات للمفهوم ظلت تثير قضايا تتعلق بالخصوصية والعالمية ضمن تلك الخبرات المتنوعة وضمن إسهامات لحضارات مختلفة حول هذا المفهوم، وفي القلب منها تقع الحضارة الإسلامية بمنظومة إسهاماتها الفكرية والعملية، وفي هذا السياق فإن المفهوم أشَّر على جملة من الإشكالات التي يجب التوقف عندها.

أول تلك الإشكالات يتعلق بحقيقة المفهوم وارتباطه بحضارة الغرب الذي ينتج عالم المفاهيم السائدة والغالبة والمهيمنة، ويوزع هذه المفاهيم على بقية المعمورة.

إن المفهوم خاصة بصفته التي تتعلق بالرشد والصلاح هو من صميم الرؤية الإسلامية، آية ذلك حينما وجدنا في التاريخ اللفظة التي سادت لتعبر عن حالة الحكم باسم “الخلافة الراشدة”، الخلافة الراشدة في حقيقة الأمر ليست إلا الحكم الرشيد، والتعبير عن مجمل القواعد والسنن والسمات التي تميزه عن غيره.

إن العلم الغربي والذي ظل وقتًا طويلًا لا يستخدم في علومه الكلمة التي تتعلق بأي تضمينات قيمية وضمن حركته ومسيرته العلمية التي ظل يؤكد فيها على أن العلم هو –بالأساس- لا بد أن يتشكل خارج نطاق دائرة القيم.

وفي هذا المقام فإننا ندهش من عودة كلمة وصف Good مرة أخرى لتصف عملية الحكم في امتدادها والتي تشير إلى إدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع (Governance) وهو أمر يشير كيف أن كلمة الخير والجيد قد عادت لتصف عمليات يعتبرها الغرب في صميم العلم في هذا المقام.

إن الأمر الذي يؤكده هذا المفهوم بدا كأمر حاولت فيه جملة الدراسات الغربية أن تعود بالمفهوم إلى محضن المادية التي شكل بها الغرب عالم معارفه، ومن هنا فإن هذا المفهوم الذي تعلق بالحكم الراشد ما لبث أن تحول لذات الدائرة في إطار تضمينات مادية طافحة تربط الحكم الراشد بمجالات بعينها مثل الاقتصاد والشركات وإدارة الأعمال، وهو أمر يدل على أن الغرب حتى حينما يستدعي الأمر أن يستخدم كلمات من طبيعة معنوية .. فإنه لا يلبث أن يعود إلى أدراجه بحيث يحول المفهوم إلى الدائرة المادية ويصبغه بها.

يمكن أن نتصور أهمية الحكم الصالح الرشيد ضمن عملية الهندسة الحضارية تلك وتأثير ذلك في التشييد المكين لمشاريع النهضة والإصلاح، تبدو لنا هذه الأهمية واضحة جلية في أهمية وضوح الرؤية حول المفهوم شمولًا بحيث يشير إلى صياغة سوية للعلاقة بين الدولة والمجتمع وإلى صياغة رشيدة للعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم وذلك في مواجهة كل أشكال الاستبداد التي انتشرت وكل مظاهر الفساد التي استشرت.

ومن المهم أن نؤكد على ضرورة الترجمة العملية للحكم الصالح الرشيد في ضوء الواقع الفعلي والسياقات المحيطة معتبرًا إياها غير خاضعة لكل ما أدى إلى تمكين الظلم والاستبداد والفساد، وهو أمر يتطلب أن نعرض هذا الإسهام الإسلامي في صياغة هذا التصور الكلي الشامل للحكم الصالح الرشيد في رؤية إسلامية رصينة وبصيرة تقدم لمجمل الرؤية الإنسانية إضافة لا يجوز إغفالها تستحق أن تقارن بما قدمته الحضارات والثقافات الإنسانية، كما تؤكد من جانب آخر على ضرورة أن تمارس الحضارة الإسلامية من خلال علمائها مسارًا تجديديًا واجتهادًا ضروريًا تؤصل وتشغل من خلال تلك القنوات مفهومًا عمليًا يرقى إلى أن يتنافس مع غيره ويسهم في عمليات النهوض والإصلاح.

في مسيرة الاجتهاد والتجديد تشكل منطقة الحكم الراشد أولى المساحات الأولى بالاهتمام [31])).

ثامنا- كسر الاحتكار الغربي لعملية إنتاج المفاهيم السائدة والغالبة:

وهذا المطلب مكمل لعملية تعظيم سلطان الأمة آنفة الذكر؛ إذ يعزز من السلطان الثقافي للمفاهيم الإسلامية في وقت توضع فيه العقبات على طريق انتشارها.

يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح: ((الغرب الذي ينتج عالم المفاهيم السائدة والغالبة والمهيمنة، ويوزع هذه المفاهيم على بقية المعمورة ضمن حالة من الولع لدى المغلوب[32])).

ويستنكر الدكتور سيف موقف المثقف العربي الذي رضي لنفسه بالتقليد بدلا من أن يكون ناقدا مجددا فيقول: ((يصدر الدكتور حامد ربيع في بحث غير منشور له حول “الخبرة الإسلامية ونظرية حقوق الإنسان ودلالاتها المنهجية” نقد التوجه حيال المفاهيم الغربية وتقليدها دون دليل، ومن دون تبين عناصرها ومقتضياتها ونقدها نقدًا علميًا .. فكل من أرّخ للتراث الإنساني لم يكن إلا غربيًا، وانطلق من المفاهيم الغربية، والإنسانية المتقدمة فقط هي تلك النابعة من الحضارة الأوروبية، والتقدم السياسي هو أسلوب الحياة الديمقراطية في نموذجه الغربي، لا يتجزأ أي منهما عن الآخر.

مجموعة من المفاهيم المشوهة آن لنا أن نعيد النظر في جوهرها، لا بمعنى أنها غير صادقة، ولكن على الأقل بمعنى أنها غير مطلقة، هذه المفاهيم المختلفة كان لا بد أن تفرض إطارًا معينًا في فهم التاريخ السياسي والخبرة الإنسانية، حيث التقاليد العلمية تعودت أن تنطلق في فهم أي خبرة سياسية من الإطار الفكري المجرد الذي رسبته لنا المفاهيم الغربية))[33].

وفي هذا الإطار حذر الدكتور من عمليات الإحلال المفهومي، حيث يعمد الغرب إلى إحلال مفاهيمه المعبأة بالفلسفة التفكيكية للعالم الإسلامي محل مفاهيم الجامعية التي تحمل عناصر القوة لهذا العالم، ومن هذا القبيل حرص الغرب على تثبيت مفهوم الشرق الأوسط الكبير؛ ليحل محل مفهوم الأمة الوسط و(العالم الإسلامي) في محاولة لصرف الأنظار عن عوامل توحيد الأمة وتحقيق جامعيتها  ..

يقول الدكتور: ((“الأمة” حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي “الأمة – الوسط” التي تقوم بدورها في عملية الشهود الحضاري، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي “الشرق- الأوسط” أو “المسألة الشرقية” أو “الشرق- الأوسط – الكبير” … مَن أطلق صفة “الكبير” (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من مقصود وفكرة ورسالة، إلى “مكان” مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة! إنه – بهذا – مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه “هندسة الإذعان” … إن المشروع الإسلامي -بما يحمله من علاقة مع قلبه العربي- إذا ما فطن لخطورة هذه المشاريع يمكنه أن يشكل حائط الصد في مواجهة التحديات والمخاطر[34])).

ولا يكفي رفض المفهوم -المحمل بحمولة استلابية- دون تقديم المفهوم البديل المتسق مع النموذج المعرفي الإسلامي، وفي هذا يقول الدكتور/ سيف في التنبيه على كيفية التعامل مع مفهوم العولمة: ((المهم أن نتعامل مع عولمة حقيقية لا متخيلة.. وألا نسقط في هاوية تصور متخيَّل للعولمة، كما ابتلعنا في صمت من قَبْلُ منظومة مفاهيم دون مراجعة، فمن يجرؤ على التفكير والتفسير والتحدي وتقديم البديل؟ البديل الإنساني الإسلامي … هل لنا أن نتخلى عن أنماط التفكير التي تتعامل مع عالم المفاهيم الحديث باعتبارها مفاهيم موضة لا نملك إلا ارتداءها؟[35])).

تاسعا- الإفادة من النقد الداخلي للحداثة ومنتجاتها الحضارية:

ويعد هذا العمل مكمِّلًا للمطلب السابق، ومُعينا على كسر حالة الاحتكار الغربي لإنتاج المفاهيم العابرة سابقة الذكر.

وقد أشار الدكتور سيف إلى هذا المعنى حين تحدث عن طرح (برتران بادي) ((الذي يشكك في إمكانية تعميم الدولة – الأمة الغربية، ورؤيتها باعتبارها التوجه الضروري والوحيد لسيرورة تطورها.. ذلك أن ظهور عدد هائل من الدول التقنية نتيجة لتفتت النظام الاستعماري، خارج أوربا، أدى إلى اضطراب التقاليد المكتسبة من موضوع العلاقات الدولية فضلًا عن أنه هز بعمق أيضًا التحليلات وطرق الإدراك والتفكير التي كانت وضعتها العلوم الاجتماعية انطلاقا من أفكار وملاحظات كرست للقارة القديمة.. الدولة الوليدة لا زالت هشة وغير ثابتة، وتبدو في سياستها الوطنية غير متكاملة المعالم، ومواجهة من هذا النوع تجعل من الضروري العودة للتاريخ كتأكيد للتوجهات الحالية لعلم السياسة كإمكانية حقيقية لتجاوزها.. وفي العالم الإسلامي أكثر مما في غيره يوجد تنوع للأنظمة والممارسات السياسية تتطلب الدراسة والتفسير بدقة.. ينتقد ضمن ما ينقد شمولية التصورات[36])).

كما أشار الدكتور سيف إلى نقد باومان للعولمة في تفتيتها للمجتمعات الإنسانية فقال: ((الإسلام في جوهره رؤية للعالم بما يشتمل على رؤية للإنسان والمجتمع الإنساني، ومقاصده هي مقاصد حفظ إنسانية هذا الإنسان وتماسك هذا المجتمع، وذلك في الزمان والمكان وعبر التاريخ.. كلٌ لا يتجزأ.. ومنظومة مترابطة معادية للتفكيك موالية للإنسان.

العولمة تتحدى ذلك الإنسان وتفتت المجتمع وتنشئ ما سماه (زيجموند باومان) بالتجمع Togetherness على أنقاض المجتمع، ليعيش البشر في مدن كبرى لكن بروح فردية وجماعية هي بقايا وفتات (Fragments)[37])).

المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال.. خاتمة فاتحة:

تحت هذا العنوان اختتم الدكتور سيف سلسلة مقالاته عن المشروع الإسلامي الكبير وعدم قابليته للاستئصال، ورأيت أن هذه الخاتمة تناسب المقام الذي نحن فيه، فجعلتها خاتمة لهذا البحث أيضا..

قال أستاذنا:

((من المسائل المهمة ونحن نختتم هذا الملف أن نفتحه واسعًا بما يحمل من قضايا وموضوعات، بأفقه وانفتاحه، فقد اهتممنا فيه بالسياقات وما يكمن فيها من قضايا وتحديات، كل ذلك يتطلب اجتهادًا ضروريًا وتجديدًا أساسيًا.

لقد حمل هذا الملف عنوانًا موقفيًا شاملًا (المشروع الإسلامي الحضاري الكبير غير قابل للاستئصال)، وقدمت فيه المشروع وطبيعته، والمشروع ووسطه، وماذا نعنيه بالإسلامي، ووصف الحضاري منه ومعنى ومغزى الكبير فيه، حتى لا يستغرقه فصيل أو يُستغرق في فصيل، وكان الموقف في خاتمة هذا العنوان أنه غير قابل للاستئصال، لم يكن ذلك تقديرًا وأماني، ولكن أردنا أن يكون معنى (غير قابل للاستئصال) خطة عمل متواصل ومتراكم يتسم بالرصانة والمسئولية، ويتضمن عملًا اجتهاديًا ومجددًا، عملًا منفتحًا في أفقه وغايته، موصولا بتنوعاته وإنسانيته.

قد يٌصاب هذا المشروع -وغالبًا أهله- ببعض القصور والجمود، وتارة أخرى قد يتمتع بالحيوية الإحيائية والتجديد، في دورات شرطية مفتوحة ارتبطت في مسارها بحديث التجديد، “يبعث الله على رأس كل مئة من يجدد لهذه الأمة دينها”.

إنه العمل التعارفي الذي يحرك ثلاثية المشروع الإسلامي (المعرفة والاعتراف والمعروف) [38]؛ المعرفة التراكمية البانية، والاعتراف المتعلق بحقائق الواقع في إطار القاعدة: (عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود)، أما المعروف فهو تعبير عن منظومة القيم المشتركة التي ترتبط بامتداد الإنسانية، الإنسانية هنا تستند إلى عالمية الإسلام التي هي مناط الرحمة، عالمية تكمن في الإنسانية، وإنسانية تكمن في عالميته، إنسانية هذا المشروع تعني واقعيته وانفتاحه وتفاعليته.

أما عن صفة الحضاري، التي ترتبط بمفهوم “الحضاري” فيمكن تحديدها تحديدًا منهجيًا.. فمفهوم “الحضاري” يتضمن أربعة أبعاد أساسية يتشكل ويوظَّف بها المفهوم؛ وهي:

* البعد المرجعي (الجذور والأصول) [39].

* البعد المنهجي الموضوعي (أصول المنهاجية).

* البعد الواقعي الاجتماعي (اعتبار الواقع).

* البعد العالمي الإنساني (العالمية والأنسنة).

إن خرائط الاتجاهات قد تتنوع مسارًا وأولويات واهتمامات حتى إنه يمكن الحديث عن مشروعات مختلفة أكثر مما يمكن الحديث عن مشروع واحد جامع إلا إذا تكاملت هذه المشروعات وتقدمت إلى معنى الجوامع والموافقات فيما بينها تحقيقًا لجامعية الأمة كأهم شرط من شروط مواجهة التحديات كمقدمة لنهوض الأمة واستئناف مشروعها الحضاري مكانة وتمكينًا.

ومن الأمور المهمة فى هذا المقام أن نميز بين مشروع التغيير الحضاري من منظور إسلامي وبين أشكال أخرى قد تتقاطع معه ولكنها لا تستوعب كل كمالاته وفاعلياته، من مثل البرنامج السياسي والبرنامج الحزبي وكذا البرامج الانتخابية، وكذلك من الواجب أن نميز بين المشروع الحضاري للتغيير وبين ما يمكن تسميته بالمشروعات الفكرية التي تُنسب لمؤسسات أو أفراد من مفكري هذه الأمة، وغاية الأمر في التوقف عند هذه الفروق أن نؤكد أن ما يمكن تسميته بالمشروع الحضاري للتغيير يتسم عن غيره بالشمول الواجب لاستيعاب متغيرات الساحة الحضارية وامتداداتها، كما أنه محدد في مرجعية تأسيسه.

المشروع الحضاري لا يفقد صلته بالواقع لزومًا، على ضوء القاعدة الذهبية وهي: (إعطاء الواجب حقه من الواقع، وإعطاء الواقع حقه من الواجب) … كما أن هذا المشروع الحضاري لا يتوقف عند إشكالات الواقع بل تمتد به الأمور ليقدم رؤية للمستقبل، كما أنه لا بد أن يفيد من خبرات الذاكرة الحضارية ونماذج التاريخ، وتصير أهمية مثل هذه المشاريع الحضارية أنها تُصاغ على مدى أطول زمنيًا، بينما تُصاغ الأشكال الأخرى لاعتبارات آنية مؤقتة أو لاعتبارات زمنية أقل. كما أن هذه المشاريع ترتبط بشروط فكرية وأخرى نظمية مؤسسية، وثالثة تتعلق بالشروط الحركية المرتبطة بالواقع والممارسة.

وغاية الأمر: أن هذه التحديات التي تشكل مركز اهتمام هذا المشروع صارت تتشكل وتملك تأثيراتها ضمن منظومة يصعب فيها الفصل -فى التأثير والتفاعل- بين عناصر الداخل والخارج.

إننا أمام عناصر قسمة جديدة لا بد من ملاحظتها وأخذها في الاعتبار إذا ما أردنا رؤية خريطة التحديات على حقيقتها، ذلك أن كثيرًا من الدراسات في هذا المقام قد تنجح -بدرجة أو بأخرى- في رسم خريطة التحديات أو وصفها وصفًا دقيقًا، إلا أنها قد لا تفلح في رصد هذه التحديات ضمن الوسط والبيئة المحيطة بها، فقد نتصور ذلك ضمن افتراض أن هناك “أمة إسلامية” باعتبارها كيانا يملك الإرادة السياسية المتحدة والقرار السياسي الواحد، ودراسات أخرى قد تنظر إلى هذه الدول باعتبارها دولًا قومية لا تأثير لوصف الإسلامية على وصف إشكالاتها أو تحدياتها، ومن ثم فهي تُحَيِّد ذلك الوصف وما يمكن أن يتركه من آثار تتمثل -في بعض منها- ما تحمله من ذاكرة تاريخية ممتدة لا بد أن تجد تأثيراتها الفعلية على أرض الواقع وفي إنتاج الظواهر السياسية المرتبطة به في بعض تكويناتها.. فضلًا عما تحمله هذه التحديات من مخزون تاريخي لا يمكن إهماله بأي حال في الوصف والرصد، كما لا يمكن تغافله ضمن تصورات المواجهة واتخاذ مواقف التحدي أو بدائل أخرى.

وفي النهاية فهذا المقال الاختتامي لا يشكل إشارة إلى إغلاق الملف، بل فتحه واسعًا لعملية اجتهاد وتجديد عميقة ورصينة، وهذا المشروع لا بد له من حامل، ولا بد له من حاضنة، ولا بد أن يملك أجهزة فكرية تتكامل في بناء هذا المشروع الفكري والحركي والمؤسسي، فيضمن كل ذلك الفاعلية في الأداء والتأثير [40]).

نتائج الدراسة

بعد جولة بحثية ماتعة طوَّفنا فيها بأركان مشروع تجديدي خطه بنان رائد حضاري جليل .. يحين الآن موعد اقتطاف الثمرات البحثية المتحصلة من هذه الرحلة الفكرية، فأقول وبالله التوفيق:

-المشروع التجديدي للدكتور/ سيف عبد الفتاح ينطوي على مداخلَ عصرية قيمة لمشروعات فكرية مؤثرة استوعبها المشروع الفكري للدكتور، وبنى عليها، وعمل على توظيف هذا المزيج في إنضاج طرحه التجديدي عن المشروع الحضاري الإسلامي.

-عُنِي المشروع التجديدي للدكتور/ سيف بتشغيل المداخل التراثية في واقع الأمة المتجدد، وهذه التفعيلات الحضارية –الواصلة بين مرجعية الأمة وواقعها- مطالب تجديدية على قدر كبير من الأهمية؛ إذ تصب في خانة إثبات استدامة الإمكانية الحضارية الإسلامية مهما تجدد الواقع، وتقاوم طرح العلمنة باعتبارها المخرج الحضاري الحتمي، وهو الطرح الذي يراد له أن يترسخ في الأذهان، ويجري فرضه عمليا على قدم وساق.

التعريف بالمشروع الحضاري الإسلامي:

-المشروع الحضاري للأمة الواحدة -المؤكِّد على معنى جامعيتها- يقوم في الحقيقة على تراثها وأصولها، ومن قيمها ومبادئها، ونجاح هذه الأمة يعتمد -بصورة أساسية- على مدى أصالة هذا التراث، وهذه القيم والمبادئ، واستثمار كل إمكانات هذه الأمة ومكنوناتها، فتحولها إلى مكانة وتمكين.

-عرَّف الدكتور سيف المشروعَ الحضاري الكبير بأنه: تلك الحالة العامة التي تعبر عن أفكار وخطابات وكيانات وممارسات وتفاعلات تجتمع على أن الإسلام مرجعية حضارية شاملة لتجديد مجالات الحياة في هذه الأمة وفي علاقاتها مع العالم.

-من المهم أن نميز بين مشروع التغيير الحضاري من منظور إسلامي وبين أشكال أخرى قد تتقاطع معه ولكنها لا تستوعب كل كمالاته وفاعلياته؛ مثل البرامج الحزبية، وأفكار بعض الأفراد والمؤسسات، لكن هذا لا يعني التقليل من شأن هذه الأطروحات باعتبارها روافد لدعم المشروع الجامع.

خصائص المشروع الحضاري الإسلامي:

-المشروع الحضاري الإسلامي رباني المنشأ، لكنه بشري الصياغة والتطبيق وإنساني المقصد، ويعد الجمع الواصل بين هاتين الطبيعتين من الخصائص الذاتية المميزة للمنهج الحضاري الإسلامي، أما الفصل الحداثي (الإقصائي) بين هاتين الطبيعتين فهو فصل فاسد غريب عن الرؤية الإسلامية الجامعة التي تصل الواقع الأرضي بالمنهج الرباني.

-التجدد سمة أصيلة من سمات المشروع الإسلامي، فهو نموذج قابل للتجدد؛ مواكبةً لتجدد الواقع الإنساني الذي يراد تطبيقه فيه، وهذا ينفي عن المشروع الإسلامي سمة الجمود والتحجر التي يلصقها به بعض خصومه.

-المشروع الحضاري الكبير لا يفصل الدين عن الحياة، ولا يفصل القيم عن السياسة، ولا يفصل العلوم الشرعية عن علوم الأمة والعمران أو العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإنما يجتهد ليقدم للعالم تصورًا يجمع بين المشترك الإنساني والتميز الإسلامي.

-تكمن أهمية المشروع الحضاري الإسلامي في أمور منها: أنه يحفظ للأمة كيانها السياسي، ووجودها الاقتصادي والعسكري، وقرارها الأساسي في نموذجها التنموي والسياسي، وثروتها التراثية والفكرية والثقافية، ويضمن لها جيلًا واعيًا راشدًا جامعًا بين الوعى والسعي.

-المشروع الإسلامي يرفع من قيمة الإنسان؛ حيث يجعل الدولة في خدمة الإنسان، فيحصن الأمة من غائلة الاستبداد.

-الأصول الراسخة التي ينبثق عنها المشروع الحضاري الإسلامي، والخصائص الذاتية الكامنة في بنيته (ومن أهمها خاصة: الجامعية)، والدور العمراني الذي قام به على مدار القرون التي تمثل عمر الحضارة الإسلامية .. كل هذه العوامل تَقضي بعدم إمكانية استئصال هذا المشروع لحساب مشروعات أخرى مُقحَمة –غريبة عن مرجعية الأمة- يتوهم أصحابها إمكانية هذا الاستئصال بعد إخفاقات منيت بها بعض الفصائل التي تؤمن بالمشروع الحضاري الإسلامي.

-المشروع الحضاري الإسلامي (الكبير) ليس مشروع حزب أو جماعة أو تيار أو فصيل، بل هو مشروع الأمة الذي يحمل معاني الجامعية والوحدة؛ ولهذا حذر الدكتور/ سيف دعاة المشروع الحضاري الإسلامي مما أسماه: (إشكال الاختزال)، وجعَله أخطر الإشكالات التي تحيط بالمشروع الإسلامي.

نظرية التجديد في رؤية الدكتور/ سيف الدين عبد الفتاح

التجديد في جوهره هو: الإحياء والإصلاح لعلاقة المسلمين بالدين والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه. وهو عملية ذاتية مستمرة.

علم السياسة كان أهم عامل لتثبيت التغلغل العلماني وقوة تأثيره مما جعله ركامًا فوق بعضه يحجب الرؤية كما يعرقل عملية التغيير والسير بها على صراط مستقيم؛ ولهذا كان من أحوج العلوم إلى التجديد من المنظور الحضاري الإسلامي.

التجديد السياسي في الرؤية الإسلامية يعني: تقويم الانحراف وإحياء الأصول في مواجهة المواقف المستجدة والمستحدثة دون إفراط أو تفريط أو استظهار في كل ما يتعلق بمجال السياسة، وبما يمكن من إصلاح حال الأمة وإحداث نوع من التغيير الإيجابي لعناصر الرابطة السياسية: فكرًا ونظمًا وحركة.

عملية التجديد في العالم العربي والإسلامي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال العودة إلى الأصول والتفاعل معها، ومن ثم كان الاهتمام بالربط بين التجديد السياسي الإسلامي والواقع العربي المعاصر

أولى مهام التجديد السياسي الشرعي على المستوى الفكري تتمثل في بناء علم سياسة إسلامي، والقيام بخطوات جدية لتحقيق إسلامية علم السياسية، وهو ما يتطلب ضرورة القيام بمراجعة نقدية للمفاهيم الأساسية، واستبعاد المنهجيات غير الصالحة.

أركان المنظومة التجديدية

-مجمل القول في ضبط (العملية التجديدية) في المشروع الفكري للدكتور سيف: أن العمل التجديدي ينبثق من الرؤية الكلية (المدخل المقاصدي)، ويسعى إلى تحقيق غاية معينة هي الغايات الثلاث للتصور الإسلامي وهي التوحيد والتزكية والعمران، ويستعين في تحقيق هذه الغايات بالاجتهاد المنظومي، ويتوسل في تفعيل منتجات هذا الاجتهاد بالإصلاح التشغيلي الذي يتم في إطار مربع من النظريات الضابطة، ويربط بين التصور (الاجتهادي) والتفعيل (الإصلاحي) بواسطة (أصول الفقه الحضاري)، فيتحصل المنتج النهائي لعملية التجديد في صورة أبنية مؤسسية عمرانية صالحة للقيام بإخلاص التوحيد وإحكام التزكية وإتقان العمران، وبهذا يتحقق ما يمكن أن نصفه بـ (مأسسة البنية الفكرية الراشدة)، بمعنى تحويل (البنية الفكرية الراشدة) الناجمة عن النظر الاجتهادي التجديدي إلى (أبنية مؤسسية فاعلة) تعمل بكفاءة على تحقيق الغايات التي تصبو إليها هذه البنية الفكرية، وعلى رأسها بناء الإنسان الحضاري.

شروط العملية التجديدية

يستخلَص من معالم المشروع الفكري للدكتور سيف جملة من الشروط التي يلزم تحققها لسلامة العمل التجديدي وإفضائه إلى النتائج المبتغاة منه وهي:

الواقع مرشد لا حاكم:

-مراعاة هذا الشرط من الإجراءات المنهجية المهمة التي تميز التجديد الإسلامي عن التحديث الغربي والمتغرِّب.

-موضع الواقع من البحث التجديدي الإسلامي: أنه مادة للبحث، وموضوع للنظر، ومجال للإصلاح والعمران، وتأثيره في ميدان البحث الاجتماعي والإنساني هو تأثير التوجيه.

بيان معايير الأحكام (ضبط التعليل): لأن إصدار الأحكام من غير معايير مدعاة لردها.  

الحذر من القياس الشكلي: وهو القياس المبني على التشابه في الأشكال من غير اتحاد في العلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه.

الحذر من الاختزال: الرؤية الاختزالية للمؤسِّس تنعكس في طبيعة البناء، وتحدد عمره الافتراضي.

 فقه السنن:

-استيعاب السنن مهم لتحصين التجربة الإسلامية من آفة تكرار الأخطاء مع انتظار نتائج مختلفة (السذاجة الإصلاحية).

-اليقين والثقة بالله لا تعفي صاحبها من الوقوع تحت طائلة السنن، و(الله لا يواتي بالمنن إلا إذا عُمِل بالسنن).

اعتبار المآلات:

-عملية اعتبار المآلات تقوم على نظر استشرافي ينمي الخيال السياسي لدى العقل المسلم، ويكسبه الدربة على توقع المخاطر ووضع نظم الوقاية التي تحمي البنية الفكرية وأبنيتها المؤسسية من التصدع (الاهتمام بالسياسات والاستراتيجيات الوقائية)، وبهذا ترشُد بنية (العقل المستقبلي) لدى المسلم.

-اعتبار المآلات شرط لازم لسلامة النظر التجديدي في الابتداء، وترشيد الإصلاح في الأداء، وتحصين الأبنية المؤسسية في البقاء.

فقه الأولويات: وترتيبها بناء على (ميزان المقاصد) الضابط لمراتبها؛ وإلا صارت الأبنية المؤسسية عرضة للتكلس والانحراف عن أهداف إنشائها.

محاور واستراتيجيات العملية التجديدية للمشروع الحضاري الإسلامي

أولا- رؤية الدكتور سيف في تجديد الخطاب الإسلامي

-يتفق الدكتور سيف مع المسيري في ضرورة التأسيس لمعالم خطاب إسلامي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة وضروراتها وفقه النهوض الذي يتعلق بكيانها، وإقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاور والإنسان الروحاني الديني الرباني: (الإسلامي لابد أن يكون إنسانيًا، والإنساني المرتبط بالفطرة يجب أن يكون متضمنا إسلاميًا).

-مواجهة مشروع التغريب كانت من أهم العوامل الداعية إلى صياغة خطاب إسلامي جديد، لكن دواعي هذا الخطاب لا تنحصر في هذا الداعي الأوحد، لأن الخطاب يتجدد لاعتبارات تتعلق بمفاصل النهضة الداخلية وشروطها.

-الخطاب الإسلامي المنشود يجب أن يكون خطاب بناء يحفز طاقات الأمة الداخلية والذاتية والمتمثلة في قدراتها النابعة بحيث يشكل كل ذلك قاعدة لانطلاق هذا المشروع الحضاري ضمن خطاب إسلامي متجدد.

-يتوقف البعض عند حد المنهاجية الدفاعية التي تقوم على قاعدة مواجهة الحداثة الغربية والتعامل معها، ومن الضروري الجمع بين تلك الرؤية الدفاعية والرؤية النقدية وكذلك الرؤية البنائية المستقبلية.

ثانيا- محاور واستراتيجيات تجديد لمشروع الحضاري الإسلامي في رؤية الدكتور سيف

يقتضي التجديد المنشود للمشروع الحضاري الإسلامي تحقيق المطالب الآتية:

إطلاق النقد الذاتي واستيعاب النقد الخارجي.

توظيف الخبرة التاريخية في إنضاج واقع المشروع الإسلامي.

تحقيق التكامل بين الأطراف الحاملة للمشروع الإسلامي.

الاعتبار المدروس لخريطة تحديات الواقع:

-بخصوص التحديات الخارجية طرح الدكتور سيف رؤية تقوم على النظر إلى ثلاثة عناصر:

أولها: الدولة القومية وعناصر القسمة الجديدة.

ثانيها: النظام الدولي والمتغير والثابت فيه…

ثالثها: حركة الاتصال وشبكة العلاقات الدولية.

-دعا الدكتور/ سيف لتأسيس “فقه العولمة” و”علم معلومات العولمة” لنتعرف فيه كيف تم التمكين للعولمة على الأرض في غفلة منا وربما بإذعان.

إبراز وتوظيف الجانب الإنساني المستبطَن في المشروع الحضاري الإسلامي:

-أكد الدكتور سيف على أهمية إبراز مقاصد الشريعة من حيث كونها واحدا من أهم عناصر تأسيس الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان.

تعميق النظر في تجديد فقه السياسة الشرعية:

-لا بد من تجديد الاجتهاد في هذا الفرع الفقهي؛ كي يستوعب التطورات الكبيرة التي طرأت على هذا المجال في الفترة التي أعقبت حقبة التدوين لهذا الفقه.

-لا بد من بناء آلية عملية واقعية شرعية لعمل صياغة عصرية للشكل الذي يمكن أن تقوم عليه الوحدة الإسلامية في الوقت الراهن، مع الإفادة من جميع التجارب الاتحادية.

-جهالة الشعوب هي التي تشكل (قابليات الاستبداد)، (والجندية الجبرية العمومية) هي أهم أدواته، ومن ثم يجب العمل على تأسيس (علم دراسات الاستبداد)، وتبصير الناس بخطورة الاستبداد على الأفراد والمجتمعات؛ لصناعة رأي عام داعم للحكم المبني على الشورى ورضا الأمة.

تكثيف السعي في تعظيم سلطان الأمة:

-مصادرة سلطة الأمة لصالح نفر قليل من المستبدين هو من أعظم العوائق التي تحول بين الأمة الإسلامية -ومشروعها الحضاري- وبين استعادة ريادتها الحضارية.

-تعظيم سلطان الأمة يقتضي تقوية المجتمع وكياناته الأهلية؛ كي يتحقق التوازن الذي يمنع من تهميش المجتمع لصالح المستبد.

-من شأن تراجع الجماعات الوسيطة أن ينذر بخطر داهم على منظومة الحقوق والحريات، ويمهد لحصول الاستبداد المدعوم بإمكانات الدولة الحديثة في التغول.

-وحدات الانتماء الفرعية (المتحاضنة لا المتصارعة) هي مولدات الحركة للجماعة كلها، وتقوم بدور مهم في حفظ حيوية المجتمع، ولا بد من الحفاظ على فعاليتها.

-يحل مفهوم (الجماعة الوطنية) قضية المرجعية وإشكالية المواطنة ومشاكل وحدات الانتماء ومنهج النظر ضمن سياقات تحاضنها لا تناقضها، هذا الاجتهاد لا بد أن يقف عليه المشروع الإسلامي تنظيرًا وتطبيقًا.

كسر الاحتكار الغربي لعملية إنتاج المفاهيم السائدة والغالبة: على المشروع الحضاري الإسلامي –في سعيه التجديدي- أن يسعى لكسر هذا الاحتكار المفاهيمي، وأن يضطلع بصك مفاهيمه الذاتية النابعة من مرجعيته وتراثه وحضارته وخبرة تجاربه التاريخية والواقعية، وأن يحترف تسويق هذه المفاهيم بطرق لا تقل في احترافيتها عن الطرق التي يسلكها الآخر في الترويج لمفاهيمه.


الهامش

[1] د/ سيف عبد الفتاح، الحلقة الرابعة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. الشريعة والمشروع، مرجع سابق.

[2] د/ سيف، الحلقة الـ 16 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تجديد الخطاب الإسلامي، منشور على موقع مصر العربية، بتاريخ الأحد 24 يناير 2016.

[3] ينظر لمزيد التفصيل: د. سيف عبد الفتاح وآخرون: تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية إلى الحملة الأمريكية: قراءة في قرنين، ضمن أبحاث: حال تجديد الخطاب الديني في مصر، تحرير: نادية مصطفى وإبراهيم البيومي غانم،ج1 ص159، القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية ومكتبة الشروق الدولية، ط1 2006.

[4] أي: الذاتية النابعة من ذاتها، ويطلق الدكتور سيف وصف (النابع) في مقابلة (التابع).

[5] هذا العنوان وما سيأتي من العناوين الفرعية هي من صناعة الباحث؛ لتنظيم عرض رؤية الدكتور سيف الدين.

[6] د/ سيف، الحلقة الـ 16 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تجديد الخطاب الإسلامي، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية، بتاريخ الأحد 24 يناير 2016.

[7] المرجع السابق.

[8] المرجع السابق.

[9] د/ سيف، المشروع الحضاري الإسلامي للتغيير، سيرة ومسيرة، بواسطة/ الحسن الفرياضي، على الرابط:

http://democraticac.de/?p=30830.

[10] د/ سيف الدين عبد الفتاح: (الحلقة الثالثة من سلسلة المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال) .. النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 25 أكتوبر 2015.

[11] مدحت ماهر، (حقا أنت أكثر إنسان محترم في مصر)، مقال على موقع مصر العربية بتاريخ 18/8/2014.

[12] دورة المبتدئين في المنظور الحضاري/ د. سيف عبدالفتاح: نماذج من تفعيل المنظور: مناهج الفكر والتحليل1، على الرابط

[13] المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال.. خاتمة فاتحة، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الإثنين, 29 فبراير 2016.

[14] الحلقة العاشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 13 ديسمبر 2015

[15] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 11 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية (1)، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 20 ديسمبر 2015.

[16] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 13 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. ، التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 3 يناير 2016.

[17] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تحدي العولمة، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 10 يناير 2016.

[18] د/ سيف الدين عبد الفتاح،  الحلقة الـ 19 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 14 فبراير 2016.

[19] د/ سيف الدين عبد الفتاح،  الحلقة الـ 19 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 14 فبراير 2016.

[20] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 17 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التجديد والحكم الراشد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 31 يناير 2016.

[21] يراجع للتفصيل: د. سيف الدين عبد الفتاح، بناء المفاهيم الإسلامية، ص 3 ، سلسلة: (في التنوير الإسلامي) الكتاب رقم 60، القاهرة، نهضة مصر، الطبعة الثانية، سبتمبر 2009

[22] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 17 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التجديد والحكم الراشد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 31 يناير 2016.

[23] جيوبوليتيك (الجيوسياسية (مصطلح تقليدي ينطبق في المقام الأول على تأثير الجغرافيا على السياسة، فهـو علم دراسة تأثير الأرض (برها وبحرها ومرتفعاتها وجوفها وثرواتها وموقعها) على السـياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميزات وفق منظور مستقبلي. (ويكيبيديا). والذي فهمته من كلام الدكتور هنا أنه يعني ضرورة إقامة كيان جغرافي إسلامي متجاوز للحدود، بحيث يكون الرابط الجامع بين أجزائه هو الوحدة السياسية على أساس الانتماء للعالم العربي والإسلامي.

[24] الحلقة الـ 12 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التحديات الحضارية الخارجية وعالم المسلمين (2)، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 27 ديسمبر 2015 .

[25] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 18 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. علم “الاستبداد”.. ضرورة تأسيس واجتهاد مطلوب، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 07 فبراير 2016.

[26] د/ سيف، المشروع الحضاري الإسلامي للتغيير، سيرة ومسيرة، بواسطة/ الحسن الفرياضي، على الرابط:

http://democraticac.de/?p=30830.

[27] د. سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الثامنة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 29 نوفمبر 2015.

[28] د. سيف عبد الفتاح، الحلقة السادسة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. الأمة وعواقب الدولة القومية (2)، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 15 نوفمبر 2015 .

[29] الدكتور/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة السابعة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. الجماعة الوطنية: اجتهاد في حق الوطن والمواطنة، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 22 نوفمبر 2015.

[30] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 17 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التجديد والحكم الراشد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 31 يناير 2016.

[31] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 17 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التجديد والحكم الراشد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 31 يناير 2016.

[32] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 17 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. التجديد والحكم الراشد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 31 يناير 2016.

[33] د/ سيف الدين عبد الفتاح،  الحلقة الـ 19 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. النموذج المقاصدي وحقوق الإنسان، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 14 فبراير 2016.

[34] الحلقة الثامنة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير. وينظر أيضا استكمال هذه الرؤية في: الحلقة التاسعة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد, 06 ديسمبر 2015.

[35] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تحدي العولمة، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 10 يناير 2016.

[36] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 13 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. ، التحديات الخارجية ومعضلة الدولة القومية والعلاقات الدولية، بتصرف، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 3 يناير 2016.

[37] د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تحدي العولمة، منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 10 يناير 2016.

[38] ما بين هذين القوسين من زيادتي؛ لأجل التوضيح.

[39] تصرفت هنا بالاقتصار على إيراد عناوين الأبعاد الأربعة؛ حيث سبق إيراد شرحها في الفصل الأول عند الكلام عن معنى حضارية المشروع الإسلامي في رؤية الدكتور سيف.

[40] المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال.. خاتمة فاتحة، بتصرف.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close