fbpx
تحليلات

تحولات جذرية في استراتيجيات الأمن القومي الألمانية واليابانية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 1919، والهزيمة الكبيرة التي تعرضت لها دول المحور الذي ضم ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية، وما ترتب على هذه الهزيمة من تداعيات كبيرة ليس فقط على هذه الدول ولكن على معظم دول العالم وعلى بنية النظام الدولي خلال هذه المرحلة، وكان توقيع صلح فرساي لتسويات ما بعد الحرب، البداية الفعلية للحرب العالمية الثانية، وكانت سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى بمثابة مرحلة الاتجاه نحو الحرب الثانية، ففي عام 1931 احتلت اليابان إقليم منشوريا في الصين وتوسعت في جنوب شرق آسيا على حساب بريطانيا، وفي عام 1933 تولى هتلر قيادة الحزب النازي في ألمانيا وبدأ خطته الاستراتيجية لإعادة بناء القوة الألمانية.

وفي عام 1939 كانت بداية حرب هتلر الانتقامية على القارة الأوربية، ولأن عدو عدوي صديقي، فقد تحالفت اليابان مع هتلر في مواجهة الأعداء المشتركين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، فتم الإعلان عن محور برلين ـ روما ـ طوكيو، في مواجهة كل من بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، واجتاح هتلر كل أوروبا وفرض سيطرته عليها، وتمددت اليابان في جنوب شرق آسيا، حتى وجدت في الولايات المتحدة الخطر الأكبر عليها، في ظل الدعم الأمريكي للقوات البريطانية في المنطقة، وكذلك الدعم الأمريكي للثوار الصينين ضد الاحتلال الياباني لأراضيهم.

فقامت اليابان بضرب الأسطول الأمريكي في ميناء بيرل هاربور في السادس والعشرين من نوفمبر 1941، وكان ذلك السبب المباشر لإعلان الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية الثانية بجانب دول الوفاق (بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفيتي) في مواجهة ألمانيا وإيطاليا واليابان، ونجحت في حسم الحرب باستسلام اليابان وتقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية، وفرضت عليهم شروطاً ترتبط بعدم التسلح وتسريح الجيوش، على أن تتولى الولايات المتحدة حماية الدولتين وتأمينهما.

وظلّت استراتيجيات الأمن القومي لكل من ألمانيا واليابان دفاعية بامتياز، حتى جاء العدوان الروسي على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير 2022، بداية لتحولات استراتيجية بموافقة أمريكية في استراتيجيات الأمن القومي للدولتين، اللذين أصبحتا حليفين استراتيجيين للولايات المتحدة، ويتحولان من الدفاع للهجوم برعايتها وموافقتها، في مواجهة روسيا الاتحادية التي كانت حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.

أولاً: تحولات استراتيجية الأمن القومي اليابانية

تضمّنت استراتيجية الأمن القومي الياباني الجديدة للسنوات الخمس القادمة (2022 ـ 2027)، عدداً من المنطلقات والركائز الأساسية، من بينها:

1ـ رصد ميزانية تقديرية، 300 مليار يورو، للإنفاق العسكري خلال 5 سنوات، بزيادة 56% عن السنوات الخمس السابقة (2017-2022) بهدف امتلاك قدرات عالية على شن هجوم مضاد بأسلحة قادرة على استهداف مواقع إطلاق صواريخ العدو، وفي هذا السياق يأتي التحرك الياباني لشراء 500 صاروخ توماهوك كروز من الولايات المتحدة وصواريخ “إس إم-6” طويلة المدى، وذلك في حال وجود خطر حتمي على اليابان، أو خطر على دولة صديقة يقود لخطر حتمي على اليابان، وألا توجد وسيلة أخرى لتفادي الضربات المعادية، مع النص على أن يكون الرد بالحدّ الأدنى الممكن.

2- نشر أكثر من ألف صاروخ كروز طويل المدى، وتحسين صواريخها المضادة للسفن من النوع 12 والمركبة على شاحنات، والتي طورتها مجموعة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة اليابانية، لكن مداها الحالي لا يتجاوز 200 كيلومتر، وكذلك تطوير صواريخ “فرط صوتية” تُحلق بسرعة أكبر 5 مرات من سرعة الصوت (ماخ 5).

3- بناء نحو 130 مستودعاً جديداً للذخيرة على أراضيها بحلول عام 2035 لاستيعاب صواريخ “الهجوم المضاد” وغيرها من الأسلحة.

4- تعزيز الوجود العسكري في الجزر الواقعة في أقصى الجنوب، الأقرب إلى تايوان والبر الرئيسي للصين، من خلال مضاعفة وحدات قوات الدفاع الذاتي المجهزة بقدرات اعتراض الصواريخ الباليستية، وزيادة عدد جنودها المتمركزين في مقاطعة أوكيناوا في الطرف الجنوبي الغربي من الأرخبيل، من ألفين إلى ثلاثة آلاف جندي.

5- وضع قوات الدفاع الذاتي البرية والبحرية والجوية اليابانية تحت قيادة موحدة من أجل الاستجابة بسرعة أكبر لحالات الطوارئ، وتسهيل استخدام الجيش للموانئ والمطارات المدنية في البلاد حتى في أوقات السلم.

6- إنشاء وحدات متخصصة جديدة من قوات الدفاع الذاتي، تكون مسؤولة عن الطائرات المسيرة والحرب الإلكترونية.

7- تحسين القدرات على جمع المعلومات والرد على الأسلحة عالية التقنية مثل القنابل المحلقة والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وتطوير طائرة مقاتلة من الجيل التالي بحلول عام 2035 مع المملكة المتحدة وإيطاليا.

8ـ مضاعفة ميزانية الدفاع السنوية التي تبلغ حاليا نحو 1% من إجمالي ناتجها المحلي، لتصبح 2% بحلول 2027، بما يتوافق مع الالتزامات المماثلة التي تبنتها الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.

كما نصّت استراتيجية الأمن القومي الياباني على قائمة بأهم الخصوم الذين يشكلون تهديداً استراتيجياً مستقبلياً لليابان، وتشمل كلاً من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، فذكرت أن الموقع العسكري للصين يزداد قوة ويشكّل مصدر قلق كبير لليابان والأسرة الدولية، وتحدياً استراتيجياً غير مسبوق لسلام اليابان واستقرارها.

وفي مواجهة التهديد الصيني أكدت الاستراتيجية على مضاعفة أعداد قوات الدفاع الذاتي في الجزر الواقعة في أقصى جنوب اليابان والأقرب إلى تايوان المتنازع على سيادتها بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، كما ستُضاعف اليابان حجم وحدات اعتراض الصواريخ الباليستية، وخاصة مع تزايد المخاوف اليابانية بعدما كثَّفت الصين التدريبات العسكرية بالقرب من تايوان، وسقوط عدد من الصواريخ الصينية في المنطقة الاقتصادية الخالصة للأرخبيل الياباني.

وحول كوريا الشمالية، أكدت استراتيجية الأمن القومي أن الأعمال العسكرية الكورية تشكل تهديداً خطيراً ووشيكاً لليابان اليوم أكثر من أي وقت مضى، كما يتزايد الشعور بالخطر من روسيا لأن استعدادها لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها الأمنية الخاصة كما هو الحال في أوكرانيا، واضح، ونشاطاتها العسكرية في منطقة آسيا والمحيط الهادي وتعاونها الاستراتيجي مع الصين، كلها أمور من شأنها أن تشكّل مصدر قلق كبير للأمن الياباني.

وكان طبيعياً أن تتفاوت ردود الفعل الإقليمية والدولية تجاه الاستراتيجية الأمنية الجديدة لليابان، وخاصة من الصين والولايات المتحدة، فالصين التي عانت من ويلات الاحتلال الياباني قبل الحرب العالمية الثانية، وتتحدث في وثائقها الأمنية والعسكرية عما تسميه النزعة العسكرية اليابانية الوحشية في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت الصين من ضحاياها، أعلنت رفضها للاستراتيجية الجديدة، وذكرت أن اليابان تتجاهل الحقائق وتبتعد عن التفاهمات المشتركة وعن التزامها بعلاقات ثنائية جيدة، وتُشوّه سمعة الصين.

حيث تتخوف الصين من تحول اليابان من النهج الدفاعي الذي ظلت ملتزمة به منذ 1945 وحتى بدايات العام 2022، إلى تنبي سياسات هجومية، والدخول في تحالفات عسكرية من شأنها أن تدفع باتجاه عسكرة جنوب شرق آسيا، وخاصة في ظل العلاقات الاستراتيجية بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت هي الأخرى في استراتيجيتها للأمن القومي التي أعلنت عنها في أكتوبر 2022، الصين هي التهديد الاستراتيجي للولايات المتحدة وهيمنتها على قمة النظام الدولي.

وهو ما يعني أن استراتيجية الأمن القومي الياباني 2022 بمثابة امتداد جيو – استراتيجي لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2022، ومن هنا جاء الترحيب الأمريكي بالاستراتيجية اليابانية، حيث ذكر مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان إن “هدف اليابان المتمثل في زيادة استثماراتها الدفاعية بشكل كبير سيعزز التحالف الأميركي الياباني ويحدّثه”.

ثانياً: تحولات استراتيجية الأمن القومي الألمانية

في عدد يناير/ فبراير 2023، نشرت مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) الأمريكية مقالاً موسعاً للمستشار الألماني أولاف شولتز، تحت عنوان: “كيف نتجنب حرباً باردة جديدة في عصر متعدد الأقطاب؟”، يمكن اعتباره وثيقة رسمية لاستراتيجية الأمن القومي الألمانية لمرحلة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي كانت ألمانيا من أهم القوى الأوربية تعاطياً مع تطوراتها وتحولاتها وما فرضته من تداعيات وتحديات.

ومن خلال مقال شولتز يمكن الوقوف على عدد من الأبعاد الأساسية التي تقوم عليها استراتيجية الأمن الألمانية الجديدة، والتي ستشهد تحولات جذرية مقارنة بما كان عليه الوضع قبل حرب أوكرانيا، ومن بين هذه الأبعاد حدود الدور الألماني، حيث ذكر شولتز نصاً: “تبذل ألمانيا كل ما في وسعها للدفاع عن وتعزيز نظام دولي قائم على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وتعتمد ديمقراطيتها وأمنها وازدهارها على ربط القوة بقواعد عامة مشتركة. وهذا هو السبب في أن الألمان عازمون على أن يصبحوا الضامن للأمن الأوروبي، كما يتوقع منا حلفاؤنا، وأن يقوموا بمد جسور التواصل داخل دول الاتحاد الأوروبي وأن يناصروا كل المساعي التي تستهدف إيجاد حلول متعددة الأطراف للمشاكل العالمية. وهذه هي الطريقة الوحيدة لكي تتجاوز ألمانيا الخلافات الجيوسياسية في عصرنا هذا بنجاح”.

وأضاف: “تستطيع ألمانيا وأوروبا المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد دون الخضوع لوجهة النظر القاضية بأن العالم محكوم عليه بالانقسام مرة أخرى إلى كُتل متنافسة. ويتحمل تاريخ بلادي مسؤولية خاصة في محاربة قوى الفاشية والاستبداد والإمبريالية. وفي الوقت نفسه، فإن تجربتنا في الانقسام إلى شطرين خلال منافسة أيديولوجية وجيوسياسية تمنحنا بشكل خاص القدرة على تقدير مخاطر أي حرب باردة جديدة”.

وما ذهب إليه شولتز في هذا السياق يتنافى مع حقيقة أن ألمانيا في مرحلة من مراحل التاريخ المعاصر كانت إحدى قوى التدمير في العالم، فقد كانت طرفاً في حربين عالميتين طاحنتين في النصف الأول من القرن العشرين، كما شهدت بروز واحدة من أعنف الأيديولوجيات السياسية وأكثرها تطرفاً في العالم المعاصر، وهي النازية، وأن القيود التي تم فرضها على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بل وتقسيمها إلى دولتين بين معسكرين كان هدفها الحيلولة دون استعادة ألمانيا لقدراتها العسكرية، ومنعها من الانتقام للإذلال الذي تعرضت له في الحرب العالمية الثانية.

البُعد الثاني الذي تطرق إليه شولتز في رؤيته، هو موقع ألمانيا في المعادلات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة، فذكر أنه “في نوفمبر 1989، تم إسقاط جدار برلين من قبل المواطنين الشجعان من ألمانيا الشرقية. وبعد 11 شهراً فقط من ذلك التاريخ، تم توحيد البلاد بفضل السياسيين ذوي الرؤية البعيدة ودعم الشركاء في كل من الغرب والشرق. وأخيراً، “يمكن أن ينمو معاً ما ينتمي معاً، كما قال المستشار الألماني السابق ويلي براندت بعد وقت قصير من سقوط الجدار (أي أن الدولة المتحدة يجب أن تحل محل ما كان عليه الوضع قبل ذلك من التمزق والانقسام”.

وأضاف: “هذه الكلمات لا تنطبق فقط على ألمانيا ولكن أيضاً على أوروبا ككل. فقد اختار الأعضاء السابقون في حلف وارسو أن يصبحوا حلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكذلك أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولم تعد عبارة “أوروبا كاملة وحرة”، على حد تعبير جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، تبدو وكأنها أمل لا أساس له. وفي هذه الحقبة الجديدة، بدا من الممكن أن تصبح روسيا شريكاً للغرب بدلاً من العداوة التي كانت إبّان الاتحاد السوفيتي، ونتيجة لذلك، قلصت معظم الدول الأوروبية جيوشها وخفضت ميزانياتها الدفاعية، وكان منطق ألمانيا لماذا نحافظ على قوة دفاع كبيرة قوامها حوالي 500,000 جندي بينما يبدو أن جميع جيراننا أصدقاء أو شركاء؟”.

لكن هذه الأوضاع تحوّلت واختلف المنطق السائد ليس فقط الألماني ولكن الأوروبي، وارتبط هذا التحوّل، من وجهة نظر شولتز بالتحولات في السياسة الروسية، فيقول: “بدأت الطموحات الاستبدادية والإمبريالية تُطل برأسها من جديد. ففي عام 2007، ألقى بوتين خطاباً عدوانياً في مؤتمر ميونيخ للأمن، ساخراً من النظام الدولي القائم على القواعد باعتباره مجرد أداة للهيمنة الأمريكية. وفي العام التالي، شنّت روسيا حرباً على جورجيا. وفي عام 2014، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها إلى أراضيها وأرسلت قواتها إلى أجزاء من منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، في انتهاك مباشر للقانون الدولي والتزامات موسكو الخاصة بالمعاهدات ذات الصلة. وشهدت السنوات التي تلت ذلك قيام الكرملين بتقويض معاهدات الحد من التسلح وقامات بتوسيع قدراتها العسكرية، وتسميم وقتل المعارضين الروس، وقمع المجتمع المدني، والقيام بتدخل عسكري وحشي لدعم نظام الأسد في سوريا. ورويداً رويداً، اختارت روسيا بوتين طريقاً أبعدها عن أوروبا وأبعدها عن نظام تعاوني سلمي”.

وفي مواجهة السياسات الروسية وما ترتب عليها من مخاطر وتحديات كانت ألمانيا حاضرة بقوة في قيادة الردع الأوروبي للسياسات الروسية، وهنا يشير شولتز إلى أن ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون والدوليون في مجموعة الدول السبع الكبرى حافظوا على حماية السيادة والاستقلال السياسي لأوكرانيا، ومنع المزيد من التصعيد من قِبل روسيا واستعادة السلام في أوروبا والحفاظ عليه. وكان النهج المختار في ذلك هو عبارة عن مزيج من الضغط السياسي والاقتصادي المقترن بإجراءات تقييدية على روسيا مع استمرار الحوار.

لكن هذه السياسات من وجهة نظر شولتز لم تنجح في ردع روسيا، وهنا يقول: “أدى الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في فبراير 2022 إلى ظهور واقع جديد جوهري، فقد عادت الإمبريالية إلى أوروبا، إذ تستخدم روسيا بعضاً من أبشع الأساليب العسكرية في القرن العشرين وتتسبب في معاناة لا توصف في أوكرانيا. حيث لقي عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين حتفهم بالفعل؛ وأصيب الكثيرون أو تعرضوا لصدمات نفسية، واضطر ملايين المواطنين الأوكرانيين إلى الفرار من منازلهم بحثاً عن ملاذ آمن في بولندا ودول أوروبية أخرى؛ وقدِم مليون منهم إلى ألمانيا”.

وأضاف: “لكن تأثير الحرب الروسية يتجاوز حدود أوكرانيا. فعندما أصدر بوتين الأمر بالهجوم، حطّم بنية السلام الأوروبية والدولية التي استغرق بناؤها عقوداً، وتحت قيادة بوتين، تحدّت روسيا أبسط مبادئ القانون الدولي على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، بوجوب التخلّي عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية والتعهد باحترام استقلال وسيادة ووحدة أراضي جميع الدول. وبصفتها كقوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن إلى إعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم، مرة أخرى، إلى كتل ومناطق نفوذ”.

البعد الثالث، في عقيدة شولتز السياسية، هي العمل وبحسم على ما أسماه “وقف الإمبريالية الانتقامية لروسيا”، وهنا قال نصاً: “يتمثل الدور الحاسم لألمانيا حالياً في تصعيد دورها كواحدة من موفّري الأمن الرئيسيين في أوروبا من خلال الاستثمار في جيشنا، وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وتعزيز وجودنا العسكري على الجناح الشرقي لحلف الناتو، وتدريب وتجهيز القوات المسلحة الأوكرانية”.

وبالتالي سيتطلب دور ألمانيا الجديد ثقافة استراتيجية جديدة، جوهرها، أولاً، ترسيخ الشراكة عبر الأطلسي والبناء والاستثمار في شراكات وتحالفات قوية في جميع أنحاء العالم، ثانيها، تخصيص صندوق خاص بحوالي 100 مليار دولار لتجهيز القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) بشكل أفضل، وتعديل الدستور لإنشاء هذا الصندوق، الأمر الذي يشكل تغييراً جذرياً في السياسة الأمنية الألمانية منذ تأسيس الجيش الألماني في عام 1955، وثالثها تعزيز الدعم السياسي والمواد والقدرات التي تحتاجها القوات الألمانية من خلال استثمار 2% من الناتج المحلي الإجمالي للميزانية العسكرية.

ورابعاً، إعادة النظر في مبدأ راسخ للسياسة الألمانية منذ عقود بشأن صادرات الأسلحة. فاليوم، ولأول مرة في تاريخ ألمانيا الحديث، تقوم بتسليم الأسلحة إلى أحد أطراف حرب دارت رحاها بين دولتين (روسيا وأوكرانيا). وشمل الدعم الألماني لأوكرانيا الأسلحة المضادة للدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات وأنظمة الرادار المضادة للبطاريات، وتدريب نحو 15000 جندي أوكراني، ومن بينهم لواء كامل (5000 جندي) في ألمانيا.

وخامسها، تعزيز ألمانيا وجودها على الجناح الشرقي لحلف الناتو، في ليتوانيا وتخصيص لواء كامل لضمان أمنها، كما تساهم بقوات في المجموعة القتالية لحلف شمال الأطلسي في سلوفاكيا، وتساعد في مراقبة وتأمين المجال الجوي في إستونيا وبولندا، كما شاركت البحرية الألمانية في أنشطة الردع والدفاع لحلف شمال الأطلسي في بحر البلطيق. وتساهم بفرقة مدرعة وأصول جوية وبحرية في نموذج القوة الجديد لحلف الناتو، بجانب شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 مزدوجة القدرة.

وتأكيداً على هذه التوجهات الجديدة، قال شولتز: “إن رسالتنا إلى موسكو واضحة للغاية، مفادها: نحن مصممون على الدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو ضد أي عدوان محتمل. وسنحترم تعهد الناتو الجاد بأن الهجوم على أي حليف واحد سيعتبر هجوماً على الحلف بأكمله. كما أوضحنا لروسيا أن خطابها الأخير بشأن الأسلحة النووية متهور وغير مسؤول .. وعلى بوتين أن ينتبه جيداً لهذه الكلمات”.

خلاصات

1ـ خلال الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة العدو الاستراتيجي الأكبر والأخطر لليابان، ولم تنجح في القضاء على القوة اليابانية إلا بعد استخدام القنابل النووية في هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في أغسطس 1945، وإعلان استسلام اليابان بعد إذلالها عسكرياً وتسريح جيشها وتفكيك مؤسساتها العسكرية.

هذا في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة حليفاً استراتيجياً للثوار الصينيين الرافضين للاحتلال الياباني، وقدمت لهم أمريكا الدعم المالي والعسكري واللوجيستي لطرد اليابانيين من أراضيهم.

اليوم وبعد مرور 77 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع دخول العالم في مخاض حرب عالمية ثالثة، الولايات المتحدة حليف استراتيجي لليابان وعدو استراتيجي للصين، لتتأكد مقولة عدو الأمس صديق اليوم، وصديق الأمس عدو اليوم، ويبقى الرابط بين المعادلتين هو الطرف الثالث الأمريكي الذي يمتلك القدرة على إدارة التحالفات وتغيير قواعد التوازنات، بما يضمن له استمرار التفوق والهيمنة، حتى لو تحولت كل دول العالم إلى مسارح للعمليات وأراض للحروب والصراعات.

2ـ تشكل ألمانيا بالفعل أهم القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الاتحاد الأوربي، وكانت أحد أهم أوراق قوة وبقاء واستمرار واستقرار هذا الاتحاد منذ بداياته الأولى عام 1951، ثم تحوّله لاتحاد عام 1992، إلا أن دورها وصعودها وتحولاتها ترتبط بمتغيرين استراتيجيين من خارج أراضيها هما المتغير الأمريكي والمتغير الروسي، حيث كان لهذين المتغيرين التأثير الأهم على موقع ومكانة وحدود دور وفاعلية ألمانيا خلال القرن الماضي، ويرتبط بهما مستقبل الدور الألماني.

ورغم ما يفرضه هذان الدوران من معوقات إلا أن التحدي الروسي قد يدفع الولايات المتحدة لغض الطرف بل لدعم تحولات استراتيجية الأمن القومي الألمانية الجديدة، كما قامت بدعم تحولات استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة، ترسيخاً لمقولة “عدو الأمس صديق اليوم”، فكل من ألمانيا واليابان كانتا أهم خطرين يواجهان الولايات المتحدة بين 1919 و1945، لكنهما اليوم أهم حلفائها، وأهم أوراق قوتها في مواجهة روسيا واحتواء الصين.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close