
تداعيات التدخل العسكري الروسي في سوريا على تركيا
مقدمة
تشكل تركيا بالنسبة إلى روسيا أهمية كبيرة، فهي صلة الوصل بين آسيا وأوروبا برا وبحرا، كما أن تركيا عضو في الناتو ولها تأثير في محيطها الإقليمي. هذه الجغرافيا السياسية فرضت على البلدين التعاون، بعدما كانت العلاقات لعقود طويلة في حالة عداء زمن الثنائية القطبية، وانعكس هذا الأمر بشكل جلي في الجانب الاقتصادي الذي يشكل حجر الزاوية في متانة العلاقات بين الجانبين.
إلا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا غير بوصلة العلاقات بين البلدين إلى وجهة غير معلومة من حيث النتائج والدلالات. حيث سمح هذا التدخل بتموضع روسيا على الحدود الجنوبية لتركيا، وجعل من روسيا لاعبا رئيسيا يسعى إلى تغيير قواعد الصراع داخل الحدود السورية، وما يستتبع ذلك من آثار سلبية قد تصيب عمق الأمن القومي التركي، هذا إلى جانب الخطر الذي سيشكله على موقعها الجغرافي الإستراتيجي.
أولاً: مكانة تركيا ضمن الأهداف الروسية من التدخل في سوريا:
لم يقتصر التدخل العسكري الروسي في سوريا على المجال الجغرافي لسوريا فحسب، فقد امتد اختراق الطائرات الروسية في سورية للمجال الجوي التركي، والتحرشات التي تعرّضت لها المقاتلات التركية من قبل الروس، وهو ما أدى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى تحذير روسيا، من إمكانية “خسارة” صداقة تركيا. وبرز الحديث عن أن الخرق الروسي للمجال الجوي التركي، “كان مقصوداً”، وأنه أصبح أمراً واقعاً بعدما أعلنت رئاسة الأركان التركية في بيان لها (6 أكتوبر 2015) تعرُّض 8 طائرات تركية (إف 16)، خلال قيامها بأعمال دورية على الحدود مع سورية للتحرش من قبل طائرة “ميغ 29” مجهولة الهوية ومن قبل أنظمة صواريخ SA المتمركزة في سورية.
وبالتالي تشير كثير من الدلائل إلى أن الاختراق الروسي للمجال التركي، كان يحمل بعداً أساسياً، يتمثل في إيصال رسالة إلى الأطلسي عن مدى جدية الروس في تدخلهم في سورية، وهو ما تأكد بالفعل على أرض الواقع وقد يكون نوعاً من السياسات العدوانية التي تستهدف سحب الحلف للتفاوض للوصول إلى صفقة شاملة، يكون فك العقوبات عن روسيا أحد بنودها، لذلك يحاول الروس إظهار سياسات أكثر عدوانية، كما فعل الإيرانيون، لجذب العالم للتفاوض معهم في سبيل فك العقوبات الاقتصادية والعزلة السياسية التي باتوا يعانون منها بعد تعقد الملف الأوكراني.
يضاف الى ذلك احتمال أن يكون للأزمة الأوكرانية أثر على القرار الروسي لزيادة تدخله في سوريا، وقد يكون للاتفاق النووي الإيراني الأمريكي أثر أيضاً، لأن الاتفاق النووي سوف يفتح أمام إيران أبواب صداقة وتعاون وأسواق غربية جعلتها القيادة الإيرانية الخامنئية من أولوياتها السياسية والإستراتيجية، وإلا تعرضت للزوال والرحيل، سواء بالضغوط والحصار الاقتصادي الذي لم يستطع الروس ولا الصينيون منعه، مما أضعف الاقتصاد الإيراني، وهذا الاتفاق قد يكون أثره سلبياً على الاقتصاد الروسي بعد تدفق وزراء خارجية الغرب على طهران لإبرام العقود الاستثمارية معها في المستقبل، وبالتالي تراجع حاجة إيران إلى روسيا أولاً، وتراجع حاجتها إلى تركيا أيضاً، والتدخل العسكري الروسي في سوريا قد يكون من أهدافه إطالة أمد التحالف الروسي الإيراني المشترك في سوريا وخارجها، وإبقاء الحاجة الإيرانية إليه في دعم موقفها الدولي في قضايا مشابهة في العراق ولبنان واليمن وما بعدها .
في سياق هذه الرؤى والاحتمالات لا يتضح أن هناك خطورة مباشرة على تركيا، أي أن تركيا غير مستهدفة من التدخل الروسي في سوريا بصورة مباشرة، بل إن السياسة الروسية بحاجة إلى استرضاء السياسة التركية لنجاح مهمتها في سوريا، سواء وافقت عليها تركيا أو لم توافق من حيث الأصل، والدعوة الروسية إلى الحكومة التركية بعودة المباحثات تشير إلى رغبة روسيا في زيادة التعاون الاقتصادي مع تركيا، وهذا يعني ان روسيا لا تضع تركيا في برنامجها العدواني في سوريا، وقد يفسر ذلك قلة ردود الأفعال السياسية التركية على التحرك الروسي في سوريا، بل قد ترى فيه السياسة التركية نوعا من تخفيف الأضرار التي لحقت بالصراع السوري، وبالأخص في ارتفاع وتيرة الحرب الأهلية الطائفية، التي قادتها الميليشيات الإيرانية وحرسها الثوري وتوابعها العربية المتشيعة للمرجعية الإيرانية المذهبية والسياسية والعسكرية، حيث رأت بعض الأطراف التركية في ذلك مزيد من تدويل للأزمة، بما يعني مزيدا من الاهتمام الأوربي والغربي بالقضية مخافة انفراد روسيا بالملعب السوري
ثانياً: تحديات التدخل العسكري في سوريا على تركيا
فرض التدخل العسكري الروسي في سورية جملة من التحديات على أنقرة التي كانت تسعى لتحقيق مجموعة من المطالب التي تعتبرها بمثابة آليات لتسهيل الحل للنزاع في سورية، الا أن هذا التدخل سلط الضوء على التناقضات بين موسكو وأنقرة حول ما يجب القيام به حيال النزاع في سورية.
بناء على ذلك، يمكن القول إنّ التدخّل العسكري الروسي في سوريا فرض على تركيا عدة تحدّيات، منها:
الأول: تعقيد مطلب تركيا بإقامة منطقة آمنة شمال سوريا:
كانت مطالب تركيا طيلة الثلاث سنوات الأخيرة هي ضرورة انشاء منطقة آمنة في شمال سوريا، لتمكين قوات المعارضة من تنظيم صفوفها، وفرض منطقة حظر جوي لحمايتهم من نظام الأسد. وكانت أنقرة تسعى لاقناع حلف الناتو لتحقيق هذه المطالب. ولكن المراوغة الأمريكية فاقمت من تعقيدات الأزمة السورية وشجعت بوتين على التدخل العسكري في سوريا.
لذلك تشعر تركيا بأن أحد أهم أهداف التدخل العسكري الروسي هو منع إقامة منطقة أمنية عازلة طالبت بها، ولعل نوعية بعض الأسلحة والمعدات تشير إلى هذا الأمر، فنشر نظام الدفاع الصاروخي SA22 – كما تشير التقارير- هدفه يتجاوز محاربة داعش أو استهداف الفصائل المسلحة أو حتى حماية المنشآت الروسية التي أقيمت في سوريا، وإنما له أهداف لها علاقة بمنع إقامة منطقة أمنية عازلة وربما باحتمال تطور المواجهة العسكرية لاحقا إذا ما اتخذت الدول المعارضة للتدخل الروسي موقفا عمليا من هذا التدخل .
هذا اذا أضفنا توافق إيران وروسيا في هذا الموقف باعتبارهم من أشد المعارضين لطرح المنطقة الآمنة والحظر الجوي، وهذا يعني أنّ على من يريد المشاركة في إنشاء مثل هذه المنطقة في هذا التوقيت أن يضمن موافقة موسكو عليها، لتفادي إمكانية التصادم العسكري معها حال تمّ المضي قدما في الموضوع، دون أخذ اعتراضها عليه بعين الاعتبار، خاصّة أنّ نوعية بعض الأسلحة التي نشرتها روسيا في سوريا ترتبط بمثل هذا الموضوع، أكثر من ارتباطها بالذريعة الروسية العلنية، وهي محاربة تنظيم “داعش ” .
الثاني: كيفية تقديم تركيا الدعم العسكري والبشري للمعارضة السورية:
زادت خشية القيادة التركية أن يؤدي دعمها المباشر للفصائل المسلحة إلى حدوث تصادم بين الجانبين الروسي والتركي، خاصة بعد توجيه موسكو تحذيرا شديد اللهجة إلى أنقرة من أن الطيران الروسي سيقصف كل المراكز التي يمر عبرها المقاتلون الأجانب في حال سمحت الحكومة التركية لمقاتلين بعبور الحدود نحو سوريا . وقد بدا ذلك واضحا مع انتهاك طائرات روسية المجال الجوي التركي، والتي كانت بمثابة رسالة تحذير واضحة من موسكو الى أنقرة.
هذا اذا أضفنا حقيقة أنّ العمليات العسكرية لموسكو لا تستهدف بالتأكيد داعش، وإنما الفصائل الأخرى التي كانت في الأصل السبب الرئيسي في إضعاف نظام الأسد إلى حد الانهيار وهو ما جعله يستنجد بالتدخل العسكري الروسي. اذن استهداف هؤلاء يشكل ضربة كبيرة لتركيا سواء في جهودها للاستفادة منهم في تأمين المنطقة الآمنة المفترضة، التي تسعى لتحقيقها أو في سعيهم للإطاحة بنظام الأسد .
الثالث: كيفية التعاطي مع حزب العمال الكردستاني:
أصبح هذا الحزب يشكل تحديا كبيرا للقيادة التركية، وفرض نفسه كلاعب مهم في معادلة حل النزاع في سوريا، حيث طلب المشاركة في العمليات العسكرية الروسية، وأصبح بذلك حليفا للولايات المتحدة وروسيا على السواء. من شأن هذا الأمر تعظيم خطر الصعود الكردي الذي يتطلع إلى ربط المناطق الكردية من أقصى الشمال إلى أقصى الشرق وصولا إلى جبال قنديل التي ترى تركيا أنها تقف وراء هذا المشروع تطلعا إلى إقامة إقليم كردي في تركيا يحكمه حزب العمال الكردستاني. ما يعزز مخاوف تركيا أيضا هو سياق
مناقشات خطة روسية لإنشاء “دولة علوية” على الساحل الذي قد يدفع الأكراد إلى تبني نفس الخطوة على الحدود التركية.
ثمة من لا يستبعد مثل هذا الأمر طالما خرجت الأزمة السورية عن إطارها السوري إلى صراع إقليمي ودولي قد ينتج خرائط سياسية وجغرافية جديدة، تركيا قد تجد هنا أن سياستها تجاه الأزمة السورية لم تعد تتعلق بالنظام السوري وإنما هي سياسة الحفاظ على البقاء بالمنطق الواقعي .
ثالثاً: الخيارات المتاحة أمام تركيا لمواجهة تداعيات التدخل الروسي
يمكن القول أن التدخل العسكري الروسي في سوريا قد أحبط حسابات تركيا، حيث قلص من نسبة نجاح المعارضة السورية في تحقيق الانتصارات الميدانية التي يمكن أن تضعف و تسقط نظام الأسد في نهاية المطاف، الأمر الذي دفع بتركيا إما القبول بالأمر الواقع أو التنسيق مع روسيا في حربها على تنظيم الدولة، خاصة بعد اتهام أنقرة لهذا التنظيم بأنه المشتبه به الرئيسي وراء الانفجاريين الأخيرين في أنقرة.
كما أصبح على تركيا العمل على تشكيل تحالفات، سواء إقليمية أو من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي، لتعزيز مطالبها في إنشاء منطقة عازلة لإيواء اللاجئين السوريين. ومع ذلك، فخيارات تركيا في سوريا لا تزال محدودة في ضوء التحديات السياسية والأمنية التي تواجهها البلاد. ومن بين هذه الخيارات:
(1) رفع مستوى تسليح المعارضة السورية، لعرقلة العمليات العسكرية الروسية، مما قد يؤدي الى استنزاف قدرات روسيا العسكرية والمالية، على غرار ما حدث للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وهي خطوة من الممكن أن تفرض تدداعيات سلبية على علاقاتها بروسيا، وبالتالي فهو خيار مستبعد.
(2) تفعيل قواعد الاشتباك خاصة بعد لجوء تركيا الى حلف الناتو وتهديد رئيس الحكومة التركي داود اوغلو بأن ” القوات المسلحة لديها أوامر واضحة حتى لو كان طائرا محلقا فسيتم اعتراضه”. الا أنه أمر يصعب تنفيذه، لاسيما وأن تركيا تدرك أنه لا يمكن التصعيد العسكري في سوريا دون التنسيق مع جهات عديدة، فضلا عن مخاوفها من الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران.
(3) أن تدعو تركيا كافة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، على أن تتنازل على شرط –عدم القبول بالأسد كطرف في المفاوضات- وهو خيار يبدو صعباً على الحكومة التركية تبنيه، لأنه سيقلل من مصداقيتها، إلا أنه سيسمح لها بالحفاظ على موقفها حول ضرورة إيجاد حل للنزاع في سوريا بشكل يخفف عنها العبء الذي تحملته منذ اندلاع الثورة في سوريا والتي تدخل عامها الخامس دون التوصل حل يرضي جميع الأطراف.
الخيار الأرجح:
يعد الخيار الثالث هو الأكثر ترجيحا خاصة إذا تم إشراك أطراف دولية وإقليمية فاعلة ،مثل السعودية، في المفاوضات، لمواجهة الحسابات الإيرانية والروسية أيضا، وتبدو أنقرة حريصة على التنسيق مع القيادة السعودية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن سقوط سورية في يد إيران سيشكل تهديدا مباشرا لأمن السعودية والخليج عموما.
وبناءً على ما تقدم يبدو أنه في ظل محدودية الخيارات المطروحة أمام تركيا لمواجهة تداعيات التدخل العسكري الروسي في سوريا، فإنه بات لزاما على تركيا أن تتجنب الدخول في أي مواجهة مع روسيا. خاصة بعد أن تبين أن روسيا لا تستهدف تركيا بالتحديد، ضمن تدخلها في سوريا، إلا أنها لن تتوانى لحظة عن التضحية بتركيا إذا ما شعرت بأي تحرك من هذه الأخيرة بالتنسيق مع الغرب، قد يمس بمصالح روسيا الحيوية في سوريا.
اذ تشير كل الدلائل أن روسيا قد حسمت أمرها في سوريا لمصلحتها من خلال أخذ زمام المبادرة عبر وجود عسكري مباشر، في ظل الهزائم المتتالية لحليفها الأسد، وعجز ايران وميليشياتها عن ترجيح الكفة لفائدة نظامه أمام الثوار. ومن شأن وجود عسكري روسي مباشر في سورية أن يعزز دورها في أي مفاوضات مستقبلية هناك، سواء لناحية بقاء الأسد أو خروجه وترتيبات ما بعد ذلك، فلا يمكن لأحد بعد اليوم أن يتجاهل موسكو وحساباتها في سوريا.
—————————————–
الهامش
(1) باسم دباغ، روسيا تركيا الأطلسي: “هل تعيد سوريا زمن الحرب الباردة؟” على الرابط: http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/10/
2 – محمد زاهد جول، روسيا بحاجة إلى استرضاء تركيا لنجاح مهمتها في سوريا، على الرابط : http://www.turkpress.co/node/13022
3 – Behlül Özkan, « Why Turkey Aims for ‘Zero Problems’ With Russia’s War in Syria » in : link
4 – خورشيد دلي، “تركيا والتدخل الروسي في سوريا، “على الرابط : http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/10/5
5 – علي حسين بكير، “التدخل الروسي في سوريا يعقد الحسابات التركية، على الرابط: (04/11/2015)
( 6) Turkish options in Syria after Russian intervention, in : link (21/10/2015)