fbpx
دراسات

تونس بعد انقلاب يوليو 2021: التحولات والمسارات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

بعد مرور 10 سنوات على المسار الديمقراطي الذي عرفته تونس على ضوء ثورة شعبية أطاحت بنظام زين العابدين، شهد المشهد التونسي منعطفا جديدا على ضوء أزمة سياسية خلفها صراع ما بين مؤسسات الدولة (الرئاسية-الحكومية-البرلمانية) ساهمت في تعميق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد. وعلى ضوء ذلك، وفي خطوة متوقعة أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو 2021 عن جملة من القرارات الاستثنائية المتوالية، والتي أعفى من خلالها رئيس الحكومة وأقال مجموعة أعضائها، وعطّل عمل البرلمان وسحب الحصانة من أعضائه، مما أفسح المجال لاعتقال عدد من المسؤولين والبرلمانيين. هذه القرارات خلّفت وراءها سجالا قانونيا وسياسيا حول ما إذا كانت قرارات الرئيس على ضوء الفصل 80 من الدستور تدخل ضمن صلاحياته الرئاسية أم انقلاب على المقتضيات الدستورية.

وفي هذا الإطار تسعى هذه الورقة للإجابة على هذه الإشكاليات ومخلفاتها من خلال المحاور التالية:

أولا: طبيعة الأزمة السياسية في تونس وتطوراتها

دخلت الأزمة السياسية في تونس بين السلطات الثلاث منعطفا خطيرا وتصاعدت حدتها بعد تفعيل الرئيس ما أسماه صلاحياته الدستورية المنصوص عليها في الفصل 80 والتي اتخذ على إثره مجموعة من القرارات التي كانت متوقعة من خلال إعفاء رئيس الحكومة وتجميد سلطات البرلمان ورفع الحصانة على نوابه لمدة 30 يوما، ليتولى هو جميع السلطات والصلاحيات.

ولم تأتِ خطوة سعيد مفاجئة، بحيث ظهرت مؤشرات ذلك، منذ محاولته تعطيل عمل مؤسسات الدولة على إثر رفضه المصادقة على التعديل الوزاري الذي طرحه رئيس الحكومة في يناير 2021، ورفضه استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية، هذا الأمر الذي يعد شرطا دستوريا لتسميتهم بشكل رسمي. وقد أرجع سعيد رفضه للتأشير واستخدامه للفيتو الرئاسي، إلى تحفظه على بعض الأسماء التي طُرحت في التعديل بحجة ارتباطها بشبهات فساد وتضارب المصالح.

وفي ظل عدم استجابة الرئاسة مع مطلب التعديل الوزاري، وتفاديا لتعطيل سير مؤسسات الدولة والخروج من مأزق أداء اليمين الدستوري، قرر رئيس الحكومة هشام المشيشي إعفاء الوزراء الخمسة الذين تم التحفظ على أسمائهم، وذلك كمبادرة منه لتخفيف التوتر من خلال الاستجابة لتحفظات الرئاسة، مع الانفتاح على كل الحلول الكفيلة لاستكمال إجراءات التحوير الوزاري في إطار الشرعية الدستورية.

وعلى الرغم من كل محاولات المشيشي، فقد ظل سعيد على موقفه، بل ذهب إلى حد اتهامه لرئيس الحكومة بخرق فصول الدستور ذات العلاقة بالتعديل الوزاري، وذلك في ظل خروقات شابت مسار التعديل وصولا إلى التصويت عليه من طرف البرلمان.

وفي ظل عدم تجاوب الرئيس مع مقترحات رئيس الحكومة طرح رئيس البرلمان راشد الغنوشي مبادرة تضمنت الدعوة إلى الحوار بين مؤسسات الدولة الثلاث: الرئاسية-الحكومة-البرلمان، لإيجاد مخرج للأزمة السياسية عبر قرارات حاسمة، بالتزامن مع ما تعيشه تونس من أزمات مركبة وفي جميع المجالات. ولكن مبادرة الغنوشي حذت حذو مبادرات المشيشي إذ لم تحظى هي أيضا بأي رد فعل من طرف الرئيس وهو ما كشف عن حدة الخلاف بين الرجلين والتي يرجع أصلها إلى إشكالية طبيعة النظام السياسي، بحيث يميل سعيد إلى نظرية تحويل النظام في تونس إلى رئاسي خالص وبالتالي توسيع صلاحياته الرئاسية، بينما يتشبث الغنوشي بضرورة تحويل طبيعة نظام الحكم من نظام شبه رئاسي إلى برلماني كامل يتم فيه الفصل الحقيقي بين السلطات.

وقد شهدت الأزمة تطورا بارزا، عندما نشر موقع Middle East Eye  البريطاني، في تاريخ 13 مايو 2021، وثيقة مسربة من مكتب مديرة ديوان قيس سعيد “نادية عكاشة”، ينطوي محتواها عن انقلاب دستوري يقوم به قيس سعيد تحت مسمى “ديكتاتورية دستورية” عبر تفعيل الفصل 80 من الدستور، لانتزاع السلطات من بين مؤسسات الدولة وجميع الصلاحيات من أيدي جميع الهيئات المنتخبة، تحت مزاعم ما تمر به البلاد من ظروف استثنائية صعبة. الذي استخدمها الرئيس فعليا من أجل الاستيلاء على السلطات تحت بند حالة الطوارئ الوطنية[1].

وفي 25 من يوليو 2021، وتحت مجهر الفصل 80 من الدستور، دخلت تونس أزمة سياسية ديمقراطية غير مسبوقة في تاريخها، حينما نفّذ سعيد ما جاء بفحوى الوثيقة المسربة، وأصدر قرارات أعفى من خلالها رئيس الحكومة من مهامه، وجمّد عمل وسلطات البرلمان لمدة 30 يوما ورفَع الحصانة عن أعضائه، كما وسع من صلاحياته بتوليه رئاسة السلطة التنفيذية بمعية حكومة جديدة يعينها، وكذلك رئاسة النيابة العامة، مع إعفائه لوزير الدفاع ووزيرة العدل من منصبيهما، وذلك بعد اجتماع طارئ جمعه مع قيادات عسكرية وأمنية، في دلالة واضحة على تعمد قيس سعيد إقحام المؤسسة العسكرية التونسية التي كانت خارج المشهد السياسي على الدوام إلى دواليب صراعاته مع باقي السلطات، وذلك في رسالة مبطنة مفادها أن الجيش تحت لوائه وقيادته ولن ينحرف على مساره في الاستيلاء على دواليب السلطة[2].

وقد طالت إجراءات الرئيس أيضا تقييداً على منابر إعلامية بعينها، ومثال ذلك اقتحام مكتب قناة الجزيرة بتونس، وإجبار العاملين فيه بالتوقف عن العمل ومن ثمّ إغلاقه وسحب ترخيص القناة، وذلك في انتهاك صارخ لحرية الرأي والتعبير وحقوق الإعلاميين والصحفيين المكفولة وفق التشريعات الداخلية والمواثيق الدولية[3].

لم تتوقف قرارات الرئيس التونسي عند هذا الحد، بل أصدر أمرا رئاسيا بمنع التظاهر وتمديد ساعات حظر التجوال، بل تتالت وبكيفية مكثفة سلسلة الإقالات التي طالت مسؤولين في مؤسسات حكومية وعسكرية وإعلامية ومناصب قضائية، أنهى خلالها مهام أكثر من 33 مسؤول[4]، كما صدرت مذكرات اعتقال في حق نواب بعد رفع الحصانة عنهم ومسؤولين سياسيين في قضايا مختلفة وتتوزع التهم بين قضايا فساد وإثارة العنف والفوضى في البلاد، وعلى ضوء ذلك انتقدت منظمات حقوقية ونشطاء في مجال حقوق الإنسان وسياسيين هذه الاعتقالات، معبرين عن مخاوفهم في رسم معالم ديكتاتورية جديدة أسقطها التونسيون على إثر ثورة شعبية ضد نظام زين العابدين بن علي[5].

ولمواجهة قرارات الرئيس قيس سعيد، قدم معارضون طعونا على قراراته أمام المحكمة الإدارية، وذلك في ظل غياب المحكمة الدستورية التي لها صلاحية البت في صحة القرارات الرئاسية من عدمها، بحيث شملت هذه الطعون القرارات التي اتخذها الرئيس فيما يخص إقالة رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه[6].

وعلى الرغم من ذلك، أكد الرئيس التونسي أنه لا تراجع عن القرارات التي اتخذها، لأنها بعكس المتداول فهي متوافقة مع أحكام الدستور، مشددا على أن الوضعية التي تعيشها البلاد في ظل سوء تدبير الحكومة للشأن العام وتخلي أعضائها عن واجباتهم في توفير أدنى شروط الرعاية الصحية في ظل انتشار جائحة فيروس كورونا، ومتطلبات معيشية على ضوء الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، تستوجب منه ضرورة اتخاذ قرارات مصيرية في ظل هذه الفترة الاستثنائية. مشيرا إلى أنه لن يتحول إلى ديكتاتور وأن الهدف العام هو إعادة الحقوق للمواطن التونسي إحقاقا للعدل وملاحقة كل من له علاقة بنهب وتبديد أموال التونسيين، مشددا على أن حرية التعبير تبقى مكفولة ولا مساس بالحريات في تونس، في المقابل أكد على أن النزول إلى الشوارع مخالف للدستور والإجراءات القانونية[7].

ولكن في المقابل، يرى العديد من المراقبين للشأن التونسي أن الوضع يتسم بالضبابية، بحيث لم تتضح نوايا الرئيس بشأن خارطة الطريق التي سيتم اعتمادها لتدبير الشأن العام التونسي على جميع مستوياته وتركيبة الفاعلين الذين سيقع عليهم الاختيار لتسيير مرحلة المخاض الصعب التي تعيشها تونس.

ثانيا: قرارات قيس سعيد على ضوء الفصل 80 من الدستور: صلاحيات أم انقلاب

لقد أثارت تصريحات وقرارات قيس سعيد منذ بدء أزمة التعديل الوزاري جدلا واسعا في الأوساط السياسية، بحيث اعتبرتها العديد من المكونات والمتابعين للحقل السياسي انحرافا على النهج الديمقراطي عبر عرقلة الحياة السياسية والسعي لتعطيل أجهزة الدولة وتفكيك مكوناتها، وذلك من خلال سعي رئيس الجمهورية إلى احتكار جميع السلطات والصلاحيات، عبر استغلال الثغرات القانونية من أجل الانقلاب على السلطة تدريجيا ومحاولة الاستيلاء على الحكم وبسط النفوذ، وهذا ما يشكل عاملا مساعدا في تعميق الأزمة المندلعة منذ أشهر وانتقالها إلى مستويات أكثر تعقيدا من الممكن أن تكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل تونس السياسي وعلى تجربتها الديمقراطية.

وقد خلقت قرارات سعيد على ضوء الفصل 80 جدالا قانونيا وسياسيا كبيرا حول مدى شرعيتها، بحيث أكدت غالبية التحليلات خصوصا المتعلقة بمتخصصين في القانون الدستوري، على أن تطبيق الفصل 80 من طرف الرئيس بالشكل التي تم عليه هو انحراف خطير للمساق الديمقراطي التونسي.

ويتكون هذا الفصل من ثلاثة بنود[8]، بحيث ينص على أن لرئيس الدولة صلاحية اتخاذ التدابير التي تفرضها الحالة الاستثنائية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويتم الإعلان عن هذه التدابير من طرف الرئيس في بيان موجه إلى الشعب.

أما البند الثاني من الفصل، فيحتوي على أنه يجب أن تضمن هذه التدابير، تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، كما يكون نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طوال هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.

أما مضمون البند الأخير، فيؤكد على أنه بعد مضي 30 يوم على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس البرلمان، أو 30 من أعضائه، البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وأن تصرح المحكمة بقرارها علانية في مدة لا تزيد عن 15 يوما، وينهى العمل بتلك التدابير وبزوال أسبابها، ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب.

وبالرجوع إلى مضامين الفصل 80 وإسقاطها على قرارات رئيس الجمهورية، يمكن الجزم وبكل وضوح عدم دستورية تفعيل منطوق هذا الفصل من طرف قيس سعيد، وذلك لعدة أسباب من بين أهممها:

أولا: يجب أن يتم تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي في الحالات الاستثنائية في حال كان هناك خطرا يهدد أمن وكيان البلاد واستقرارها، وهو الأمر الذي لا يتوفر في هذه الحالة، فعلى الرغم من الأزمات التي تعصف بتونس سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، فذلك لا يمكن معه أن يرتقي الأمر إلى أن هذه الأزمات تشكل تهديدا لسلامة واستقرار البلاد.

ثانيا: يجب على الرئيس استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس البرلمان، وبالتالي إعلام رئيس المحكمة الدستورية، وفي هذه الحالة، فالرئيس فعّل الفصل 80 دون استشارة رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي. فعلى الرغم من زعم سعيد أنه اتخذ القرارات بعد التشاور مع رئيسي الحكومة والبرلمان، إلا أن الأطراف الأخرى التي طالها القرار أكدت عدم علمها بحيثيات القرارات التي اتخذها سعيد. لأن الاجتماع الطارئ شهد فقط حضور القيادات الأمنية-العسكرية التي يستند إليها الرئيس في تنفيذ خططه وقراراته.

ثالثا: ليس من حق رئيس الجمهورية تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. بحيث لا ينص الفصل 80 الخاص بالتدابير الاستثنائية، أو أي من الفصول الأخرى صراحة على حل الحكومة أو إعفاء رئيسها. بحيث لا يملك الرئيس أي صلاحيات إزاء ذلك، وهو الأمر الذي كسر قاعدته قيس سعيد بحيث قام بإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، بحيث يعتبر هذا الإجراء مخالف لمنطوق الوثيقة الدستورية. ومخالف حتى لطبيعة نظام الحكم بتونس الذي هو نظام شبه رئاسي بحيث يتشارك رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية في السلطة التنفيذية، وبالتالي فسعيد قام بالإطاحة بشريكه بحسب الدستور ونظام الحكم في إدارة السلطة التنفيذية. أما بخصوص قرار تعيين حكومة جديدة يعين أعضائها ويسهر على تسييرها، فذلك يعد ضربا للدستور بحيث لا يدخل ذلك في منطوق الإجراءات الاستثنائية التي يتضمنها الفصل 80.

رابعا: لا يجوز لرئيس الجمهورية، حل البرلمان أو تجميد عمله، بحيث يبقى في حالة انعقاد دائم طوال فترة التدابير الاستثنائية، حيث يوكل للسلطة التشريعية مهام مراقبة أعمال الرئيس خلال هذه الفترة الاستثنائية، لكن إجراء سعيد فيما يخص ذلك، ذهب على غير ذلك بحيث قام بتجميد عمل مجلس الشعب، على الرغم من أن ذلك لا يدخل في نطاق اختصاصاته وصلاحياته، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بحيث رفع الحصانة عن نوابه. وهو الأمر الخارج على نص الوثيقة الدستورية بكاملها. وهذا الأمر الذي أفسح المجال إلى اعتقال بعض النواب الرافضين لقراراته وذلك مباشرة بعد رفع الحصانة عن أعضاء البرلمان.

كما أوكل لنفسه أيضا، صلاحية أن يحل مكان السلطة التشريعية في إصدار القوانين بصفة منفردة.. وهو ما يعتبر تعدي على الصلاحيات والاختصاصات الأصيلة للمؤسسة البرلمانية.

خامسا: شرط المحكمة الدستورية، بحيث ينص هذا الفصل على ضرورة إخطار رئيس المحكمة الدستورية بالتدابير الاستثنائية، كما أنها هي الجهة الموكول لها النظر والبت في إمكانية استمرار التدابير الاستثنائية من عدمها. وهو الأمر الذي يستحيل في ظل هذه الوضعية نظرا لغياب كيان المحكمة الدستورية، بحيث عرقل سعيد أي مسار لإمكانية تشكيلها وذلك على ضوء رفضه التوقيع على التعديلات التي أقرها البرلمان فيما يخص قانون المحكمة الدستورية، بذريعة انقضاء آجال انتخاب أعضائها، هذا القرار العمدي من الرئيس أدى في نهاية المطاف إلى تعميق الأزمة نتيجة فشل تعيين محكمة دستورية من شأنها الفصل في النزاعات بين السلطات في البلاد باعتبارها أساس النظام الدستوري.

سادسا: تعيين الرئيس لنفسه على رأس النيابة العامة، بحيث أكد أنه سيباشر بنفسه التحقيق حول ما قال إنها جرائم ترتكب في تونس من قبل بعض النواب في البرلمان، على ضوء ذلك قرر رفع الحصانة عنهم، هذا القرار الذي جاء خارج السياق الدستوري يعد تعديا على اختصاصات النيابة العامة التي تعتبر جزءا من القضاء العدلي، وخرقا لمبدأ استقلالية السلطة القضائية. وهذا الأمر يعد انتكاسة حقيقية للمسار الديمقراطي التونسي.

ومن كل ذلك، فجميع المعطيات تؤكد أن القرارات التي اتخذها قيس سعيد لا يمكن إدخالها إلا في حالة الانقلاب على الدستور وطبيعة الحكم، بحيث قام بتعطيل عمل المؤسسات الدستورية والسيادية (تنفيذية-تشريعية-قضائية) واستيلاؤه على السلطة عبر تجميع كل الصلاحيات والاختصاصات بيده، وبالتالي العودة إلى نظام الحكم المطلق الذي يتفرد فيه الحاكم بزمام السلطة ويجعل نفسه فوق الدستور والقانون.

رابعا: ردود الأفعال حول قرارات قيس سعيد

توالت ردود الأفعال حول المنحى الذي شهده المشهد التونسي بعد إعلان قيس سعيد اتخاد مجموعة من التدابير الاستثنائية، وقد تواترت ما بين مواقف الفواعل الداخلية والإقليمية والدولية وكان أبرزها كالتالي:

المستوى الأول: مواقف الأطراف الداخلية:

(أ) الكتل الحزبية:

على الرغم من تأييد بعضها لما أصدره رئيس الجمهورية من قرارات استثنائية، إلا أن الغالبية من هذه الكتل عارضت هذه التدابير معتبرة إياها خارجة عن الشرعية الدستورية، وقد جاء أبرزها كالتالي:

1ـ حركة النهضة:

تعتبر حركة النهضة أكبر الأحزاب التونسية والتي كانت طرفا رئيسيا في المشهد السياسي التونسي لما بعد الثورة، أول المبادرين بالتعليق على القرارات التي اتخذها قيس سعيد، إذ وصف رئيسها راشد الغنوشي على أن ما حصل هو انقلاب الرئيس على الدستور والثورة، موضحا أن الرئيس استغل ثغرة عدم وجود محكمة دستورية للفصل في شرعية القرارات من عدمها، مشيرا إلى أن الرئيس ليس من اختصاصه تفسير الدستور في ظل غياب المحكمة الدستورية، نافيا استشارته من قبل الرئيس قبل الإعلان عن هذه التدابير الاستثنائية، مشيرا إلى أن هناك تعبئة قام بها الرئيس ضد الخيار الديمقراطي وفصل السلطات وذلك في محاولة لضرب حركة النهضة الحزب الأقوى في البلاد في محاولة لتجريمها وشيطنتها. مؤكدا على أن الشعب التونسي سيسعى لحماية ثورته وديمقراطيته بشتى الطرق والوسائل السلمية. كما اعتبر أن قرار تجميد عمل مجلس نواب خارج إطار الدستور والقانون، وأن مجلس النواب سيبقى قائما وسيستكمل أشغاله. أما فيما يخص دور المؤسسة العسكرية فقد توقع الغنوشي أن الجيش لن يقبل إقحامه في الحياة السياسية، وأنه سيبقى بمنأى عن الصراعات السياسية، لأنه يعتبر الأداة الرئيسية الحامية للثورة التونسية[9].

وعلى الرغم من تشديده على أن ما حدث انقلابا وخرقا صارخا للدستور، إلا أن الغنوشي وبعدما كان دعا أنصار الحركة للنزول إلى الشوارع للاعتراض على قرارات الرئيس، إلا أنه في وقت لاحق فتح الباب لتقديم تنازلات شرط عودة المؤسسات وحماية المسار الديمقراطي[10]. وبعد اجتماع طارئ أصدر المكتب التنفيذي للحركة بيانا دعا فيه التونسيين إلى التضامن والوحدة ومواجهة كل دعوات الفتنة الأهلية.

وكان أبرز ما تضمنه البيان هو[11]: التأكيد على أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس غير دستورية بل تمثل انقلابا على الشرعية الدستورية وعلى المؤسسات الشرعية خاصة تلك المتعلقة بتجميد العمل البرلماني، وذلك ما يعتبر احتكار للسلطة من طرف الرئيس بدون جهة رقابية دستورية، مشددا على ضوء ذلك إلى ضرورة تراجع الرئيس على القرارات ومعالجة التحديات والصعوبات التي تعاني منها البلاد ضمن حدود الدستور والقانون، وتأسيس لحوار وطني عن طريق رسم خيارات جماعية قادرة على إخراج البلاد من الأزمات التي تعانيها. مع تكثيف المشاورات حول المستجدات التي عاشتها البلاد حفاظا على المكتسبات الدستورية، مع تنبيه المكتب خطورة خطابات العنف والكراهية والإقصاء، كما أشار البيان إلى الدور التي تلعبه المؤسسات العسكرية والأمنية في ضمان أمن وسلامة البلاد.

وعلى ضوء الأزمة الداخلية التي تعيشها حركة النهضة في ظل انقسام أطيافها، دعا مجلس شورى النهضة إلى مراجعة ضرورية في مسار الحركة، والعمل على تصحيح الأخطاء والاعتذار عن القصور الذي شاب أداءها باعتبارها أحد الفواعل إلى جانب الرئيس في الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد، وهذا الإقرار من خلال النقد الذاتي يعكس تحولا في اتجاهات حركة النهضة من خلال إبداء مرونة في مواقفها في ظل الأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد وهذا ما عكسه دعوتها إلى إطلاق حوار وطني شامل للمضي في إصلاحات سياسية واقتصادية تنتهي معها الأزمات التي تعاني منها تونس[12].

2ـ كتلة ائتلاف الكرامة

كانت كتلة ائتلاف الكرامة من أشد المنددين والرافضين لقرارات الرئيس الاستثنائية، باعتبارها خرقا جسيما للدستور، بحيث أكدت أن هذه التدابير تعيد تونس إلى فترة الحكم الفردي. معبرة عن تمسكها بدولة القانون والمؤسسات على ضوء احترام الشرعية الانتخابية ورفض أي قرار يتنافى مع مخرجاتها المؤسساتية[13]. وفي نفس السياق اعتبر الناطق الرسمي باسمها سيف الدين مخلوف، أنها قرارات انقلابية فاشلة، مؤكدا أنها مخالفة لروح الدستور ولنص الفصل 80 الذي استند عليه رئيس الجمهورية، مشيرا إلى أن تجميد عمل مجلس النواب بناء على قرار من الرئيس ليس له أساس قانوني أو دستوري، مؤكدا على ضرورة مواجهة أي قرار عندما يصل الأمر إلى حد الانقلاب على المسار الديمقراطي وعلى مبادئ الثورة. مشددا على ضرورة عدم انصياع المؤسسات الأمنية والعسكرية وراء قرارات الرئيس الخارجة عن الشرعية[14].

3ـ الحزب الجمهوري

عبر الحزب الجمهوري على الرغم من عدم وجود ممثلين له في البرلمان، عن رفضه القاطع لقرارات سعيد معتبرا إياها انقلابا على الدستور وتجاوزا لأحكامه الذي استند عليها في تطبيقه للفصل 80، الذي أكد الحزب أن تفعيله لا يقتضي بأي حال من الأحوال تعطيل الحكومة أو البرلمان. لكن بالمقابل هناك فصيل في الحزب اختار مساندة قرارات سعيد وذلك من خلال بحثه عن إحداث تغييرات في المشهد السياسي عبر إبعاد حركة النهضة. هذا ما أظهر وجود انقسامات داخل الحزب الواحد وذلك من خلال صدور بيانات متناقضة بين معارض ومؤيد لقرارات قيس سعيد الاستثنائية[15].

4ـ حزب قلب تونس

حصل تحول كبير في موقف حزب قلب تونس، فبعدما عارض للوهلة الأولى التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها قيس سعيد واعتبرها خرقا جسيما للدستور وللفصل 80 منه، وانقلابا على مؤسسات الدولة خصوصا المؤسسة البرلمانية، متهما الرئيس بمحاولة احتكار جميع السلطات والعودة بتونس إلى النزعة الفردية للحكم عبر الانقلاب على أسس الدولة المدنية، داعيا مجلس النواب إلى الانعقاد، ورئيس الحكومة إلى تولي مهامه الشرعية تفاديا إلى إحداث فراغ في مؤسسة الحكومة، كما طالب المؤسسة العسكرية والأهمية بالالتزام بدورها التاريخي في حماية الدولة ومؤسساتها وثوابتها وأمنها واستقرارها[16].

أعلن الحزب عن موقف جديد ومخالف لما سبق فحواه بتأييد لقرارات الرئيس وهذا ما عبر عنه رئيس كتلة قلب تونس في البرلمان أسامة الخليفي الذي عبر عن ارتياح الكتلة لما صدر عن الرئيس من قرارات 25 من يوليو باعتبارها قرارات صائبة، وقد أرجع أسباب تجميد عمل مجلس النواب من طرف الرئيس إلى الفوضى التي تعم ساحة البرلمان التي تسببت فيها بعض الأجسام الحزبية والتي كانت سببا في تعطيل سير أشغاله. وفي نفس السياق، أكد النائب عن الحزب محمد السخيري أن التغير في موقف الحزب، جاء بعد مراجعة دقيقة لقرارات الرئيس والتي سجل من خلالها ارتياحه لتحمل الرئيس المسؤولية في ظل هذه الظرفية.

وقد أرجع مراقبون للمشهد السياسي التونسي، تراجع قلب تونس عن موقفه من معارض بشدة إلى مؤيد لها، وخياره التخلي عن تحالفه مع حزب النهضة، والذي لم يكن للمرة الأولى بحيث سبق للحزب التخلف عن تعهداته مع النهضة، إبان محاولة تشكيل حكومة الحبيب الجملي مما أدى إلى إسقاطها، وأن هذا محاولة الحزب إيجاد تموضع مهم له في المشهد السياسي الجديد هذا من جهة؛ وخشيته على رئيسه نبيل القروي من الملاحقة القضائية حول قضايا مرتبطة بشبهات فساد من جهة أخرى، بعد التهديدات التي أطلقها قيس سعيد على خلفية رفعه للحصانة عن النواب، وإعلانه الإشراف على رئاسة النيابة العمومية من أجل ملاحقة حسب قوله من لديهم ملفات فساد[17].

5ـ التيار الديمقراطي:

وعلى نفس النحو الذي ذهب إليه حزب قلب تونس، تحول موقف الحزب من اختلافه مع الرئيس فيما يخص تأويله للفصل 80 من الدستور، ورفضه كل ما ترتب على ضوئه من قرارات وإجراءات خارج إطار الشرعية الدستورية، أعرب الحزب بعد ذلك في بيان له عن تفهمه للإجراءات التي اتخذها الرئيس، والدوافع التي أدت به إلى اتخاذ هذه القرارات الاستثنائية، وذلك بالنظر إلى الأوضاع والمخاطر التي تمر منها البلاد نتيجة حالة الانسداد السياسي وتردي الأزمات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، كما دعا الحزب في الآن نفسه إلى ضرورة تقديم خارطة طريق تضمن العودة إلى الوضعية الدستورية الاعتيادية، تتضمن التدابير التي سيتم اتخاذها في إطار العمل على إزالة الشوائب من المشهد السياسي واختيار رئيس حكومة يتمتع بالكفاءة ويتصف بالنزاهة، في سبيل تشكيل حكومة قادرة على مواجهة تحديات المرحلة، مع تشديده على ضرورة أن ترافق هذه الإجراءات ضمانات دستورية لحماية الحقوق والحريات في سبيل الحفاظ على المكتسبات الدستورية والديمقراطية ضمانا لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية صلاحياتها[18].

6ـ حزب العمال التونسي

اعتبر حزب العمال خطوات رئيس الجمهورية بأنها خرق واضح للدستور والفصل 80 الذي استند إليه سياسيا وخالفه قانونيا، واصفا هذه الإجراءات الاستثنائية بأنها معادية للديمقراطية يسعى من خلالها الرئيس إلى احتكار جميع السلطات بين يديه، ويدشن من خلالها مسارا انقلابيا بالاتجاه إلى إعادة ترسيخ نظام الحكم الفردي المطلق. مؤكدا أن مؤشرات انقلاب سعيد بدت واضحة منذ محاولاته إقحام المؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية. معتبرا أن هذه الخطوة ستساهم في تأزيم الأوضاع التي تعاني منها البلاد. وستشكل منعرجا خطيرا ممكن أن يؤدي إلى دخولها لدوامة العنف والاقتتال والإرهاب.

مؤكدا على أن التونسيين في أشد الحاجة إلى تغيير عميق ينتشل البلاد من أزماتها الخانقة التي استفحلت بسبب الصراعات السياسية، مجددا دعوته إلى إسقاط منظومة الحكم برمتها، ومشددا على أن التغيير يجب أن يكون من صنيعة الشعب التونسي لا بالانقلاب أو بأي عنوان كان وذلك في سبيل إرساء ديمقراطية شعبية أساسها الدولة المدنية وأن تكون السلطة بيد الشعب من أجل الحفاظ على حقوقه وحرياته[19].

7ـ حزب الدستوري الحر

حزب الدستوري الحر، الذي ترأسه عبير موسى المثيرة للجدل والمتهمة بتعطيل مسار وعمل المؤسسة البرلمانية عبر افتعالها للأزمات واعتراضها الدائم داخل قبة البرلمان بل وتوقيفها للعديد من الجلسات نتيجة مشادات ما بينها وبين رئيس المجلس أو بعض النواب من الكتل النيابية الأخرى. هو الآخر انضم للأحزاب التي غيرت مواقفها، فبينما قلب تونس والتيار الديمقراطي انتقلوا من معارضين إلى مؤيدين لقرارات الرئيس، فإن كتلة الدستوري الحر كانت على النقيض من ذلك، فبعدما أعلن الرئيس في 25 من يوليو عن قراراته الاستثنائية المتعلقة بتجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة والانفراد بالسلطة، كانت عبير موسى أكثر المؤيدين لقراراته، بحيث اعتبرتها تصب في مصلحة التونسيين، لأنه تخلص على إثرها من راشد الغنوشي وهشام المشيشي، مدافعة على تفعيل الرئيس للفصل 80 من الدستور باعتبارها أنه تم توظيف الفصل بالطريقة التي رآها الرئيس صالحة.

لكن لم تمر إلا أيام لتنقلب عبير موسى من تأييد لسعيد إلى معارضة لقراراته، خصوصا المتعلقة برفع الحصانة، مشيرة إلى أن نواب الشعب لا زال لديهم صلاحيات، وأن ليس للرئيس الحق في نزع صفة نائب الشعب أو رفع الحصانة عنه، وذلك بمقتضى الفصل 68[20] من الدستور باعتبارها حصانة مطلقة حسب تصريحها.

وأجمع الكثيرون بـأن هناك تفاوت في مواقف عبير موسى بحيث تناقض نفسها في ظل هذه التصريحات، فبينما تناصر أو تؤيد تجميد عمل المنتمين لتيار حركة النهضة، في الآن نفسه تعارض تجميد عمل المؤسسة البرلمانية.

ويجمع مراقبون أن التحول في موقف عبير موسى، هو تخوفها في أن لا يكون لها موطئ قدم أو مكانة بارزة داخل المشهد السياسي لما بعد هذه التحولات، واستشعارها بأن هناك اتجاها يسعى لاستبعادها وتهميشها من المشهد الحالي، وهي لا طالما بحثت عن دور مركزي وقيادي داخل الساحة السياسية التونسية قد يكون الرئيس قد سحبه منها بقراراته الأخيرة[21].

(ب) منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية:

1ـ الاتحاد العام التونسي للشغل

أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل بيانا ردا على التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية، بحيث دعا إلى ضرورة أن ترافق هذه التدابير ضمانات دستورية، مشددا في الآن نفسه على ضرورة احترام الضوابط الدستورية بعيدا عن التأويل والتجويد لتحقيق الأهداف المتوخاة من وراء هذه التدابير، كما أكد على ضرورة تحديد النطاق الزمني لتنفيذها وعدم استفحالها إلى إجراء دائم، داعيا إلى ضرورة احترام الحقوق والحريات على ضوء تطبيقها. مشددا على ضرورة أن تتحلى جميع الأطراف بروح المسؤولية التي تتطلبها المرحلة بعيدا عن المناكفات السياسية وتصفية الحسابات بين أطراف الأزمة. مشيرا إلى ضرورة مراجعة التدابير المتعلقة بالسلطة القضائية ضمانا لاستقلالها.

2ـ المجلس الأعلى للقضاء

عبَّر المجلس الأعلى للقضاء عن رفضه لقرارات الرئيس المتعلقة بالسلطة القضائية، مشيرا على أنه أبلغ الرئيس رفضه لقرار ترؤسه للنيابة العامة ضمن مجموع القرارات التي أعلن عنها، مؤكدا على استقلالية السلطة القضائية وأنها يجب النأي بها وعدم إقحامها في التجاذبات والصراعات السياسية.

وقد أكد المجلس عقب لقاء رئيس الجمهورية بعدد من أعضائه، أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وأنهم يضطلعون بمهامهم وفقا للدستور والقانون في حماية الحقوق والحريات، مشددا إلى أن النيابة العامة هي جزء من القضاء العدلي الذي يتمتع أعضائها وأفرادها بنفس الحقوق والضمانات الممنوحة للقضاء الجالس، ويمارسون مهامهم وفق ما تقتضيه النصوص القانونية الجاري بها العمل[22].

3ـ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات

عبرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على لسان رئيسها نبيل أفون عن صدمتها من القرارات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية، معتبرا أن إجراءات قيس سعيد غير مطابقة لأحكام الدستور، مشيرا إلا أنه لا يمكن الحديث عن انتخابات مبكرة في ظل فراغ دستوري خلفته قرارات سعيد الاستثنائية. مشيرا إلى أن الشروط التي يمكن من خلالها تفعيل الفصل 80 غير متوفرة، وأن صلاحيات الرئيس انطلاقا من هذا الفصل مرتبطة بشرط رئيسي وهو أن يكون هناك خطر يهدد كيان الوطن، والتي ارتبطت بحالة انعقاد دائم لمجلس نواب الشعب[23].

المستوى الثاني: مواقف الأطراف الإقليمية

بالإضافة إلى مواقف الأطراف الداخلية التي أبدت نسبة كبيرة منها رفضها لقرارات قيس سعيد لأنها لا تتواءم مع أحكام الدستور التونسي، تواترت مجموعة من مواقف الدول الإقليمية التي تراوحت ما بين التأييد والرفض والتحفظ، وكان أبرزها كالتالي:

1ـ الموقف التركي:

عبّرت تركيا بجميع مؤسساتها التنفيذية والتشريعية عن قلقها إزاء التطورات التي تعرفها الساحة التونسية على ضوء القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان، والتي اعتبرتها انقلاب غير دستوري على النظام السياسي في البلاد، داعية إلى ضرورة إرساء الشرعية الديمقراطية وحماية مكتسباتها.

ففيما يخص الرئاسة التركية، استنكر المتحدث باسمها إبراهيم قالن، تعليق العملية الديمقراطية في تونس وتجاهل الإرادة الديمقراطية للشعب التونسي، كما أدان في نفس الوقت كل المحاولات التي تفتقد إلى الشرعية الدستورية والإرادة الشعبية، مؤكدا أن الديمقراطية التونسية ستخرج أقوى من هذا المسار[24].

وفي اتصال هاتفي جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره التونسي قيس سعيد، أشار من خلاله أردوغان على أهمية الحفاظ على استقرار تونس وسلمها الداخلي الذي يعتبر استقرارا للمنطقة، معربا عن ثقته بأن تونس سوف تتجاوز هذه المرحلة العصيبة وتواصل طريقها بشكل أقوى، مؤكدا على أهمية استمرار أعمال المؤسسة البرلمانية باعتبارها مصدرا ونموذجا هاما في التحول الديمقراطي، وأيضا كأرضية للحوار والنقاش الصحي في سبيل مواجهة التحديات لتجاوز العقبات وإيجاد الحلول للأزمات، مشددا على ضرورة حماية الديمقراطية وضمان الحريات واحترام سيادة القانون في تونس [25].

أما الخارجية التركية، فقد عبرت في بيان لها عن قلقها إزاء مجريات الأحداث في تونس عقب القرارات التي اتخذها الرئيس، من أبرزها تعليق عمل البرلمان الذي يمثل الإرادة الشعبية، كما دعت إلى ضرورة إعادة إرساء الشرعية الديمقراطية في إطار الأحكام الدستورية في أقرب الآجال، مشيدة بالتجربة الديمقراطية التونسية التي كانت نموذجا يحتذى به، مشددة على ضرورة حماية مكتسبات المسار التونسي الاستثنائي الذي يحمل أهمية كبيرة ليس لتونس فقط بل للمنطقة بأكملها[26].

أما البرلمان التركي، فقد عبر رئيسه مصطفى شنطوب، عن إدانته لتجميد عمل المؤسسة البرلمانية التونسية، معربا عن قلقه إزاء قرارات الرئيس التي تمنع البرلمان وأعضائه الذين يستمدون شرعيتهم من الشعب عن أداء مهامهم، واصفا ما جرى بأنه انقلاب ضد النظام الدستوري، معبرا عن ثقته بالشعب التونسي الذي سيدافع عن ديمقراطيته وفق الدستور والقانون[27].

2ـ الموقف المصري:

يمكن اعتبار موقف النظام المصري بأنه الأكثر وضوحا في مساندته لانقلاب قيس سعيد على الشرعية الدستورية، باعتباره المفتاح الرئيسي للانقلاب على الشرعية المتمخضة عن ثورات الربيع العربي؛ فعلى الرغم من أوجه الاختلاف بين نموذجي الانقلاب بينما حصل في مصر في يوليو 2013 وما حصل في تونس في يوليو 2021، إلا أنهما يلتقيان في عدة نقط أبرزها الدعم الخارجي (مخطط ترعاه الإمارات)، والقضاء على الإسلام السياسي عبر بوابة الإخوان.

فبعد الدعم الواسع للإعلام المصري الموالي لعبد الفتاح السيسي لقرارات قيس سعيد، الذي اعتبرها ضربة قاضية للإخوان، وعلى أنها تحاكي ما أسموه بالتجربة المصرية ) انقلاب السيسي) على الرغم من تأخرها. أصدرت الخارجية المصرية بيانا، عبرت فيه عن دعمها للرئيس التونسي، وتضامنها الكامل مع الشعب التونسي وتطلعاته المشروعة، وثقتها في حكمة وقدرة الرئاسة التونسية على العبور من هذه الأزمة في أقرب الآجال، كما أشار البيان إلى ضرورة تجنب العنف والتصعيد ضد مؤسسات الدولة حفظا لمصالح تونس ومقدراتها وأمنها، مشيدا بدور المؤسسات الوطنية للدولة التونسية في حفظ أمن واستقرار البلاد[28]-إشارة ضمنية للرئاسة والجيش-.

ولم يقف الموقف المصري عند هذا الحد، بحيث تحول بيان وزارة الخارجية إلى زيارة لوزيرها سامح شكري إلى تونس، الذي أكد من خلاله دعم السيسي الصريح المطلق والكامل للإجراءات الاستثنائية التاريخية التي اتخذها الرئيس التونسي-بدأت بوادر محاولة انقلاب قيس سعيد منذ زيارته لمصر في أبريل 2021 وهذا ما يعطي مؤشرات واضحة على الدور المحوري لنظام السيسي في انقلاب سعيد- ، وذلك إعلاءً لما أسماه لقيم الديمقراطية والدستور والمؤسسات تحقيقا لتطلعات الشعب التونسي ضمانا لاستقراره ورعاية مصالحه[29].

3ـ مواقف الدول الخليجية

عبرت الدول الخليجية عن موقفها لما يجري من أحداث في تونس على ضوء ما أصدره قيس سعيد من تدابير وقرارات، وقد تباينت هذه المواقف بين التحفظ والتأييد.

(أ) انتهجت قطر الحياد الحذر فيما جرى من أحداث في المشهد التونسي، بحيث دعت من خلال بيان صادر عن خارجيتها، إلى ضرورة تغليب صوت الحكمة وتجنب التصعيد بين أطراف الأزمة في تونس، وذلك عبر مسلك الحوار لتجاوز الأزمة التي تمر بها البلاد وتثبيت دعائم المؤسسات وتكريس حكم القانون في سبيل الحفاظ على استقرار تونس وتحقيق طموحات وتطلعات شعبها[30]. وهذا ما أكده أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني خلال اتصال هاتفي مع قيس سعيد بحيث دعا إلى ضرورة تجاوز الأزمة السياسية الراهنة عبر الحوار وذلك حفاظا على مصالح الشعب التونسي واستقرار أمنه وسلامه[31].

(ب) الموقف السعودي: جاء الموقف السعودي واضحا من خلال دعمه لقرارات الرئيس التونسي. فالسعودية تعتبر إحدى الدول التي تسعى إلى محاربة الإسلام السياسي، عبر دعمها للأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية وذلك لضرب كل محاولة للانتقال الديمقراطي، بحيث كان لها دور قيادي إلى جانب الإمارات في تأسيس ثقافة الثورات المضادة من أجل القضاء على كل تجربة انتقال ديمقراطي في المنطقة العربية وكانت التجربة المصرية أكبر دليل على ذلك، وذلك ما يؤشر على أن للسعودية يد في ما حصل بتونس إلى جانب الإمارات، فعلى الرغم من خلافات بن سلمان وبن زايد إلا أن ذلك لا يمنع أنهما حلفاء في تنفيذ مخططات تسعى إلى وأد التجارب الديمقراطية.

الدعم السعودي لقرارات سعيد، ترجمه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بزيارة لتونس بعد 5 أيام فقط من الحدث، أكد من خلالها على أن بلاده ترى أن ما جرى في تونس هو أمر سيادي، وأنها تدعم القيادة التونسية في إرساء دعائم الأمن والاستقرار في البلاد. وهذا ما يوضح مدى الدعم الذي يحظى به قيس سعيد من محمد بن سلمان.

(ج) فيما يخص الإمارات، أحد القوى المركزية التي لها يد فيما يجري بتونس، باعتبار الأخيرة تحت المجهر الإماراتي منذ سنوات، وذلك في سبيل إعطاب ديمقراطيتها التي كانت تعتبر الأولى عربيا حسب المؤشرات العالمية الخاصة بالحرية والديمقراطية. تشير الدلائل بوضوح إلى ضلوع الإمارات فيما حدث من انقلاب على الشرعية الدستورية في تونس عبر تقديم الدعم لقيس سعيد الذي بدأ يسحب البساط من عبير موسى المدعومة رقم واحد في تونس من الإمارات والتي كانت مهمتها بعثرة المشهد السياسي التونسي عبر أنشطتها التخريبية من خلال تعطيل العمل البرلماني.

وعلى إثر القرارات الاستثنائية لسعيد، عبّرت الإمارات عن دعمها الكامل لخطواته، وذلك خلال اتصال هاتفي جمع بين وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد ونظيره التونسي عثمان الجرندي، اطلع بن زايد من خلاله على آخر التطورات في المشهد التونسي، وقد عبّر حسب قوله عن دعم وثقة الإمارات الكامل لتونس وتضامنها معها في مجابهة التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية لجائحة كوفيد 19[32].

ومنذ أشهر تتوالى الهِبات الإماراتية من لقاح فيروس كورونا على تونس، كانت بدايتها في مارس 2021 حينما  فجرت شحنة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا قادمة من الإمارات على شكل هبة، أزمة سياسية في تونس، بعد أن كشف مجموعة من نواب البرلمان أن الرئاسة التونسية توصلت بهذه الشحنة من دولة الإمارات وهو ما لم تصرح به الرئاسة التونسية، ومع توالي السجال حول هذا الموضوع، اضطرت الرئاسة إلى إصدار بيان رسمي أكدت من خلاله تلقيها 500 تلقيح مضاد لكورونا بمبادرة من الإمارات. وأن هذه الجرعات تم تسليمها إلى الإدارة العامة للصحة العسكرية بأمر من رئيس الجمهورية[33].

وقبل أيام من إصدار قيس سعيد لقراراته، وصلت إلى تونس هبة إماراتية مكونة من 500 ألف جرعة لقاح فيروس كورونا بتوجيهات من محمد بن زايد ، وذلك في إطار ما قيل عنه دعم جهود تونس لمواجهة الأوضاع الصحية التي تشهدها جراء جائحة كورونا[34].

وقد فجر موقع مجتهد السعودي القريب من دوائر الحكم، عن مصادر مقربة من محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، أنهما وعدا سعيد ب 5 مليارات دولار وديعة في تونس إذا نجح الانقلاب، ودعم الاقتصاد التونسي على غرار ما جرى في انقلاب عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013[35].

وعلى إثر تواتر الأخبار إزاء ذلك، سارع قيس سعيد إلى التأكيد الضمني لذلك تفاديا لتوجيه اتهامات له بشبهات تلقيه دعما خارجيا نظير انقلابه، بحيث صرح عند لقائه بمحافظ البنك المركزي التونسي، بأن دول أسماها شقيقة وصديقة على الرغم من عدم كشفه عنها، تدعم تونس اقتصاديا وأمنيا، وذلك في سبيل سد الإخلالات في التوازنات المالية، ومساعدتها للوفاء بالتزاماتها المالية داخليا وخارجيا. لافتا إلى أنه على اتصال مع أشقائه لتوفير أموال من شأنها إعادة التوازن للبلاد[36].

وهذا ما يفسر الاتصال الهاتفي الذي جرى بينه وبين محمد بن زايد قبل تنفيذ انقلابه بأيام الذي يعطي دلالة قوية إلى وجود مخطط إماراتي تحقق فيه الأخيرة أهدافها الرئيسية وهي القضاء على الإسلام السياسي في تونس من خلال ضرب حركة النهضة، وإيجاد موطئ قدم مهم لها بتونس باعتبارها القاعدة الخلفية لليبيا، وهذا ما أكده موقع Mondafrique ، بمقال عنونه بأن الإمارات أكبر الفائزين من انقلاب تونس، بحيث أكد أنه بعد الإخفاقات في ليبيا لحليفها خليفة حفتر، ترى الإمارات بقيادة محمد بن زايد أن نفوذها بدأ يتعزز في تونس، ولهذا السبب سعت إلى تعزيز مواقعها في تونس، بينما أصبح مستقبل ليبيا على المحك جزئيا[37].

(4) مواقف الدول المغاربية

عبّرت الدول المغاربية عن تفاعلها مع الأحداث التي شهدتها تونس في ظل إصدار الرئيس التونسي لمجموعة من القرارات، التي أعفى من خلالها الحكومة وجمّد عمل البرلمان، وقد تراوحت ردود فعل هذه الدول بين التأييد التام والتأييد المتحفظ والرفض:

(أ) بالرغم من دبلوماسية الخطاب الجزائري إزاء ما يحدث في الجارة الشرقية تونس على ضوء ما أحدثته قرارات الرئيس التونسي من ردود أفعال، فإن التحركات الجزائرية بعد قرارات سعيد تظهر حجم القلق والتوتر الذي تعيشه الجزائر بفعل الارتباط المتداخل ما بين البلدين جغرافيا، وأمنيا. أضف إلى ذلك القلق الجزائري إزاء تزايد النفوذ الإقليمي والدولي تجاه تونس في ظل مجريات الأحداث، والحديث عن تدخل قوى خارجية في الشأن الداخلي التونسي كفرنسا والإمارات ومصر، وهذا ما يجعل مؤشر التوجس الجزائري مرتفع في ظل الأحداث التي تعرفها تونس، أضف إلى ذلك علاقاتها المتوترة مع المغرب، إذ من الممكن لهذه المعطيات أن تجعل الجزائر في عزلة إقليمية بعد ما كان هدفها أن تكون أحد الفاعلين المؤثرين في المنطقة وملفاتها.

وهذا ما يفسر أن التحركات الجزائرية تجاه تونس لها دوافع في غاية الأهمية، وهذا ما تمت ترجمته من خلال الاتصالات الهاتفية بين قيس سعيد وعبد المجيد تبون، بالإضافة إلى إيفاد الرئاسة الجزائرية لوزير الخارجية رمطان لعمامرة مرتين في ظرف أقل من أسبوع. فقد جرى اتصال هاتفي بين الرئيسين مباشرة بعد إصدار سعيد لقراراته الاستثنائية، وبعدها بيوم واحد، قام وزير الخارجية الجزائري بزيارة إلى تونس استغرقت بضع ساعات أبلغ من خلالها الرئيس التونسي، رسالة شفوية من الرئيس الجزائري، وأكد من خلالها التزام الجزائر الراسخ بتعزيز أواصر الأخوة والتضامن والتنسيق المشترك وتوطيد العلاقات الاستراتيجية التي تربط البلدين[38].

وخلال زيارة وزير الخارجية الجزائري إلى مصر، أعلنت الرئاسة المصرية في بيان صادر عنها عقب لقاء رمطان لعمامرة بعبد الفتاح السيسي على تعهد الجزائر ومصر بالدعم الكامل للرئيس التونسي قيس سعيد في خضم الأزمة السياسية التي تشهدها تونس، ولكل ما من شأنه صون استقرارها وأمنها، وذلك وفق إرادة واختيارات الشعب التونسي حفاظا على مقدراته وأمن بلاده[39].

وخلال لقائه بنظيره المصري سامح شكري، أعلن لعمامرة رفض الجزائر الصريح والواضح التدخل في الشأن التونسي، مشيرا إلى أن ما يحدث هو شأن داخلي ويجب احترام سيادة تونس والتضامن مع شعبها[40]. ليحل بعد ذلك الوزير الجزائري بتونس لثاني مرة في ظرف أقل من أسبوع بعد زيارته لمصر. ولم يختلف مضمون زيارة لعمامرة الثانية عن الأولى، إذ حمل خلالها رسالة شفوية موجهة إلى الرئيس التونسي من الرئيس الجزائري، تم التعبير من خلالها على تطوير علاقات التعاون والشراكة بين البلدين، ومضافرة الجهود في ظل التضامن والتكامل للاستجابة للتطلعات المشتركة بين الشعبين الجارين[41].

وفي سياق ذلك، جمع اتصال ثاني الرئيس التونسي بالرئيس الجزائري، تم التباحث من خلاله حول التطورات التي شهدتها تونس، بحيث أبلغ سعيد من خلالها نظيره الجزائري، بأن تونس تسير في الطريق الصحيح لتكريس الديمقراطية والتعددية وبأن هناك قرارات هامة ستصدر قريبا في هذا السياق. وبالتالي فكل المؤشرات تدل على أن الجزائر انحازت إلى القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي وذلك نتيجة لاعتبارات السياق الإقليمي التي تمر به المنطقة، والتي تريد من ورائه الجزائر استعادة دورها الإقليمي في المنطقة في ظل لعب دور محوري في ملفات حساسة وكبرى كالملف الليبي، وملف سد النهضة وغيرها[42].

(ب) فيما يخص الموقف المغربي، فقد كان غامضا على الرغم من التفاعل المبكر مع الأحداث وهذا ما تظهره زيارة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى تونس بعد يومين من إصدار قيس سعيد لقراراته الاستثنائية، حاملا خلالها رسالة شفهية من الملك محمد السادس إلى الرئيس التونسي، وذلك في إطار التضامن والعلاقة المتميزة التي تجمع البلدين المغاربيين. وهذا التفاعل يحيل ضمنيا إلى أن المغرب يبقى في وضعية المتحفظ على إظهار أي المواقف الصريحة والواضحة[43].

وما يمكن أن يستشف من خلال ذلك، بأن نفس الطموحات التي تسعى إليها الجزائر من خلال إبراز دورها كفاعل مؤثر في المنطقة، يسعى المغرب إليها أيضا، بحيث كان له دور ولا زال قائما في العديد من الملفات والأزمات الإفريقية وذلك في إطار سعي الدبلوماسية المغربية إلى تنشيط حركيتها بهدف تعزيز مكانة المغرب إقليميا.

(ج) انقسم الموقف الليبي بين المعارضة والتأييد والحياد تجاه قرارات الرئيس التونسي، ففي سياق ذلك أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، رفضه لما وصفه انقلابا على الكيانات المنتخبة في تونس وتعطيل المسارات الديمقراطية، مشبها ما جرى في تونس في 25 من فبراير بانقلاب حفتر في 14 فبراير 2014. هذا الأخير الذي أيّد بشدة قرارات سعيد، معتبرا إياها جاءت استجابة للإرادة الشعبية، كما عبر حسب زعمه عن أمله في أن تحقق تونس انطلاقة حقيقية نحو تحقيق مستقبل زاهر لشعبها، بعد قضائهم على أهم عثرة في طريق تطورها[44].

وقد واجه رفض المشري وتأييد حفتر، حياد المجلس الرئاسي، بحيث أكدت السلطة التنفيذية المؤقتة في ليبيا على لسان نائب رئيس المجلس الرئاسي، موسى الكوني، بأنها تراقب الأوضاع في تونس بقلق شديد، داعيا جميع الأطراف إلى الاحتكام للغة الحوار، وحل الخلافات عبر التواصل، مشيرا إلى أن ما حدث في تونس يمثل أهمية كبيرة لليبيا، لكونها تعبر عن تجربة ديمقراطية مهمة في المنطقة[45].

ومن كل ذلك، فإن التحولات في المشهد التونسي يمكن أن يكون له تأثيرات على المشهد الليبي على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، خصوصا أن الأطراف الخارجية التي كان لها دور كبير في استفحال الأزمة الليبية، هي نفسها التي تحاول إسقاط التجربة الديمقراطية التونسية، ولذلك فتونس تعتبر منفذ استراتيجي مهم لهذه القوى الخارجية.

(د) أما موريتانيا، فقد جاء موقفها أكثر وضوحا في التصريحات الرسمية، بحيث أكد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني دعمه لقرارات الرئيس التونسي، خلال اتصال هاتفي جمع رئيسي البلدين، بحيث أشار الغزواني على ضوء ذلك أن الرئيس قيس سعيد لم يتصرف خارج مقتضيات الدستور خصوصا أنه أستاذ للقانون الدستوري، مشيرا إلى أن جميع الأطراف التونسية تقدر أهمية الأوضاع الراهنة التي تستوجب الكثير من العمل واستغلال الوقت في القضايا المهمة لتونس[46].

المستوى الثالث: الأطراف الدولية

تصدرت الخطوات التي أعلن عنها قيس سعيد الاهتمام الدولي، الأمر الذي دفع العديد من القوى الدولية إلى الإعلان عن مواقفها إزاء ما حدث، وكان أبرزها كالتالي:

1ـ الأمم المتحدة:

وفي رد فعلها على الخطوات التي اتخذها الرئيس التونسي، وكعادتها في مثل هذه المواقف لم يخرج رد الأمم المتحدة عن المعتاد، بحيث أكدت على لسان نائب المتحدث باسم الأمين العام على ضرورة ضبط النفس والامتناع عن العنف وضمان بقاء الأوضاع هادئة، مع دعوة جميع الأطراف إلى حل الخلافات عبر الحوار، داعية في نفس الوقت إلى ضرورة ضمان احترام حرية الصحافة لممارسة عملهم بدون مضايقة، وذلك على خلفية إقفال السلطات لمكتب الجزيرة بتونس[47]. كما أكد سعي الأمم المتحدة إلى مواصلة الاتصالات مع الحكومة التونسية في سبيل تشجيع القادة التونسيين وأصحاب المصلحة على حل الخلافات بسرعة عبر الحوار والتراضي والتصرف بمسؤولية للحفاظ على الهدوء[48].

2ـ الموقف الأمريكي :

تطور الموقف الأمريكي حول الأحداث التي شهدتها تونس من مرحلة جمود أو برودة الموقف إلى مرحلة الاهتمام بالأوضاع من قبل الإدارة الأمريكية، وذلك في ظل تزايد ضغط وسائل الإعلام الأمريكية التي انتقدت بشدة ما حصل من تطورات في المشهد التونسي، معتبرة الحدث هو اختبار حقيقي لديمقراطية بايدن، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد اختارت الإدارة الأمريكية عدم الاصطفاف لطرف دون الآخر، بحيث لم تجزم بتوصيف ما حدث انقلابا، وهذا ما أكدته التصريحات الرسمية.

البيت الأبيض أعرب على لسان المتحدثة باسمه جين ساكي عن قلق الإدارة الأمريكية إزاء التطورات التي عرفتها تونس، مشيرا أن مسؤولي الإدارة على اتصال مع كافة الفرقاء التونسيين لتتبع الوضع، داعيا جميع الأطراف إلى التزام الهدوء ودعم الجهود التونسية للمضي قدما بما يتماشى مع المبادئ الديمقراطية[49].

وفي اتصال هاتفي أجراه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع الرئيس التونسي، أكد من خلاله على دعم الإدارة الأمريكية للديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون، كما أكد على ضرورة الإسراع في رسم الخطوط العريضة لعودة المسار الديمقراطي في تونس، وذلك في سبيل إعادة الاستقرار السياسي، الاقتصادي، وتجاوز الأزمة الصحية لكوفيد 19[50].

وكان موقف الخارجية الأمريكية الأكثر وضوحا، بحيث أكد أنتوني بلينكن خلال اتصال جمعه بالرئيس التونسي على عمق الشراكة القوية التي تجمع البلدين، ودعم الولايات المتحدة المستمر للشعب التونسي في مواجهة جملة من التحديات التي تتمثل أساسا في الأزمة الاقتصادية والأزمة الصحية لكوفيد 19، مشيرا إلى ضرورة التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تشكل أساس الحكم في تونس، كما حث بلينكن الرئيس التونسي على فتح الحوار مع جميع الجبهات السياسية والمجتمع المدني[51].

ومن جهة أخرى، عبّرت الخارجية الأمريكية عن قلقها من تضييق الخناق على وسائل الإعلام على ضوء إغلاق مكاتب لمجموعة من المنابر الإعلامية، مؤكدة على ضرورة احترام حرية التعبير والرأي باعتبارها من الحقوق المدنية، من أجل الحفاظ على مكتسبات تونس الديمقراطية[52].

ومن كل ذلك، فهل سيشهد الموقف الأمريكي من أحداث تونس نهجا تصاعديا من خلال استخدام آليات الضغط عبر توظيف ورقة المساعدات الاقتصادية وذلك في ظل ارتفاع الضغوط الداخلية الداعية من الكونغرس ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني إلى ضرورة أن تلعب إدارة بايدن دورا فعّالا لحث الرئاسة التونسية إلى تصحيح المسار الديمقراطي أم سيبقى الموقف ثابتا في مربع المراقبة وتتبع الأحداث.

3ـ الموقف الأوروبي:

دعا الاتحاد الأوروبي في بيان أصدره عقب التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد، جميع الأطراف الفاعلة إلى احترام الدستور والحقوق الأساسية وسيادة القانون، مع تشديده إلى ضرورة استعادة الاستقرار المؤسساتي، خصوصا ذلك المتعلق باستئناف العمل البرلماني، وتجنب انزلاق البلاد نحو العنف والفوضى. مؤكدا البيان على مواصلة الاتحاد الأوروبي مراقبة تطورات الأوضاع، وذلك في سبيل الحفاظ على الديمقراطية واستقرار البلاد.

وقد دعا البرلمان الأوروبي على لسان رئيسه ديفيد ساسولي جميع الأطراف التونسية إلى حل خلافاتها بالحوار وذلك في سبيل عودة الحياة السياسية إلى طبيعتها، مشيرا إلى أن الكفاح ضد جائحة كوفيد 19 ومن أجل مصلحة الشعب محور كل عمل سياسي[53].

أما فيما يخص دول الاتحاد، فيعتبر الموقف الفرنسي الأكثر تقدما إزاء تطورات الأوضاع الحالية، وذلك بسبب الدور والتموضع الفرنسي المهم في المنطقة المغاربية، ويرى العديد من المراقبين أن الخطوات التي اتخذها سعيد لا يمكن أن تكون بدون غطاء فرنسي، لأن فرنسا لها ملفات توليها أهمية كبيرة في المنطقة: ملف الإسلام السياسي الذي تتشارك من خلاله مع قوى الثورات المضادة، والملف الليبي الذي توليه باريس أهمية قصوى نظرا لثقل مصالحها الاستراتيجية هناك. وملف الهجرة غير الشرعية الذي تعتبر من أكثر الملفات عبئاً عليها.

وفي سياق الأحداث التي شهدتها تونس، دعت الخارجية الفرنسية على لسان وزيرها جان إيف لودريان إلى ضرورة تعيين رئيس وزراء في تونس بسرعة، كما شدد خلال اتصال جمعه مع نظيره التونسي عثمان الجرندي على أهمية تشكيل حكومة قادرة على تلبية تطلعات التونسيين، مؤكدا على ضرورة عودة الهدوء إلى البلاد في ظل سيادة القانون، من أجل عودة المؤسسات الديمقراطية إلى العمل بشكل طبيعي في أقرب وقت[54].

أما ألمانيا، على الرغم من ابتعادها على وصف ما جرى في تونس على أنه انقلاب عن الدستور، إلا أنها أعربت عن قلقها لتفاقم الأزمة السياسية في تونس، وقد أكدت الخارجية الألمانية على أهمية الإسراع بالعودة إلى النظام الدستوري، مع ضرورة احترام الأطراف للمقتضيات الدستورية تطبيقا لأحكامها، بما يضمن حماية الحقوق والحريات التي تعد من أساسيات الثورة التونسية للعام 2011، مؤكدة أن الوضع في تونس يستدعي معالجة الإصلاحات السياسية والاقتصادية لوضع حد للأزمات التي تعيشها، مشددة على أن نجاح أي مسار مرتبط باتحاد عمل جميع الأجهزة الدستورية بشكل فعال، مع تأكيدها ضرورة استئناف المؤسسة البرلمانية لأعمالها، مشيرة على أن تونس قطعت شوطا كبيرا في المسار الديمقراطي، ولذلك فإن الشعب التونسي لن يرضى إلا بها سبيلا، باعتبارها ثقافة مترسخة منذ 2011[55].

خامسا: المسارات المستقبلية للمشهد التونسي على ضوء انقلاب قيس سعيد

نتيجة لواقع المشهد التونسي التي يشوبه الاضطراب والتوتر في ظل أزمة سياسية دستورية التي بدأت مفاصلها بأزمة التعديل الوزاري وانتهت بقرارات الرئيس الاستثنائية، يمكن طرح عدد من السيناريوهات المستقبلية، وهي كالتالي:

1-سيناريو سيطرة الرئيس على مقاليد الحكم:

يتمثل هذا السيناريو في تمسك سعيد بالقرارات التي اتخذها وإحكام قبضته على مقاليد الدولة، من خلال سيطرته على جميع السلطات في البلاد، بمساعدة المؤسسة الأمنية والعسكرية التي كانت الحصن المنيع له وضمانة له في تنفيذ مخططاته، وعلى ضوء ذلك فقد يتمادى الرئيس في إصدار مزيد من القرارات التي من شأنها قطع الطريق على القوى المعارضة لقراراته في محاولة منه لضرب وتعطيل كياناتها واعتقال أفرادها.

ذلك ما يفتح الطريق أمامه إلى إجراء تعديلات دستورية-فردانية-تشمل تغيير النظام السياسي عبر التخلي عن النظام شبه الرئاسي والعودة إلى النظام الرئاسي، بحيث سيستغل سعيد منطوق الفصل 143[56] الذي تتيح له بالأسبقية اقتراح تعديلات دستورية في بلوغ هدفه إلى إنتاج نظام رئاسي خالص عبر العودة إلى دستور بورقيبة للعام 1959 والذي تم تكريسه في ظل حكم زين العابدين بن علي.

وعلى الرغم من أن هذا الإجراء يجب أن يمر بعدة إجراءات بموجب الفصل 144[57] التي تستوجب التصديق عليه والمتعلقة بموافقة ثلثي مجلس النواب، بالإضافة إلى ضرورة تواجد المحكمة الدستورية التي يعرض أمام أنظارها أي مبادرة لتعديل الدستور لإبداء الرأي فيها. فإن ذلك لن يقف أمام سعي سعيد بشتى الطرق والوسائل لتغيير طبيعة النظام السياسي عبر التذرع بأن طبيعة الحكم الحالي هو الذي كان سببا في تعميق أزمة الصلاحيات والاختصاصات بين السلطات في البلاد.

كما يعزز هذا السيناريو دور العامل الخارجي، الذي يمثل إحدى أدوات التأثير التي استعان بها قيس سعيد لتنفيذ قراراته، وذلك بعض ظهور مؤشرات دعم خارجي مثلته العديد من القوى الإقليمية والدولية وعلى رأسها الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا، فجميع هذه القوى تسعى إلى القضاء على تيار الإسلام السياسي وعلى كل التجارب الديمقراطية التي تمخضت عن ثورات الربيع العربي، والتي تعتبر التجربة التونسية من بين أهم أهدافها التي تسعى إلى إسقاطها. فقد برزت بواعث انقلاب سعيد بشكل واضح منذ أن أعلن في أبريل الماضي أنه قائد أعلى للقوات العسكرية والمدنية معا، ولوح باستخدام الفصل 80 الذي يتذرع بها للخروج من الأزمة، وجاء هذا الخطاب مباشرة بعد زيارته للقاهرة، ولقائه بعبد الفتاح السيسي في أبريل 2021، هذه الزيارة التي طرحت العديد من علامات الاستفهام حول مدى موالاة سعيد لتيار الثورات المضادة، وقد زكى هذا الطرح تسارع وتيرة الهِبات التي قدمتها الإمارات إلى تونس من لقاح فيروس كورونا، هذا الأمر الذي يفتح تكهنات على إمكانية إنهاء أزمة كورونا في تونس على يد الإمارات.

2- سيناريو تراجع الرئيس عن قراراته:

يستوجب تحقيق هذا السيناريو توفر مجموعة من الشروط، من أبرزها تزايد الضغوطات على سعيد من خلال توسيع دائرة الرافضين لقراراته، عبر انسحاب الأطراف السياسية الداعمة له، ورفض غالبية الكتل البرلمانية لقراراته، وتزايد الرفض الشعبي، في ظل عدم قبول محاولات إفشال التجربة الديمقراطية التونسية باعتبارها بوابة لثورات الربيع العربي، ورفضه لتكريس ثقافة الاستبداد. مؤشر الضغط الشعبي يمكن أن يكون له دور في نأي المؤسسة العسكرية في تماديها الانسياق في تأييد قرارات سعيد واصطفافها وراء خيار التونسيين الذين يريدون حماية مكتسبات ثورتهم من الانزلاق إلى أتون الديكتاتورية.

3- سيناريو العودة إلى الحوار بين الأطراف السياسية:

لتحقيق هذا السيناريو يجب توفر مجموعة من الشروط من أجل تجاوز الأزمة السياسية والدستورية القائمة على أساس حوار وطني فعال وشامل، من أبرزها تقديم جميع الأجسام السياسية مجموعة من التنازلات وتلقي بخلافاتها جانبا، على أن تنصب جهودها في مواجهة الوضع المتردي الذي يشهده الوضع العام التونسي، وما يغذي تحقيق هذا السيناريو ضغط الأطراف التي يمكن أن يكون لها دور في دعم آلية الحوار وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتمتع بمكانة كبيرة داخل المشهد التونسي إلى جانب بعض المنظمات الحقوقية كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هذا بجانب ضغط بعض التنظيمات الدولية والإقليمية الداعمة لخيار الحوار كالاتحاد الأوروبي الذي دعا إلى حوار وطني شامل يضم جميع اللاعبين السياسيين من أجل إعادة الأمور إلى نصابها ضمانا لعودة الاستقرار السياسي إلى تونس. بالإضافة إلى الضغوطات التي يمكن أن تمارسها بعض المؤسسات المالية الدولية كصدوق النقد الدولي الذي دعا مرارا إلى إطلاق حوار وطني شامل بين الأطراف السياسية التونسية.

فعلى الرغم من ذلك، تعترض هذا السيناريو جملة من العقبات، بحيث أن فجوة الانقسام وحدة التوتر بين أطراف الأزمة قد ينعكس سلبا على مبادرة الحوار، خصوصا في ظل تشبت الرئيس بقراراته الاستثنائية التي من الصعب التنازل عن أي من بنودها تحت أي ظرف كان . وحتى في حالة موافقة الأطراف المتنازعة وعلى رأسها الرئيس مبدئيا الجلوس على مائدة الحوار فإن العائق الرئيسي الذي يواجه هذا السيناريو ، هو ارتفاع مؤشر انعدام الثقة بين مؤسسات الدولة. لذلك فعملية إنجاح أي تسوية سياسية رهينة بالتوافق بين جميع التيارات السياسية وبدون شروط مسبقة بهدف إخراج البلد من المأزق السياسي الذي كانت له تداعيات خطيرة على تجربة تونس الديمقراطية.

4-سيناريو عزل قيس سعيد من طرف البرلمان:

على الرغم من أن هذا السيناريو تبقى نسبة حدوثه ضعيفة أو بالأحرى منعدمة، إلا أنه يبقى مطروحا لو كانت متوفرة مجموعة من الأدوات والشروط، بحيث استغل سعيد غياب العديد من أدوات التأثير ليقرر على ضوء عدم وجودها مجموعة من القرارات في ظل غياب أهم الهياكل التي كان بإمكانها حل الإشكالات القانونية-الدستورية التي وقفت عقبة أمام أي مخرج للأزمة بين أطرافها الفاعلة ألا وهي المحكمة الدستورية.

فوفقا للدستور التونسي، يمكن لأعضاء البرلمان عزل الرئيس بموجب الفصل 88، وذلك بسبب خرق جسيم للدستور في ظل استغلال الرئيس للفصل 80 بشكل مخالف لمقتضيات الشرعية؛ فعلى ضوء ذلك، يقوم نواب البرلمان بتقديم لائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من منصبه، ولتحقيق ذلك يجب توفر النصاب القانوني بأغلبية الأعضاء أي 109 نائب. وفي حال التصويت على اللائحة بأغلبية الثلثين، تحال اللائحة للمحكمة الدستورية والتي يكون لها البت النهائي في عزل الرئيس من عدمه.

لذلك، فقيس سعيد كان يعرف في ظل استفحال الأزمة السياسية أن هناك إمكانية لعزله، لذلك فإن عرقلته لتشكيل المحكمة الدستورية وتعطيل العمل البرلماني جاءت بصفة عمدية لأنه يعرف تمام المعرفة أن البرلمان يمتلك صلاحيات عزله على ضوء الفصل 88، كما أنه يعلم ما للمحكمة الدستورية من دور في اعتماد وتفعيل قرار العزل. وهي أمور غير متاحة في ظل الظرفية الراهنة مما يجعل هذا السيناريو في حكم الإقصاء.

5-سيناريو الانتخابات المبكرة:

فقد تصاعدت الأصوات المؤيدة لهذا السيناريو بعد التدابير الاستثنائية التي اتخذها سعيد، بحيث يرى داعمو هذا السيناريو أن البلاد لا يمكن لها أن تظل في حالة الانقسام والتشرذم السياسي إلى غاية موعد الانتخابات المقبلة في العام 2024.

ولذلك ومع انسداد أفق الأزمة، تعتبر الانتخابات المبكرة والرجوع إلى الشعب لتقرير مصيره وتحديد اختياراته للمؤهلين لقيادة مؤسسات الدولة هو أحد الوسائل للخروج البلاد من أتون الصراعات السياسية التي عصفت بالبلاد، وبوابة للحفاظ على الاستثناء التونسي في الانتقال الديمقراطي وحمايته من التدخل الخارجي الذي كان له دور في مناهضة ثورات الربيع العربي.

6-سيناريو اندلاع الفوضى والعنف:

على الرغم أن هذا السيناريو يبقى محدودا إلى أنه يبقى قائما، ففي ظل الرفض الداخلي الواسع الذي اعتبر التدابير الاستثنائية التي اتخذها سعيد تشكل انقلاب على التجربة الديمقراطية التونسية، فيمكن أن يكون الشارع ملاذا للرافضين لفكرة عودة ثقافة الاستبداد التي عاشتها تونس في ظل نظامي بورقيبة وزين العابدين بن علي، لإنقاذ التجربة التونسية من الضياع. لكن يمكن أن تواجه المظاهرات في الشارع بالقمع الذي يمكن أن يستفحل إلى مستوى الفوضى والعنف في ظل استغلال بعض الأطراف الداخلية ذات الاستئثار الخارجي هذه المظاهرات من أجل إدخال تونس في دوامة العنف والفوضى بهدف القضاء على التجربة الديمقراطية التونسية، ما يفسح المجال أمام سعيد إلى اتخاذ قرارات أكثر ديكتاتورية عبر إنزال الجيش إلى الشارع بذريعة سعيه إلى عدم انجرار البلاد إلى دوامة الفوضى وإعادة الاستقرار إلى البلاد، وبالتالي إحكام سيطرته على جميع أجهزة الدولة مما يتيح له الفرصة القضاء على خصومه السياسيين وعلى رأسهم حركة النهضة.

خاتمة:

مع هذا التناول لتطورات الأزمة التونسية التي ترتبت على الانقلاب الذي قام به الرئيس التونسي قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021، ومع طبيعة ردود الأفعال الداخلية والإقليمية تجاه الانقلاب، يمكن القول أن السيناريو الأول (سيطرة الرئيس على مقاليد الحكم) هو الأقرب حتى الآن في ظل المعطيات التي شهدتها الأسابيع القليلة التي مرت بعد الانقلاب، وحتى تاريخ كتابة هذه الورقة (9 أغسطس 2021)؛ ومع ترجيح هذ السيناريو، يكون من الأهمية بمكان، وضع الأطر اللازمة للتعاطي مع هذه السيناريو، من جانب الأطراف الداخلية والخارجية المعنية بالمشهد التونسي.


الهامش

[1] نص الوثيقة المسربة التي نشرها موقع Middle East Eye حول تفعيل الفصل 80 من الدستور، متوفرة عبر الرابط التالي: الرابط

[2] قيس سعيد ينقلب على البرلمان والحكومة والنيابة العامة، عربي 21، بتاريخ 25 يوليو 2021،  متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[3] منظمات حقوقية ومهنية تدين اقتحام مكتب الجزيرة بتونس وإغلاقه، الجزيرة نت، بتاريخ 26 من يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[4] انظر في ذلك: تونس.. قيس سعيد يقيل 30 مسؤولا في 10 أيام، الجزيرة نت، بتاريخ 4 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط وأيضاً: الرئيس التونسي يقيل 3 مسؤولين جدد، RT عربي، بتاريخ 6 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[5] أنظر في ذلك: الاعتقالات السياسية في تونس.. مكافحة للفساد أم تمهيد لدكتاتورية جديدة؟، الجزيرة نت، 03 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[6] -أنظر في ذلك: شريط الأحداث في تونس، الجزيرة نت، بتاريخ 29 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[7] قيس سعيّد يؤكد أنه لن يتحول لدكتاتور.. الأمن التونسي يعتقل نائبين برلمانيين والقضاء يحقق مع 4 أعضاء من حزب النهضة، الجزيرة نت، بتاريخ 30 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[8] نص الفصل 80 من الدستور التونسي للعام 2014.

[9] مواقف الأحزاب السياسية في تونس من قرارات “سعيّد”، شبكة الساعة، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط أنظر كذلك: الغنوشي: برلمان تونس في حالة انعقاد ونتمسك برفض الانقلاب، وكالة الأناضول، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[10] -آدم يوسف: المشهد الحزبي في تونس: ارتباك وانقسامات بعد قرارات سعيّد، العربي الجديد، بتاريخ 1 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[11] الأزمة في تونس: حركة النهضة تطالب الرئيس قيس سعيّد بالتراجع عن قراراته وإجراء حوار وطني، بي بي سي، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[12]–  هل تجبر قرارات سعيّد “النهضة” على مراجعة أدائها، وكالة الأناضول، بتاريخ 6 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[13] محمود البزم. تونس.. غالبية برلمانية ترفض قرارات سعيّد وتعتبرها خرقا للدستور، وكالة الأناضول، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[14] عادل الثابتي: بعد قرارات سعيد.. “ائتلاف الكرامة” يدعو الشعب للدفاع عن ثورته، وكالة الأناضول، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[15] أنظر في ذلك: محمود البزم. تونس.. غالبية برلمانية ترفض قرارات سعيّد وتعتبرها خرقا للدستور. مرجع سابق.

وأيضا آدم يوسف: المشهد الحزبي في تونس: ارتباك وانقسامات بعد قرارات سعيّد، مرجع سابق.

[16] أحزاب تونسية ترفض قرارات قيس سعيد.. ورئيس هيئة الانتخابات: القرارات لا تطابق أحكام الدستور، الجزيرة مباشر، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[17] أنظر في ذلك: آدم يوسف: تحوّل غريب في موقف “قلب تونس” من قرارات سعيّد، العربي الجديد، بتاريخ 28 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[18] أنظر في ذلك: يسرى وناس: بعد “رفض”.. “التيار الديمقراطي” بتونس “يتفهم” قرارات سعيّد، وكالة الأناضول، بتاريخ 29 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[19] حزب العمال: قرارات سعيّد تدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي، التزا تونس، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[20] -ينص الفصل 68 من الدستور التونسي على أنه: لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية.

[21] لماذا انقلبت عبير موسي على قيس سعيد خلال 3 أيام؟ فتِّش عن الخطاب الشعبوي، عربي بوست، بتاريخ 2 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[22] القضاء التونسي يبلغ قيس سعيد رفض التعدي على النيابة العامة، عربي 21، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[23] رئيس الهيئة العليا للانتخابات بتونس يعتبر قرارات سعيد “غير متطابقة” مع الدستور: نتابع التطورات بـ ”صدمة”، عربي بوست، بتاريخ 21 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[24] تركيا تصف قرارات سعيّد بـ”الانقلاب على النظام الدستوري”، عربي 21، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[25] أردوغان يؤكد لسعيّد أهمية استقرار ديمقراطية تونس، وكالة الأناضول، بتاريخ 2 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[26] الخارجية التركية: نأمل عودة الشرعية الديمقراطية في تونس سريعًا، وكالة الأناضول، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[27] الرئاسة والخارجية والبرلمان في تركيا يعتبرون ما جرى في تونس “انقلاباً على الدستور”، القدس العربي، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[28] مصر تعلن دعمها لقيس سعيّد وتدعو إلى تجنّب التصعيد العربي الجديد، بتاريخ 01 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[29] يسرى ونّاس، إبراهيم الخازن: تونس.. شكري يلتقي سعيّد ويؤكد دعم السيسي لإجراءاته الاستثنائية، وكالة الأناضول، بتاريخ 03 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[30] بيان: قطر تدعو أطراف الأزمة التونسية إلى تغليب صوت الحكمة وتجنب التصعيد، وزارة الخارجية القطرية، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[31] -سليمان حاج إبراهيم: أمير قطر يجري اتصالا بالرئيس التونسي ويدعو لانتهاج الحوار وتكريس حكم القانون لتجاوز الأزمة، القدس العربي، بتاريخ 28 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[32] الإمارات تؤكد “دعمها الكامل” لتونس، RT عربي، بتاريخ 28 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[33] “غياب الشفافية”.. شحنة لقاحات إماراتية تثير الجدل في تونس، الحرة، بتاريخ 2 مارس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[34] عادل الثابتي: تونس.. وصول 500 ألف جرعة لقاح كورونا من الإمارات، وكالة الأناضول، بتاريخ 13 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[35] حساب مجتهد: بن زايد وعد قيس سعيد بـ 5 مليار دولار إذا نجح انقلابه، الحقيقة بوست، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[36] سعيد يؤكد تلقيه دعماً مالياً وأمنياً من دول “صديقة”.. قال إنها ستساعد تونس في استعادة توازنها المالي، عربي بوست، بتاريخ 02 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[37] Les Émirats grands gagnants du « coup d’État » en Tunisie, Mondafrique, Le 27 juillet, Disponible sur le site suivant: Lien

[38] أبرز ما قام به رمطان لعمامرة خلال زيارة العمل التي قادته الى تونس، الوسيط، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[39]–  تونس: مصر والجزائر تتعهدان بالدعم الكامل للرئيس قيس سعيّد في خضم الأزمة السياسية، فرنس 24، بتاريخ 2 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[40] زيارتان خلال أسبوع.. دور جزائري بارز وسط بحث تونس “عن دول تحد من عجزها المالي”، الحرة، بتاريخ 03 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[41] للمرة الثانية خلال أسبوع.. الرئيس التونسي يستقبل وزير الخارجية الجزائري في قصر قرطاج (فيديو)، RT عربي، بتاريخ 01 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[42] الدبلوماسية الجزائرية تتفاعل مع مصر وليبيا وتونس.. فهل تصل إلى المغرب؟، TRT عربي، بتاريخ 02 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[43] الرئيس التونسي يستقبل وزير الخارجية المغربي، RT عربي، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[44] المشري ردا على تطورات تونس: نرفض “الانقلابات” على أجسام منتخبة، الأناضول، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[45] “الرئاسي الليبي”: نراقب بقلق شديد الأوضاع في تونس، RT عربي، بتاريخ 07 أغسطس 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[46] رئيس موريتانيا: جميع الأطراف بتونس تقدر أهمية الأوضاع الراهنة، وكالة الأناضول، 31 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[47] تونس: الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس والامتناع عن العنف والحفاظ على الهدوء، أخبار الأمم المتحدة، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[48] الأمم المتحدة تشجع القادة التونسيين وأصحاب المصلحة على حل الخلافات عبر الحوار، أخبار الأمم المتحدة، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[49] ردود فعل على الأزمة السياسية في تونس، القدس العربي، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[50] وسط جدل في تونس.. الولايات المتحدة تحث قيس سعيد على العودة السريعة للمسار الديمقراطي، الجزيرة مباشر، بتاريخ 01 أغسطس 2021، متوفر غبر الرابط التالي: الرابط

[51] وزير الخارجية الأمريكي يدعو رئيس تونس إلى “الالتزام بالديمقراطية”، RT عربي، بتاريخ 26 يوليو 2021ـ متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[52] واشنطن “قلقة ومنزعجة”.. بلينكن يحضّ سعيّد على “احترام الديمقراطية”، العربي الجديد، بتاريخ 27 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[53] رئيس البرلمان الأوروبي: ندعو الأطراف التونسية إلى استئناف الحوار، RT عربي، بتاريخ 26 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[54]–  تونس: فرنسا تدعو لتعيين رئيس وزراء “بسرعة” وسط ترقب لخارطة طريق المرحلة المقبلة، فرنس 24، بتاريخ 28 يوليو 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[55] أنظر في ذلك: ردود الفعل على الأزمة في تونس.. بين القلق والترقب والإدانة، DW، متوفر على الرابط التالي: الرابط

[56] ينص الفصل 143 من الدستور التونسي للعام 2014 على أن: لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس نواب الشعب حق المبادرة باقتراح الدستور، ولمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر.

[57] ينص الفصل  144 من الدستور التونسي للعام 2014 على أن: كلّ مبادرة لتعديل الدستور تُعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسبما هو مقرر بهذا الدستور. وينظر مجلس نواب الشعب في مبادرة التعديل للموافقة بالأغلبية المطلقة على مبدا التعديل. ويتم تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب. ويمكن لرئيس الجمهورية بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس أن يعرض التعديل على الاستفتاء، ويتم قبوله في هذه الحالة بأغلبية المقترعين.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close