قلم وميدان

حكم العسكر ومآلاته على الهوية المصرية

 

حتى لا يخدعنا البعض بالحديث عن الهوية التي يراها هو، ويصرفنا عن جوهرها الحقيقي، يجب علينا أن نعرف ما هي الهوية الوطنية، وما هي طبيعة مكوناتها، فالهويّة في أحد تعريفاتها، هي الإعلاء من شأن الفرد، والوعي بالذّات الثقافيّة والاجتماعيّة، وهي عبارة عن سماتٍ تُميّز شخصًا عن غيره أو مجموعة عن غيرها، أو بمعنى آخر هي الخصوصيّة والذّاتيّة وهي ثقافة الفرد ولغته وعقيدته وحضارته وتاريخه، والهويّة جزء لا يتجزّأ من منشأ الفرد ومكان ولادته، حتّى وإن لم يكن أصله من نفس المنشأ. وأهم مكونات الهوية: الموقع الجغرافي، والذاكرة التاريخيّة الوطنية المشتركة، والثقافة الشعبيّة الموحّدة، والحقوقٌ والواجباتٌ المشتركة، والاقتصاد المشترك.

والهوية الوطنية تعني كذلك، الانتظام العام في المجتمع وفق مبدأ أخلاقي ضمن نسيج مجتمعي متماسك، قائم على التعاون والمحبة واحترام العادات والتقاليد والأسرة والبيئة، والتمسك بالقيم الدينية السائدة واحترام الرأي الآخر ومعتقده ووجهة نظره، إن لم تمس القيم، والانتظام العام وسيادة الوطن. وتعني– أيضًا-الوعي الذي يجب أن نربي عليه أبناءنا في حب الوطن والإخلاص له والتضحية في سبيله، ليبقى وطنًا منيعًا ضد الفاسدين والمخربين والطامعين والأعداء.

كما تعني الهوية الوطنية قيام الدولة بواجباتها نحو الوطن والمواطن، التي جاءت نتيجة عقد تاريخي معه. لذا فإن الإهمال أو التعالي أو الفساد الحكومي والإداري، يضعف من نسيج المجتمع ومنعته ويضع الوطن كله في خطر.

وفي إطار هذا الجوهر الذي تقوم عليه الهوية، يمكن القول أن كل ممارسات الحكم العسكري في مصر، من الذين صعدوا إلى السلطة، أو استولوا عليها منذ العام 1952حتى الآن، تنُمُّ عن حرصهم الشديد على تغيير الهوية الوطنية القائمة على الاعتزاز بالشخصية المصرية، ومكانتها. ولعل ما ذكره جمال حمدان في كتابه الشهير: “شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان”، يرجعنا إلى فهم طبيعة الشخصية المصرية التي يحاول القائمون على السلطة تغييرها وتمييعها، فهو يرى أن التدين على رأس هذه الصفات، وأرجع ذلك إلى حضارة مصر الزراعية، وكل ما يتصل بها من صفات مثل الصبر والدأب والجلد والتحمل، وحرص المصري على المحافظة، نتيجة للاستقرار، وحرصه من جانب آخر على الاعتدال، وبحكم الاعتدال، فالمصري أميل للشخصية الاجتماعية المنطلقة، كما أنه أميل للتعاون مع الأخرين من أنه يتنافس معاهم.

كل هذه الصفات يحاول الحكم العسكري في مصر تبديلها بصفات أخرى تُغيّر من شخصيته، ومن علامات ذلك:

أولاً: تغيير الهوية المصرية العربية الإسلامية إلى هوية مائعة، لا هي عربية ولا هي إسلامية، ويظهر ذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة، التي تدعمه منذ انقلابه، وقبله وبعده، بالتطاول المستمر على ثوابت الإسلام، سواء من خلال من يُسمُون بالعلماء، أو غيرهم من الصحفيين والإعلاميين، أو حتى المثقفين. وقد أفصح عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري عمّا بداخله من عداوة وكراهية للدين الإسلامي، في أحد المناسبات الدينية، حيث هاجم تمسك خطباء وعلماء الأزهر بالنصوص الدينية المقدسة، بقوله: “لا يمكن أن يكون هذا الفكر الديني الذي نقدِّسه يدفع الأمة كلها لأن تكون مصدرًا للقلق والخوف والقتل والتدمير للدنيا كلها”!

ثانيًا: محاولة استئصال الحركة السياسية ذات المرجعية الإسلامية في مصر، وظهر ذلك جليًّا بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو عام 2013، حيث أغلق كل القنوات الإسلامية، وكمم الأفواه، واعتقل عشرات الألوف من الإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم، وزجّ بهم في السجون ولفّق لهم القضايا، في محاولة منه للقضاء على الحركة الإسلامية في مجملها، وهو ما فشل فيه الحكم العسكري عبر العقود السابقة، كما فشل فيه الاستعمار بكل أشكاله. وهو بكل هذه الممارسات يستهدف في الأساس عزل الأفكار والقيم والقواعد التي يبنى عليها المشروع السياسي الإسلامي من الهوية الإسلامية السائدة، ويريد إعادة تصنيع الهوية الإسلامية من خلال عزل بعض مكوناتها والتركيز على مكونات أخرى هشة باهتة.

ثالثًا: محاولة تشكيل هوية إسلامية شكلية خاملة باهتة، للكتل المؤيدة له، تنتج حالة من الفراغ الثقافي والقيمي، مما يجعل المجتمع في حالة تفكك وتراجع مستمر، وتختلف جذريًا عن الهوية الإسلامية التي تحملها الحركة الإسلامية النشطة، فهي هوية بلا مشروع، يستهدف بها عزل الأفكار والقيم والقواعد التي يبني عليها تعديل هوية مصر حتى يستقر الحكم العسكري، من خلال عزل بعض مكوناتها والتركيز على مكونات أخرى، وتشويه صورة الحركة الإسلامية الأم، ونعتها بصفات مثل: ممارسة العنف والإرهاب، وأنهم من أهل الشر، الذين يستهدفون استقرار الدولة، مستخدمًا في ذلك الإعلام الموجه، وإنتاج المسلسلات الدرامية التي تؤكد ذلك، وإبراز كل ما هو ضد الهوية الإسلامية في المكونات الدراسية للتعليم، حتى يعزلها عن الحاضنة الاجتماعية،مما يمكِّنه من استئصالها في النهاية.

رابعًا: محاولة إبراز الهوية العلمانية بدلا من الإسلامية، فالحكم العسكري يحاول البحث عن هوية قومية بديلة، حتى يؤسس لحكم علماني يستند لهوية عرقية خالصة، ويدفع لبروز تلك القومية من خلال معارك مفتعلة مع ما يسمى الإرهاب، وأيضًا مع المشروع السياسي الإسلامي، وتلك المعارك لا تعطي للهوية المصرية الخالصة أي معنى سوى أنها نقيض للمشروع الإسلامي عامة. ولعل ذلك كان واضحًا من خلال تصريحات سابقة لوزير الثقافة الحالي “حلمي النمنم”، الذي قال إن مصر علمانية بالفطرة، وأيده في ذلك العديد من المثقفين، مثل: أحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور، ونوال السعداوي، وغيرهم كثير.

خامسًا: المحاولات المستمرة لتقسيم المجتمع المصري، فبعد أن كان هذا المجتمع نسيجًا واحدًا، أصبح أشتاتًا متفرقة، فهذا إخواني، وهذا سلفي، وآخر علماني، وهذا مسيحي، وذاك مسلم، مما هيأ المناخ العام لإثارة الشحناء بين أفراد المجتمع، وحِرْص كل طرف للانتصار لنفسه، مما شكّل حالة من التشويش على هوية مصر الأصلية، وإبراز هوية ليس فيها قيم أو قواعد سائدة أو شائعة، مما يعني أن القومية المصرية بالنسبة للحكم العسكري ليست إلا عنوانًا يُميّز من يحمل الجنسية المصرية دون محتوى حضاري، وهذا يدفع لنوع من التعصب تجاه هذه الهوية المصنّعة، مما يجعل القومية المصرية تتحول اجتماعيًا إلى نوع من الانتماء المتعصب لهوية مهددة من قبل أخطار مفترضة.

كل هذه المحاولات وغيرها، التي يمارسها العسكر من أجل التمكين لحكمه، معتمدًا في ذلك على نسبة الأميّة والجهل لدى قطاع كبير من الشعب المصري، وكذلك باستخدام القبضة الأمنية القاسية التي تصرف الناس عن البحث عن الحقيقة، مع استخدام الرموز الدينية الرسمية من الأزهر والكنيسة، للتأكيد على وجوده وسيطرته، ولا مانع – أيضًا -من استخدام بعض الشخصيات السلفية، أو الأحزاب الإسلامية، التي أيدته ووقفت معه في انقلابه على المسار الديمقراطي، للترويج إلى الفكرة التي يدعو إليها.

ومن ثمَّ يجب أن يعي كل الحريصين على مستقبل مصر وهويتها؛ أن استمرار العسكر في سُدة الحكم لدولة كبيرة مثل مصر، سيؤدي إلى المساهمة في تمكين عدو الأمة من الصهاينة للتحكم في مصائرنا، ومستقبلنا (1).

————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى