دراسات

دور العلوم الاجتماعية في محاربة التطرّف العنيف

ملخّص:

تُحاولُ هذه الورقة البحثية أن ترجعَ إلى الجذور الأوليّة المُؤسّسة لظواهر التطرّف العنيف والإرهاب في العالم الإسلامي، وذلك انطلاقا من الأفكار التّي أسّس لها مالك بن نبي في كتبه، فتُقدِّمَ “عالمَ الأفكار” -على العوالم الأخرى بتعبيره- في فهم الجذور الأولى لهذه الظواهر، باعتباره العالَم الأوّل المُنتج لما عداه من العوالم (عالماَ الأشخاص والأشياء)، إنّها تسعى في خطوةٍ ثانيةٍ إلى المُحاججة براهنية “تفكير بن نبي” في تجاوز هذه الظواهر المرضية التّي صارت بمثابة الأزمة الحضارية الأولى التّي يُعاني منها العالم الإسلامي في الزمن الراهن، وذلك عبر مُحاولة استنباط مقاربةٍ فكريةٍ منهجية استلهاما من “وحي بنّ نبي” لأجل معالجة هذه الأزمة ترتكز على حتمية تفعيل دور العلوم الاجتماعية (الفلسفة) في جامعاتنا ومُجتمعاتنا لمعالجة “المرض الذّي أصاب عالم أفكارنا” بشكلٍ بنيويٍ كسبيلٍ أمثلٍ لتجاوز هذه الأزمة الحضارية الراهنة، أزمة التطرّف العنيف والإرهاب في العالم الإسلامي.

مُقدّمة:

خلال العقود القليلة الماضية، صارت ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب ظواهراً سائدةً في العالم الإسلامي، حتّى صارت بمثابة الأزمة الحضارية الأولى الراهنة التّي نعيشها اليوم، فلا تكاد تخلو دولةٌ من دوله من جماعةٍ أو تنظيمٍ مسلّحٍ أو على الأقل طائفةً تحملُ فكراً متطرّفاً يُنتجُ عنفاً مُؤَسّساً يقودُ إلى المواجهة وشلّ الدول والمجتمعات على حدٍ سواء، الأمر الذّي دفع بالعديد من الباحثين في الحقول المختلفة للعلوم الاجتماعية والإنسانية إلى دراسة هذه الظواهر المَرَضِية تمهيداً لمواجهتها أو الحدّ منها على الأقل.

تُحاولُ هذه الورقة البحثية أن ترجعَ إلى الجذور الأوليّة الأُولى المُنتجة لهذه الظاهرة، فتُقدِّم “عالمَ الأفكار” على العوالم الأخرى بتعبير المفكّر الجزائري الراحل مالك بن نبي، باعتباره العالَم الأوّل المُنتج لما عداه من العوالم (عالماَ الأشخاص والأشياء)، محاوِلةً في خطوةٍ ثانيةٍ تأكيد أهميّة تفعيل دور العلوم الاجتماعية (الفلسفة) في جامعاتنا ومُجتمعاتنا لمعالجة “المرض الذّي أصاب عالم أفكارنا” باعتبارها العلوم المُنتجة لهذا العالم “عالمِ الأفكار”، كسبيلٍ أمثل لتجاوز أبرز مشكلةٍ حضاريةٍ معاصرةٍ تواجهنا الآن أي مشكلة التطرّف العنيف والإرهاب. يأتي ذلك في الوقت الذّي تُرجِّحُ فيه دولٌ كثيرةٌ في العالم الإسلامي جملةً من المقارباتٍ الأمنية أو السياسية أو الاقتصادية المادية المحضة أثناء تعاملها مع هذه الظواهر، تريد هذه الورقة البحثية أن تُحاجج براهنية تفكير مالك بن نبي اليوم، مُحاولةً استنباط مقاربة فكرية لمعالجة هذه الأزمة استلهاما من أفكاره وكتبه، صحيح، أنّ مالك بن نبي لم يُعاصر حِقبة التطرّف العنيف والإرهاب بصوَرِه المعاصرة، لكن، لو كان حيّا بيننا اليوم لما تردّد في التركيز على “عالم الأفكار” والعلوم الاجتماعية المُنتجة له في معالجته لهذه الظواهر المَرَضية كسبيلٍ حضاريٍ أمثلٍ يُدركُ قيمة الفكرة وقوّتها في تجاوز مشكلات الأمم والمجتمعات.

كلُّ ذلك يجعلنا نطرح الإشكالية التالية:

إذا كان مالك بن نبي قد وضع جميع كتبه ومؤلّفاته تحت عنوان كبير اسمه “مُشكلاتُ الحضارة” ليُعالج فيها أبرز مشكلات الحضارة الإسلامية ويُقدّم لنا طريقة تفكيرٍ ثاقبةٍ لتجاوزها، فإنّ مالكاً لم يشهد في عصره مشكلة التطرّف العنيف والإرهاب كما نشهدها اليوم والتّي نعتبرها أبرز الأزمات الحضارية الراهنة التّي يمرّ بها العالم الإسلامي، لذا نتساءل هنا عن الكيفية التّي يُمكن من خلالها استنباط مُقاربةٍ فكريةٍ فاعلةٍ من وحي مالك بن نبي لتجاوز هذه الأزمة الحضارية الراهنة، إذ نرى ملامح هذه المقاربة في تركيز مالك بن نبي على ما يُسمّيه “بعالم الأفكار” أثناء معالجته لمشكلات العالم الإسلامي الحضارية.

المُتغيّر المستقّل والمتغيّر التابع:

عالمُ الأفكار والعلوم الاجتماعية كمتغيّرٍ مستقّل.

التطرّفُ العنيف والإرهاب كمتغيّرٍ تابع.

فرضية الدراسة:

تُريدُ هذه الورقة البحثية أن تُثبت فرضيةً تقول بأنّ: هناك علاقةً طرديةً بين العلوم الاجتماعية وظاهرة التطرّف العنيف، فكلّما ساد أثر العلوم الاجتماعية في مجتمع ما، قلّ اتجاه أفراده إلى اعتناق التطرّف أو ممارسته، وكلّما قلّ أثرُ العلوم الاجتماعية في مجتمع ما، تزايد اتجاه أفراده نحو تبنّي أفكارٍ متطرّفةٍ أو مُمارستها على شكل إرهاب.

أسئلةٌ فرعية:

  • ما هي أهمّ المقاربات النظرية في دراسة أسباب ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب؟
  • ما مدى قدرة هذه المقاربات على تفسير الظاهرة؟ وهل قدّمت حلولاً جذريةً لها؟
  • ما المقصود بعالم الأفكار حسب تعبير مالك بن نبي وما علاقته بظاهرة التطرّف العنيف أو الإرهاب؟
  • ما هي العلوم المُساعدة على بروز وتعزيز هذه الظواهر المَرَضِية وما هي العلوم الواقية منها؟ كيف ولماذا؟
  • ما علاقة التخصّص العلمي الذّي يباشره الفرد بطريقة تفكيره؟ وما علاقة ذلك بظاهرة التطرّف العنيف؟
  • كيف تُساهم البُنية الفكرية للبيئة المجتمعية في نشوء ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب؟ وما هي المؤسّسات المساهمة في ذلك؟
  • كيف يتشكّلُ “عقل الفاعل الإرهابي” بنيويا؟

للإجابة على إشكالية الدراسة والأسئلة الفرعية المرافقة لها، بالإضافة إلى إثبات صحّة الفرضية، نضع الخطّة التالية:

مقدّمة

أولاً: عالمُ الأفكار وجذور التطرّف العنيف في العالم الإسلامي

  1. العجز التفسيري للمقاربات المادية في دراسة أسباب التطرّف العنيف
  2. كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” وملامح المقاربة الفكرية لـ مالك بن نبي في دراسة جذور التطرّف العنيف

ثانياً: الطبيعة النقدية للعلوم الاجتماعية في فهمها لمشكلة التطرّف العنيف

  1. ماهية العلوم الاجتماعية
  2. العلاقة الحتمية بين طبيعة التخصّص ونمط التفكير المعتدل أو المتطرّف

ثالثاً: راهنية تفكير مالك بن نبي، أو كيف نحارب التطرّف العنيف بالفلسفة؟

  1. المدارس والجامعات وحتمية تفعيل العلوم الاجتماعية (الفلسفة) في المجتمعات المسلمة
  2. دور الثقافة والمثقّف في بناء الأمن الفكري وتعزيزه في المجتمعات المسلمة

خاتمة واستنتاجات


أولاً: عالمُ الأفكار وجذور التطرّف العنيف في العالم الإسلامي:

سوف يرصد هذا المحور أبرز المقاربات العلمية الماديّة التّي حاولت دراسة الأسباب الدافعة إلى تبنّي أفكارٍ متطرّفةٍ أو أفكارٍ داعيةٍ إلى ممارسة الإرهاب وتبريره، ثمّ يُوضّح الكيفية التّي عجزت بها هذه المقاربات الماديّة في إدراك الجذور الحقيقية لهذه الظواهر في العالم الإسلامي. في مقابل ذلك، سوف نحاول هنا استكشاف مقاربةٍ بديلةٍ في دراسة الجذور العميقة لهذه الظواهر استلهاما من كتاب “مُشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، باعتباره أكثر كتب مالك بن نبي ذكاءً وعمقاً والذّي -كما نرى-لم يأخذ حقّه من الاستنطاق والدراسة بعد.

1. العجز التفسيري للمقاربات الماديّة في دراسة أسباب التطرّف العنيف:

بدايةً، نقصدُ بالمقاربات المادية جملة المقاربات والنظريات المرتكزة على أسبابٍ ذاتِ طبيعةٍ غير فكريةٍ أثناء شرحها وتفسيرها للدوافع الكامنة وراء توجّه الفرد نحو التطرّف العنيف أو الإرهاب، كأن ترتبط بظرفٍ اقتصادي ما أو اجتماعيٍ أو حتّى سياسيٍ يُولّدُ لدى الفرد قابليةً للتطرّف العنيف أو تبنّي أعمالٍ إرهابيةٍ تجاه مجتمعه أو تجاه العالم الذّي يتصورّه. في الحقيقة طرح الباحثون العديد من المقاربات النظرية ذات الطبيعة المادية في هذا الصدد، ومعظمها مقارباتٌ ماركسيةُ المنطلقِ تؤمنُ بالدور الرئيسي للمادة في تفسير حركة التاريخ وظواهره الإنسانية المختلفة، كاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية التّي يمرّ بها مجتمعٌ ما سبباً مهمًّا وفاعلاً في نشوء التطرّف بين أفراده والتحاقهم بالمنظمات الإرهابية، فتلك الظروف القاسية كالفقر واللامساواة في توزيع الثروات تؤدّي إلى شعورهم بالحرمان واللاعدالة الاجتماعية، يؤدي هذا الشعور المتفاقم إلى تبني أسلوب العنف كسبيلٍ لتحسين الأوضاع، فحينما يسود الفقر وتغيب العدالة سيكون الناس مستعدّين للقتال والقتل لأجل تحقيقها1، في هذا الصدد، يشير الباحث الأمريكي في مجال الحركات الإسلامية جون إسبوزيتو، بأنّ الإسلام (كدين) لا يتسبّب –حتما- في الإرهاب، كأيِّ دينٍ آخر يرتبط به فعل الإرهابيين في العالم: “فعادةً ما تتسبّبُ المظالم السياسية والاجتماعية أساسا ‘في العنف’، ويصير –حينها- الدّين أداةً لشرعنته وتحريكه”2، كمثال على ذلك يشير الباحث المصري سعد الدين إبراهيم في دراسةِ له عن بعض التنظيمات التكفيرية في مصر إلى أنّ غالبية أفراد جماعة الفنية العسكرية وجماعة الهجرة والتكفير الذّين تمتّ دراستهم (21 من أصل 34) ثبُت أنّهم من مواليد الريف أو المدن الصغرى في الأقاليم، وأنّهم انضموا إلى هذه التنظيمات بعد مدّةٍ قصيرةٍ من انتقالهم إلى المدن الكبيرة كالقاهرة وأسيوط والإسكندرية، مع ذلك ظلّوا يقطنون في المناطق الفقيرة والمحرومة، بدوره يؤكد عادل حمودة في كتابه “اغتيال رئيس”، أنّ جماعة خالد إسلامبولي ينتمون إلى مناطقٍ ريفيةٍ يسود فيها الفقر والبطالة وما شابه، ويؤكد تقرير المركز القومي للعلوم الاجتماعية والجنائية بشأن جماعة التكفير والهجرة أنّ معظمهم نشأ بمناطقٍ ريفيةٍ أو جاء من ضواحي مدنٍ محرومة، من جهته يرى مؤسس المدرسة النقدية في علم الاجتماع المصري الدكتور سمير نعيم، أنّه لا عجب في أن تستثمر الجماعات الإسلامية المتطرّفة أعضاءها في مثل هذه المناطق من أجل إشباع الحاجات الأساسية للإنسان فيها، وبخاصة بين قطاعات الشباب الذّين لا تُتاح لهم فرص الهجرة لصغر سنّهم وقلّة خبرتهم وعجزهم عن توفير مصاريف السفر، والذّين تمنعهم في الوقت نفسه القيم الريفية والشعبية من الانخراط في الأعمال الإجرامية وغير الأخلاقية، والذّين يجدون الطريق موصدة أمام إمكانية حدوث أيِّ تغييرٍ في أوضاعهم وأوضاع أسرهم وبالتالي فهم يَخبَرون المعاناة والفقر طوال حياتهم، وعندها تكون مثل تلك الجماعات المتطرّفة ملاذاً إنسانياً آمناً لهم يوفّر احتياجاتهم الإنسانية ويكون منطقها في التغيير منطقاً مشروعاً ما دام هناك طغمةٌ صغيرةٌ من أصحاب النفوذ تعيش على أرزاق الشعب وأقدارهم3. أيضاً، تشير دراسة أجراها توماس ستروبهار (Thomas Straubhaar)، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة هامبورج، تحت عنوان: “التحليل الاقتصادي للدين ولظاهرة العنف الديني”، إلى أنّ الكيانات الدينية تتصرّف مثل النوادي المسيحية في الغرب، حيث تلتزم بتقديم بعض المنافع لأعضائها مثل التعليم الديني والخدمات الاجتماعية والاقتصادية مقابل التزام الأفراد بالمنهج والقواعد العامة لهذه الكيانات، ويرى أنّ هناك العديد من الأسباب التّي تدفع الأفراد للانضمام إلى الكيانات الدينية، فبينما يعدُّ الهدف بالنسبة للبعض روحانياً ودينياً بالأساس، فإنّ أهداف البعض الآخر لهي أهدافٌ أكثر علمانيةً تتعلق بتحقيق بعض مكاسب الحياة.4

هناك من الباحثين من يرفض المقاربة السوسيو-اقتصادية في تفسير هذه الظواهر، ويركّز بدلاً عن ذلك على دور العامل السياسي في نشوئها، على سبيل المثال، يشير كلٌّ من كريستان بيزل وجان بول كارفالو إلى أنّ الصحوة الإسلامية الحالية لم تكن أبداً عبارةً عن حركةٍ انعزاليه لطوائفٍ دينيةٍ ما، فهذا الانتعاش واسع النطاق نجده مدفوعاً في كثيرٍ من الأحيان بأعضاءٍ متعلّمين وموهوبين منحدرين من الطبقة الوسطى للمجتمع، وبالتالي بدلاً من النظر إلى العنف الديني على أنّه نتاجٌ مباشرٌ للجهل وانخفاض الفرص المتاحة في سوق العمل، فقد نكون أكثر دقّة لو نظرنا إليه باعتباره نتاجاً غير مباشرٍ للظروف السياسية والشعور الدائم بالذّل والإحباط، فهي التّي تدفع الأفراد نحو تصحيح ذلك الوضع الاقتصادي غير العادل عبر وسائل عنيفة5، من أحسن الأعمال الكلاسيكية التّي تحدثت عن علاقة العنف عموماً بالسياسة، هي أعمال الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت والتّي تؤكد أنّه لا يمكن أن نهتّم: “بالتاريخ والسياسة دون أن نتغافل عن الدور العظيم الذّي ما انفك العنف يلعبه دائماً في شؤون البشر وفي سلوكهم”6، لقد استنتجت أرندت وغيرها من المفكرين الطريقة التّي تُؤدي بها احتكار السلطة السياسية لوسائل الإكراه المادي من دون الجميع إلى الفوضى7 والتنازع داخل المجتمع حينما يتّجه أفراد تلك السلطة إلى خدمة مصالحهم الشخصية بعيداً عن المصلحة العامة للشعب أو خدمة مصالح قوى خارجيةٍ أخرى بعيداً عن المصلحة العليا للبلاد أو الحُكم بغير ما يتّفقُ مع إرادة الشعب العامة، على غرار مسألة مخالفة القيم الحضارية لذلك الشعب، مستندةً في سلوكياتها لما تُوفّره لها ميزة الاحتكار الشرعي لاستخدام العنف، فضلا أنّ أغلبها انتزع السلطة بعيداً عن إرادة الشعوب، حينها تضع اللبنات الأولى لنشأة العنف والإرهاب داخل المجتمع وتدفع أفراداً منه إلى مواجهتها بذات الأسلوب العنيف، لذلك فغالبا ما يأخذ العنف والإرهاب في هذه البلدان بُعدا سياسيا8، تُلخِّص الدكتورة سلوى الخطيب هذا المعنى، حينما تُحاجج بأنّ غياب الديمقراطية سببٌ أساسيٌ وراء نشوء العنف والإرهاب في دولنا ومجتمعاتنا، فالديمقراطية: “تُعطي الأفراد الفرصة لأن يعبّروا عن أنفسهم وأن يُشاركوا في صنع القرار، وأن يكونوا سواسيةً أمام القانون، وبالتالي فإنّ غياب القنوات الشرعية الديمقراطية التّي تتيح هذا الأمر سوف يجبر الأفراد على استخدام قنواتٍ غير شرعيةٍ أو غير مباشرةٍ للتعبير عن أفكارهم أو مشكلاتهم”9، ما تتحدّث عنه الباحثة هنا يُسميه الباحثين بعامل الاغتراب عن الدولة (Alienation) 10·، إذ يؤكد بعض الباحثين بأنّ الأفراد الذّين يشعرون بالاغتراب والعزلة عن بنى الدولة يصير لهم استعداد لتبنّي “دوغما العنف”.

هناك نمطٌ آخر من الإرهاب يتسّم باتساع مجال نشاطه الجغرافي، فهو عابرٌ للحدود الوطنية، يمتلك مشروعاً إقليمياً أو حتّى عالمياً، ساهمت مخرجات العولمة وتحوّلات النظام الدولي بعد الحرب الباردة في تعزيزه وانتشاره وأكسبته قوةً أكثر وشعبيةً أوسع وتأثيراً عابراً للحدود والقارات، فالتنظيمات التّي تُعرِّف نفسها بأنّها تنظيماتٌ جهاديةٌ عالميةٌ كالقاعدة مثلاً أو تنظيم داعش اليوم، ساهمت عواملٌ خارجيةٌ كثيرةٌ مرتبطةٌ بالوضع الدولي ومصالح القوى الكبرى فيه في نشوئها أو انتشارها على حدّ سواء، فللاعدالة والظلم والحرمان واحتكار الثروة والسلطة وعمليات التهجر القسري والتطهير العرقي أو التمييز العنصري، صارت مظاهر كونية أيضاً كثيراً ما تنتج عن المنافسة الدولية الشديدة بين القوى الكبرى المؤثرة وتنعكس سلبا في النهاية على الدول الأقل قوة كدول العالم الإسلامي على شكل احتلال، اجتياح عسكري، “تدخل إنساني”، حصار، فرض للرقابة والوصاية وغيرها من الأشكال التّي تنتهي نتائجها إلى تدخّلاتٍ سافرةٍ في الشؤون الداخلية لهذه البلدان وعادة ما يتّم ذلك بتواطؤ وتنسيقٍ مع الأنظمة السياسية لهذه البلدان، الأمر الذّي يثير سخطاً داخلياً بين مجتمعاتها يكون سبباً في نشوء بعض التنظيمات المسلّحة التّي تتبنّى مفهوم “الجهاد العالمي”، فيقاتل أفرادها في الداخل ضدّ النظام كما تضرب شبكاتها وخلاياها السرّية في عمق ديار ومصالح القوى الكبرى المتدخّلة، مدفوعةً طبعاً بما يبرّر لها سلوكها السياسي هذا من تأويلات قادتها الروحيين لبعض نصوص الدّين المتعلقة بالجهاد (دون الحديث عن القتال المشروع في بعض الدول المسلمة التّي تخضع للاحتلال الفعلي لأراضيها في فلسطين أو العراق).

لكن، بالرغم من أنّ المقاربات السابقة تدّعي تقديمها للتفسير الأمثل لظواهر العنف والإرهاب بشتى أشكاله، إلاّ أنّها تتميّز في الحقيقة بكونها تفسيراتٍ ماديّة غير بنيوية لامست جانباً فريداً ملموساً من جوانب الظاهرة بدلاً من تتبّع الجذور العميقة لهذه الظواهر، الأمر الذّي يجعلنا نميل إلى افتراض أنّ العامل السوسيو-اقتصادي والسياسي أيضاً ليست عاملاً حتميا في تفسير اتجاه الأفراد نحو التطرّف أو الإرهاب، قد يكون له أثرٌ ما على الجذور المسبّبة للإرهاب لكنّه ليس شرطا حتمياً يقود إليه بالضرورة، ذلك أنّ الأفراد يتميّزون بشخصيات متباينة، فقد يرفض أفراد ذوي تعليمٍ مرتفعٍ المشاركة في أعمال العنف أو الإرهاب رغم وضعهم الاجتماعي السيء، كما أنّ بعضا آخر تعتمد مشاركته تلك على احتمالية إحداث تغييرٍ سياسيٍ منشودٍ يغيّرُ بدوره من تلك الأوضاع المزرية، وليس الجميع قد يضع في ذهنه احتمالية حدوث ذلك الهدف11، كما يذهب باحثون إلى القول بأنّ هذا العامل، قد يقف وراء الفعل الإرهابي أو الإرهاب الفردي أكثر من كونه أحد جذور الإرهاب، ذلك أنّ الإرهابي ليس مرجّحاً أن يكون شخصاً فقيراً حقّاً، فالشخص الفقير يحتاج إلى تركيز جهوده لتحصيل لقمة الحياة بدلاً من تحدّي النظام السياسي القائم طمعاً في جلب آخر أفضل، كما أنّ الإرهابيين لاسيما قادتهم ينحدرون عادةً من الطبقات الوسطى، كما يحظى أغلبهم بتكوين علميٍ جيّدٍ ومقبولٍ يُمكّنهم من فهم أهداف التنظيم وغاياته. أخيراً، فإنّ المظالم الدولية دفعت في النهاية نسبةً ضئيلةً جدّاً من الأفراد إلى تبنّي العمل الإرهابي على أراضي القوى المعتدية واستهداف شعوبها، ولهذه الفئة مميّزاتها وأسبابها الخاصة بعيداً كلّ البعد عن حالة الحرمان الاجتماعي أو الفقر أو الاضطهاد السياسي كما سوف نعرض لها لاحقاً. ما نريد تأكيده هنا هو أنّ التطرّف العنيف أو الإرهاب لا يرتبط بعوامل ماديةٍ بشكلٍ حتميٍ كلّما توفرّت شروطها كلّما اتجه الأفراد إليه، ولكنّها مرتبطةٌ أكثر بعوامل فكرية تُبنى بشكلٍ تراكمي في عقول الأفراد كلّما توفّرت اتجه هؤلاء حقّاً إلى هذه الأعمال المتطرفة أو الإرهابية، هذا ما نجد لهُ أثراً في طريقة تفكير مالك بن نبي كما سنعرض لها في العنصر التالي.

2. كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” وملامح المقاربة الفكرية لـ مالك بن نبي في دراسة جذور التطرّف العنيف:

يحتل كتاب “مُشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” في نظرنا مكانةً مرموقةً من بين أعمق ما كتب مالك بن نبي على الإطلاق، إذ شرع الأخير في كتابته مع بداية سنوات الستينيات من القرن الماضي حينما كان مُقيما بالقاهرة –كما يقول-إلاّ أنّه لم يخرج للقارئ إلاّ بعد عام من ذلك تقريبا. تكمن إضافة مالك بن نبي في هذا الكتاب، أنها تميز مفكرّنا بين عوالمٍ ثلاثة تتفاعل داخل حركة المجتمع عبر التاريخ وهي: عالم الأشياء (الذّي يمنح المجتمع الوسائل)، عالم الأشخاص (يمنحه الغايات أو المسوغات)، وعالم الأفكار (يمنحه الاتجاه الإيديولوجي)، وهي عناصر الحركة التاريخية، وعندما يبدأ سيره يتكوّن فيه عالم رابع وهو شبكة العلاقات الاجتماعية، وهي العامل التاريخي الأول (الإنجاز الطبيعي) الذّي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده. يمنح هنا مالكٌ لعالم الأفكار الأهمية الكبرى كونه العالم المسؤول عن توجيه بقية العوالم، فضلاً أنّ سيادته على بقيّة العوالم يدفع بالحضارة الإنسانية إلى الأمام، في حين يؤدّي تراجعه وهيمنه أحد العالمين الآخرين عليه إلى تدهور الحضارة وانتكاسها.

يُقسّم مالك بن نبي عالم الأفكار هذا إلى قسمين: الأفكار الإيجابية والأفكار السلبية. تنقسم الأفكار الإيجابية إلى قسمين أيضاً: الأفكار الصحيحة والأفكار الفاعلة. أمّا الأفكار السلبية، فهي أيضاً تنقسم إلى قسمين: الأفكار الميّتة والأفكار المُميتة أو القاتلة. يقع على المجتمع مهمّة التمييز بين الأفكار التّي يتعامل معها بشكلٍ يوميٍ، بما فيها تلك الأفكار الصحيحة ولكنّها غير فعّالة، وكذا بين الأفكار الميّتة والمميتة، على سبيل المثال: هناك العديد من العادات والتقاليد، أساليبٌ في الحكم أو مناهجٌ في تسيير الاقتصاد على المجتمع أن يتخلّص منها حتّى ينهض من جديد. في ذات الوقت، على المجتمع أن يحذر من الأفكار التّي قد تكون منتهية الصلاحية، خصوصاً تلك الأفكار المستوردة من الخارج. بناءً على هذا التقسيم، يوضّح مالك بن نبي الأفكار التّي ينبغي على المجتمع أن يتبّناها ويُطوّرها في طريقه إلى نهضته الحضارية.12

يرى مالك بن نبي كذلك، أنّ وظيفة الحضارة لا يمكن أن تتحقّق دون أن تتوفّر الأفكار الحيّة التّي توجّه السياسة والاقتصاد بخططِ تنميةٍ ناجحةٍ لتحقيق وظيفة الحضارة، فالمشكلة إذن تكمن في عالم الأفكار وليست في العوالم الأخرى، لأنّ أيّ خللٍ يطرأ على عالم الأشخاص أو عالم الأشياء هو نتاجُ خللٍ في عالم الأفكار، ويرى مالك بن نبي بأنّ نقطة البداية في أيّ حضارةٍ هي ذلك التغيير الذّي يحدث لعالم الأفكار بما يغيّر عالم الأشخاص، حيث تُوضع حدود لطاقة الإنسان الحيوية، يقول: “وهناك في عالم الأفكار داخل المجتمع تراتبٌ بين الأفكار التّي تغيّر الإنسان والأفكار التّي تغيّر الأشياء فالأفكار الأولى تضع قدرة تكيّف الطاقة الحيوية على عتبة الحضارة، أمّا الأفكار الثانية فإنّها تطوّع المادة لحاجات الحضارة في المرحلة الثانية من دورتها”13.

نُلاحظ ممّا سبق اهتمام مالك بن نبي بدور الأفكار “الصحيّة الحيّة الفعّالة” في تغيير المجتمع أو معالجة أمراضه أو حتّى في ارتقائه وسقوطه أكثر من أيّ عالَمٍ آخر، فقد أكدّ مالك في معظم مؤلفاته على أهميّة الثقافة والجوانب المعرفية المعنوية في الحاضرة، فقدّمَ عالم الأفكار على عالمِيْ الأشياء والأشخاص، مؤكدّاً أنّ ثروة المجتمع: “لا تُقاس بما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار”، لذلك فإذا انهار عالم الأشياء، جرّاء أيّ كارثةٍ، فإنّ الأفكار لا تنته معه، بل تبقى قادرةً على إعادة بنائه، وقد سبق وأن مثّل بن نبي لهذا الأمر بالمجتمع الألماني غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث بقيت ثقافته وفكره في قمة الاستجابة لذلك التحدّي، فأعادت بناء عالم أشيائها بكلّ نجاح14، إنّ اهتمام مالك بن نبي بعالم الأفكار، مرتبطٌ حتما بفهم الرجل لأهميّة وقيمة الإنسان في التغيير الحضاري، فقد أراد أن يستثمر في هذا الإنسان ورأى بالتالي أنّ الاهتمام بفكره ومعارفه هو السبيل الأنجع في التعامل مع المشكلات التّي يُواجهها في المجتمع، فالإنسان حسب تعبيره هو: “الجهاز الاجتماعي الأوّل.. فإذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ”، لذلك، فإنّ مشكلات العالم الإسلامي (بما فيها مشكلتا التطرّف العنيف والإرهاب التّي تعالجها ورقتنا هذه) إنّما تنبع من الإنسان المسلم وتعود إليه، لهذا السبب بحث مالك بن نبي في قضايا الإنسان المسلم من زواياها النفسية، المعرفية، الاجتماعية والثقافية، آخذا في الاعتبار العوامل التاريخية والسياسية ومُولياً اهتمامه بالشروط والقوانين والسُنن الربانّية التّي تُؤهل هذا الإنسان لتغيير نفسه أوّلا، ومن ثمّ تغيير مجتمعه (علاج أمراضه وإيجاد حلول لمشكلاته) وإيجاد دور لأمتّه في التاريخ15.

لقد وضع بن نبي في كتبه عموماً وفي كتابه هذا “مُشكلة الأفكار” على وجهٍ أخصّ دليلاً لأيّ “طبيبٍ” يريد الانطلاق بشكلٍ سليمٍ في معالجة مشكلةٍ حضاريةٍ ما، وذلك بانطلاقه ممّا أسماه بعالم الأفكار، ولعلّ أبرز مشكلةٍ حضارية يشهدها العالم الإسلامي اليوم مشكلةُ التطرّف العنيف والإرهاب التّي صارت سائدةً أينما حلّ الإسلام بين المجتمعات، لم يشهد عصر بن نبي كما أشرنا سابقاً أزمة التطرّف العنيف أو الإرهاب في العالم الإسلامي كما يشهدها عصرنا اليوم، إلاّ أنّه لو عاش هذا العصر لما تردّد –كما نُحاججُ- في الانطلاق من عالم أفكارنا ولاضطلع قبل كلّ شيء بمعرفة الداء الذّي أصابه فقاد أفراده إلى تنبّي التطرف كأسلوب حياة أو ممارسة أعمال الإرهاب كما نراها اليوم. يتركُ لنا كتاب “مشكلة الأفكار” “طريقة تفكيرٍ” وليس مقاربة فكرية (Way of Thinking) لأجل فهم جذور هذه الظواهر المرضية فهماً عميقاً ثمّ السعي إلى إيجاد آليات مواجهةٍ ناجحة لاقتلاعها من الجذور، هي طريقةُ تفكيرٍ تستندُ إلى عقلية مالك بن نبي المرتّبة جدّا في تعامله مع مشكلاتنا الحضارية المتعدّدة، يمكننا أن نستند إليها لأجل تطوير مقاربةٍ نظريةٍ علميةٍ لفهم جذور ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب ثمّ مواجهتها في مستوى ثاني -على غرار المقاربات النظرية التّي عرضنا لبعضها سابقاً- لكن مقاربةٌ لا تتوقّف عند الأسباب العرَضِية لهذه الظواهر المرضية، بقدر ما تُحاول الغوص في الأفكار المُنشئة لهذه الأسباب أصلاً أو كما نُسمّيها هنا بالجذور البنيوية المُنشئة لعقل الفرد المتطرّف أو الإرهابي. قد يكون الفقر سبباً مُباشراً في الجنوح نحو التطرّف العنيف إلاّ أنّه لن يكون جذرا مُؤسّساً له، بمعنى أنّ التحصيل التعليمي والثقافي والتربوي الذّي تلقاه وكونّه الفرد الفقير عبر الزمن هو المُحفّز الأول والأساسي بالنسبة له إذا ما اتخذ من الفقر سبباً في مُمارسته للعنف أو الإرهاب وهو في المقابل بمثابة الرادع الأول أيضاً. ينطبق الأمر أيضاً على الفرد المُنقاد بدوافعٍ سياسية أو سوسيولوجية أو ما شابه من الدوافع ذات الطبيعة المادية كما أسلفنا، تأفل بمجرّد حلّ تلك المشكلة المادية، خلافاً للأفكار التّي تتكدّس في عقل الفرد عبر الزمن وتصير بمثابة المحدّد الرئيس لجميع سلوكياته الإيجابية والسلبية تجاه مجتمعه، لذا فإنّ الأفكار التّي تملأ عقل الفرد وتُحدّد طريقته في الحياة هي المسؤول الأول والحتمي لاتجاهه نحو التطرّف العنيف والإرهاب أو ابتعاده عنه وامتناعه كما نُحاججُ في هذه الورقة البحثية استلهاما من ما أوحت به أفكار مالك بن نبي.

ثانياً: الطبيعة النقدية للعلوم الاجتماعية في فهمها لمشكلة التطرّف العنيف:

يُوضّح هذا المحور السبب الذّي يجعل من العلوم الاجتماعية والإنسانية علوماً ضروريةً لا عنى عنها لأجل فهم مشكلة التطرّف العنيف والإرهاب في العالم الإسلامي ثمّ اقتلاعها من الجذور، سوف نُوضّح في العنصريْن التاليين طبيعة العلوم الاجتماعية المقصودة هنا ثمّ نحاول تحديد العلاقة التّي تربط بين هذه العلوم والطريقة التّي يُفكّر بها الأفراد وكيف تُشكّل مختلف العلوم عموماً نمط تفكير الأفراد والمجتمعات.

1. ماهية العلوم الاجتماعية:

يُعتبر الموضوع الأساسي للعلوم الاجتماعية والإنسانية هو الإنسان، فهي تُحاول دراسة الإنسان في علاقاته بذاته وبمحيطه، والأمر مُتعلّق هنا بالفلسفة وما تفرّع عنها من علومٍ وفنونٍ على غرار علم الاجتماع، علم الأنثروبولوجيا، علم النفس، علم السياسة والتاريخ والثقافة وما شابه، في مقابل هذه العلوم والفنون هناك ما يُسمى بالعلوم التجريبية والطبيعية، والتّي يكمن الاختلاف الرئيسي بينها وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية في كون الإنسان في الأخيرة دارساً ومدروساً في آن، بينما في الأولى يكون الإنسان دارساً لمحيطه المادي منفصلاً عنه، الأمر الذّي يجعل من العلوم التجريبية أكثر ميكانيكيةً، سببيةً، حتميةً وموضوعيةً من العلوم الاجتماعية التّي حاول روّادها دوماً الاستفادة من المناهج، الأساليب والنظريات العلمية التّي تطورّت بين أحضان العلوم التجريبية والطبيعية، مع ذلك ظلّت العلوم الاجتماعية تتسّم بحضور الذاتية وغياب الحتمية والسبب في ذلك كما أشرنا هو كون الإنسان فيها دارساً ومدروساً في آن.

رغم ذلك، فلا تُعدّ هذه الخصائص المُميّزة لعلوم الاجتماع والإنسان خصائصاً سلبيةً بالمطلق، فلهذه العلوم خاصيّة إيجابية متناسقة مع طبيعتها والغرض منها بالأساس، فلكونها علوماً غير حتميةٍ وغير ميكانيكيةٍ إن صحّ التعبير، فهي علومٌ يجد العقل المتحرّر فيها مكانه، ويُعملُ فيها الرأي والنقد والمُحاججة والجدل المُولّد لأفكارٍ جديدةٍ وتصوّراتٍ عديدةٍ ذات زوايا مختلفة يحمل كلّها شيئا من الحقيقة، وإذا كانت العلوم التجريبية والطبيعية تتسّم بانحصارها بين ثنائية الصواب والخطأ نظراً لطبيعتها بالأساس، فإنّ العلوم الاجتماعية متحرّرةٌ بشكلٍ أكبر بكثيرٍ من هذه الثنائية الصارمة، فطبيعة هذه العلوم تفتح أمام الإنسان الدارس آفاقاً متحرّرةً من ثنائية الصواب المطلق والخطأ المطلق، الحق المطلق والباطل المطلق نظراً لحضور العقل النقدي فيها بقوة، بخلاف العلوم التجريبية التّي تتميّز بعقلها الأداتي الصارم.

نتساءل في العنصر التالي عن طبيعة العلاقة القائمة بين العلوم الاجتماعية بخصائصها المذكورة أعلاه وبين نمط التفكير الذّي يُطوّره الأفراد داخل المجتمعات، لاسيما فيما له علاقة بموضوع هذه الورقة أي مشكلة التطرّف العنيف والإرهاب في العالم الإسلامي.

2. العلاقة الحتمية بين طبيعة التخصّص ونمط التفكير المعتدل أو المتطرّف:

مؤخرا انتشرت ظاهرةٌ مثيرةٌ للجدل فرضت نفسها على الباحثين الذّين وضعوا لها تفسيراتٍ مختلفةٍ، وهي ارتباط أسماءِ كثيرٍ من “الجهاديين الإسلاميين” بتخصّصاتٍ علميةٍ مرموقة على رأسها الهندسة والطبّ وغيرها من العلوم الطبيعية والتجريبية، بشكل أوحى بأنّ هناك علاقة ما بين طبيعة التخصّص ودرجة التطرّف والميل إلى العنف أو الإرهاب. قبل أن نناقش هذه العلاقة ونعبّر بخصوصها عن تفسيرنا الخاص، نستعرض شيئا من هذه الدراسات ذات الأرقام البيانية.

في دراسة حديثة كُتبت سنة 2007 بكلية العلوم الاجتماعية لجامعة أوكسفورد وأعيد نشرها ككتاب سنة 2016 للباحثين دييوجو جامبيتا وتسيفن هيرتوج تحت عنوان: “مهندسو الجهاد”، يحاجج الباحثان بوجود علاقةٍ قويةٍّ بين التخصّصات العلمية-التجريبية وبين النزوع نحو التطرّف أو الإرهاب المُمارس من طرف الجماعات “الراديكالية الإسلامية”، فعلى الرغم من اختلاف الشخصيات والظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئة الجغرافية لهؤلاء المتطرفين إلاّ أنّ هذا النمط من التخصّصات يُعد مساحةً مشتركةً قويّةً تجمعهم، بشكل يستدعي الانتباه والتساؤل. لقد أجرى الباحثان دراسة “لعينة مكونة من (497) شخصاً من الجماعات المتطرفة، وذلك استناداً إلى مصادرٍ متنوّعةٍ، منها كتاباتٍ أكاديمية، ووثائق حكومية، بالإضافة إلى مسحٍ يوميٍ شامل للصحف الدولية وفي “الشرق الأوسط” خلال الفترة الممتدّة ما بين عام 2004 وعام 2010، ويُبرز الباحثان أنّ هناك بياناتٍ تعليميةٍ متوفرّةٍ لـ (335) شخصا من إجمالي العيّنة محلّ الدراسة، وأنّه بالاطلاع على ملفاتهم، وجدوا بأنّ الغالبية منهم قد أتمّوا التعليم العالي أو مازالوا فيه وعددهم يبلغ (231) شخصاً أي بنسبة حوالي (%69) من العيّنة. وفيما يتعلّق بطبيعة التخصّص العلمي، هناك بياناتٌ توفرّت لـ (207) شخصا، وُجد أنّ منهم (93) تخصّصوا في الهندسة، بينما حوالي (38) شخص كانت تخصّصاتهم في الدراسات الإسلامية، في حين أنّ الأعداد الأقلّ كانت في تخصّصات أخرى. حسب النتائج التّي تضمّنها الكتاب، فإنّه من بين (93) خرّيج هندسةٍ متطرفٍ، هناك (38) منهم قيادات في الجماعات المتطرفة، أي بنسبة حوالي (%41)، ويضيف الكتاب أنّ ثمّة مؤشّرات قويّة على وجود علاقةٍ بين التطرّف ودراسة الهندسة (وما يُماثلها من العلوم التجريبية والتقنية)، وهو أمرٌ لا يقتصر على الوقت الراهن، ولكنّه يمتد إلى عقودٍ مضت، وضرب أمثلة عديدة على ذلك، منها أن مُنفذّي هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة كان من بينهم ثمانية مهندسين. كذلك، ظهرت في مصر، خلال سبعينيات القرن الماضي، مجموعة متطرّفة تُسمّى “جماعة التكفير والهجرة” بقيادة شكري مصطفى، وكان مهندساً زراعياً. ومن أجل التحقّق من العلاقة بين التطرّف ودراسة الهندسة في الغرب، تمّ اختبار عيّنةٍ مكوّنةٍ من (344) من “المتطرّفين الإسلاميين” الذّين وُلدوا ونشأوا في الغرب، بينهم (338) من الذكور، وتشملُ العيّنة أفراداً تورّطوا بالفعل في أعمالٍ متطرّفةٍ سواءً بحكم من محكمة أو قُتلوا أثناء العمليات الإرهابية أو خطّطوا لعملياتٍ إرهابية، سواءً كانت ناجحة أو تمّ إحباطها، وتأتي الولايات المتحدة، ثمّ المملكة المتحدة، وإسبانيا، وفرنسا، على الترتيب كأكثر الدول التّي تُمثَّل فيها هذه العينة. تم توفير بياناتٍ علميةٍ عن حوالي (122) فقط منهم، وكان (9) منهم لهم مستوى أقلّ من التعليم الثانوي، و(30) أتمّوا مرحلة التعليم الثانوي فقط، في حين دخل (83) منهم الجامعة أو حصل على الشهادة الجامعية. ووفقاً للنتائج، فإنّ نحو (79%) من الجامعيين المتطرّفين في الغرب جاءوا من كلياتٍ مرموقةٍ16 وبيئتهم توّفر لهم فرص عملٍ راقية، والمفارقة أنّ أغلبهم من التخصّصات الهندسية.

 لعينّة مكونّة من 196 شخص، تُظهر عدد المهندسين وأصحاب العلوم التجريبية من بين بقيّة

جدول 1: لعينّة مكونّة من 196 شخص، تُظهر عدد المهندسين وأصحاب العلوم التجريبية من بين بقيّة المطرّفين17.

هناك مستوى ثاني للتفسير يرتبط بالاحتياجات التقنية والعملياتية لهذه المنظمات كصناعة القنابل والمحافظة على أمن شبكات الاتصال السريّة المعتمٍدة على التكنولوجيا بينها، بيد أنّ هذه المقولة غير قاطعةٍ، فعلى سبيل المثال، أشار الباحث مارك ساجمان (Marc Sageman) من خلال دراسةٍ على عيّنة قام بدراستها عام 2004 إلى أنّ تنظيم القاعدة يقبل حوالي 10-30% من المتدربين في صفوف “الجهاد الرسمي”، إلاّ أنّ هذا في حدّ ذاته لا يفسّر العلاقة بين مستوى التعليم وبين المهارات التّي تسعى المنظمة لتوافرها في المتدربين، نظرًا لوجود عددٍ من المحدّدات التّي قد ترجّح ثبوت العلاقة أو انتفائها، ومنها: استراتيجية المنظمة في التعبئة والتجنيد، وما إذا كانت المنظمة تفضّل ارتفاع مستوى التعليم والمهارات التقنية للأعضاء المنضمّين، أم أنّها تسعى لزيادة مستوى العضوية وحسب، كما أنّ صناعة القنابل هي وظيفةٌ صغيرةٌ ومتخصّصةٌ داخل التنظيم، وهو ما يجعل زيادة عضوية المهندسين بها أمراً غير مبررٍ، ومثال ذلك حركة المقاومة الإسلامية حماس، حيث إنّ أغلب صانعي القنابل بها تلقّوا تعليمًا في الدراسات الإسلامية. علاوة على ذلك، فقد ثبت من دراسة الأدوار التّي قام بها 228 من العيّنة في تنظيماتهم، أنّ صانعي القنابل أقليّة يصل حجمها إلى 10% من إجمالي حجم التنظيم، في حين يتخصّص المهندسون في أغلب الجوانب التنظيمية والمناصب القيادية.18

فالأسباب الكامنة وراء هذه العلاقة لا يمكن أن ترتبط فقط بحالة الإحباط والسخط التّي يشعر بها هؤلاء نتيجة لعدم توفّر مناصب عمل مناسبة لمؤهلاتهم العلمية في بلدان أغلبها تنتمي لدول العالم الثالث، هذه الفرضية تنفيها البيانات الأخرى المتعلّقة بالمتطرفين الناشئين في الغرب والمتخرّجين من أرقى جامعاته، كما أنّها لا ترتبط بشكلٍ حتميٍ بالاحتياجات التقنية لهذه التنظيمات مثلما أشرنا، لهذا نميل شخصيا إلى ارتباط أسباب هذه العلاقة بطبيعة التخصص في حدّ ذاته، ونحاجج بأنّ العلوم الطبيعية-التجريبية علومٌ ماديةٌ تتعامل مع المادة كموضوعٍ للبحث ولا يكون فيها الباحث والمبحوث موضوعاً واحداً على غرار العلوم الإنسانية والاجتماعية (أي أنّ الإنسان يكون فيها باحثاً وموضوعاً للبحث في آن واحد)، لذلك فمنهج الأولى في البحث يُعتبر أكثر موضوعيةً وصرامةً ودقةً، كما أنّ هذه العلوم لا يكون فيها المجال متاحاً كثيراً لحرية الرأي وإبداء الانطباع أو المعارضة والمحاججة الفكرية والنقد العقلي، فحقائقها بين الأبيض والأسود، بين الصواب والخطأ ولا مكان لمساحاتٍ رماديةٍ فيها كثيراً تحتملُ الأخذ والردّ، خلافاً للعلوم الاجتماعية والإنسانية أين يكون الرأي والمحاججة والنقد وعدم التسليم بالمسلمات السائدة عناصراً ضروريةً للتفكير وصياغة النظريات فهي علومٌ تساهم كثيراً في تكوين الروح النقدية لدى الفرد، تلك الروح الفلسفية المُشكّكة، المُتسائلة دوماً، الرافضة لكلِّ معطياتٍ جاهزةٍ تُقدَم لها على أنّها حقائقٌ غيرُ قابلةٍ للنقاش أو الدحض، لذلك فمنطق العلوم الطبيعية-التجريبية أقربُ لمنطق الجماعات المتطرّفة في نظرتها الثنائية للعالم بين الصواب والخطأ أو ثنائية الحق والباطل19 بتعبير تلك الجماعات كما وضحنا سابقاً، هذه الخاصيّة من شأنها أن تخدم تلك الجماعات كثيرا فهي توّفر لها أتباعاً ذوي طاعةٍ عمياء وقدرةٍ تقنيةٍ وعملياته عاليةً جدّاً.

ثالثاً: راهنية تفكير مالك بن نبي، أو كيف نحارب التطرّف العنيف بالفلسفة؟

يسعى هذا المحور إلى تأكيد أهميّة بل حتمية الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية لأجل التأسيس لحلولٍ جذريةٍ لمشكلة التطرّف العنيف والإرهاب كمشكلةٍ حضاريةٍ عميقةٍ يعيشها العالم الإسلامي اليوم، حلولٍ مُستلهمةٌ من عقلية مالك بن نبي وطريقة التفكير التّي أسّس لها في كتاباته المُعالجة أصلاً لمشكلاتنا الحضارية منذ نهاية عصر الموحدّين. سوف نركّز هنا على آليتين أساسيتين في إنتاج عالم أفكار سليم من أمراض العصر والتاريخ.

1. المدارس والجامعات وحتميّة تفعيل العلوم الاجتماعية (الفلسفة) في المجتمعات المسلمة:

العلوم الاجتماعية والإنسانية أي الفلسفة هي العلوم/الفنون التّي تطوّرت بين أحضانها قيم التعدّد والاختلاف الإنساني وهي العلوم/الفنون المسؤولة عن إنتاج قيم التعايش المشترك بين البشر ومدّ جسور التواصل والتعارف بينهم. لقد حاججنا في المحور السابق بقدرة هذه العلوم على خلق “عقل نقدي وقائي” إن صحّ التعبير من مظاهر التطرّف العنيف أو الإرهاب، وبالفعل فقد انخرط كثيرٌ من مفكري وفلاسفة الحقبة الراهنة في مهمّة محاربة ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب المُعولم من خلال إعلاء شأن الفلسفة وما انضوى تحتها من علوم الإنسان والعمران، تتبادر إلى الأذهان هنا مثلاً أعمال كلٌّ من محمد أركون وجوزيف مائلا في نقد شوائب التراث وحرفية فهم النصوص أو في نقد أوجه الإرهاب المعولم لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة على غرار كتابهما القيّم “من منهاتن إلى بغداد، ما وراء الخير والشر”، نذكر أيضاً أعمال الفيلسوف الفرنسي جون بودريار على غرار كتابيه “فرضية حول الإرهاب” و”العنف في العالم”، أو المفكر علي حرب أيضا في كتابه “الإرهاب وصنّاعه: المرشد، الطاغية والمثقف”، وغيرهم من المفكرين والفلاسفة ولكلٍّ منهم نظريته، أسلوبه وأدواته العلمية في تفكيك هذه الظاهرة.

لقد حاججنا منذ البداية في هذه الورقة البحثية بأنّ فيلسوف الحضارة الراحل مالك بن نبي لو كان حيّاً بيننا اليوم لاتخذ أسلوباً مُحدّداً ومنطلقات خاصة به في فهم ثم محاربة هذه الظاهرة المرضية، أسلوبٌ ومنطلقاتٌ سيستنتجها كلٌّ من أدرك طريقة مالك بن نبي في معالجة مشكلات الحضارة، وهي تلك التّي ستنطلقُ بشكلٍ منتظمٍ من “عالم الأفكار” حتماً، أي العالم المنتج لما عداه من العوالم، فإصلاح العطب الذّي أصاب هذا العالم سيُمكّننا من ضمان “منتجات سليمة” له في عالماَ الأشياء والأشخاص. وحينما نتحدّث هنا عن عالم الأفكار فإنّنا سوف نتحدّث بالضرورة عن المؤسّسات المسؤولة عن تشكيل وبناء عالم الأفكار هذا. في دراستنا هذه نُقدّمُ مؤسّسات التعليم لاسيما الجامعة كأهمّ هذه المؤسّسات أو الآليات المنتجة لعالم الأفكار، فإصلاح عالم أفكارنا المريض ينطلق حتماً من إصلاح الآليات المساهمة في إنتاجه وفي مقدّمتها الجامعة، هنا تكمن راهنية تفكير مالك بن نبي في تجاوز مشكلاتنا الحضارية وعلى رأسها مشكلتا التطرّف العنيف والإرهاب.

تغيب عن كثيرٍ من جامعاتنا اليوم روح الفلسفة التّي صارتُ تُدّرسُ كتاريخٍ للأفكار خالي من “روح التفلسف” التّي من المفترض أن يتشبّع بها طلبة هذا المجال وباحثيه، نحن نتحدّث هنا عن معظم العلوم المنبثقة عن الفلسفة كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة وما شابه، إنّنا في حاجة إلى أمرين ضروريين، أولاًّ تفعيل الفلسفة (وعلومها الاجتماعية والإنسانية) وإحياء روح التفلسف في المعاهد العليا والجامعات، ثانيا، النزول بهذه العلوم إلى عامة الناس لتصير جزءً من حياتهم اليومية، وإلاّ بقيت مجرّد ترفٍ فكري تتداوله دوائر ضيّقة جدّاً من الناس.

لقد شدّد مالك بن نبي في كتاباته على أهميّة التعليم ودور مؤسّساته في بناء إنسانٍ مسلمٍ سليم خالي من أمراض التاريخ وعفن الأفكار، فقد لاحظ في عصره الضرر الذّي يعتري مؤسّسات التعليم والذّي من شأنه أن يُنتج أفكاراً مريضة أو قاتلة، يقول: “ينبغي إذن أن نعيد النظر في المدرسة وألاَّ ننظر إليها من زاوية التجهيز، كما يُنظرُ إليها عادةً، فالمدرسة ليست المكان المُجّهز بمقاعدٍ وبما يُكتب عليه، والسبّورة لا نكتب عليها الحروف الأبجدية أو المعادلات الرياضية فحسب، فالمدرسة قبل ذلك هي المعبد الذّي يستشعر فيه الضمير القيم التّي كونّت تراث الإنسانية.. وبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل، تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي، إذ السياسة حينئذٍ تكتسب بُعداً وطنياً وعالمياً بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتّحٍ على القيم التّي اكتسبها الفكر الإنساني عبر الآلاف من السنين، هناك يتجانسُ عملُ الدولة مع عملِ الإنسانية بعدما يكون قد تجانس مع عمل الفرد” 20، ينطبق هذا الأمر على كلٍّ من المدرسة والجامعة على حدٍّ سواء، فالجامعة أيضاً ساحةٌ لمعارك الأفكار، أين يتّم تقاسم ومناقشة إيديولوجيات عديدة، آراء ووجهات نظر مختلفة، لذا وجب الحرص على مميّزات هذا الصرح الفكري من تعدّد واختلاف وحوار ومسائلة وبالتالي الوقوف في وجه أيّ جهة تريد كبته أو إقصاءه لما قد يتسبّب في حدوث أزمة عميقة داخل المجتمع، في هذا السياق يرى بن نبي أنّ: “إحدى مظاهر الأزمة الثقافية في أيّ مجتمعٍ تظهر في الفرد إذا ما قدّرنا أنّه حُرم من البداية ممّا أسميناه الجوَّ الثقافي.. فماذا يحصلُ للفرد في هذه الحالة، أيْ إذا عُزلَ عن المجتمع عزلاً كاملاً، فلم تتكوّن لديه أيّة صلةٍ اجتماعيةٍ، حتّى صلةُ الكلام، أي تبليغ الآخرين ما نُريده بالصوت؟” يضيف حيثُ: “تتدهور إنسانية هذا الإنسان البائس حتّى من الناحية الفيزيولوجية، إذ يفقدُ حتّى الصِلة الجنسانية ولا يُحاول استعادتها حتّى بعد عودته الطارئة للمجتمع البشري، بل ويقتربُ من مستوى الحيوان. وهذه أبشعُ صورةٍ قطعاً للأزمة الثقافية على مستوى الفرد، وليست كما نرى تُعبّرُ عن قضية جهلٍ أو علمٍ لأنّها تمّسُ الجوهر الإنساني للفرد”21.

تُوفّر المدرسة عموماً والجامعة بعلومها الاجتماعية على وجهٍ أخصّ هذا الجو الثقافي الذّي يُساعد على اندماج الفرد في مجتمعه بدلاً من الانعزال أو الاغتراب الذّي قد يُحوّله إلى “وحشٍ” يُناصب مجتمعه العداء في شكل مجرم أو إرهابي، هذا ما يُسمى بالعلاج البنيوي للظاهرة كما يقترحه تفكير بن نبي بالضبط.

2. دور الثقافة والمثقّف في بناء الأمن الفكري وتعزيزه في المجتمعات المسلمة:

للمثقف والمفكر والكاتب دورٌ حضاريٌّ فاعل لا ريب فيه في صياغة الوعي وتوجيهه وبنائه قبل كلِّ شيء، “فالمفكر هو طبيب الحضارة” على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ووظيفة الطبيب بعد تشخيص المرض بدقّة هو اقتراح أدويةٍ مناسبةٍ لعلاجه، وما الدواء الذّي يمكن لهذه الفئة المفتاحية في المجتمع أن تقدّمه إلاّ أفكاراً مستنيرةً تبني إنسان الحضارة وتُحارب كلّ رجعيةٍ وهمجيةٍ قد يرتكسُ إليها هذا الإنسان، كتطرّفٍ شاذٍ أو عنفٍ وإرهاب. فهذه الفئة هي عماد نخبةِ المجتمع التّي تحمل على كاهلها مسؤوليةً تاريخيةً في المعالجة البنيوية لداء التطرّف والإرهاب، ولا يكون ذلك في نظرنا إلاّ بمحاربة الفكرة بالفكرة، لذا وبدلاً من التوجّه إلى محاربة الإرهاب مباشرةً، على هذه الفئة أن تتوجّه بما تكتب وتُحاضر إلى محاربة الراديكالية التّي تصنع هذا الإرهاب، وعلاجها يتّم طبعاً على مستوى عالم الأفكار الذّي تحدّث عنه مالك بن نبي، فمالك بن نبي يُعد أحد الأمثلة النخبوية التّي عالجت أمراض الحضارة من الجذور ولم تلتفت كثيراً لأعراضها، فقد حرص بن نبي في كتبه على التأكيد على دور المثقف المسلم في الحياة على وجه العموم، إذ يتصوّر دوره: “طِبقاً لضروراتٍ داخليةٍ وضروراتٍ خارجية، ضروراتُ إنشاءٍ وتشييدٍ في الداخل، وضروراتُ اتّصالٍ وإشعاعٍ في الخارج، فعلى المسلم أن يُدرك بأنّ دوره الأساسي هو أن يُبلّغ الإسلام”22، إنّ رسالة المسلم هي: “إنقاذُ نفسه وإنقاذُ الآخرين”،23 ولكي يُنقذَ نفسه والآخرين، فعليه أن يُغيّر نفسه، أمّا وسائل ذلك بالنسبة لمالكٍ: “فعلى كلِّ فردٍ مسلمٍ أن يُحقّق شروطها الثلاث: أن يعرِف نفسه، أن يعرِف الآخرين وألاَّ يتعالى عليهم وألاَّ يتجاهلهم، و-ثالثا- أن يُعرِّف الآخرين بنفسه”، وقد رأينا كيف يُساهم جهل المسلم بنفسه وبالمجتمعات الغربية مثلاً –وفي بعض الأحيان تعاليه على غير المسلمين متخيّلاً نفسه أفضل من غيره لمجرّد كونه مسلماً- في تكريس فهمٍ خاطئ عن دينه الذّي ارتبط في أذهان كثيرٍ من المجتمعات غير المسلمة بأعمال الإرهاب. أمّا في كتابه، “وِجهة العالم الإسلامي”، فيحثُّ بن نبي المثقّفين على أداء دورهم الاجتماعي بعدما يُوجّهُ نقداً شديداً لاستقالتهم التاريخية في زمنه، بل ومنذ نهاية عصر الدولة الموحدّية إلى الآن، يقول: “وماذا تفعلُ الدوائر المُثقّفة في بلادنا؟ ما تفعل بثقافتها وهي السلاح الأساسي العاجل ضدّ الأميّة العامة؟ لقد شهدنا بأعيننا المثقّفين الإسرائيليين إبّان الاحتلال الألماني يهتمّون بأبناء جلدتهم، شأن كلِّ فئةٍ مُتعلّمةٍ تستخدم معرفتها فيما ينفع شعبها… أمّا في الجزائر، فقليلٌ هم المُسلمون الذّين يفكرّون، على اختلاف مهنهم-في تربية أمتّهم، وكثيراً ما طالبت الفئة المُثقّفة هناك خلال الانتخابات بزيادة عدد المدارس، ولكن ما جدوى هذه الزيادة، إذا لم تكن نتائجها (إصلاح) التعليم؟، إنّ مضاعفة العدم لا يُؤتي غير العدم، فإذا ما كان الرجل المتعلّم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثرٌ اجتماعيٌ24، فإنّ أسطورة (الجهل) تُصبحُ خطرةً، إذ هي تحجبُ خلف مشكلةِ الإنسان الأميِّ مُشكلةً أعمقَ لإنسان ما بعد الموحدّين –جاهلاً كان أم متعلّماً.”25

لقد برزت في العالم الإسلامي العديد من الأسماء الفكرية والأكاديمية التّي عُرفت بكتاباتها ومواقفها المحاربة بنيويا لظواهر التطرّف العنيف والإرهاب والتّي حاولت تقديم مقارباتٍ فكريةٍ لمعالجة هذه الظاهرة، فكان لكتاباتها أثرٌ عميقٌ في وعي النخب الصاعدة والمجتمع في العالم الإسلامي، قد نشير هنا على سبيل المثال إلى أعمال المفكر الجزائري الراحل محمد أركون، صاحب كتاب “الجهل المُقدّس والجهل المؤَسّس” والذّي اشتهر بمشروع نقد العقل الإسلامي، يتحدّث أركون عن الجهل المقدّس (اقتباسا من أوليفيه روا) وهو الذّي تكرّسه فواعل المجتمع عبر خطابه السائد الذّي يُكرّر عقائداً دوغمائيةً جاريةً من دون أن يُخضعها لتحليلٍ تاريخي، فلكونه سائداً صار غير قابلٍ للنقاش بل ومقدّساً غير قابلٍ للنقد أو المسائلة، كما يقترح أركون بدوره مصطلحا آخر ذي علاقة سمّاه بالجهل المُؤَسّس، وهو الذّي تُكرّسه الأنظمة السياسية عبر النُظم التعليمية والبرامج التربوية التّي تضعها، لذلك يدعو أركون إلى إصلاح النُظم التعليمية والتربوية ومسائلة الخطاب المجتمعي السائد بشكل مستمر وإخضاعه للنقد26، لقد ألهم أركون من بعده جيلا كاملا من الشباب المثّقف في الجزائر والمغرب الكبير، فنوقشت كتبه، وعمل تلامذته على فتح مراكز بحثيةٍ تهتّم بفكره وبمن ماثلوه من المفكرّين الكبار في العالم الإسلامي الذّين كتبوا عن العقل والعقلانية، الاعتدال والوسطية ومحاربة الدوغمائيات والتطرّف العنيف على غرار محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمان، علي حرب وغيرهم على اختلاف مرجعياتهم الفكرية.

على المُثقّف المسلم أيضاً أن ينزل بأفكاره النظرية إلى الميدان، وينخرط في نشاطات المجتمع ليعرف احتياجاته ومشاكله، فيقترح حلولاً عمليةً مناسبة، ويُمارس دور الوسيط بين السلطة والمجتمع، على المثقّف أن يحوِّل أفكاره إلى عمل وإلاّ فلن يكون جديراً بحمل لقب “المثقف” على حدّ تعبير المفكر المصري عبد الوهّاب المسيري، أو ما يسميّه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي “بالمثقف العضوي”27، ذلك المنخرط في قضايا مجتمعه السياسية والمجتمعية، في هذا الصدد لمالك بن نبي مقولة معبّرة، يقول فيها أنّ: “الذّي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، وإنّما منطق العمل والحركة، فهو لا يفكّر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، وأكثر من ذلك أنّه قد يبغضُ الذّين يفكرون تفكيراً مؤثّراً، ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحوّل في الحال إلى عمل ونشاط”،28 وفي هذا دعوة من مالك بن نبي لأجيال المثقفين القادمة إلى النزول إلى ميدان العمل بهدف معالجة مشكلات المجتمع والحضارة بشكلٍ سليم، فلو كان بن نبي حيّا اليوم، لدعى كلّ مثقّف إلى العمل الميداني ذو الأثر الملموس للتصدّي لمثل هذه الظواهر المرضية المعاصرة التّي أصابت أمتّنا على غرار مشكلة التطرّف العنيف والإرهاب.

أخيراً، يُقدّم مالك بن نبي نصيحة ثمينةً للكتّاب عموماً فيقول: “لا يبغي لمن يكتب أن يكون مُجرّد آلة كتابة، تنقل لنا نسخةً دون أن تُقدّر للكلمات التّي كتبتها أيّ نتيجةٍ اجتماعية، إنّ على من يكتب واجباً إزّاء الكلمات التّي يكتبها، يجب عليه أن يتتبّعها خارج مكتبه، في معركة الحياة والصراع الفكري، أن يتتبّعها في عملها في المجتمع”. للكاتب أيضاً واجبٌ آخر –بالنسبة له-وهو: “أن تكون له فكرةٌ صحيحةٌ بقدر الإمكان عن شخصية القارئ الذّي يقوم بدورٍ رئيسيٍ في تقرير قيمة الأفكار الاجتماعية، لأنّه هو العامل المُحوّلُ الذّي يُحوّلُ الفكرة فيُصيّرُها واقعاً محسوساً في سلوكه أو شيئاً ملموساً في مُحيطه”29. اليوم، ترتكب بعض حكومات الدول في العالم الإسلامي خطئاً فادحاً في الانتقاص من أهميّة المثقفين والمفكرّين وكتّاب عموماً، وبل ويعمد بعضها إلى تهميش دور كُلّيات العلوم الإنسانية والاجتماعية ويسعى إلى إغلاقها حتّى باعتبارها علوماً غير مفيدةٍ في نهضة المجتمع والدولة، كما لا فائدة منها أيضاً في سوق العمل كما تدّعي، إنّ خطوةً كهذه من شأنها أن تُفقد المجتمع روحه، هويته وعقله، وتجعل منه مجرّد أداةٍ استهلاكية تُوظّف لخدمة النظم السياسية لهذه الدول، فهذه العلوم/الفنون هي روح المجتمع التّي يشعرُ بها ويُفكّر. وبما أنّ ظواهر التطرّف العنيف والإرهاب في العالم الإسلامي هي ظواهرٌ مركّبةُ الأسباب والأبعاد، فإنّ معالجتها بالتالي يتطلّب مقارباتٍ مركّبةٍ أيضاً لا مجرّد الاعتماد على مقارباتٍ أمنيةٍ-عسكريةٍ لمواجهتها كما تفعل كثيرٌ من دول العالم الإسلامي، بمعنى أنّها بحاجة دوماً إلى سياسة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية، السوسيولوجية والثقافية-الفكرية أثناء التعامل مع هذه الظواهر، الأمر الذّي يتطلّب منها حتمية الاستنجاد بكلّيات العلوم الاجتماعية والإنسانية وباحثيها في فهم هذه الظواهر ومن ثمّة معالجتها، ليكون العلاج بنيويا شاملاً يصل إلى جذور الظاهرة فيُنهيها بدلاً من مجرّد مواجهة أعراضها بقوة السلاح والعسكر.

كلّ هذه الحجج نوردها لنؤكد في النهاية على ضرورة اعتناء دولنا وجامعاتنا بحقل العلوم الاجتماعية والإنسانية وعدم احتقارها كما نراه اليوم، لأنّها علوم واقيةٌ جدّاً لعالم أفكارنا من أعراض التطرّف بتعبير مالك بن نبي ومحافظةٌ على وعينا الجمعي من التلاعب أو الزيغ ضدّ كلِّ أشكال التطرّف والعنف والإرهاب، كما أنّها علومٌ تُساهم كثيراً في ترسيخ ثقافة الحوار والتعدّد والاختلاف، ثقافة راقية نحن بحاجة إليها كثيرا هذه الأيام في مجتمعاتنا المركّبة.

جديرٌ بأن نختم هذا العنصر بإحدى مقولات مالك بن نبي التّي يؤكّد فيها على أهميّة العلوم الاجتماعية في بناء الإنسان والمجتمع المسلم بناءً سليماً، بناءً يَقيه كثيراً من مشكلات الحاضر والتاريخ، يقول: “إنّ العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تُعدُّ اليوم أكثر ضرورةً من العلوم المادّية، فهذه تُعتبر خطراً في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشّقُ من صنع محرّكٍ أو ترويض قردٍ على استخدام رباط العنق.”30

خاتمة واستنتاجات:

الدراسات المعاصرة المهتّمة بدراسة الأبعاد الفكرية لظواهر التطرّف العنيف والإرهاب دراساتٌ قليلةٌ جدّاً مُقارنةً مع ما يُكتب عن الأبعاد السياسية، السوسيو-اقتصادية لهذه الظواهر مثلاً، فقليلٌ من الباحثين في العالم الإسلامي من منح الأولية لعالم الأفكار عند دراسته لمثل هذه الظواهر (أو غيرها من الظواهر المَرَضية التّي تعرفها هذه الجغرافيا المضطربة) معتبراً إيّاه بمثابة الجذر الأساسي الذّي يدفع ويقود نحو التطرّف العنيف أو الإرهاب، ووفقا لما سبق، فلاشّك  بأنّ مالك بن نبي يُعتبر من أوائل المفكرين الذّين وضعوا الأرضية الأولى لغيرهم، فلفتوا انتباههم إلى ضرورة الاهتمام بعالم الأفكار عند دراسة كثيرٍ من الظواهر المَرَضِية التّي يعانيها الإنسان المسلم ومعالجتها أيضاً، وبالرغم من أنّ بن نبي لم يشهد في عصره تصاعداً لظواهر التطرّف العنيف والإرهاب كما يشهده عصرنا اليوم، إلاّ أنّه لو كان حيّا بيننا اليوم لما تردّد في معالجتها بنيوياً عبر تحليل مكوّنات الثقافة التّي تحملها مجتمعاتنا المُسلمة، مصادرها، ما يصلح من أفكارها وما يكون ذا فاعلية، ما يجب أن يتخلّص منه الإنسان المسلم من أفكارٍ ميّتةٍ بائدةٍ غير صالحةٍ وما يجب أن يحذر منه ويستبعده من أفكارٍ قاتلةٍ مُميتةٍ في طريقه نحو البناء المجتمعي والحضاري.

إنّ التركيز على عالم أفكارنا وما أصابه من مرضٍ على حدّ تعبيره عند معالجة هذه الظواهر واقتراح حلولٍ بنيويةٍ لها، هو إحالةٌ بالضرورة إلى الاهتمام بالمؤسّسات المنتجة لهذا العالم، والمُوجِّهة لسلوك الإنسان المسلم، وأهمّها المؤسّسات التعليمية والتربوية، انطلاقا من الأسرة باعتبارها النواة الأولى المُؤسِّسِة للمجتمع، المدرسة وما ارتبط بها من معلمِّين ومربيّين، المسجد وخطباءه وعلماءه، الجامعة وأساتذتها ومثقفّيها، بالإضافة إلى المؤسّسات الصحفية والإعلامية المسؤولة عن رواج هذا النمط من الأفكار أو ذاك، وقد ركزّنا في هذه الدراسة على دور الجامعة خصوصاً وما تُنتجه كليّات العلوم الإنسانية والاجتماعية فيها من أطروحاتٍ فكريةٍ يُروّجُ لها المُثقف بكتاباته وحضوره الإعلامي لأجل تجاوز هذه الظاهرة، إذ نرى في هذه العلوم/الفنون بمثابة العلوم الواقية لوعينا الجمعي وعالم أفكارنا من كافة أنماط الجهل أو التطرّف أو السذاجة أو الانصياع.

إنّ لهذه العلوم/الفنون وكليّاتها دوراً فاعلاً في تقرير مدى صلاح الفرد والمجتمع أو فساده بالأساس، فهي التّي قد تُحيي بنشاطها حيوية هذا المجتمع وإنتاجه أو تكون بركودها مسؤولةً عن ركوده وركونه لاستهلاك ما يُنتجه الآخرون، هي المسؤولة أيضاً عن مستوى الوعي المرتفع الذّي قد يعرفه هذا المجتمع بين أفراده وكذا عن درَكاتِ الجهل التّي قد يسقط إليها، باختصار وعلى حدّ تعبير بن نبي، فهذه العلوم/الفنون بمؤسّساتها مسؤولةٌ عن تخلية المجتمع من الأفكار الفاسدة، الميّتة والمُميتة، ثمّ تحليته بما يصلح من أفكارٍ فاعلةٍ أصيلة، فلطالما اهتم هذا المفكر بضرورة نشر العلم النافع بين أفراد المجتمع حتّى يستطيع هؤلاء -في اللحظة التّي يسود فيها الشكّ ويتغلّب على اليقين- أن يميّزوا بين ما يصلح من أفكارٍ وما يفسد، فالجهل بالنسبة له داءٌ يقفُ وراء كلّ مرضٍ أصاب الإنسان المسلم بما فيه داء التطرّف والإرهاب كما نُحاجج، لقد كانت كلمة “اقرأ” بمثابة الكلمة الأولى للانطلاق الحضاري للأمة الإسلامية، كما كانت أيضا بمثابة الدواء الأوّل لداء الجهل الذّي بإمكانه أن يقود المسلم إلى أيِّ إنحرافٍ تجاه التطرّف أو العمل الإرهابي، هذا ما لخصّته إحدى مقولات مالك بن نبي الشهيرة في كتابه شروط النهضة حينما قال: “.. فإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية ﻷنّه لا يغرسُ أفكارا بل يُنصِّب أصناما”31، وبالفعل، فأصنامُ الجهل هي التّي تقف وراء دوغمائية الجماعات المتطرّفة والإرهابية وانغلاقها والتّي تتخيّل الحقّ المطلق في ذاتها في مقابل بطلانِ حُجج الآخرين. لذلك لن يكون أيّ برنامجٍ مجتمعيٍّ أو رسميٍّ ترعاه الدولة لمحاربة هذه الظواهر المَرَضِية برنامجاً ناجحاً ما لم يضطلع هذا البرنامج بمهمّة غرس أفكارٍ صحيحةٍ فّعالةٍ تُعلي من قيمة العِلم وأهله، وتروّج لعالمِ أفكارٍ سليمٍ يؤمنُ بأهمية العِلم كسلاحٍ وحيدٍ للإصلاح إلى جانب الإيمان، لاسيما ذلك العِلم الذّي يعالجُ قضايا الإنسان ومجتمعه، كما يُؤمن بمبادئ الحرّية الفكرية والانفتاح، التواصل والحوار، الجدل والحُجّة، مزايا التعدّد وفلسفة الاختلاف وقبول الآخر المختلف عنّا، هكذا فقط سنتمكن من استئصال الأفكار العليلة في الوعي الجمعي للأجيال المسلمة القادمة، ونبني بذلك عالم أفكارٍ سليمٍ ذي حصانةٍ ضدّ مثل هذه المظاهر المَرَضية التّي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم على غرار أمراض التطرّف العنيف والإرهاب32.


الهامش

1 – Bekir Çınar, The root causes of terrorism, METU Studies in Development, 36 (June), 2009, p : 106. link

2 – Mark Juergensmeyer, Addressing The Causes of Terrorism, The Club de Madrid Series, Volume I, 2005, Madrid Spain, p : 27. link

3 – محمد ياسر الخواجة، التطرف الديني ومظاهرة الفكرية والسلوكية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط-المملكة المغربية، ص: 23-24. الرابط

4 -Thomas Straubhaar, An Economic Analysis of Religion and Religious Violence, Translantic Academy, June 2015, p: 3.  link

5 – Thomas Straubhaar, Op.cit., p : 4.

6 – عروسي لسمر، العنف والمقدس في الإسلام، الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى 2012، تونس. ص: 25-26-27.

7 هناك أسباب متعدِّدة لانتشار الفوضى والتطرُّف العنيف، ولكن هناك عامل رئيس وهو ظهور الدولة الفاشلة والتّي تُعرّف عادةً بأنَّها دولة غير قادرة على توفير الأمن والخدمات الأساسية لمواطنيها وتصير غير قادرة على احتكار وسائل الإكراه المادي أي السلاح وتفقد بالتالي سلطتها المركزية الأمر الذّي يؤدي إلى ظهور مشاكل حادة، ليس فقط لمواطني ذلك البلد، وإنما لجيرانها كذلك. يُصعِّب كلٌ من الفقر والجهل والتحديات الجغرافية والولاء القبَلي/الطائفي على الدولة الفاشلة فرض القانون ويتضاعف خطرها على النظام العالمي والإقليمي بفعل عَولمة المشاكل المحلية، كما يُمهِّد غياب مؤسَّسات= =الحكومة الفاعلة الطريق أمام الاضطرابات وغياب القانون والإرهاب. أنظر: إبراهيم كالين، التطرف العنيف، كيف تحارب الوحوش دون أن تصبح أحدها، منتدى الشرق، تاريخ النشر: 27/04/2016. الرابط

8 من أهم الأعمال العربية التّي تناولت العنف في بُعده السياسي كتاب للدكتور أدونيس العكرة حمل عنوان: “الإرهاب السياسي”، قيّم فيه الإطار العنفي للإرهاب ورأى أنّ سبب الصراع يعود إلى التنازع بين “الجماعات السياسية” لأنّ النزاع السياسي الذّي يحصل بين المجتمعات إنّما يحصل في المجال الطبيعي والبشري على السواء، كما أنّ “انقسام الأفراد داخل الوحدة السياسية إلى مجموعات اجتماعية-سياسية وإلى أحزاب وطوائف مسيّسة، يؤدي إلى خلق مناخ تنازعي يهيمن على علاقات الأفراد والجماعات التّي ينتمون إليها”. ويعود سلوك العنف في نظره إلى الطبيعة التنازعية التّي تهيمن على نشاط الفاعلين السياسيين. وهكذا فإنّ “عامل النزاع الملازم لجوهر السياسة من شأنه أن يخلق حالة مستمرة من العنف تتعلق خطورتها بالأشكال والمظاهر التّي يمكن لهذا الأخير أن يرتديها”. أنظر كتاب: عروسي لسمر، مرجع سبق ذكره، ص: 40.

9 – سلوى الخطيب وآخرون، السعوديون والإرهاب، رؤى عالمية، دار غيثاء للنشر، الطبعة الأولى 2005، الرياض-المملكة العربية السعودية، ص: 92.

10· في هذا السياق كانت لمالك بن نبي التفاتة ذكيّة حينما ذكر في إحدى كتبه قائلاً بأنّ: “التعاون بين الدولة والفرد على الصعيد الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي، هو العالم الرئيسي في تكوين سياسة تُؤثّر حقيقةً في واقع الوطن، وإذا ما تعذّر هذا العامل، فإنّ القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن، وتشمل الطاقات الاجتماعية أو (والأمر هذا أدهى وأمّر) تشتّتها تشتيتاً تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار “عليك خاصّة نفسك”، ذلك الشعار الذّي تدين به فترات الانحطاط والقهقري، كتلك الفترة التّي أطلقنا عليها تسمية عصر ما بعد الموحدّين”.. أنظر: مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دار الفكر، الطبعة الأولى، سنة 1978، دمشق-سوريا، ص: 82-83.

11– Bekir Çınar, Op Cit, p : 106.

12 – مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2002، دمشق، سورية، ص: من146 إلى 152.

13 – البشير قلاتي، هكذا تكلم مالك بن نبي، نحو منهج رشيد للتغيير الاجتماعي والبعث الحضاري، منشورات مكتبة اقرأ، الطبعة الأولى 2007، الجزائر، ص:122.

14 – فوزية بريون، مالك بن نبي: عصره وحياته ونظريته في الحضارة، دار الفكر 2010، دمشق-سوريا، ص: 217.

15 – المرجع ذاته، ص: 209.

16 – أحمد عبد العليم، عرض كتاب مهندسو الجهاد، في دراسة العلاقة بين التعليم والتطرف العنيف، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تاريخ النشر: 04/07/2016. الرابط

للاطلاع على الدراسة كاملة أنظر الرابط

17 See : Diego Gambetta and Steffen Hertog, Engineers of Jihad, Sociology Working, Papers Paper Number 2007-10, Department of Sociology University of Oxford, UK, p : 11. link

18 – سمية متولي السيد، عرض كتاب مهندسو الجهاد، القابلية للتطرف، لماذا خريجو الهندسة أكثر ميلا للتنظيمات الجهادية؟ المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، تاريخ النشر: 05/05/2016. الرابط

19 لقد ذكرنا سابقاً بأنّ التركيبة المعرفية-التعليمية-الثقافية لعقل الفرد هي التّي تحدّد في النهاية طبيعة سلوكه ومواقفه من القضايا المطروحة، نودّ التأكيد هنا بأنّ الدّين يُعدُّ مكوّنا رئيسيا لهذه الثقافة، وبالرغم من تأكيدنا بأنّ الدّين لا يُعدُّ السبب الوحيد للتطرّف أو الإرهاب، فإنّ بإمكان الدّين (أو بالأحرى التأويل الحرفي لنصوص الدّين المرتكز على ثنائية الحق والباطل) أن يُفاقم الوضع، فهو يُساهم في تضخيم صورة النزاع ويضعه في سياقات مثالية مطلقة، كصراع الخير والشر، ومثلما ذكر إيّان ريدر (Ian Reader) فأنّ الدّين عادةً ما: “يجعل بعضاً من المواضيع –أو القيم- المتمركزة حوله، تشكّل استقطابا متأصّلاً، كمفاهيم الحقيقة، قيم الخير، الحقائق المطلقة والأبدية”. لهذه الأسباب، يمكن للدّين أن يساهم في تشكيل ثقافة عنفٍ حينما يصير العنف “قضيّةً” محدّدةً في هويّة الجماعات النشطة. يشير دافيد روزر (David Roser) إلى ذلك بأنّ الدّين يمكن أن يكون شكلاً من أشكال “التسمّم” مع العنف. أمّا جون إسبوزيتو (John Esposito) فيعتقدُ بأنّ الدّين يُساهمُ في تكوين “ذهنياتٍ مسيّجةٍ” دوغمائيةٍ لدى الجماعات الإرهابية، أمّا الأستاذ بسّام طيبي (Bassam Tibi) فيُحاجج بأنّ الدّين مكوّنٌ أساسّيٌ في العمل الإرهابي أو العنيف، ويرى بأنّه ينبغي على الباحثين أن: “يتخلّوا عن تصغيرهم لهذا العامل، واحترام حقيقة أنّ الدّين بُنية منفصلة في حدّ ذاتها” عن العوامل والأسباب السياسية أو الاقتصادية الأخرى، فهو عاملٌ مهمٌّ في أحداث العنف الواقعة. في بعض القضايا تكون الأهداف الدينية أهدافاً رئيسية، يورد أنطونيو إلورزا (Antonio Elorza) مسألة القاعدة وغيرها من الجماعات الإسلامية المتورّطة في الإرهاب، ليؤكّد: “حضور الدّين كعاملٍ فيها هو أمرٌ غير قابل للنكران”، على حدّ تعبيره. أنظر:

See: Mark Juergensmeyer, Addressing The Causes of Terrorism, The Club de Madrid Series, Volume I, 2005, Madrid Spain, p: 27-28. link

20– مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دار الفكر، الطبعة الأولى، سنة 1978، دمشق-سوريا، ص: 90.

21– مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، مرجع سبق ذكره، ص: 93.

22– مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، دار الفكر، الطبعة الأولى 1991، دمشق-سوريا، ص: 39-40.

23– المرجع نفسه، ص: 48.

24 لقد وقف بن نبي عمليّاً على الأثر الكبير الذّي تتركه الأفكار في الشخصية، مظهراً وسلوكاً، فقد لمس شخصياً، عندما كان يقوم بمحو أميّة مجموعة من العمّال الجزائريين بمرسيلية سنة 1938، أثر التعليم الذّي تلّقاه هؤلاء على مدى تسعة أشهرٍ في شخصياتهم ومظهرهم الخارجي، فقد تحوّلت نظراتهم التّي كانت (تتضمّن لمحةً وحشيةً) إلى نظراتٍ إنسانيةٍ واختفت اللمحة الحيوانية وحلّ محلّها شيءٌ ما ينّمُ عن وجود فكرةٍ داخلية، فيستنتج مالك هنا بأنّ الرأس الذّي تلقّى فكرةً غيّر حتّى ملامح الوجه، كما يرى بن نبي بأنّ الثقافة هي العامل الأوّل في تنشئة الأفراد والجماعات، وتُميّزها عن بعضها البعض، وهي من ثمّ العامل المؤثّر في نهضة المجتمعات أو تخلّفها.. أنظر: فوزية بورين، مرجع سبق ذكره، ص: 159.

25 – مالك بن نبين، وِجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، الطبعة الأولى 1986، دمشق-سوريا، ص: 89.

26الدكتور محمد أركون يتحدّث عن الجهل المقدّس، حصة تلفزيونية على القناة المغربية 2 العالم، يوتيوب، يناير 2010. الرابط

27 For more info see :

ROGER S. GOTTLIEB, AN ANTHOLOGY OF WESTERN MARXISM : From Lukacs and Gramsci to Socialist-Feminism, OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1989, New York Oxford. link

28 – مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، الطبعة الرابعة 1984، دمشق-سوريا، ص: 87-88.

29– مالك بن نبي، في مهبّ المعركة، دار الفكر، الطبعة الثالثة 1981، دمشق-سوريا، ص: 137.

30 – مولود عويمر، مالك بن نبي رجل الحضارة، مسيرته وعطاءه الفكري، دار فضاءات للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2016، عمان-الأردن، ص: 07.

31 – مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1986، بيروت-لبنان، ص: 28.

32 الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى