د عمرو دراج: شهادات ومراجعات (5)
تواصل الحديث في الحلقة 5 من شهادات ومراجعات حول فترة وجود الدكتور عمرو دراج بأميركا وملامح الفترة التي تزامنت مع الصحوة الإسلامية في الشرق، وذكر أن ميله للالتزام بتعاليم الإسلام كان ضمن تيار عام في الأمة، الأمر الذي كان له دور في الميل لأصدقاء ملتزمين أكثر من غيرهم، مع الاحتفاظ بانفتاحه على الجميع، بطبيعة نشأته.
وذكر د. عمرو أن انفتاحه لم يكن على الأمريكيين فحسب، ولكن على وافدين من دول مختلفة، حيث أن أمريكا مجتمع وافدين ينتمون لأطياف وثقافات شتى. ودلل عل ذلك بأنه حضر حفلاً لتكريم الحاصلين على درجة الدكتوراه، فكان نصفهم عربٌ، ونصفهم صينيون، والأمريكان قلة. وكان الإنترناشيونال سنتر مركزاً للتعرف على الطلاب الدوليين، حيث كان يشاركهم الرحلات والأنشطة. فكونت تلك الفترة نوع من الخبرات والثقافات المختلفة.
وقد شمل التقارب الأسرى والاجتماعي أصدقاء وأسر من البرازيل والأرجنتين وغيرهم من دول أمريكا اللاتينية، وكنا نستمع منهم خبرات الحكم العسكري والانتقال الديمقراطي، الأمر الذي نستفيد منه الآن فيما نفكر فيه ونعيشه. وفى هذه الفترة رزقت بابنتي الأولى، وكانت لنا علاقات بأسر أمريكية أيضاً، تعرفنا خلالها على مجتمع أمريكي متماسك، يختلف عن تصورنا عن أمريكا من خلال الدراما، ويختلف عن الانفلات الأخلاقي في المدن الكبرى.
وكان العمل الإسلامي ينظم من خلال منظمة الشباب المسلم العربي “مايا”، وقال: أذكر أن زارنا الدكتور جمال بدوي وقدم محاضرات. وتذكر في حديثه حدثاً مهماً، وهو اغتيال الدكتور إسماعيل الفاروقي في الولايات المتحدة، مؤسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي. وقال كانت هناك مؤتمرات تنظم للطلاب العرب في عطلة الكريسماس يرتحل إليها الطلاب المسلمون بأسرهم من كل أنحاء أمريكا.
وقد شكل مؤتمر عام 1985 إبان الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، علامة مهمة على طريق التزامي، حيث تزامن مع الجهاد الأفغاني. ومرة أخرى حضرنا محاضرة للشيخ صلاح أبو إسماعيل حين زار أمريكا، والذي شكر أميركا على مستوى الحرية، كونه يتحدث في الدولة التي ينتقدها ويهاجمها. وكانت تجربة المؤتمرات وصلاة الجماعة.
ويحكى عن حضوره محاضرة للشيخ صلاح أبو إسماعيل والذي تحدث عن محاولاته -دون جدوى- لرأب الصدع بعد اندلاع الثورة الإيرانية ودفع صدام حسين لمواجهتها. فأراد الشيخ تقريب معنى موقفه للمستمعين بكلمات من أغنية لعبد الحليم حافظ فيقول: “واللي مشيته… “، فيرد الحضور ببقية الجملة: “رجعت امشيه”. فداعبهم -مرشداً لهم- وقال: أتحفظون كلام عبد الحليم، ولا تحفظون كلام الحليم؟؟!!
وذكر أن المؤتمر الذي عقد في ديسمبر 1987 كان الأهم بالنسبة له، حيث حاضر فيه الدكتور عبد الله عزام متحدثاً عن الجهاد الأفغاني. وكانت له وجهة نظر أن الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي هو قضية الأمة الأولى، رغم انتمائه لفلسطين المحتلة، وهو ما بدا غريبا لي في هذا الوقت، ودعا الشباب للتركيز في القضية الأفغانية. وقد واكب المؤتمر نشأة حركة حماس، وانتفاضة الحجارة في فلسطين.
وكان للشباب في المؤتمر تفاعلاً مع القضية الفلسطينية، حيث نفذ الشباب في ختامه مسرحية عن فلسطين، ختمت بنشيد “لبيك إسلام البطولة” عزفا على لحن نشيد قديم يقول “لبيك يا علم العروبة”. مما أثر تأثيرا شديدا في الشباب، وزاد من الحماسة للقضية، ودفع للتبرع لأهل فلسطين، وكانت هذه إشارات لتفعيل دور الإسلام من جديد في القضية الفلسطينية.
وكان حضور كبار قادة الإخوان للمؤتمر، المستشار مأمون الهضيبي والدكتور محمد حبيب، وكان حديثهما عن شرعية دخول الانتخابات ضمن التحالف الإسلامي على قائمة حزب العمل، كنوع من الرد على شبهات يثيرها سلفيون وجهاديون بأن دخول الانتخابات يندرج تحت الحكم بغير ما أنزل الله وغير جائز، حيث كان الإخوان يرون المشاركة في الانتخابات هو الأقرب للتغيير من خلال الوسائل الدستورية المدنية السلمية. وقد كان الشيخ صلاح أبو إسماعيل عضو سابق بالبرلمان، عكف على وضع قوانين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب. وقد كانت الحوارات فارقة بالنسبة لي، وسبباً في إقبالي على الإخوان فكرياً وشعورياً.
لم تكن الانشغالات قبلها تسمح بكثرة القراءات لتطوير الفكر، حيث دراسة الدكتوراه إلى جانب مصاعب مادية، اضطرتني إلى العمل كعامل دليفري لتوصيل البيتزا لزيادة الدخل، ولا أخجل إن قلت ذلك، رغم كوني من وسط اجتماعي أنا وزوجتي نسبيا مرتفع. وقد كنت وأنا طالب دكتوراه أوزع البيتزا على طلبة البكالوريوس دون حرج. وبعد الدكتوراه التحقت -لمدة عام ونصف- بشركة بمدينة أورلاندو بولاية فلوريدا لزيادة الخبرة العملية والدخل.
هذه الفترة في أورلاندو سمحت لي بالتوسع في القراءة، والتي تركزت حول الإخوان المسلمين، فقرأت من كتب المحنة التي مروا بها في سجون عبد الناصر رواية الحاجة زينب الغزالي “أيام من حياتي”. وحول نفس الفترة قرأت لغير الإخوان في ذات السياق. حيث لمصطفى أمين “سنة أولى سجن” وغيرها. وكان السؤال الجوهري الذي يتبادر للذهن، ما هي المبادئ التي يؤمن بها هؤلاء يجعلهم يتحملون كل هذا التعذيب؟ فزاد ميلي للإخوان خلاف بدايتي في الالتزام الجدي في هذا الوقت المتأثرة بالسلفية، حيث اقتنعت بتحريم الموسيقى التي أحبها وتخلصت من اسطوانات الموسيقي الكلاسيكية التي كنت قد جمعتها.
وكان اطلاعي عن الإخوان، دون توجيه من أحد.، حيث بدأت بقراءة كتاب “مذكرات الدعوة والداعية” للإمام البنا. وكانت به ملامح حلمه ومشروعه، وحكايات النشأة. هذا الكتاب نموذج لرجل يضع حلمه في موضوع تعبير في امتحان التخرج ثم يتحرك لتنفيذه ويصبح واقعا على الأرض. أدعو الشباب لقراءته.
وقد كان البنا يدعو للإسلام في مقابل التوجه الضاغط لسلخ الأمة عن الإسلام، وكانت الهجمة في أشدها في تركيا. وكانت مصر مستهدفة كذلك. واستشهد بنموذج الغرس الثقافي للأفكار بنماذج من خلال الدراما، فيحكى عن حوار في فيلم أنتج في الخمسينات للفنانة ليلى مراد بين رجل متدين عائد من أداء فريضة الحج، الفنان زكي رستم، والفنان سليمان نجيب يقول له ” أنت عايش في زمن تاني” يعنى غير عصرنا” ويستكمل “أنت الآن عايش في عصر الطيارة والبكيني”! وبمثل هذا كان يجري السعي لتغريب المجتمع وعلمنته، وهذه المتابعة للصراع الثقافي والحضاري نقل مستوى تفكيري من الالتزام الشخصي، والأجندة الشخصية، إلى التفكير وحمل هموم الأمة.
قابلت الدكتور حبيب بعد المؤتمر، وسألته عن كيفية دخول الإخوان بعد عودتي لمصر، فقال لي قابل الدكتور عصام حشيش الأستاذ بجامعة القاهرة. وبعد عودتي القاهرة تعرفت عليه، وانخرطت في العمل بنادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة. وكانت فكرة أن الإخوان جماعة منفتحة، وذات سمعة طيبة، هي العناصر الجاذبة لأي أحد يحب العمل الإسلامي العام في المجتمع دون انغلاق أو تشدد.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.