fbpx
اقتصادترجمات

سبرينجبورج: الدولة المُتسْوِلَة ـ حقيقة مصر السيسي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشر موقع مؤسسة مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط (بوميد) في 7 يناير 2022 دراسة لروبرت سبرينجبورج، أستاذ الدراسات الدولية المرموق في جامعة سيمون فريزر والباحث في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية بعنوان “تتبع مسار المال لتعرف حقيقة مصر السيسي”، حيث يتناول فيها الحال الذي وصل إليه الاقتصاد المصري، الذي “أصبح يعتمد على الدعم الخارجي والقروض أكثر من أي وقت مضى”.

وقد عمل روبرت سبرينجبورج حتى 2013 أستاذاً لشؤون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية الأمريكية ومديراً لبرنامج الشرق الأوسط بمركز العلاقات المدنية العسكرية. وعمل كذلك مديراً لمركز الأبحاث الأمريكي في مصر، حيث يُعتبر سبرينجبورج أحد اهم الخبراء العالميين البارزين في الشأن المصري وله العديد من المؤلفات عن مصر. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عمل سبرينجبورج كمستشار في إدارة وسياسة الشرق الأوسط لصالح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والعديد من الإدارات الحكومية في المملكة المتحدة.

 يقول سبرينجبورج في دراسته المركزة بلغة قوية وعبارات مركزة شديدة الدلالة، إن سياسة السيسي الاقتصادية تعتمد على محاولة تحقيق حالة “إبهار” مُلفتة من “خلال المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة لتعزيز شرعيته، حيث جاء إلى السلطة عبر انقلاب” على الحكومة الشرعية. وفي سبيل تحقيق ذلك، تضغط الحكومة على المواطنين من خلال التخفيض المستمر للدعم وفرض المزيد من الضرائب وزيادة رسوم الخدمات العامة، بالرغم من الدعم الأجنبي الهائل الذي تلقاه السيسي والاقتراض الكثيف لنظامه من الداخل والخارج، حيث “يبلغ إجمالي حجم الدين القومي الآن 370 مليار دولار” ، بحيث أصبحت مصر حسب تعبيره “دولة متسولة”؛ وتضغط الحكومة أيضاً على القطاع الخاص بطرق شتى ليس أقلها “استحواذ الجيش على العديد من المؤسسات الخاصة المربحة”. والأخطر فيما توصلت إليه دراسة سبرينجبورج هو أن “هناك أوجه تشابه بشكل ملحوظ بين الفشل المريع الذي شهده الاقتصاد اللبناني والواقع الحالي للاقتصاد المصري المتعثر”، مما يُنذر بعواقب وخيمة على مصر والمنطقة إذا لم يتم تدارك الأمر واتخاذ الدول الصديقة خطوات تصحيحية لإنقاذ مصر من هذا المصير، “بدلاً من الاستمرار في الانغماس في دعم نظام السيسي”. وقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمة هذه الدراسة الهامة على النحو التالي.

يُصَدِّر روبرت سبرينجبورج ورقته بعرض ملخص لأهم ما توصلت إليه الدراسة من نتائج، وذلك على النحو التالي:

– أصبحت مصر في عهد عبد الفتاح السيسي دولة متسوّلة، حيث يعتمد اقتصادها أكثر من أي وقت مضى على تلقي الدعم من الخارج، وخاصة القروض.

– يدير السيسي السياسة الاقتصادية لمصر كما لو كانت البلاد واحدة من الدول الريعية الغنية بالنفط، على غرار المملكة العربية السعودية؛ أو دولة تجارية ناجحة تحت حكم أوتوقراطي، على غرار الصين، على الرغم من أن مصر ليست هذه ولا تلك.

– شراهة نظام السيسي لإنفاق المال كبيرة، لكن الكماليات، وليست الضروريات الأساسية، هي التي تلتهم الجزء الأكبر من إيرادات الدولة، بالرغم من تزايد عدد السكان. حيث يعتمد السيسي، الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب، على عامل “الإبهار” من خلال المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة بهدف تعزيز شرعيته.

– وحتى تتمكن من سداد تكاليف هذا السَّرَف في الإنفاق (على تلك المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة)، تضغط الحكومة على المواطنين من خلال خفض الدعم، والضرائب التنازلية ( حيث تمثل الضريبة التنازلية عبئاً أكبر على الفقراء، بالنظر إلى مواردهم مقارنة بالأثرياء)، وزيادة رسوم الخدمات “العامة”. حيث يعاني المصريون من ركود الأجور وارتفاع الأسعار وارتفاع معدل البطالة، حيث يبلغ دخل حوالي 30 مليون مواطن أقل من 3.20 دولار في اليوم.

– ولتوفير الإيرادات اللازمة، يضغط النظام أيضاً على القطاع الخاص، من خلال أوجه عديدة، بما في ذلك استحواذ الجيش على العديد من المؤسسات الخاصة المربحة.

– ولذلك، فمن أجل حماية الاقتصاد من الانهيار، فإن مصر السيسي مضطرة إلى الاعتماد بشكل متزايد على الائتمان الأجنبي. حيث تضاعف إجمالي الدين القومي لمصر، الذي يبلغ الآن 370 مليار دولار، أي أربع مرات منذ عام 2010. ويلتهم سداد فوائد الدين المحلي والأجنبي أكثر من ثلث ميزانية مصر، أي أكثر من ضعف المبلغ الذي كان يستهلكه في عام 2009.

– هناك أوجه تشابه ملحوظة بين الفشل الذريع الذي آل إليه الاقتصاد اللبناني والوضع المتعثر للاقتصاد المصري حالياً. لكن العواقب الوخيمة لانهيار الاقتصاد اللبناني ستكون أسوأ بكثير إذا تكررت حالة الفشل الاقتصادي تلك في مصر. لذلك، فَحَريّ بالدول “الصديقة” لمصر أن تتخذ خطوات تصحيحية لهذا الوضع قبل حدوث ما لا تُحمد عقباه، بدلاً من الاستمرار في تكريس دعمها لنظام السيسي.

المقدمة

من الطبيعي أن تبحث جميع الحكومات عن موارد لتسيير شؤونها، حيث تتمايز هذه الحكومات بطبيعة الحال حسب حجم هذه الموارد ومصادرها وأنواعها. ولكن الأوضاع في مصر في ظل حكم عبد الفتاح السيسي غير عادية، إن لم تكن فريدة من نوعها، حيث يتطلب نموذج الاقتصاد السياسي الذي تتبناه الحكومة موارد لا تتناسب البتة مع قدرة الاقتصاد على توفيرها. فحكومة السيسي تتصرف كما لو كانت تدير دولة ريعية تمولها صادرات الهيدروكربونات (النفط والغاز) مثل المملكة العربية السعودية، أو دولة تجارية استبدادية تستفيد من ميزان تجاري مُواتٍ ومستدام يُغذّيه توسعها في الصادرات المصنعة، مثل الصين الشعبية.

وهذا بالرغم من أن مصر ليست دولة ريعية (كالسعودية) ولا دولة استبدادية تجارية ناجحة (كالصين)، حيث تعاني بشكل مزمن من عدم قدرة صادراتها من جميع السلع والخدمات على تحقيق فائض في الميزان التجاري. وعلى مدى العقد الماضي، قفز العجز التجاري السنوي ليصل إلى ما بين 28 و 44 مليار دولار[1]. وجاءت مصر في المرتبة الـ 135 من بين 213 دولة[2] بالنسبة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي – والذي يتراوح ما بين الـ 3,000 إلى 4,000 دولار في العام. وقد استغرق الأمر 20 عاماً حتى يتضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، وهو معدل نمو أبطأ من مثيله في المغرب التي يبلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها حوالي الثلث من الناتج المحلي الإجمالي المصري البالغ 360 مليار دولار.

الشهية الفرعونية

لكن في ظل حكم السيسي، أصبحت شراهة الحكومة المصرية لإنفاق المال (على المشروعات الضخمة وشراء الأسلحة) هائلة. وفي المقابل، فإنها تنفق جزءا صغيرا نسبيا من مواردها المالية على الاحتياجات الأساسية للسكان الذين يتزايدون باستمرار ويعيشون على رُقعة محدودة من الأرض تشح فيها المياه. ولا تستطيع الحكومة تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، حيث تنتج البلاد حوالي ثلث الغذاء الذي تستهلكه فقط، ولذلك فهي تستورد القمح بكميات تفوق أي دولة أخرى في العالم.

والحقيقة أن الكماليات، وليست الضروريات الأساسية، هي التي تلتهم الجزء الأكبر من الإيرادات المتاحة في البلاد. فقائمة الاستحواذات التي تتسم بالبذخ منذ استيلاء السيسي والجيش على السلطة في 2013 تتعاظم بشكل مذهل، على الرغم من أن قيمة معظمها تُعتبر رمزية ولا تمثل قيمة اقتصادية كبيرة. ومن الأمثلة على ذلك:

1- إنفاق 58 مليار دولار على العاصمة الإدارية الجديدة التي يجري إنشاؤها في الصحراء خارج حدود القاهرة؛

2- عمليات شراء للأسلحة لا يعرف أحد ثمنها الحقيقي، حيث تُعتبر مصر السيسي من بين أكبر خمسة دول في معدلات شراء الأسلحة في العالم؛

3- الاتفاق على إنشاء مفاعل النووي بقيمة 25 مليار دولار لإنتاج الطاقة، في دولة بها فائض في إنتاج الكهرباء؛

4- توسيع القدرة الاستيعابية لقناة السويس بقيمة 8 مليارات دولار، والتي لم تحقق بعد أي زيادة ملحوظة في رسوم عبور القناة، حيث ارتفعت من 5.6 مليار دولار في عام 2017 إلى 5.8 مليار دولار فقط في عام 2020؛

5- إنشاء العديد من “أكبر” المشروعات في إفريقيا أو حتى في العالم، بدءاً من “أطول” مبنى في القارة و”أكبر” كنيسة في القارة إلى “أكبر” مزرعة سمكية في العالم – على الرغم من أن مثل هذه المزرعة (التي يديرها الجيش) حلّت محل مزارع على غرارها كانت موجودة بالفعل ويديرها مالكوها من الأفراد[3].

ويُثير هذه الإسراف سؤالين وجيهين في هذا الخصوص، هما:

السؤال الأول: لماذا؟ فبالتأكيد هناك طرق أفضل لإنفاق كل هذه الأموال، إذا كان يجب بالفعل إنفاقها من الأساس. لكن هذا الجواب يعكس منطقاً اقتصادياً، وليس منطقاً سياسياً فاعلاً. فكما يحدث في الدول الريعية، وبدرجة أقل في الدول التجارية الاستبدادية، فقد سعى السيسي إلى محاولة خلق حالة “إبهار” لجماهير الشعب، بهدف كسب إعجابهم، وبالتالي رضوخهم التام له. وفي هذا السياق، يُذكرنا نهج السيسي بالاستراتيجيات التي اتبعها هتلر وستالين وموسوليني، الذين سعوا لإضفاء الشرعية على حكوماتهم من خلال الحداثة ومظاهرها المتمثلة في العمارة والنقل وحتى في الفن والأدب. ففي كل هذه الحالات، كان هناك إضفاء لهالات من الدعاية لتلميع الدولة باستخدام أدوات براقة تهدف إلى وضع الدولة وحاكمها في مرتبة تعلو على المواطنين واحتياجاتهم. وفي ظل غياب الكاريزما أو الشرعية الديمقراطية، قام السيسي بتحييد المؤسسات السياسية مثل البرلمان والمجالس المحلية ووسائل الإعلام شبه المستقلة، واختار الاعتماد على العمل على صُنع حالة “إبهار” من خلال المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة في غياب مصادر أخرى للشرعية. فهو لم يجعل “القطارات تنطلق في مواعيدها” (تعبير دعائي إيطالي يرجع لعهد موسوليني، يشير حرفياً على دوره المزعوم في ضبط حركة القطارات ومجازيا للترويج لكفاءة أداء حكومته)، سواء كان ذلك بالمعنى الحرفي للعبارة أو بالمعنى المجازي لها، حيث لم يفلح نظامه في تحقيق أي تحسن في الأحوال المعيشية للسواد الأعظم من سكان مصر البالغ عددهم 102 مليون نسمة.

تمويل حالة “الإبهار”

السؤال الثاني: (سؤال المليون دولار، أو بالأحرى سؤال مليارات الدولارات) وهو: من أين تأتي الأموال التي تُدفع ثمناً لهذا الإسراف؟ الجواب: من الداخل والخارج، بمعدل متساوٍ تقريباً، كما يُشير إلى ذلك حجم الدين المحلي وحجم الدين الخارجي. ولا يُنبئ الدين المحلي العام للنظام المصري إلا عن جزء يسير من المآسي المترتبة على توفير التمويلات اللازمة لتلك المشروعات، حيث تشبه لحد كبير عمليات النهب من حيث: التفنن، والشمول، والأنانية، والإضرار باقتصاد البلاد.

الضغط على المواطنين

لقد تم سحق الشعب المصري ما بين الدخول الراكدة والنفقات المتزايدة على الحاجات المعيشية. فمنذ عام 2019، ظلت نفقات الحكومة على الأجور والرواتب، كأكبر جهة توظيف في البلاد، ظلت ثابتة، مما يعكس واقع النمو الضئيل أو المعدوم في التوظيف العام وفي رواتب موظفي الخدمة المدنية[4]. وأدت عمليات الخصخصة أو الإغلاق للمؤسسات المملوكة للدولة، مثل مصنع الحديد الصلب التاريخي بحلوان والذي كان يُشغّل حوالي 7,000 عامل، إلى زيادة الضغط التنازلي على المعدل الإجمالي للعمالة، العامة والخاصة[5]. وقفزت البطالة ما بين 7% و 10% منذ عام 2019، لكن هذا الرقم الجيد نسبياً هو مقياس غير دقيق لأسواق العمل. حيث يتم تقييم صحة سوق العمل بشكل أكثر دقة من خلال معدل بطالة الشباب، الذي يتجاوز 25%، ومعدل مشاركة القوى العاملة – نسبة من هم في سن العمل – التي انخفضت إلى 42% في عام 2021 مقارنة بـ 49% منذ عقد من الزمان[6]. ووفقاً للبنك الدولي، فإن معدل مشاركة القوى العاملة في مصر أقل من المتوسط ​​العالمي البالغ 59%، والمعدل في ​​منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا البالغ 46%، ومتوسط ​​البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل البالغ 58%[7].

وقد تسبب التضخم في تعريض عموم المصريين لمزيد من الآلام. وكان التضخم قد انخفض من 9% إلى 5% بين عامي 2019 و 2020 قبل أن يرتفع مرة أخرى إلى 8% في خريف 2021[8]، حيث يفوق ذلك​​ معدل التضخم في الاقتصادات الناشئة هذا العام[9]، والذي بلغ 5%. وساهم نظام السيسي في خفض القوة الشرائية في البلاد من خلال القيام بإجراءات شاملة تستهدف خفض الدعم على استهلاك الوقود والمياه والطاقة والنقل والغذاء.

واستهدف خفض الدعم، حتى على الخبز أهم المواد الغذائية الضرورية – والذي كان يمثل على مدى عقود الالتزام الرمزي والفعلي للحكومة تجاه عموم الشعب المصري، وخاصة الفقراء منهم، حيث يمثل دعم الخبز، المستحَق لحوالي ثلثي المصريين، أكثر من نصف إجمالي قيمة دعم المواد الغذائية[10].

وكان قد تم تقليص حجم الرغيف لأول مرة في عام 2014، ثم مرة أخرى في أعقاب اتفاق صندوق النقد الدولي لعام 2016 في مصر، والذي اشترط إجراء إصلاحات في مجال الدعم. وانخفض حجم الرغيف وعدد الأشخاص الذين لديهم إمكانية الحصول على الخبز المدعوم مرة أخرى أثناء جائحة كورونا، وفي أوج انتشارها، في (2020-2021)، حيث لم تنفق الحكومة مخصصات الدعم في الميزانية. ومن المنتظر أن تشمل الموازنة العامة لمصر (2021-2022) تخفيضات حقيقية في النفقات على الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية. في الوقت الذي لا تفي فيه اعتمادات الميزانية للتعليم والصحة بالحد الأدنى للمخصصات المنصوص عليها في الدستور[11].

وجاءت الزيادات في قيمة الرسوم الحكومية لتمثل استنزافاً إضافيا لدخل الأسرة، وكان ارتقاع الرسوم الخاصة بالتعليم “العام” هو الأمر الأكثر إثارة للجدل. فقد شهد العام الماضي ارتفاع رسوم الالتحاق بالمدارس العامة والكتب المدرسية، بالإضافة إلى زيادة القدرة الاستيعابية للفصول الدراسية بسبب تجميد توظيف المعلمين وبناء المدارس على مدى خمس سنوات؛ حيث زاد متوسط ​​استيعاب الفصل من 44 إلى 49 طالباً (حسب البيانات الرسمية) وتحولت معظم المدارس العامة إلى نظام الفترتين[12]. (لاحظ أن متوسط ​​استيعاب الفصل الدراسي في دولة مثل بنجلاديش، التي يبلغ نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي نصف نظيره في مصر، يبلغ  45 طالبا[13]، مقارنة بـ ٤٩ طالباً في مصر). وأدت الظروف التعليمية المتدهورة إلى اندلاع أعمال عنف من قبل الآباء والطلاب في مدارس مختلفة في بداية العام الدراسي 2021. ونية الحكومة الواضحة في هذا الأمر هي حث الآباء على نقل أطفالهم إلى المدارس الخاصة، حيث تستثمر الحكومة الأموال العامة من خلال العديد من الشراكات الناشئة بين القطاعين العام والخاص بالاشتراك مع شركات دولية من مزودي الخدمات التعليمية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أسس الجيش مدارس نخبوية لتدريب الكوادر للالتحاق بالمراتب القيادية في الخدمة المدنية، بما في ذلك في مجالات الأمن والمخابرات[14].

وكذلك يتضح من خلال الإيرادات الضريبية أن المصريين في ظل حكم السيسي يدفعون أموالاً أكثر ويحصلون على خدمات أقل من حكومتهم، حيث من المقرر أن يرتفع إجمالي الإيرادات الضريبية في عام 2022 إلى 13.9% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 12.7% قبل عامين[15]. كما أصبحت الضرائب أكثر تنازلية بشكل مطرد (بحيث تؤثر على الفقراء بشكل أكبر) – حيث يتم تحصيل دخل ضريبي أكبر من المواطنين ذوي الدخل المنخفض مقارنة بالأثرياء – مع زيادة حصة ضريبة القيمة المضافة من إجمالي الضرائب. وفي الوقت نفسه، فإن سقف الـ 25% على الدخل الشخصي وضريبة الشركات لم يتم المساس به.

ومن بين العواقب المترتبة على ركود سوق العمل وتدهور الموارد المالية للأسرة المصرية هو تصاعد الفقر. فقد تضاعف معدل الفقر في مصر تقريباً بين عامي 2000 و2018، من 16.7 إلى 32.5 في المائة. ثم انخفض بعد ذلك بشكل طفيف، على الرغم من أن ذلك كان فقط بسبب انتعاش قيمة الجنيه المصري، مما أدى إلى زيادة دخل الأسرة بالدولار، وهي العملة التي تُحسب بها معدلات الفقر عالمياً[16]، حيث يعيش حوالي 30 مليون مصري في حالة فقر، حيث يقل دخلهم عن 3.20 دولار في اليوم[17].

وفي ظل حكم السيسي، فرغم الجهود المبذولة لإضفاء الطابع الرسمي على الشركات، توسّع قطاع الأعمال غير الرسمي – الذي يعمل بمثابة إسفنجة تمتص نسبة كبيرة من العمالة، لكنه يقدم رواتب ضعيفة ومزايا أقل ويفتقر للحماية التوظيفية. وبحسب ميريت إف مبروك من معهد الشرق الأوسط، فإن حوالي 63%  من القوى العاملة في مصر يعملون في القطاع غير الرسمي، الذي يمثل حوالي 40%من الاقتصاد بشكل عام، وهو أعلى معدل للاقتصاد غير الرسمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا[18]. ويمثل هذا زيادة بنحو 5% في حصة القطاع غير الرسمي مقارنة بالسنوات الأخيرة من عهد مبارك، على الرغم من وجود  العديد من المشاريع التي يرعاها البنك الدولي ولكنها لا تهدف إلى مكافحة هذا الارتفاع في معدل الاقتصاد  غير الرسمي[19].

وتوقعت وكالة التصنيف “موديز” عواقب سلبية محتملة لتزايد ضغط الحكومة على المواطنين للحصول على الأموال، حيث ذكرت في صيف عام 2021 أنها تتوقع ارتفاعاً في احتمالية “تعرض مصر لمخاطر اجتماعية… حيث تفاقمت هذه المخاطر بسبب التكاليف الكبيرة للإصلاحات الاقتصادية التي تحملها المستهلكون في السنوات القليلة الماضية “. وأضافت وكالة موديز أن نطاق التغطية لشبكة الأمان الاجتماعي المتفق عليها كجزء من برنامج صندوق النقد الدولي لعام 2016 “لا يزال ضيقاً نسبياً”[20]. لكن الضغوط المالية على المواطنين والمحفوفة بالمخاطر السياسية قد يتم مضاعفتها بشكل أكبر. حيث لا يزال عجز الميزانية المزمن في مصر أعلى من المستوى المستدام حسب اعتبارات المقرضين الدوليين، على الرغم من انخفاضه من 12% من إجمالي الناتج المحلي في 2016 إلى 7% حالياً[21].

وبالإضافة إلى خفض الإنفاق وارتفاع الأسعار والإيرادات، كثّفت الحكومة جهودها لحصد الإيرادات من مصادر أخرى غير تقليدية. ففي صيف عام 2021، أدخلت الحكومة تشريعات تسمح لمقدمي الخدمات والمرافق المملوكة للدولة – بما في ذلك الكهرباء والمياه والغاز والاتصالات والطرق ومترو الأنفاق والقطارات والصحة والتعليم والإسكان – بـ “تحويل إيراداتهم المستقبلية إلى سيولة نقدية يمكن الاتجار بها وبيعها للمستثمرين.”[22] ويجادل المتحدثون الرسميون باسم الحكومة بأن ذلك م شأنه تحسين الجودة، على الرغم من أن الشركات العامة غارقة الآن في الديون[23]. ويرى المراقبون أن هذا التوريق المالي للأصول العامة سيؤدي حتماً إلى ارتفاع التكاليف التي يتحملها المصريون مقابل السلع والخدمات الحيوية.

الضغط على القطاع الخاص

تلعب الشركات المملوكة للجيش بالفعل دوراً مهماً في اقتصاد السيسي، حيث توجد حوالي 80 شركة مملوكة للجيش، تنتج بشكل أساسي سلعاً مدنية، بما في ذلك الأجهزة، والملابس، والأغذية، والمشروبات، والتبغ، والسيارات، ومعدات تكنولوجيا المعلومات، وتشارك كذلك في البيع بالتجزئة، بالإضافة لوسائل الإعلام والترفيه، والأهم من ذلك، المقاولات العامة[24]. ولكن حتى مع اتساع نشاطها كما يتضح مما سبق، فإن الشركات المملوكة للجيش تسعى الآن إلى تحقيق مزيد من العائدات من خلال مصادر جديدة. ففي فبراير 2020، ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن صندوق مصر السيادي، الذي تأسس في 2018 “لجذب الاستثمارات الخاصة لمصر وتشجيع الاستثمار المشترك في الأصول المملوكة للدولة”، سيسعى للحصول على مستثمرين أجانب ومحليين للمشاركة في 10 شركات من جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، والذي يُعتبر الذراع الاقتصادي للجيش المصري[25]. وفي عام 2021، دفعت الحكومة بتشريع برلماني يقنن الإعفاءات الضريبية الموجودة بالفعل لصندوق تحيا مصر، الذي تم إنشاؤه في عام 2014 تحت رعاية السيسي بشكل مباشر – وحسبما أُعلن “لتحسين الظروف المعيشية للأسر الأولى بالرعاية”، ولكن في حقيقة الأمر ليكون بمثابة صندوق طائش يديره السيسي بلا رقيب. وتم توسيع نطاق إعفاءاته الضريبية لتشمل رسوم الدمغة وضريبة القيمة المضافة ورسوم التسجيل العقاري وغيرها. وأصبح صندوق تحيا مصر يمتلك مجموعة متنوعة من الأصول وله الحق في تأسيس الشركات أو شراء الأسهم في شركات قائمة بالفعل في كل من القطاعين العام والخاص[26].

وقد استحوذ الجيش على العديد من الشركات الخاصة المربحة، بما في ذلك مزارع الأسماك، وشركات تعدين الذهب، وشركات التنقيب عن الرمال السوداء، بحجج واهية في كثير من الأحيان[27]. ويقال إنه يحاول الآن الاستحواذ على شركة جهينة، وهي شركة ألبان وعصائر رائدة في السوق المصري. حيث قامت الأجهزة الأمنية بسجن مؤسس جهينة المُسن صفوان ثابت ووضعه في الحبس الانفرادي، قبل سجن نجله وخليفته كرئيس تنفيذي للشركة، بسبب صلات مزعومة بجماعة الإخوان المسلمين[28]، في حين أن التقارير تشير إلى أن السبب الحقيقي وراء ذلك هو أن عائلة ثابت قاومت الضغوط التي مورست عليهم لتسليم أصول الشركة إلى الدولة والجيش[29].

هذه الخطوات والممارسات المختلفة تشكل ضغوطاً على القطاع الخاص تماما كما تُشكّل السياسات المالية والاقتصادية للحكومة تُشكل ضغوطاً على عامة الناس. وانعكاساً للضغوط التي يمارسها النظام على القطاع الخاص بشكل أساسي، يتراجع ترتيب مصر في مؤشر الحرية الاقتصادية الذي تصدره مؤسسة التراث الأمريكية (هيريتيج فاونديشن) حيث احتلت المركز 130 من أصل 178 دولة[30]. بالتأكيد ليس هذا هو القطاع الخاص القوي الذي تحاول الولايات المتحدة والدول المانحة الأخرى المساعدة في إنشائه منذ عقود[31]. حيث يؤدي استهداف القطاع الخاص، خصوصاً؛ وقطاع الأعمال العام، بشكل عام، بُغية الحصول على المزيد من الإيرادات –  بشكل مباشر إلى خفض الطلب.

ويتجلى ذلك في انخفاض واردات الخدمات وكذلك السلع الرأسمالية والوسيطة والاستهلاكية. ففي عام 2020، شكل إجمالي الواردات 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أقل نسبة منذ عام 1973 وأكثر بقليل من نصف الواردات في عام [32]2008. ولكن على الرغم من الانخفاض الكبير في الواردات، فإن الانخفاض في الصادرات الذي تزامن مع ذلك يعني أن الميزان التجاري لمصر لم يتحسن[33]. فقد سجل عام 2020 زيادة قدرها 10 مليارات دولار في المنطقة الحمراء مقارنة بعام 2010 وزيادة (في المنطقة الحمراء) قدرها 5 مليارات دولار مقارنة بعام 2016، وذلك عندما بدأت مصر في إجراءات الإصلاح التي اشترطها صندوق النقد الدولي[34]. وهناك مؤشر آخر على تراجع الطلب وهو مؤشر مديري المشتريات، وهو مقياس قائم على استطلاع آراء رجال الأعمال بخصوص ظروف السوق. حيث تعكس النتيجة ما فوق 50 درجة حالة التفاؤل التجاري. ولكن منذ عام 2016، كان متوسط ​​مؤشر مديري المشتريات في مصر أقل بكثير من 50 درجة، بينما كان متوسط المؤشر أعلى من نقطة التعادل[35] في الفترة من 2012 إلى 2016، باستثناء الأشهر القليلة التي سبقت وأعقبت انقلاب يوليو 2013 مباشرة.

على خُطى النموذج اللبناني

يؤكد تحليل للباحث إسحاق ديوان للأداء الاقتصادي لمصر في عهد السيسي على الأثر السلبي العميق لتوسيع سيطرة وملكية الجيش. حيث يرى ديوان أن الاقتصاد العسكري أقل قدرة إلى حد كبير على تحقيق النمو الاقتصادي المناسب في اقتصاد تسيطر عليه المحسوبية التي سادت في ظل نظام مبارك. ويجادل ديوان بأن السبب في ذلك هو أن ضباط الجيش يحتكرون الأسواق والموارد أكثر من المحاسيب من المدنيين؛ في حين أن شركاتهم أقل كفاءة حتى من الشركات المملوكة للمحاسيب الكبار؛ مما يخيف المستثمرين من القطاع الخاص؛ بالإضافة إلى أن خوف الضباط من الاضطرابات الشعبية يدفعهم إلى جعل صنع القرار الاقتصادي والسياسي أكثر مركزية[36].

ويشير تحليل ديوان إلى أن التدهور الاقتصادي في مصر تحت حكم السيسي هو في الحقيقة بنيوي بطبيعته – وليس نتيجة تباطؤ مؤقت في التوظيف والإنتاج والطلب – وبالتالي فإنه من غير المحتمل أن تنعكس النتيجة حتى لو أصبحت البلاد نموذجاً حقيقياً لتطبيق الإجراءات الإصلاحية لصندوق النقد الدولي. وعلى الأقل من أجل تقديم دعم مفاهيمي للحجج التي يسوقها الباحث، فإن هناك أوجه تشابه ملحوظة بين الاقتصاد اللبناني المنهار بشكل كبير هذه الأيام والاقتصاد المصري المتعثر حالياً.

فقد اعتمد النموذج الاقتصادي اللبناني الذي ظهر في أعقاب الحرب الأهلية (1975-1990) على ربط العملة المحلية بالدولار؛ وعلى معدلات فائدة تتجاوز التضخم المرتفع بهدف جذب الودائع المصرفية وعمليات شراء الدين الحكومي من قِبل المواطنين بالداخل، والأجانب، والمواطنين المغتربين؛ وعلى “الهندسة المالية” التي يقوم بها البنك المركزي، الذي شارك أيضاً بشكل كبير في اقتراض العملات الأجنبية. وفي نهاية المطاف، فشل هذا النموذج في لبنان لأن الثقة بخطة بونزي هذه (تتمثل في وعود بأرباح كبيرة، بينما يتم تمويل هذه الأرباح من تدفق رؤوس الأموال) قد تم تقويضها بمجرد أن غضبت المملكة العربية السعودية، المصدر الرئيسي للأموال في لبنان، على البلاد وأوقفت المساعدات والاستثمار بها، مما أدى إلى تجفيف تدفق “الدولارات الجديدة” اللازمة للحفاظ على مخطط بونزي في البلاد. والسؤال الذي يجب طرحه هنا عن النسخة المصرية من هذا النموذج اللبناني هو ما إذا كان بإمكان لمصر أن تنجو من مصير لبنان، باعتبارها “أكبر من أن تفشل”[37] (كما يقول البعض).

ومن الواضح أن مصر تعتمد في سداد خدمة الدين على “الدولارات الجديدة” تماما مثل لبنان. إن مثل هذه الاعتمادية، والتي تفوق الإيرادات المحلية نفسها، هي التي دفعت السيسي لممارسة المزيد من الضغوط المالية على الشعب. فمصر في حاجة إلى الوصول لمستوى عجز مقبول في الميزانية، وتوازن في الميزان التجاري، ورصيد من العملات الأجنبية، ومعدلات تضخم تسمح بمواصلة جذب العملات الأجنبية ومنع أقساط تأمين المخاطر من رفع تكلفة تلك الأموال المقترضة وصولا لمستويات غير مستدامة. وبالنظر إلى أن خدمة الديون تستهلك بالفعل حوالي 36% من الميزانية السنوية وتفوق إجمالي الإيرادات الحكومية، فإن أي زيادة كبيرة في أسعار الفائدة  في مصر، التي هي بالفعل من بين الأعلى في العالم، ستمثل تهديدا لقدرة اقتصادها على الصمود، بغض النظر عن كونها عميلاً نموذجياً لصندوق النقد الدولي.

والحقيقة أنه سيظل اقتراض الأموال في مصر بهذا الشكل، لعدم وجود مصادر أخرى كافية للتمويل الخارجي ولأن الاقتصاد المصري بعيد كل البعد عن تحقيق فوائض أو حتى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي. وباستثناء قطاعي الهيدروكربونات (النفط والغاز) والعقارات، فإن مصر تجذب القليل نسبياً من الاستثمار الأجنبي المباشر؛ وحتى بالنسبة لهذين القطاعين الرائدين، فإنهما يشهدان تراجعاً في ظل حكم السيسي. فقد انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر – كحصة من إجمالي الناتج المحلي –  من أكثر من 8% في (2005-2006) إلى ​​أقل من 2% منذ انقلاب [38]2013. وبحلول عام 2020، كان الاستثمار الأجنبي المباشر – كحصة من الناتج المحلي الإجمالي – أقل من نصف ما كان عليه في عام [39]1979.

ومن بين مصادر العملات الأجنبية الأخرى، باستثناء القروض، فإن تحويلات العمالة المصرية بالخارج  (خاصة في دول الخليج) إلى مصر قد حازت على حصة متزايدة باستمرار. حيث تبلغ قيمة التحويلات المالية للعمالة المصرية بالخارج الآن 30 مليار دولار سنوياً، وتمثل أكثر من إجمالي المصادر الثلاثة الرئيسية الأخرى للعملة الأجنبية منذ فترة طويلة: عائدات قناة السويس، وصادرات النفط والغاز، والسياحة. وهذا في الحقيقة يُعتبر نعمة ونقمة في آن واحد. فهذه التحويلات نفسها تستخدم بشكل كبير في شراء السلع الاستهلاكية (من قِبل متلقيها)، لذلك فقد تساهم في النمو الاقتصادي والاستثمار، ولكن بشكل غير مباشر فقط. في حين أن التحويلات التي تمر عبر القنوات المالية الرسمية توفر رأس المال للائتمان، حيث أصبحت البنوك المصرية، مثلها في ذلك مثل البنوك اللبنانية، تعتمد بشكل كبير على الحكومة كعميل رئيسي لها. وانخفضت حصة القطاع الخاص المصري من الائتمان من 55% في عام 2001 إلى 34% في عام 2016 إلى 27% في عام 2020، بينما بلغ المتوسط ​​العالمي 59% العام الماضي[40]. وتوفر الودائع البنكية الناتجة عن التحويلات ائتماناً للحكومة يفوق كثيرا ما توفره لعملاء القطاع الخاص.

مشكلة ديون السيسي

إن مصر السيسي، التي تشبه إلى حد كبير مصر في عهد الخديوي إسماعيل في الستينيات من القرن التاسع عشر، ستكون مجبرة أكثر من أي وقت مضى على الاعتماد على الائتمان الأجنبي للاستمرار في نهج الإسراف في الإنفاق. فمصر، بالإضافة إلى المغرب،  تعد من أكبر الدول اقتراضاً من الخارج في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ففي عام 2021، بلغ الدين الخارجي لمصر 137 مليار دولار، أي ما يقرب من ضعف ما كان عليه عندما قرر صندوق النقد الدولي في عام 2016[41]  تمديد قرضه البالغ 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات. وبلغ إجمالي الدين القومي، الذي يشمل الاقتراض المحلي والخارجي، نحو 370 مليار دولار، حيث تضاعف أربع مرات منذ عام 2010، مع زيادة بنسبة تزيد عن 100%  بين عامي 2017 و 2020. ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين إلى 557 مليار دولار بحلول عام [42]2026. وقد بلغ نصيب الفرد من الدين 3,238 دولاراً في عام 2020 مقارنة بـ 2,032 دولاراً في عام 2010. وفي عام 2021، احتلت مصر المرتبة 158 بين 189 دولة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي والمرتبة الـ 100 في نصيب الفرد من الديون[43]. وتبلغ نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر حالياً 91.6%، مقارنة بـ 87.1% في عام 2013، عندما قاد السيسي الجيش للاستيلاء على السلطة في البلاد[44].

ولكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي – المرتفعة بطبيعة الحال – تقل فعلياً عن الرقم الحقيقي، حيث تبتكر الحكومة المصرية، مثلها في ذلك مثل لبنان، عمليات محاسبية إبداعية تقوم بموجبها بتحويل الدين العام إلى دفاتر لكيانات أخرى مملوكة للدولة. حيث يُنسب 54% فقط من الدين الخارجي لمصر رسمياً إلى الحكومة حالياً، بينما هناك 25% أخرى مستحقة على البنك المركزي و 23 مليار دولار أخرى على بنوك مملوكة للدولة ومؤسسات أخرى. وفي عام 2010، تجاوزت الحصة الرسمية للحكومة من الدين الخارجي 90%. ولكن حتى استناداً إلى حجم الدين الخارجي للحكومة الذي يتم خفض قيمته حالياً بشكل كبير، فقد تضاعف هذا الدين على أساس نصيب الفرد خلال العقد المنتهي في عام 2021.

لقد أصبحت مصر أكبر عميل لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، حيث حصلت على 20 مليار دولار من خلال ثلاثة قروض رئيسية منذ عام 2016، وهو ما يتجاوز بكثير حصة صندوق النقد الدولي، وبالتالي فإنه يتم فرض رسوم إضافية على أسعار الفائدة. كما يتم دعم مصر من خلال ائتمان بمليارات الدولارات: من البنك الدولي (600 مليون دولار)، وبنك التنمية الأفريقي (300 مليون دولار)، ومجموعة من الدول المقرضة الأخرى (بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف)[45]، حيث تبلغ حصة ألمانيا وحدها مبلغ 2.8 مليار دولار من القروض التي قدمتها لمصر والتي لم يتم تسديدها بعد[46].

ولإشباع شهيتها الشرهة للاستدانة تُضطر الحكومة إلى الاعتماد بشكل أكبر على المقرضين الأجانب من القطاع الخاص. ففي ديسمبر 2021، قيّمت مجلة الإيكونوميست البريطانية الاقتصاد المصري باعتباره ثالث أكثر الاقتصادات عرضة لارتفاع أسعار الفائدة على مستوى العالم، بعد الأرجنتين وسريلانكا[47]. ويتم كذلك شراء نسبة كبيرة ومتنامية من الديون “المحلية” الصادرة بالجنيه المصري من الخارج: ففي نهاية عام 2020، كان الأجانب يمتلكون ما قيمته 21 مليار دولار من أذون الخزانة والسندات المقوَّمة بالجنيه المصري، أي نحو 10% من الإجمالي[48]. وفي عام 2021، كان غير المصريين يمتلكون 26 مليار دولار من أذون الخزانة القابلة للسداد بالدولار ولكنها غير مدرجة في إجمالي الدين الخارجي[49]. ومن المحتمل أن يكون عامل الجذب (الخطير) للمقرضين هو أسعار الفائدة التي تُعتبر من بين الأعلى على مستوى العالم. حيث تأتي أسعار الفائدة في مصر، والتي تزيد عن 12% سنوياً، على رأس قائمة بلومبرج للفوائد التي تدفعها 50 دولة من دول الاقتصاديات الناشئة[50]. وحتى الآن كان هناك كثير من المقرضين الراغبين في الإقراض (مع استثناء ملحوظ لربيع 2020، عندما انتشر الذعر بينهم بسبب المخاوف من أن جائحة كورونا قد تدخل مصر في حالة إعسار؛ حيث سحبوا في غضون أسابيع 18 مليار دولار، أو حوالي 60% من الأموال التي استثمروها في أذون الخزانة المصرية).

ويستهلك سداد فوائد١ض الديون المحلية والأجنبية الآن أكثر من ثلث ميزانية مصر، أي أكثر من ضعف المبلغ في عام [51]2009. ويعتمد البنك المركزي على قروضه بالعملة الأجنبية لدعم سعر الصرف وبالتالي جذب التدفقات الائتمانية الخارجية. وهذا السلوك أيضاً يشبه الممارسات التي يقوم بها مصرف لبنان. وأحد مظاهر المحاسبية الإبداعية في مصر هو عرض احتياطيات العملات الأجنبية التي يحتفظ بها البنك المركزي، والتي يُزعم حالياً أنها تتجاوز 40 مليار دولار. ولكن الحقيقة أن أكثر من نصف هذا المبلغ مستحق لسداد القروض قصيرة الأجل، مما يشير إلى أن غطاء الواردات الحقيقي للبلاد هو نصف مدة الأشهر الثمانية المزعوم تغطيتها، أي أربعة أشهر فقط – وحتى تغطية ثمانية أشهر تُعتبر أقل من المستويات التي يوصى بها.

وباختصار، فإن الاقتصاد المصري يشهد  انحداراً يشبه في ذلك التدهور الاقتصادي الذي أدى إلى كارثة لبنان. فقد  أدى الحفاظ على سعر صرف مبالغ فيه للسيطرة على التضخم، إلى جانب أسعار الفائدة العالمية التي تؤدي إلى تحويل الجزء الأكبر من الائتمان المحلي إلى الحكومة، مما نتج عنه تآكل القطاع الخاص في كلا البلدين. وأدت سياسات السيسي أيضاً إلى التدني في: نسبة الطلب المحلي، نسب فرص العمل المتوفرة، ونسبة صادرات السلع والخدمات. ورفعت الحكومة من معدل الاعتماد على التدفقات الوافدة لرأس المال، والتي تشكل التحويلات المالية نسبة كبيرة منها. لكن هذه التحويلات تنجذب أيضاً إلى أسعار الفائدة المرتفعة، تماما كما حدث في لبنان، لذا فهي أيضاً عرضة للاضطرابات المفاجئة.

أكبر من أن تفشل؟

لكن مصر ليست لبنان، بالنظر لأحد الجوانب الحاسمة في ذلك: حيث يُنظر إلى مصر على نطاق واسع على أنها أكبر من أن يُسمح لها بالفشل، في حين أن لبنان أصغر من أن تضمن الحصول على الدعم الخارجي المناسب. وتنعكس الأهمية الجيوستراتيجية لمصر بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، وحتى للصين بشكل متزايد، في النسبة الأعلى التي تحصل عليها من الائتمان الخارجي المقدم من المؤسسات العامة متعددة الأطراف والوطنية، مقارنة بما كان عليه الحال في لبنان، والذي كان أكثر اعتماداً على تدفقات رأس المال الخاص.

ومن واقع إدراكه الجيد للمزايا الجيوسياسية لمصر، فقد ركز نظام السيسي على استخدام سياسة التلويح بالجزرة والتهديد بالعصي تجاه داعميه الأجانب أكثر من التركيز على تصحيح أوجه القصور في اقتصاد البلاد. فبالنسبة للجزرة الذي يقدمها نظام السيسي فتأتي في شكل خدمات دبلوماسية يوفرها لهذه الدول، كما كان الحال في أحداث فلسطين وإسرائيل أو الوضع في ليبيا، وحتى في مناطق أبعد من ذلك، في اليمن وسوريا، بالإضافة إلى تنويع مشتريات الأسلحة، مما يكاد يجعل الجيش المصري تحت قيادة السيسي بمثابة أمم متحدة حقيقية بالنسبة لتنوع المعدات العسكرية. وتتمثل أكبر عصا في يد السيسي في التهديد الواضح من حين لآخر بإغراق أوروبا بالمهاجرين غير الشرعيين. وقد رفع السيسي هذا الرهان مؤخراً من خلال الزعم بأن مصر تستضيف ستة ملايين لاجئ، داعياً إلى دعم مالي إضافي من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء به وغيرها من الدول[52].

لقد أصبحت مصر السيسي دولة متسوّلة، بعيدة كل البعد عن الماضي القريب نسبياً للبلاد، ناهيك عن وضعها إبان عهد عبد الناصر، عندما كانت تلعب دوراً أكثر استقلالية وحسماً في المنطقة وخارجها. أما فيما يخص السؤال حول ما إذا كان هذا النموذج مستداماً بشكله الحالي أم لا، فهو في الحقيقة سؤال مفتوح الإجابة. فالتهديد الأساسي باحتمالية استمراره هو حالة التبعية والركود للاقتصاد، حيث يعتمد أكثر من أي وقت مضى على الدعم الأجنبي بشكل متزايد. لقد أثبت الحال الذي وصل إليه اقتصاد لبنان بالفعل المخاطر المترتبة على مثل هذا النموذج. وفي الحالة اللبنانية، قررت دول العالم المعنية بالأمر أن دعم 6.7 مليون مواطن لبناني لا يستحق التكلفة، مقارنة بالمكاسب الجيوستراتيجية الهامشية المتواضعة التي قد تتحقق هناك. ولكن من الواضح أن الحفاظ على 102 مليون مواطن في مصر، والذي ينمو سنوياً بمقدار مليوني نسمة، سيتطلب التزامات أكبر بكثير من الحالة اللبنانية. ومن المشكوك فيه ما إذا كان “أصدقاء” مصر سيستمرون في رؤية هذه الالتزامات بأنها جديرة بالاهتمام لأسباب غير اقتصادية في المستقبل غير المنظور. وفي اللحظة التي سيبدو فيها “أصدقاء” مصر مترددين في تقديم الدعم لها، فإن المستثمرين من القطاع الخاص في الائتمان المصري سوف يندفعون بحثاً عن مخرج للهروب، كما فعلوا في مصر في ربيع عام 2020، وفي لبنان من قبل.

لقد كانت عواقب انهيار الثقة في لبنان مدمّرة، لكنها لن تكاد تُذكر إذا تكررت هذه المأساة على النطاق المصري. لذلك، فمن الأفضل أن يتخذ داعمو مصر خطوات تصحيحية للأوضاع في البلاد قبل حدوث ذلك، بدلاً من استمرارهم في الانغماس في دعم خديوي مصر المعاصر.


الهامش

[1] Aaron O’Neill, “Egypt: Trade balance from 2010 to 2020,” Statista, August 5, 2021, link

[2] “GDP per capita, PPP (current international $),” The World Bank, accessed December 9, 2021, link

[3] Mustafa Hosny, “Big fish in a shrinking pond: How an Armed Forces company is building a fish farming monopoly,” Mada Masr, April 15, 2021, link

[4] “Egypt’s Draft Budget Supportive for Debt Reduction,” Fitch Ratings, May 11, 2021, link

[5] Jean-Pierre Sereni, “Egypt Opens the Debt Tap as Wide as It Will Go,” OrientXXI, June 15, 2021, link

[6] “Egypt’s Economic Update — October 2021,” The World Bank, October 7, 2021,link ; International Labour Organization, “Labor force participation rate, total (% of total population ages 15+) (national estimate) – Egypt, Arab Rep.,” The World Bank, accessed September 7, 2021,  link

[7] “Labor force participation rate, total (% of total population ages 15+) (modeled ILO estimate),” The World Bank, accessed June 15, 2021, link

[8] The World Bank, “Egypt Inflation Rate 1960-2021,” Macrotrends, link ; Egypt Today Staff, “Egypt’s annual inflation records 8% during September, hikes 1.6% monthly,” Egypt Today, October 10, 2021, link

[9] Aaron O’Neill, “Emerging market and developing economies: Inflation rate from 2016 to 2026,” Statista, June 16, 2021, link

[10]. “Sisi says bread subsidies to be cut, ministers begin price studies,” Mada Masr, August 4, 2021, link

[11] Nadine Awadalla, “Egypt’s parliament approves 2021-2022 budget,” Reuters, June 14, 2021, link

[12] بيسان كساب, وهدير المهدوي, “متحدث «التعليم» ينفي التراجع عن ربط الكتب بدفع المصاريف | نقاش سريع حول خيارات «الدين الخارجي» في المستقبل القريب,” مدى مصر 17 أكتوبر 2021, https://bit.ly/30tdj5i; Beesan Kassab, “With no new hires, teacher shortfall widens in government schools,” Mada Masr, October 5, 2021, link

[13] “Levelling Up,” The Economist, November 13, 2021.

[14] Kassab and Mahdawi; and Robert Springborg, “Education Policy in Sisi’s Egypt,” in The Political Economy of Education in the Arab World, eds. Hicham Alaoui and Robert Springborg (Boulder: Lynne Rienner, 2021).

[15] Fitch Ratings, “Egypt’s Draft Budget Supportive for Debt Reduction.”

[16] Associated Press, “Egypt: A Third of Population Lives in Poverty,” VOA News, July 30, 2019, link

[17] Saifaddin Galal, “Number of people living below the national poverty line in Egypt from 2018 to 2021,” Statista, May 18, 2021,link ; Nistha Sinha, “Poverty & Equity Brief: Arab Republic of Egypt,” The World Bank, April 2020, link

[18] Mirette F. Mabrouk, “Egypt’s sizeable informal economy complicates its pandemic response,” Middle East Institute, June 22, 2020, link

[19] Mohamed Ahmed Abbas, “Informal Economy in Egypt: Problems and Solutions,” Egyptian Institute for Studies, April 2, 2019, link

[20] Doaa A. Moneim, “Moody’s maintains Egypt’s credit rating at B2 with stable outlook,” Ahram Online, July 31, 2021, link

[21] Aaron O’Neill, “Egypt: Budget balance between 2016 to 2026 in relation to GDP,” Statista, May 4, 2021, link

[22] “New bill proposes financialization of public utilities providers,” Mada Masr, May 20, 2021, link

[23] New bill proposes financialization,” Mada Masr.

[24] Creating Markets in Egypt: Realizing the full potential of a productive private sector, Country Private Sector Diagnostic, International Finance Corporation, December 2020; Yezid Sayigh, Retain, Restructure, or Divest? Policy Options for Egypt’s Military Economy (Beirut: Carnegie Endowment for International Peace, Malcolm Kerr Middle East Center, forthcoming).

[25] Heba Saleh, “Egypt seeks investors for military-run companies,” Financial Times, February 27, 2020, link

[26].  “Sisi calls to increase resources of Long Live Egypt Fund,” Egypt Independent, September 5, 2021, link

[27] Sayigh, Retain, Restructure, or Divest?

[28] “Egypt: Businessmen behind bars for resisting security agency demands,” Amnesty International, September 27, 2021, link

[29] “Egyptian authorities say they blocked Brotherhood financing scheme,” Reuters, September 30, 2021, link

[30] “2021 Index of Economic Freedom,” The Heritage Foundation, accessed December 9, 2021, https://www.heritage.org/index/ranking

[31] See, for example, “Working with the private sector,” USAID, June 29, 2021, https://www.usaid.gov/egypt/fact-sheets/working-private-sector; or “New Project to Support Egypt’s Inclusive and Sustainable Economic Growth,” The World Bank, October 28, 2021, link

[32].  The World Bank and OECD National Accounts, “Imports of goods and services (% of GDP) – Egypt, Arab Rep.,” The World Bank, accessed December 9, 2021, link

[33] The World Bank and OECD National Accounts, “Exports of goods and services (% of GDP) – Egypt, Arab Rep.,”

[34] O’Neill, “Egypt: Trade balance.”

[35] استعراض نتائج تقرير مؤشر مدراء المشتريات، وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية المصرية، سبتمبر 2021   الرابط

[36] Ishac Diwan, “Armed Forces in Power and in Business,” Carnegie Middle East Center, October 26, 2020, link; and Ishac Diwan, “Why are Armies in Power and in Business—Analytical Considerations: A Comment on Sayigh’s The Military Republic (unpublished manuscript, January 15, 2020).

[37] Jane Harman, “Why Egypt Is Too Big to Fail,” The Daily Beast, June 14, 2013, link

[38] “OECD Review of Foreign Direct Investment Statistics: EGYPT,” Organization for Economic Co-operation and Development (OECD), 2020, link

[39]  International Monetary Fund, World Bank, and OECD, “Foreign direct investment, net inflows (% of GDP) – Egypt, Arab Rep.,” The World Bank, link

[40] The World Bank, “Egypt: Bank credit to the private sector,” The Global Economy, link

[41] The World Bank, “Egypt External Debt 1970-2021,” Macrotrends, accessed December 9, 2021, link

[42] Aaron O’Neill, “Egypt: National debt from 2016 to 2026,” December 1, 2021, link

[43] “Egypt National Debt,” Country Economy, https://countryeconomy.com/national-debt/egypt

[44]  Central Bank of Egypt, “Egypt Government Debt to GDP,” Trading Economics, accessed December 9, 2021, link

[45] “Egypt Economic Outlook,” African Development Bank Group, 2021, link

[46] Patricia Jannack and Stephan Roll, “Political Prisoners in Sisi’s Egypt,” SWP Comment, 49 (September 2021).

[47] “Hazards Ahead: Three Threats to Growth in Emerging Markets,” The Economist, December 1, 2021, link

[48] “Foreign investment in Egypt’s domestic debt instruments jumps to $21B in October,” Egypt Today, October 25, 2020, link

[49] “New report: External debt increases during first year of COVID-19 pandemic, each Egyptian indebted by $900,” Egyptian Initiative for Personal Rights, October 4, 2021, link

[50] Mirette Magdy and Tarek El-Tablawy, “Egypt Sticks With World’s Highest Real Interest Rate,” Bloomberg, March 18, 2021, link

[51] International Monetary Fund, “Interest payments (% of revenue) – Egypt, Arab Rep.,” The World Bank, accessed December 9, 2021, link

[52] “Egypt not a transit point for illegal migrants eyeing Europe, Sisi to Visegrad leaders,” Ahram Online, October 12, 2021, link

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close