ستيفن والت الكبح لا يعني العزلة ولن يُعرّض أمريكا للخطر
ستيفن والت: الكبح لا يعني العزلة ولن يُعرّض أمريكا للخطر
أيُّ نمطٍ من السياسة الخارجية يريده الأمريكيون؟ هناك أمر واحد يبدو واضحا: إنّهم لا يريدون تلك التّي عايشوها في العقود الأخيرة، ومن بإمكانه إلقاء اللوم عليهم؟ لا أحد.
لقد عبّر الأمريكيون بشكلٍ متكرّر عن إحباطهم تجاه استراتيجية الهيمنة الليبرالية (liberal hegemony) المُغرِقة في الطموح والفشل أيضا في كثير من الأحيان، والتّي تمّ تبنّيها منذ نهاية الحرب الباردة. فبدلاً من جعل الولايات المتحدة أكثر أمناً وازدهارا، فقد حرّضت عملية الدفاع عن القيم الأمريكية والمحاولة المُضلِّلة لإعادة تشكيل العالم على الصورة الأمريكية منافساتٍ غير ذي حاجة إليها مع بعض الدول، كما جعلت من مشكلة الإرهاب أسوأ بكثير، وقادت إلى مستنقعات مكلفة ودول فاشلة، كما فشلت في تحقيق ازدهار 1% ما بين الدول الأكثر غنى.
نظراً لهذا السجّل المؤسف، فليس من المستغرب أن يكون نقّاد هذه المقاربة الواسعة أكثر عددا وصوتاً بشكل متزايد. تستمر الأصوات المنادية في التزايد من حيث التعداد، كما تستمر في جذب مزيد من الانتباه ممّا كانت عليه في الماضي. إنّ تأسيس مركز أبحاث جديد ميّال نحو تبنّي مقاربة الكبح (التقيّد وضبط النفس Restraint -) -أي معهد كونسي لفن الحكم المسؤول والذّي يضّم مؤيّدين على غرار كلّ من الثنائي جورج سوروس وتشارلز كوش- لهو أمرٌ يُؤشّر إلى أنّ الواقعية ومقاربة الكبح صارت أفكارا قد آن أوانها فعلا. (لعبتُ دوراً ثانويا في هذه المبادرة وأشتغل حاليا في إحدى اللجان الاستشارية للمعهد).
مع ذلك، ومثلما كان متوقّعا تماماً، فقد تسبّبت هذه التطوّرات في إحداث هزّة عنيفة من طرف النقّاد الذّين يؤمنون بأنّ على الولايات المتحدة أن تستثمر في متابعة نفس الاستراتيجية الكبرى بدرجة أكثر أو أقل، والتّي سعت نحوها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. لقد عبّر للتّو الأب الروحي للمحافظين الجدد بيل كريستول عن ازدراءه لمعهد كونسي بتغريدة على تويتر (ونظرا لنصيحة كريستول السابقة، يمكن النظر إلى هذا الأمر باعتباره مُؤشّرا على أنّ المعهد الجديد يسير في الطريق الصحيح)، وتشتمل قائمة النقّاد البارزين لمقاربة الكبح (المعروفة أيضا باستراتيجية التوزان خارج المجال (Offshore Balancing Strategy) على كلّ من فرانك هوفمان، جيمس هولمز، بيتر فيفر وهال براندز، بالإضافة إلى جيمس تروب الكاتب بمجلة السياسة الخارجية.
في النهاية، يبدو بأنّ الأمريكيين مُقبلون على نقاشٍ حقيقي بخصوص أيّ دور ينبغي أن تضطلع به الولايات المتحدة في العالم.
لقد أبديتُ آرائي الخاصّة بخصوص هذه القضايا باستفاضة كبيرة في مواضع أخرى. مقصدي هنا –في هذا المقال- مرتبط بالنقّاد والحجج التّي قُدِّمت من طرفهم ضدّ سياسة خارجية أكثر واقعية وكبحا مثلما أدعو. لا يمكنني إدّعاء الموضوعية، إلاّ أنّي أجد أنّ أغلب الحجج المضادة لهي حججٌ ضعيفة بشكلٍ مدهش.
الأسطورة الأولى: أصحاب مقاربة التوازن خارج المجال انعزاليون مَخفِيّون:
من أكثر التُهم شيوعاً التّي وُجّهت لدعاة مقاربة الكبح هي أنّهم إنعزاليون متفانون (Isolationists) يؤمنون بأنّ على الولايات المتحدة الانسحاب من العالم وتركيز الاهتمام على الدفاع عن أراضيها وحسب. فلأنّ النزعة الانعزالية مصطلح مُثقّل بالدلالات ارتبط دوما بأولئك الذّين سعوا إلى إبقاء الولايات المتحدة بعيدة عن الحرب العالمية الثانية، فقد ظلّت التهمة تحمل بعضا من الثقل السياسي. لكن، إذا نظرنا إلى الأمر كنقد جدّي، فهو نقدٌ لا أساس له.
تقريبا، فقد أوضح كلّ المؤيّدين لسياسة خارجية أكثر تقيّدا وكبحا بأنّهم يؤمنون بأنّ على الولايات المتحدة أن تظلّ منخرطة بشكل نشط مع الأمم الأخرى اقتصاديا ودبلوماسيا وحتّى عسكريا في بعض الحالات. الأمر الأكثر أهميّة من ذلك هو أنّ المنطق الاستراتيجي الذّي تقوم عليه مقاربة التوازن خارج المجال –والتّي تُركّز على إحداث توازن للقوى في أقاليمٍ استراتيجية حسّاسة- يشرح لماذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون مستعدّة للتدخّل في الخارج وفي ظروف مُحدّدةٍ تُعرَّفُ بدقّة.
على نحو خاصّ، لا يعتقد دعاة مقاربة التوازن خارج المجال بأنّ الولايات المتحدة قادرة دوما على البقاء “خارج المجال” وفي الوقت الذّي يُعتبر فيه تجنّب تحمّل التزامات عسكرية كبيرة في الأراضي الخارجية أمراً مُحبّذا في غالب الأحيان، فسوف تكون هناك لحظات يصير فيها الأمر ضروريا على الولايات المتحدة أن تتجّه “خارج مجالها”، غالبا للحيلولة دون صعود مهيمنٍ إقليمي ما بإمكانه أن يُهدّد أمن البلاد على المدى البعيد. لذلك، يؤمن دعاة مقاربة التوازن خارج المجال أنّه كان من الصواب بالنسبة للولايات المتحدة التدخّل في الحربين العالميتيْن الأولى والثانية، وقد أيّدوا سياسة الاحتواء (خصوصا التزام القوات الأمريكية في أوروبا وآسيا) أثناء الحرب الباردة.
اليوم، يُؤمن أغلب دعاة مقاربة الكبح أنّه ينبغي على الولايات المتحدة التواجد عسكريا في آسيا لمواجهة صعود الصين، وأنّ عليها أن تُحافظ على قدرة قائمة للتدخّل في مناطق أخرى تحتمل صعود مهيمن ما. لكن، ولأنّه من غير الممكن على بلد ما أن يُهيمن على أوروبا أو الشرق الأوسط اليوم، فإنّ هناك حاجة ضئيلة للولايات المتحدة لنشر قوات كبيرة في أحد الإقليميْن، وأنّه ينبغي عليها أن تترك القوى المحليّة القيام بالأعمال الثقيلة في هذه الأقاليم.
الأسطورة الثانية: تتطلّب مقاربة التوازن خارج المجال توقّع التهديدات على نحو تام:
يُوصي دعاة التوازن خارج المجال بترحيل المسؤولية إلى القوى المحليّة حينما يكون الأمر ممكنا، حتّى يتسنّى لهم الإلقاء بثقلهم وتبقى الولايات المتحدة بعيدةً عن المشكلات غير الضرورية. لكن، ماذا لو أنّ واشنطن أخطأت قراءة توازن القوة ولم تستجب بالسرعة الكافية؟ إذا ما حدث ذلك فمن الممكن أن تستيقظ الولايات المتحدة وتكتشف بأنّ الوقت قد صار متأخّرا على التدخّل أو أنّ القيام بذلك سيكون أكثر كلفة.
هناك شيء ضئيل من الحقيقة في هذه التهمة ما دام أنّ الاستراتيجية تعتمد على قياس ميزان القوة في الأقاليم الرئيسية وتصير أكثر انخراطا بشكل نشط حينما يبدأ المهيمن المحتمل في الصعود. إلاّ أنّ هناك عاملين إضافيين يجب إبقاءهما في عين الاعتبار.
أولاّ، من السهل جدّا ملاحظة المهيمنين المحتملين –كما يحدث اليوم مع الصين أو كما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق في الحرب العالمية الثانية- كما أنّ الموقع الجغرافي للولايات المتحدة في النصف الغربي من العالم يمنحها هامشا قليلا من الخطأ. الأمر الثاني والأكثر أهميّة، يجب أن يوزن خطر ردّ الفعل المنخفض في مقابل الخطر المقابل للالتزام المفرط. إذا لم يتمكّن دعاة التوزان خارج المجال بشكل مطلق من ضمان أنّ الولايات المتحدة سوف تستجيب بسرعة دائما، فإنّ دعاة الهيمنة الليبرالية أو غيرهم من دعاة النزعة العولمية النشطة لن يكون باستطاعتهم أن يؤكّدوا لنا بأنّ حماسهم الزائد لن يقود إلى حروب غير ضرورية، مستنقعات مكلفة وحالة متورّمة للأمن القومي.
يوضّح لنا تاريخ الربع الأخير من القرن الماضي أنّ الخطر المشار إليه قبل قليل حقيقي جدّا. فتحتَ حكم كلّ من الإدارات الديمقراطية والجمهورية وجدت الولايات المتحدة نفسها بشكل متكرّر مسحوبة لخوض حروب اختيار حاربت فيها لأجل قضايا أقل ارتباطا بمصالحها الحيوية. وبالكاد قاد أيٌّ منها إلى نتيجة ناجحة، كما كلّفت كلّ حرب منها أموالاً أكبر وزمنا أطول ممّا توقعّت واشنطن. لقد وعدت كلّ من الحملات الانتخابية السابقة للرؤساء الأمريكيين الأربعة بالقيام بمهام أقلّ في الخارج وأكثر داخل الديار، لكن انتهى كلّ منهم بالقيام بمهام أكثر في الأراضي البعيدة أكبر ممّا كان في نيّتهم فعل ذلك.
الأسطورة الثالثة: إذا ما تبنّت الولايات المتحدة مقاربة الكبح، فسوف يتّجه المنافسون إلى ملء الفراغ:
هناك شكوى أخرى متكرّرة تدّعي بأنّ خفض الالتزامات الأمريكية والحضور العسكري ما وراء البحار يُؤشّر إلى تراجع مخزي من شأنه أن يخلق فرصاً لخصوم الولايات المتحدة لزيادة نفوذهم العالمي الخاصّ. بإمكانكم رؤية هذا التحذير أثناء العمل، كلّ يوم يتلّقى الناس أوهاماً بخصوص النفوذ الروسي المفترض في سوريا أو إمكانية أن يؤدّي خفض التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط وأفريقيا إلى تمكين الصين من استبدال الولايات المتحدة هناك.
على غرار نظرية الدومينو أيام الحرب الباردة، فنادرا ما يتّم توضيح المنطق الدقيق الذّي سوف تحدث بموجبه هذه العملية، كما أنّ هناك أسبابا جيّدة لمساءلة مدى صلاحيته (باستثناء اعتباره تكتيك تخويف لا أكثر). بادئا ذي بدء، فإنّ بعض أجزاء العالم تتراوح ما بين أجزاء متواضعة أو منعدمة الأهمية الاستراتيجية (بالنسبة للولايات المتحدة)، لذا فلن يكون الأمر ذا أهمية إذا ما فازت دول أخرى بالنفوذ هناك أم لا. علاوة على ذلك، فإنّ مخاوف كهذه عادة ما تُبالِغُ بشكلٍ نمطي في وصف نفوذ الولايات المتحدة المفترض الذّي كان لها في الماضي بينما تُلّح على إمكانية ممارسة الآخرين لنفوذٍ مشابه في المستقبل. إذا لم تخبرنا السنوات السبعين الماضية أيّ شيء عن ذلك، فإنّها تخبرنا أنّه من الصعب على القوى البعيدة أن تمارس سيطرةً موثوقةً فعّالةً على النَزَعات القومية صعبة المراس التّي شكلّت العالم الحديث.
علاوة على ذلك وفي بعض الحالات، سوف يتّم تعزيز أمن الولايات المتحدة إذا ما خرجت من إحدى مستنقعاتها الحالية وتركت خصومها يأخذون دورهم هناك بدلا عنها. ترجع أحد أسباب فوز الولايات المتحدة في الحرب الباردة إلى أنّها تركت الاتحاد السوفيتي الأقل ازدهارا يستنزف موارده في أماكن على غرار أفغانستان وأنغولا. يشكّ المرء الآن بأنّ السياسيين الصينيين كانوا مسرورين بمشاهدة واشنطن وهي تهدر تريليونات من الدولارات في العراق، أفغانستان والحرب العالمية على الإرهاب.
الأسطورة الرابعة: لا يأبه دعاة مقاربة التوازن خارج المجال بالقيم:
يُحاجج البعض أنّه لو تصرّفت الولايات المتحدة في الماضي بتقيّدٍ وضبط نفسٍ أكبر، فقد كانت ستتخلّى عن المبادئ الليبرالية التّي أُسّست عليها البلاد. على سبيل المثال، في نقد أخيرٍ لكتابي “جحيم النوايا الحسنة” The Hell of Good Intentions)) إتّهمني كوري شايكي “بالإطاحة” بالقيم الأمريكية.
بالنسبة لشايكي وغيره من أصحاب النزعة اللبيرالية المؤسّساتية (liberal internationalists) فإنّه ينبغي أن تُستخدم القوة الأمريكية –بما فيها القوة العسكرية- لأجل نشر الديمقراطية، الدفاع عن حقوق الإنسان وجعل بقية العالم شبيها لنا في نهاية المطاف. أو مثلما أشار كريستول ولورانس كابلان أحد مُريدي المحافظين الجدد قبل بضعة سنوات: “حسناً، أين الخطأ في الهيمنة، أين الخطأ في خدمة المبادئ السليمة والمُثل العليا؟” يكمن الخطأ بالطبع في أنّ محاولة تحويل العالم على صورة الولايات المتحدة مسألة لا تعمل بشكلٍ جيّد.
وفقاً لمؤسّسة فريدوم هاوس، فقد كانت سنة 2018، هي السنة الثالثة عشر على التوالي التّي شهدت فيها الحرية العالمية تدهوراً، كما أنّ مؤشّر الديمقراطية السنوي لوحدة الإكينومست للمعلومات قام مؤخّرا بخفض تصنيف مستوى الديمقراطية في الولايات المتحدة من خانة ديمقراطية “كاملة” إلى خانة ديمقراطية “مَعيبة”. إنّ محاولة إعادة صنع العالم على الصورة الأمريكية مهمّة لم تنجح في الخارج، وبدلا من ذلك، فقد ساعدت على تقويض نفس هذه القيم هنا في الديار.
ووفقاً لاستراتيجية التوزان خارج المجال، فإنّ أفضل طريقة لتعزيز ونشر القيم الليبرالية تكون من خلال ضرب مثالٍ حسنٍ واستخدام قوة الولايات المتحدة، غناها وثروتها الحسنة لخلق مجتمع عادل ومزدهر ينال إعجاب الآخرين فيسعون إلى محاكاته على طرازهم الخاص. “لا يُطيح” دعاة مقاربة الكبح بالقيم، نحن نؤمن باستراتيجية مختلفة قادرة على ترويج هذه القيم بشكلٍ أكثر فعالية.
الأسطورة الخامسة: سوف تُشجّع مقاربة التوازن خارج المجال مسألة الانتشار النووي:
يقود الافتراض الشائع بأنّه إذا ما توقّفت الولايات المتحدة عن حماية العديد من البلدان الأجنبية، فسوف يتسابق بعض المستفيدين الحاليين نحو الحصول على أسلحة نووية. إنّه لقلقٌ مشروع ما دامت المضلّة الأمنية للولايات المتحدة (ومقدار معيّن من الضغط القسري) قد ساعدت في ثني العديد من حلفاء الولايات المتحدة عن السعي نحو خيارات نووية في الماضي. حيث من الممكن أن يؤدّي انسحاب الولايات المتحدة من بعض التزاماتها الحالية إلى يجعل بعض هذه الدول تسعى إلى تحقيق الأمن على شكل ردعٍ نووي ما.
إلاّ أنّ هذا الاحتمال لا يُعدُّ حجّة دامغة ضدّ مقاربة التوازن خارج المجال. لسبب واحد، فليس من المؤكّد أن يتجّه أيٌّ من هذه البلدان أو جميعها في النهاية إلى اختيار اجتياز العتبة النووية، حتى ولو قرّرت الولايات المتحدة سحب مظلّتها النووية. فقرار الحصول على أسلحة نووية قرار يخضع لحسابات مقعدّة، كما أنّ المخاوف السابقة بإمكانية الانتشار السريع لهذه الأسلحة اتضح بأنّها مخاوف مبالغ فيها.
علاوة على ذلك، فإنّ الممارسة غير المقيّدة للقوة الأمريكية لم تمنع بعض الدول من الحصول على أسلحة نووية في الماضي، في الحقيقة، فقد كانت في الغالب إحدى الأسباب الأساسية التّي حرّكت لأجلها كوريا الشمالية السماء والأرض حتّى تحصل على القنبلة، وسببا في اهتمام كلٍّ من العراق وليبيا للقيام بنفس الأمر، وسببا في مغازلة إيران للخيار النووي في السنوات الأخيرة.
باختصار، من المرجّح أن تحصل بعض من الدول في المستقبل على القنبلة النووية بغضّ النظر عن الاستراتيجية التّي تُتابعها الولايات المتحدة، الأمر الذّي يعني أنّ السياسة الخارجية الأمريكية ينبغي أن تُقرَّر على أسسٍ وخلفياتٍ أخرى.
الأسطورة السادسة: لا توجد حاجة لمقاربة الكبح في الوقت الذّي تُعدّ فيه مقاربة “الانخراط العميق” يسيرة التكلفة:
يُحاجج النقّاد أيضا بأنّ الولايات المتحدة قادرة بسهولة على متابعة وتحمّل استراتيجيتها الكبرى الطموحة المسمّاة بالهيمنة الليبرالية، غالبا عبر الإشارة إلى أنّ نفقات الأمن القومي اليوم تستهلك نسبة صغيرة من الدخل القومي الإجمالي للولايات المتحدة مقارنة بما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. بالنسبة لمعلّقين على غرار جون إكينبري، وليام وولفرث وستيفن بروكس، فإنّ سياسة “الانخراط العميق” (Deep Engagement) سياسة يسيرة التكلفة في مواجهة أيُّ نمطٍ من التطوّرات الدولية الوخيمة.
لكن ومثلما أوضحت جسيكا ماثيوس في تحليل جذّاب بخصوص الإنفاق المتورّم للأمن القومي، فإنّ هذه الحجّة تتجنّب أكثر الأسئلة أهميّة والتّي ينبغي أن تُحدّد أيّ مقدارٍ من الثروة القومية للبلاد ينبغي أن تُخصّص للأمن القومي. لا يوجد سبب منطقي يدعو بالضرورة إلى رفع الإنفاق الدفاعي بنفس معدّل نمو الاقتصاد تماماً. منطقياً، ينبغي على أيّ بلدٍ أن يُنفق أكثر حينما تتزايد التهديدات وينفق أقلّ حينما يصير العالم أكثر حميميةً، بصرف النظر عمّا إذا كان اقتصاده في حالة توسّع أم لا.
قد يكون الإنفاق الدفاعي ذا نسبة مئوية صغيرة من الدخل القومي الإجمالي، إلاّ أنّه يظلّ يقارب ما نسبته 60% من الإنفاق الفيدرالي التقديري. بإمكان الولايات المتحدة أن تنفق أكثر على الدفاع مقارنة بالدول الثماني التّي تليها مجتمِعةً، لكن هذا بالكاد يعني أنّ القيام بذلك يُعدّ أمرا حكيما. تُعتبر الموارد دوما محدودة (حتّى مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة واشنطن الفريدة على مواجهة عجز هائل)، كما أنّ كلّ دولار يُنفَق على سياسةٍ خارجيةٍ صلفةٍ هو دولار يمكن أن يُنفَق على البنية التحتية والتعليم الذّيْن يعتمد عليهما مستقبل الازدهار والقوة للبلاد.
الأسطورة السابعة: سوف تُحيي مقاربة التوازن خارج المجال شخصيات كهتلر، ستالين أو أسوء:
يدّعي نقّاد مقاربة الكبح بأنّ الانخراط الأمريكي العالمي يُعدُّ السبيل الوحيد للحيلولة دون عودة التنافسات الحادّة بين القوى الكبرى كما كانت في الماضي –لاسيما أهوال سنوات الثلاثينيات ومذبحة الحرب العالمية الثانية- لا يرى المرء ذلك فقط في الاحتجاج اللانهائي للمحافظين الجدد بخصوص ميونيخ، ولكن أيضا في ادعاءات كلّ من فيفر وبراند القائلة بأنّ الولايات المتحدة حاولت في الحقيقة إتّباع مقاربة التوازن خارج المجال في سنوات الثلاثينيات إلاّ أنّ النتيجة كانت حربا عالمية ثانية. لقد استخلصوا أنّه من الأفضل على الولايات المتحدة أن تنخرط غالبا في أيّ مكان يُحتمل فيه نشوب حرب ما، انطلاقا من افتراضٍ قائلٍ بأنّ الوجود الأمريكي لوحده سوف يكون كافيا للحيلولة دون ذلك.
إذا وضعنا جانبا مسألة ما إذا كان أيُّ رئيس أمريكي قادرا على إقناع الأمريكيين للمحافظة على مئات الآلاف من القوات في أوروبا خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات (أو أنّ أيّ بلدٍ أوروبي كان سيرحّب بهم على أراضيه على أسس دائمة)، فإنّ هذا الادعاء يبقى قائما على افتراض أنّ مجرّد تمركز القوات الأمريكية هناك كان سيحول دون حدوث الحرب العالمية الثانية. إلاّ أنّ إرساء القوات الأمريكية في مكان ما من أوروبا لم يكن ليزيح رغبة هتلر الجامحة للمجال الحيوي، المخاوف المغرقة في الشكّ والارتياب لجوزيف ستالين، ذرائع بينيتو موسوليني الإمبريالية، أو يزيح المنافسات منخفضة المستوى والنَزَعات الانتقامية في أماكن أخرى من أوروبا. الحقيقة القاسية هي أنّ تسوية فرساي كانت قد تركت مواداً وفيرةً قابلةً للاشتعال عبر أوروبا، وأنّ نشر قوات أمريكية كبيرة هناك في أقرب وقت كان من المرجّح أن يضمن بقاء الأمريكيين في حالة قتالٍ وموت منذ سبتمبر 1939 بدلاً من ديسمبر 1941، بعد أن تكون الولايات المتحدة قد فشلت في منع الحرب.
تُشير الأحداث الأكثر قُربا أيضا إلى أنّ وجود قوات أمريكية في إقليم ما لا يضمن تحقيق السلام. لو حدث ذلك، لما حدثت حروبٌ في كوريا، فيتنام، الشرق الأوسط، جنوب آسيا، أو البلقان في العقود الأخيرة، من دون الإشارة إلى حروب عديدة شنتّها الولايات المتحدة من تلقاء نفسها.
إنّ الحقيقة المأساوية هي أنّ النِزاعات والحروب مسألةٌ ممكنةٌ دوما، بغضّ النظر عن الكيفية التّي تختار بها الولايات المتحدة نشر قواتّها العسكرية أو استخدامها. إنّ إلزام القوات الأمريكية بالقتال في الأراضي البعيدة يؤدّي إلى الاستقرار أحيانا وأحيانا لا. لذلك، يكمن التحدّي في تحديد وتعريف المصالح الحيوية التّي ينبغي أن يُرسل إليها الأمريكيون في طريق الأذى، وتجنّب تحمّل التزامات ليست حيوية أو تتجاوز تكاليفها الفوائد المرجوّة منها. هذا بالضبط ما تسعى استراتيجية التوازن خارج المجال إلى القيام به.
إنّ سياسة خارجية أكثر تقيّدا وكبحاً سوف لن تضمن السلام أو الازدهار أو تُجنّب صنّاع السياسة الأمريكية الحاجة إلى اتخاذ خيارات صعبة، إلاّ أنّها سوف تُجنِّب الوقوع في الأخطاء التّي قوضّت المكانة العالمية للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة وتُحرِّر الموارد الضرورية للاستثمار بعيد الأمد في مستقبل الأمة.
إنّ النقاش المتنامي حول هذه المسائل لهو تطوّر صحّي طال انتظاره، حتّى وإن كانت بعض الحجج المُقدَّمَة من طرف نقّاد مقاربة الكبح لا تصمد أمام الفحص الدقيق. أمّا إذا ما أرادوا إقناع الأمريكيين بمواصلة التضحية بأرواح الجنود وبعثرة أموال جيّدة بعد أخرى، فإنّهم بحاجة إلى التوصّل إلى مقاربة أحسن.
لقراءة المقال بلغته الأصلية:
Stephen Walt Restraint Isn’t Isolationism—and It Won’t Endanger America, Foreign Policy, 22 July 2019. link
ملاحظة:
لأجل الاطلاع أكثر على استراتيجية التوازن خارج المجال بإمكانكم مطالعة دراسة مطوّلة مشتركة لكلّ من ستيفن والت وجون ميرشايمر مترجمة إلى العربية من هنا
ستيفن والت وجون ميرشايمر، التوازن
خارج المجال: استراتيجية التفوّق الأمريكية الكبرى، ترجمة جلال خشيب، مركز إدراك
للدراسات والاستشارات، 10 مارس 2017 [1]
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.