fbpx
الشرق الأوسطدراسات

سيكولوجيا المحارب الإسرائيلي: (2) هكذا يستعدون

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

سيكولوجيا المحارب الإسرائيلي: (2) هكذا يستعدون إسرائيل اليهود اليهودي

إن حجز الزاوية في الفكر الصهيوني، هو فكرة امتداد التاريخ اليهودي إلى زمن موغل في القدم، هذا ما أشار إليه “بنتوفيتش” في كتابه “فلسطين” بقوله: “إن عراقة الصهيونية إنما ترجع إلى زمان هدم الهيكل، ووقوع الشعب اليهودي في أسر نبوخذ نصر”، وهو أيضاً ما أشار إليه “بن غوريون” في مذكراته حين قال: “منذ آلاف السنين ورغبة اليهود في العودة إلى إسرائيل لا تموت”.

يقوم الفكر الصهيوني في جوهره إذن على مسلمة رئيسية مؤداها أن اليهود كيان واحد متجانس ممتد في الزمان وفي المكان، وأن ثمة فعلاً ما يسمى بالمشكلة اليهودية التي تتمثل في تشتيت اليهود واضطهادهم، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو عودة اليهود إلى أرض الميعاد، أي إلى فلسطين.

لكن ما تجب الإشارة إليه هو أن التسليم بهذه المسلمة الصهيونية، يترتب عليه التسليم مباشرة وبشكل حتمي بعدد من القضايا الفرعية، أولاها، أنه رغم تسليمنا بأن البشرية شهدت عبر تاريخها الطويل كَماًّ هائلاً من التغيرات، إلا أن اليهود من دون باقي البشر، قد حافظوا تماماً على مقدرتهم على تجاوز قانون التطور وتخطيه وعدم الخضوع لسطوته عبر آلاف السنين، وبالتالي فإن يهود اليوم هم امتداد حضاري مباشر وغير منفصل لليهود القدامى – أي ليهود التوراة – أي وبكلمة أخرى، إنهم عبارة عن كيان حضاري ممتد زماناً، لم يتأثر جوهره حتى الآن بما طرأ على العالم المحيط به من تغيرات.

أما القضية الثانية التي علينا التسليم بها جراء ذلك، فهي أن هناك ثمة ما يربط دائما بين اليهود جميعا في شتى أنحاء العالم، مهما تباينت الظروف المحيطة بهم، قد تكون هي الديانة اليهودية، وقد تكون هي التعرض للاضطهاد.

الفصل الخامس: هل هناك شخصية يهودية إسرائيلية ذات تكوين سيكولوجي مُوَحَّد؟!

ولكن هل يُعَدُّ الإسرائيليون الذين أنجبتهم الصهيونية اليهودية حقا، امتدادا ماديا أو سيكولوجيا لليهود الذين حدثتنا عنهم الكتب السماوية؟!

لو كانت الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، لكان علينا أن نستمد مادتنا حولهم من الكتب القديمة التي تعرضت لنشأة اليهودية أو التي صاحبت تلك النشأة، كالتوراة والتلمود. أما إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن علينا حينئذ أن نتصدى للبحث من جديد عن نقطة بداية لمعلوماتنا ولتحليلاتنا. وبما أن الإجابة هي قطعا بالنفي، فإننا سنلجأ إلى العقل وإلى العلم للتحقق والتثبت من دعاوى الحركة الصهيونية تلك.

تتناقض الصهيونية تناقضا تاما وصريحا ومنذ البداية، مع الحقيقة القائلة بأن الفكر هو وليد الواقع الاجتماعي بالدرجة الأولى، وقبل أن يكون هذا الواقع وليد ذلك الفكر بشكل من الأشكال. وذلك بسبب انطلاقها من مسلمة مضمونها أن الصهيونية كفكرة – خلافا لكل الأفكار – هي القوة الخالقة لذلك الواقع الذي يجسده التجمع الإسرائيلي على أرض فلسطين، دون الأخذ في الاعتبار أنها قبل أن تكون خالقة لذلك الواقع، كانت مخلوقة لواقع اجتماعي شهدته الساحة الأوربية عامة والساحة اليهودية منها خاصة، لتكون وليدة واقع اجتماعي كوَّنها وخلَّقها كفكرة اتخذت هذا الاتجاه، قبل أن تلد هي وتخلق واقعا اجتماعيا جديدا تمثل في الكيان المسمى “إسرائيل”.

كما أن الصهيونية من جانب آخر ترفض مبدأ التناقض أو ما يسمى في الأدبيات العلمية الديالكتيكية، مبدأ وحدة الأضداد كسبب للتطور والتغير. فهي لا تقبل مطلقا بإمكانية أن تكون ثَمَّة تناقضات أساسية وفعالة بين اليهود أنفسهم، كأن يظهر أي تنافر بين أي يهودي وبين الصهيونية!! كل يهودي – في نظر الصهيونية – يجب أن يكون صهيونيا، وكل صهيوني هو بالقطع يهودي. كما أن كل يهودي إسرائيلي وكل إسرائيلي يهودي، بل وكل إسرائيلي صهيوني وكل صهيوني إسرائيلي.. ولكن هل هذا صحيح؟!

دلت النتائج النهائية للإحصاء الذي أجرته اللجنة التحضيرية للمؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين، على أن مجموع الذين تم تسجيلهم في عضوية المنظمة الصهيونية العالمية قد بلغ حوالي 900 ألف عضو، في حين بلغ عدد اليهود في البلدان التي شملها الإحصاء المذكور في نفس السنة، حوالي ثمانية ملايين ونصف المليون يهودي. إلا أن الأمر لم يقف عند حد اللامبالاة التي يتصف بها اليهودي في الانتماء للحركة الصهيونية، بل إن هناك نوعا جَدِّياًّ وعميقا من المعاداة اليهودية للصهيونية، بدأت مع ظهور الحركة الصهيونية نفسها.

ففي البيان الذي صدر عن هيئة الحاخامات الألمان احتجاجا على دعوة هرتزل لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في أواخر القرن التاسع عشر، تم التأكيد على أن الدعوة إلى عقد مؤتمر صهيوني وإذاعة جدول أعمال هذا المؤتمر، أدت إلى بث تصورات خاطئة ومضللة عن مضمون التعاليم اليهودية، وعن الأماني والتطلعات التي تجيش في عقول ونفوس معتنقي هذه الديانة.

هذا، وقد وجدت هيئة الحاخامات الموقعة على البيان المذكور نفسها مضطرة إلى التأكيد على أن مساعي الذين يسمون أنفسهم بالصهيونيين، وهي المساعي الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية السكان في فلسطين، تتنافى بالكامل مع العقائد المتعلقة بانتظار مجيء المسيح المخلص في الديانة اليهودية، كما نصت عليها العقائد والتعاليم في الكتاب المقدس وفي المصادر المتأخرة للديانة اليهودية. لا بل قد أوضحت الهيئة الموقعة على البيان وبما لا يدع مجالا للشك، أن اليهودية تلزم معتنقيها بالعمل في خدمة الوطن الذي ينتمون إليه بكل إخلاص وتفان، وبالدفاع عنه وعن مصالحه القومية من صميم القلب وبجميع الطاقات والإمكانات. ويُختتم البيان بالدعوة إلى الابتعاد عن المحاولات والمساعي الصهيونية الواردة أعلاه، وعلى وجه الخصوص الابتعاد كليا عن المؤتمر الصهيوني الذي يصر الصهاينة على عقده رغم كل التحذيرات والتنبيهات التي أطلقت ضد الفكرة والدعوة.

وإذا لم يكن كل يهودي صهيونيا فليس كل يهودي إسرائيليا أيضا!!

فقد أوضحت البيانات الإحصائية خلال عقد السبعينيات أن يهود العالم بلغوا حوالي 13 مليون شخص، فيما لا يضم التجمع الإسرائيلي بحسب آخر الإحصائيات إلا 5 ملايين يهودي فقط، أي حوالي 35% من يهود العالم ليس إلا. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل هو يتجاوزه إلى حقيقة ذات دلالة هامة في توضيح أهداف الحركة الصهيونية.

إذ ليس كل صهيوني أسرائيليا!!

فمن بين 13 مليون يهودي منتشرين في مختلف أصقاع الأرض، يوجد 100 ألف صهيوني عامل خارج إسرائيل. فالتجمع الإسرائيلي إذن لا يضم كل صهاينة العالم. إذ أن ثمة صهاينة متعصبون لصهيونيتهم كأشد ما يكون التعصب، ومع ذلك فإنهم يمانعون في الهجرة إلى إسرائيل كأشد ما تكون الممانعة، في وضع غير مقبول ولا منطقي وعصي على التفسير المتوازن إلا بافتراض التشكيك في صهيونيتهم، أو على الأقل في الجانب اليهودي منها، ووصمهم بالتالي بتبني الجانب الاستعماري الإمبريالي الغربي من جوهر الدعوة الصهيونية!؟

فإذا كان عماد الفكرة الصهيونية هو الهجرة إلى فلسطين، وهو ما تحرص عليه إسرائيل باستمرار عبر استقدامها من تستطيع استقدامه من يهود العالم إليها. فكيف يكون صهيونيا ذلك الذي يصنف نفسه خارج إطار دائرة وجوب الهجرة إلى فلسطين!؟

إن هذا الأمر يؤكد أن الصهيونية هي تيار فكري سياسي، وما دام الفكر أيّاً كان نوعه، ومهما كان تقديرنا لتأثيره، لا يعدو أن يكون نتاجاً للظروف الاجتماعية المادية، فإنه لا يحدد وحده سلوك الإنسان وبالتالي سلوك أفراد المجتمع. وإذن فإن الفكر الصهيوني ورغم شراسة الدعاية له، لم يكن قادرا على إقناع أتباعه مهما غالوا في تعصبهم له، بالهجرة من بلاد الرخاء إلى المجتمع الإسرائيلي.

إن ثمة حادثة مثيرة وقعت خلال المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين الذي انعقد في مدينة القدس في يناير من عام 1972 تكشف بمنتهى الوضوح عن التناقض المريب الذي يتغلغل في أعماق بنية الحركة الصهيونية. فقد تقدم “بجيئيل ليكيط”، زعيم شباب حزب العمل الإسرائيلي باقتراحِ فَرْضِ واجب الهجرة إلى إسرائيل على كل صهيوني في العالم، وفي الطليعة الزعماء الصهاينة، ليكونوا قدوة حية للشباب اليهودي، مقترحاً عقوباتٍ على أي زعيم صهيوني لا يهاجر إلى إسرائيل خلال أربع سنوات من انتخابه، وذلك بعدم انتخابه مرةً أخرى لأي منصبٍ صهيوني. فما الذي حدث؟!

لقد أثار هذا الاقتراح الذي باركته الأوساط الصهيونية في إسرائيل ردة فعل عنيفة لدى ممثلي المنظمات الصهيونية التي تعمل في الخارج، وخاصة منها الأمريكية الممثلة في المؤتمر. حتى أن رئيسة منظمة “هداسا” النسائية، وهي إحدى المنظمات الصهيونية الرئيسية في الولايات المتحدة، قد أعلنت أن منظمتها قد تضطر إلى الانسحاب من المؤتمر إذا ما جرت محاولة لوضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ العملي.

وإذا لم يكن كل الصهاينة إسرائيليون برفضهم الهجرة إلى التجمع الإسرائيلي، فليس كل الإسرائيليين صهاينةٌ أيضاً!!

فهناك من يحمل الجنسية الإسرائيلية ويختلف مع الفكر الصهيوني من منطلقات متباينة وبدرجات متفاوتة. فجماعة “ناطولي كارتا” وهي جماعة صغيرة الحجم من يهود فلسطين الذين ظلوا فيها منذ الزمن القديم، ترفض الصهيونية وفكرتها ودعوتها من منطلقٍ ديني، ولا تعترف بالتالي بالثمرة الصهيونية التي هي دولة إسرائيل، وتعتبرها ثمرة الغطرسة الآثمة، لأنها قامت على أيدي نفرٍ من الكافرين الذين حرفوا مشيئة الرب بعملهم، وتدخلوا بالتالي في صنعه بدل الانتظار لما وعد به.

وهناك جماعة “الماتزين”، التي تُعْتَبَر تنظيما سياسيا إسرائيليا معاديا للصهيونية، تكوّن في أوائل الستينيات. ويرى هذا التنظيم أن التجمع الإسرائيلي الاستيطاني قد أقامه الإستعمار وما زال يدعمه عسكرياً ومادياً لضرب حركات التحرر الوطني في المنطقة وفي العالم.. ولا ننسى حزبي “ماكي” و”راكاح” وغيرهما من القوى الصغيرة التي لا تؤمن بالصهيونية بل تعاديها.

وإذا تجاوزنا علاقة اليهود بالصهيونية لنعكف على معرفة علاقة غير اليهود بهذه الحركة، فإننا نكون بصدد وضع أيدينا على بيت القصيد في منظومة المصالح الاستعمارية في العالم وفي المنطقة العربية. فالأصولية المسيحية ممثلة في البروتستانتية المتطرفة بالدرجة الأولى، والاحتكارات الرأسمالية الدولية وشبكتها الأخطبوطية في العالم، والمُجَمَّع الصناعي الحربي في الغرب وكارتلات الصناعات الكبرى، ومجموعة المحافظين الجدد الذين يقفون على رأس المؤسسة الغربية التي تقود هذه الشبكات الاقتصادية وتشرف عليها. هؤلاء جميعاً هم في حقيقة الأمر الصهاينة الحقيقيون الذين أسس أسلافهم الفكر المسيحي المساند للصهيونية والذين يتبعون خطى هؤلاء الأسلاف بمنتهى الإخلاص، والذين يرعون الصهيونية اليهودية، الواجهة الأمامية والقاعدة المتقدمة لكل نشاطاتهم وأجنداتهم على ظهر هذا الكوكب.

خلاصة القول إذن؛ أن الصهيونية تيار فكري سياسي اقتصادي عالمي، غربي الروح، إمبريالي الجوهر، يهودي المظهر، استيطاني الشكل، عنصري السِّمَة. وهو بهذا المعنى يسري عليه ما يسري على غيره من التيارات الشبيهة، وأما الإسرائيلية فهي جنسية يسري عليها ما يسري على سواها من الجنسيات والتابعيات، وأما اليهودية فدين ودين فقط.

وبناء على ما سبق، فإننا كي نفهم جيداً حقيقة التجمع الإسرائيلي وحقيقة صيرورته وحقيقة بنائه وطبيعة ارتباطاته، يجب أن نفهم أولاً وقبل كل شيء التناقض الرئيسي فيه، هل هو التناقض بين أحزابه السياسية المختلفة؟! أم هو التناقض بين شبابه وشيوخه؟! هل هو التناقض بين أغنيائه وفقرائه؟! أم هو ذلك التناقض المتأصل بين أتباع الأصول الحضارية المتباينة الذين يضمهم؟! أم لعله غير ذلك كله؟!

لقد كانت هناك تناقضات هامة بين المهاجرين الشرقيين (السفارديم) والمهاجرين الغربيين (الأشكنازيم). فبالنسبة للعديد من اليهود الشرقيين كانت حياتهم الجديدة في إسرائيل تمثل إنجازاً واقعياً لتراثهم الديني اليهودي، لكن بالنسبة لمعظم اليهود الغربيين فقد كانت الحالة الإسرائيلية تمثل نبذاً لماضيهم اليهودي الذي بسببه عاشوا حياة الذل في الجيتو الأوربي.. أليس هذا تناقضاً خطيراً يرجع إلى التباين في الأصول الحضارية لكل من اليهودي الشرقي واليهودي الغربي؟!

تثبت الأرقام والإحصائيات أن الإلحاد ينتشر بشكل مثير وملفت وسط “الأشكنازيم”.. لماذا؟!

لأن اليهودية الأرثوذوكسية، أي المتشددة أو المتطرفة، توحي للأشكنازيم بصورة يهودي روسيا البائس الذي كان يعاني من الكبت والقمع، وهي الصورة التي يود يهود أوروبا نسيانها بأي شكل، ولكن هؤلاء اليهود الأشكنازيم الذين يرون في ماضيهم اليهودي عاراً وخزياً يجب محوه من الذاكرة والقضاء على روابطهم به شكلاً ومضموناً، لا يستطيعون فعل ذلك بالتحول إلى الديانة المسيحية أو الديانة الإسلامية، وإلا ترتب على ذلك عدم احتوائهم في إسرائيل حيث تُمارس التفرقة الدينية على أشد صورها، فليس – والأمر كذلك – من سبيل أمام هؤلاء الأشكنازيم الذين يريدون شطب أسمائهم من قائمة الماضي البغيض، إلا أن يتحولوا للإلحاد ورفض الحل الأرثوذوكسي للعلاقة مع التراث اليهودي الذي يتبناه أكثر اليهود السفارديم. فبإلحاد الاشكنازي يمكن بقاؤه إسرائيلياً، بل ويمكن قبول وصفه بأنه يهودي ملحد، خاصة بعد أن أصبح اليهودي يتعامل مع يهوديته كقومية وليس كديانة، لكن من المستحيل تَفَهُّم صيغة يهودي مسيحي، لأنها صيغة عديمة المعنى.

إن ما يكرهه الأشكنازيم في السفارديم، هو أنهم يذكرونهم من خلال حفاظهم المفرط على التقاليد الدينية المتوارثة بالأحوال الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في الجيتو اليهودي، إن الرغبة العارمة والحقيقية لدى غالبية الأشكنازيم في نسيان ماضيهم والتخلص منه، هي التي أدت إلى التحول الخطير عن تقاليدهم الأصلية وثقافتهم القديمة، وتكاد تتفق معظم التحليلات السيكولوجية التي كُتِبَت جميعها بأقلام يهودية، على أن الأشكنازيم لا يزالون عن وعي أو عن غير وعي منهم يخجلون من ماضيهم.

ولكي يقنعوا أنفسهم بأنهم أصبحوا الآن من الجنس الأبيض، تسيطر عليهم رغبة تصل إلى حد الحاجة الملحة لإبداء الازدراء للعناصر اليهودية التي تشبه معتقداتها وعاداتها، معتقدات وعادات أسلافهم في الجيتو الأوربي. ومن هنا فإنهم يشعرون بنزعة قاهرة للاستخفاف باليهود السفارديم والعرب على حد سواء للاطمئنان إلى أنهم يوسعون الهوة بينهم وبين ماضيهم المخجل الذي يرونه في هؤلاء السفارديم.

إن الأشكناز كي يعمقوا من هذا الإحساس بالابتعاد عن ماضيهم، فإنهم لا يجدون أمامهم سوى السفارديم مرآة تعكس لهم هذا الابتعاد، وكلما زاد احتقارهم للسفارديم واستخفافهم بهم كلما أشبعوا غرورهم. ولعله لهذا السبب راح الأشكنازيم يصرون على النظر إلى السفارديم باعتبارهم إسفين الحضارة العربية البغيضة والمتخلفة التي تذكرهم بماضيهم الأسود، والمزروع داخل المجتمع الإسرائيلي. فهم – في نظر الأشكنازيم – سيكونون أكثر الفئات الإسرائيلية قدرة على فهم العرب والتعايش معهم، فالسفاردي يتحدث العربية مثل العربي، ويمارس الكثير من العادات مثله، وهو في العادة يشبهه، لأنه في الأساس عربي.

ولهذا السبب فإن الاشكنازيم وتجنباً لحدوث مثل هذا التحول في موقف السفارديم تجاه البلاد العربية، يسعون دائماً إلى تأجيج مبررات العداء النفسي في قلوبهم تجاه العرب، كما أنهم يسعون إلى القيام بإجراءات كثيرة للحيلولة دون اختلال موازين القوى داخل إسرائيل لصالح السفارديم، ومن هنا فقد أصبح من الشائع والمعروف أن السلوك السفاردي يُجَسِّد الحقد العميق ضد العرب، وأن السفارديم هم أكثر من كافة الإسرائيليين الأخرين شوفينية وتزمتاً وحباً للحرب ضد العرب وتجسيداً للروح العدوانية الإسرائيلية، وأشدهم مساندة لمبدأ ضم الأراضي العربية المحتلة.

إن السفارديم يشكلون حالياً ما يزيد على (60%) من يهود إسرائيل رغم أنهم لا يمثلون على مستوى العالم سوى (10%) من إجمالي اليهود. بينما يمثل الأشكنازيم (40%) من يهود إسرائيل في حين أنهم يشكلون (90%) من يهود العالم. وتثير هذه الأرقام معضلة تثبت عمق التناقضات في المجتمع الإسرائيلي. فالأصل الحضاري الذي يضم تحت لوائه النسبة الأقل من يهود العالم يمثل أتباعه اليهود غالبية سكان إسرائيل، والعكس بالعكس، فالأصل الحضاري الذي يضم تحت لوائه النسبة الأكبر من يهود العالم، يمثل أتباعه الأقلية في التجمع الإسرائيلي. لا بل إن المعضلة لا تقف عند هذا الحد، وتتجاوزها إلى ما هو أخطر في دلالته. فالحالوتس الذي نشأ وتكون في أوروبا على أنقاض الجيتو، خالقاً إسرائيل التي أرادها نموذجاً ينسيه ماضيه المذل ويقطع صلاته بتراثه القميء الذي يذكره بهذا الماضي. الحالوتس هذا غدا الآن يشكل أقلية في هذا التجمع، فيما النمط اليهودي الذي هرب منه ابن الحالوتس إلى إسرائيل طغى عليه، وأصبح يكون الآن في إسرائيل النموذج والنسبة الأكبر.. أليست هذه الظاهرة تعبيراً عن أشد حالات التناقض غرابة وخطورة على هذا الكيان وعلى البنية السيكولوجية لأبنائه وعلى طبيعة العلاقات القائمة والتي ستقوم بين طرفي المعادلة الحاكمة لهذا التجمع، الأشكنازيم والسفارديم؟!

ولكن هل من الممكن حل التناقضات الحضارية العميقة القائمة بين السفارديم والأشكنازيم لخلق تكوين سيكولوجي موحد لدى أبناء التجمع الإسرائيلي كافة؟!

بادئ ذي بدء علينا أن نسلم من منطلق علمي بأن عادات وتقاليد وقيم اليهود من أبناء مصر مثلاً هي أقرب بالتأكيد إلى الطباع المصرية المسيحية والإسلامية مهما اختلفت عنها، إذا ما قورنت بعادات وتقاليد اليهود من أبناء بولندا مثلاً، مهما كانت نقاط التشابه بينهم. إن اليهودي الألماني أقرب إلى المسيحي الألماني منه إلى اليهودي من أبناء جنوب إفريقيا. لقد عاش اليهود ظروفاً متباينة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبقدر تباين هذه الظروف كان لا بد من أن تتباين أفكارهم وتكويناتهم الاجتماعية وخصائصهم النفسية.

إن الفهم العلمي للعلاقة المتبادلة تأثراً وتأثيراً، بين البناء التحتي والبناء الفوقي في المجتمع، يبين لنا أن التغيرات التي تطرأ على البناء الفوقي تنمو وتتحرك بمعدلات أبطأ كثيراً من نظيرتها التي تطرأ على البناء التحتي، وبالتالي فإنه بعد أن يتم تغير الظروف الموضوعية، تبقى الأبنية الفوقية متمثلة في الفكر والتكوينات الذهنية والنفسية محتفظة بخصائصها لفترة طويلة.

ولو حاولنا تطبيق ذلك في مجال سيكولوجية الجماعات، لاتضح لنا أن ثمة قناة تربط بين البناء التحتي – أي الظروف المادية العامة – والبناء الفوقي- أي شخصية الجماعة وشخصية الفرد داخل الجماعة – إن هذه القناة تتمثل أساساً في عملية التنشئة الاجتماعية، ثم فيما يرتبط بها من عمليات الاتصال المختلفة.

وذلك يعني أن تغير الظروف المادية المحيطة بتجمع بشري معين لا يمكنه أن يؤدي بشكل فوري إلى تغير في التكوين السيكولوجي لأفراد هذا المجتمع، بل إن الأمر يتطلب أن يبلغ تغير تلك الظروف الحالية الحدَّ الذي تتغير عنده أساليب التنشئة الاجتماعية السائدة.

ولذلك فإن السؤال الخاطئ التالي: “ألا يعيش يهود إسرائيل اليوم في ظل ظروف مادية مشتركة؟! أو لا يعني ذلك بالتالي أن تكوينهم الفكري والسيكولوجي قد أصبح موحداً؟!” يجب أن يعدل ليطرح على النحو التالي: “هل توحدت بالفعل أساليب التنشئة الاجتماعية التي تُمارس في التجمع الإسرائيلي كي نتحدث عن تكوين سيكولوجي موحد في إسرائيل؟!”

هل يمكن التحدث إذن عن شخصية إسرائيلية واحدة في إطار هذا التباين والتنوع في الأصول الحضارية والثقافية لسكان إسرائيل الذين وفدوا إليها من أكثر من مائة دولة، وفي إطار التباين والاختلاف في أساليب التنشئة الاجتماعية بين كل من الأشكنازيم والسفارديم وعلى مستوى عميق من جهة أولى، وبين مختلف المنابت العرقية السفاردية أو المنابت العرقية الأشكنازية، وإن يكن على مستوى أقل عمقاً من جهة ثانية؟!

إن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي قطعاً، فمن غير الممكن التحدث عن شخصية يهودية إسرائيلية واحدة. بل يمكننا الحديث عن شخصية يهودية سفاردية عامة تتضمن داخلها قدراً هائلاً من التقسيمات التكوينية للشخصية اليهودية وفقاً للبلدان الأصلية التي ينتسب إليها هؤلاء السفارديم (العراق- اليمن – مصر – المغرب – الهند – جنوب إفريقيا – إثيوبيا.. الخ). كما يمكننا الحديث عن شخصية يهودية أشكنازية تمثل يهود وسط وشرق أوروبا وهم منشئو الحركة الصهيونية ومؤسسو دولة إسرائيل والقائمون على حكمها منذ إنشائها حتى الآن – وإن كنا داخل البوتقة الأشكنازية سنعود لنتوه في خِضم قدر هائل من التقسيمات التكوينية للشخصية اليهودية وفقاً للبلدان الأصلية التي ينتسب إليها الأشكنازيم (بولندا – روسيا – المجر – تشيكوسلوفاكيا – رومانيا.. الخ).

 ومن جديد يلح علينا السؤال التالي: “مَنْ مِنْ هذه الأنماط السكانية في إسرائيل يعتبر أكثر تجسيداً للشخصية اليهودية الإسرائيلية وتعبيراً عنها في داخل هذا النسيج الفسيفسائي للتجمع الإسرائيلي؟!

إن الشخصية القومية أو التكوين السيكولوجي للجماعة، إنما هي جميعها أبنية فوقية لابد لها من بناء تحتي ترتكز إليه، يفرزها وتتفاعل معه، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تكون ثَمة وحدة سيكولوجية بين أفراد جماعة بشرية معينة، إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة. وانطلاقاً من هذا الفهم يتكشف زيف الادعاء بوجود ما يسمى بالسيكولوجية اليهودية الموحدة، أو بالسلوك اليهودي الموحد، أو بالقومية اليهودية، وما إلى ذلك من تعبيرات يشيع ترديدها في كُتب الصهاينة.

إننا لا نسلم بوجود واقع تاريخي مادي متصل منذ نشأة الديانة اليهودية حتى اليوم، يجمع بين اليهود السوفييت واليهود العرب، أو بين يهود اليمن ويهود ألمانيا مثلاً. وبناء على ما سبق فإننا نستطيع التأكيد على أن هناك سيكولوجيتين أساسيتين على الأقل يمكن أن يندرج تحتهما سكان إسرائيل.

1 – واحدة تضم أولئك اليهود الذين ينتمون لأصول سفاردية بصرف النظر عما إذا كانوا ولدوا بالفعل على أرض فلسطين أو هاجروا إليها مؤخراً.

2 – الثانية، وتضم أولئك اليهود الذين ينتمون لأصول أشكنازية دون النظر أيضاً إلى مكان الولادة الفعلي.

إن إغفالنا لمسألة مكان المولد، قد انبنى على تسليمنا بأن قضية التكوين السيكولوجي هي في الأساس قضية تاريخ وليست قضية جغرافية، ولكي تتمكن الجغرافيا من أن تشكل أساساً للتكوين السيكولوجي يجب أن تتحول إلى تاريخ. أي وبكلمة أخرى، فإن التجمع الإسرائيلي الذي ولد منذ ستين عاماً فقط، ربما يحتاج كي يتمكن من خلق تكوين سيكولوجي موحد لسكانه على هذه الرقعة الجغرافية المسماة إسرائيل، إلى ما لا يقل عن خمسمائة عام تتيح للجغرافيا الحديثة أن تصبح جغرافيا بقوة التاريخ.

الفصل السادس: شعور الاستعلاء والدونية في التكوين السيكولوجي اليهودي

نستطيع منذ البداية أن نضع أيدينا على خاصيتين سيكولوجيتين متناقضتين ميزتا المناخ الذي تمت فيه تنشئة جيل رواد الصهيونية اجتماعياً.

1 – خاصية الشعور بالتميز والاختلاف عن الآخرين، وقد اتخذت هذه الخاصية في البداية شكل اعتناق فكرة النقاء العنصري والتفوق العقلي، ثم تعددت أشكالها بعد ذلك.

2 – خاصية الشعور بالاضطهاد أو بالدونية، على اعتبار أنه لا يحس بالاضطهاد إلا من غمرته مشاعر الدونية. ولقد استغرقت هذه المشاعر العقل اليهودي في تلك الفترة، حتى لو كان الأمر مُتَوَّهمًاً وغير حقيقي.

لقد كان لهاتين الخاصيتين الدور الأكبر في صياغة التكوين السيكولوجي لأولئك الذين قدموا من الغرب، وبالتحديد من وسط أوروبا وشرقها إلى فلسطين، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذين قامت على أكتافهم دولة إسرائيل والذين تصدوا لصنع التجمع الإسرائيلي.. هذا يعني تحديداً أن التنشئة الاجتماعية التي تعرضت لها تلك المجموعة من اليهود التي عاشت في تلك الفترة وفي ذلك المكان، كانت تنطلق من هاتين الخاصيتين وتدور حول تدعيمهما، بحيث نجد فيهما التفسير لغالبية عادات وتقاليد وتصرفات تلك المجموعة.

ولكن ألا يوجد هناك تناقض حقيقي بين الشعور بالاستعلاء والتميز من جهة أولى، والشعور بالدونية والاضطهاد من جهة ثانية؟! ثم، ألا يعكس هذا التناقض نوعاً من العقد النفسية في التكوين السيكولوجي للإنسان اليهودي، خاصة إذا علمنا أن الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية لا يمكنهما أن يجتمعا في إنسان سَويٍ واحد؟! فكيف والحال كذلك اجتمع هذان النقيضان المتنافران في نفسية الشخص اليهودي؟! 

في ظل مناخ انعزالي متمحور حول الدين وسلطة الحاخام والإيقاع التنظيمي ذي الطابع الاقتصادي الهامشي المنحصر في التجارة المتجولة وبيع الملابس المستعملة وفتح الخانات وعمليات الحياكة والصباغة والإقراض بالربا والصيرفة، تبلورت السمة السيكولوجية الأساسية للشخصية اليهودية الجيتوية التي عانت نوعاً من الانفصام في الرؤية، حالت بينها وبين القدرة على لفظ المشاعر المتناقضة والحياة بمشاعر منسجمة ومتوازنة، فظهرت هذه الشخصية وكأنها ساحة صراع غير منطقية لأكثر المشاعر تناقضاً وتنافراً. وهكذا فقد أدى هذا الصراع في المشاعر إلى تناقض حاد في السلوك الذي راح يشكل مع مرور الوقت إطاراً رئيسياً تحددت من خلاله السمة الحاكمة للصيرورة التاريخية للشخصية اليهودية في تلك الحقبة من الزمن، والمتمثلة في عقدة التناقض بين الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية.

ولكن ماذا عن نشوء فكرة الإحساس بالاضطهاد لدى اليهود؟!

إن ما لقيته فكرة “اضطهاد اليهود عبر التاريخ” من إلحاح مستمر يفوق كل تصور من جانب المفكرين الصهاينة، لم يكن في الواقع هو المبرر الوحيد من الناحية السيكولوجية لامتدادها وانتشارها إلى هذا الحد. فلقد لقيت تلك الفكرة تدعيماً آخر من فكرة أخرى نشأت خارج الفكر الصهيوني وإن يكن بموازاتها، إلى درجة أنها كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها نقيض لها.. إنها فكرة أن اليهود هم سبب كل شرور العالم، وخلف كل كارثة حلت أو ستحل بالبشرية.

إن هاتين الفكرتين تعبران في الواقع عن الحقيقة السيكولوجية نفسها، وتخدمان الهدف السيكولوجي نفسه، أي أن مناداة الفكر الصهيوني بأن اليهود لقوا ومازالوا يلقون عنتا واضطهاداً منذ ؤجدوا حتى اليوم، تجد في القول بأن اليهود هم سبب كل شرور العالم، دليلاً على ذلك العنت والاضطهاد، وهو دليل يكتسب قوته من صدوره عن الجانب الذي يُعد نقيضاً للفكر الصهيوني.

ولعل حرص الصهيونية على أن يظل ذلك الدليل محتفظاً بقوته، هو ما يفسر حرصهم على إبراز أنهم نقيض النازية وضحاياها. فلقد حرص الفكر الصهيوني حرصاً شديداً على إضفاء صورة التناقض على طبيعة العلاقة بين مصدري هاتين الفكرتين، النازية كمصدر لفكرة أن اليهود هم سبب كل شرور العالم، والصهيونية كمصدر لفكرة أن اليهود مضطهدون، فيما الحقيقة أنها علاقة ظاهرها التناقض وباطنها التطابق.

ومع الأسف الشديد فإن الفكر العربي المعاصر فيما يتعلق بخطابه المُشَخِّص لليهودية والصهيونية زاخر بمفردات الترويج لهذه الثنائية الصهيونية النازية، عبر الترويج لعنصرها النازي المتمثل في اعتبار أن اليهود هم سبب شرور العالم، ليتقمص هذا الفكر بالتالي وكنتيجة لهذا الترويج القناعة بالعنصر الصهيوني لهذه الثنائية، والمتمثل في اضطهاد اليهود لتكون النتيجة النهائية من كل ذلك أن هذا الخطاب أصبح يتحدث عن الصهيونية ومن حيث لا يدري بلسان حالها.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره “محمد فرج” في كتابه الصادر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة عام (1967) والمعنون بـ “فلسطين عربية”.. “.. نحن لا نعني بذلك أن الصهيونية كفكرة وُجِدَت في القرن التاسع عشر فقط، بل هي فكرة قديمة تمتد بجذورها إلى الوقت الذي شُّرد فيه اليهود من فلسطين فيما قبل الميلاد”.

ويقول “عبد الراجي” في كتابه الصادر عن دار المعارف بالقاهرة في عام (1964) والمعنون بـ “الشخصية الإسرائيلية”.. “.. لقد دأبنا جميعاً في الفترة الماضية على التمييز بين اليهودية والصهيونية، والواقع أننا وقعنا بهذا في خطأ كبير، ذلك أن الدارس الموضوعي لحياة الشعب الإسرائيلي، يعلم أن هناك حقيقة هامة لا ينكرها باحث، بل لا ينكرها الإسرائيليون أنفسهم، فضلاً عن أنهم يعتزون بها ويدعون لها، وهي أن الإسرائيلية واليهودية والصهيونية ألفاظ مترادفة لمعنى واحد”.

ويقول “على حسن الخربوطلي” في كتابه الصادر عن معهد البحوث والدراسات العربية عام (1964)، والمعنون، بـ “العلاقات السياسية والحضارية بين العرب واليهود”.. “.. إن العقلية اليهودية تختلف في تفكيرها واتجاهاتها عن عقلية البشر جميعاً. وإن هذا الاتجاه قد أحدث تأثيره في تاريخ العالم كله وحاول أن يفرض طابعه على البشرية جمعاء لكي يضعها تحت طاعة حكماء يهود.. فالسحر بجميع أسراره وأنواعه جاء من العقلية اليهودية، والإيمان بالأشباح وتحضير الأرواح ومخاطبتها جاء من هذه العقلية، والعرافة والتدجيل والتكهن بالمستقبل وقراءة الكف والنجوم والطوالع، كل ذلك جاء من العقلية اليهودية”.

ويحدد “محمد دروزة” في كتابه الصادر عن المكتبة المصرية في بيروت عام (1964) والمعنون بـ “تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم”، صفات اليهود الملازمة لهم منذ القدم قائلاً: “.. تعصب شديد وأنانية قوية وأفق ضيق، كان وظل يبدر منهم ويسيطر على سيرتهم سواء في معاملتهم لغيرهم أو فيما كانوا يزعمونه لأنفسهم من اختصاصات وامتيازات”.. ويمضي دروزة ليؤكد أن لليهود جِبِلَّة خاصة عُرفت عنهم وعرفوا بها منذ القدم، وأن أخلاقهم متوارثة فيما بينهم جيلاً بعد جيل وعلى امتداد القرون المتطاولة منذ أسفار العهد القديم.

أما في كتابها الصادر عن معهد البحوث والدراسات العربية عام (1975)، والمعنون بـ “الإسرائيليات في الغزو الفكري”، فإن عائشة عبد الرحمن تُحكم سيطرة اليهود على كل شيء في هذا العالم، حتى لا يكاد يخرج من بين أيديهم شيء أو أمر على الإطلاق.. فهي تقرر في كتابها، أن اليهود هم الذين بثوا في المجتمع الإسلامي نِحلَ التناسخ والرجعة المثنوية، مما ظهر أثره في تمرد الموالي بخراسان وإسقاط الدولة الأموية ثم في ثورة الزنج والقرامطة في العصر العباسي، ونشوء الزندقة والإلحاد، وانتعاش النحل الدخيلة على العقيدة الإسلامية.

وهي لا تألو جهداً في كتابها كي تدعونا إلى الاهتمام بتقصي دور بني إسرائيل في إسقاط الخلافة الإسلامية وتمزيق أقطارها لتركها نهباً لأولياء اليهود وأتباعهم من المستعمرين!! فلقد تواطأت الصهيونية وأولياؤها الاستعماريون مع جماعة الدونمة التركية، ونجحوا جميعاً في عزل السلطان عبد الحميد الثاني، ثم ما لبثت معاهدة سايكس- بيكو التي عقدت عام (1916) أن قضت بتوزيع تركة الدولة العثمانية على المستعمرين وَرَثَة ثأر الصليبية وأولياء اليهود.

أما بالنسبة للحروب الصليبية في نظر الدكتورة عائشة عبد الرحمن، فإنها كانت صنيعة لعصابات اليهود سَدَنة خزائن المال في أوروبا والقابضون على الخيوط المحركة لقادة الصليبية والاستعمار، وكذلك كان الأمر بالنسبة للاحتلال الفرنسي للجزائر، والذي كان يحمل في ظاهره علم المطامع الاستعمارية لدولة أوروبية كبرى تريد أن تنافس بريطانيا العظمى في السباق على مناطق السيطرة والنفوذ، ولكن لحساب يهود فرنسا في الواقع، كان اجتياح المستعمرين الفرنسيين لأرض الجزائر وقبضتهم على كل مواردها الاقتصادية.

كما أن اليهود كانوا وراء العملية الرهيبة لاحتلال بريطانيا لمصر قبل أكثر من ثلاثين عاما من توقيع اتفاقية سايكس- بيكو. إلى أن فتحت بيوتهم المالية بفرنسا لتمويل الدعاية لمشروع حفر قناة السويس.. كما أن الكتاب يرثي لحال العالم تحت ما يسميه سيادة قوة الوثنية المادية لليهودية العالمية، التي جعلت من ساسة العصر وقادة الدول موجهي مصائر الشعوب، أحجاراً في اليد الخبيثة على رقعة الشطرنج.. وليس غريباً والأمر كذلك أن تكون الدعوة إلى القومية العربية جزءاً مرحلياً من هذا المخطط اليهودي الأخطبوطي الذي بدأ بإسقاط الدولة العثمانية.

خلاصة ما يريد الكتاب قوله، هو أنك أينما وليت وجهك شرقاً أو غرباً فاليهود أمامك، وحيثما نقبت في تاريخنا أو في تاريخ غيرنا، فأصابع يهودا الأسخريوطي واضحة فاعلة، وأياً كان الفكر الذي تتبناه أو يتبناه غيرك فأنت واقع لا محالة في حبائل حاخامات اليهود، سواء كنت قومياً عربياً أو ماركسياً أممياً أو حتى شعوبياً فرعونياً أو فينيقياً.

حتى النظريات والفلسفات لم تنج من كونها إفرازات يهودية شيطانية، تهدف إلى تدمير العالم.. ألم يفرد محمد قطب في كتابه “الإنسان بين المادية والإسلام”، وفي كتابه الأخر “التطور والثبات في حياة البشر” فصولاً تدرس “ماركس” و”دوركايم” و”فرويد”، وهم أكثر من أَثْرَوْا الفكر الإنساني الحديث بفلسفاتهم ونظرياتهم ورؤاهم العلمية الثاقبة، لا كمفكرين وفلاسفة ورواد نظريات، بل فقط كيهود ثلاثة أرادوا تدمير العالم بتشويه فكره وضرب الأديان فيه؟!

لقد أسهمنا بالقسط الأوفر في تبرير وتدعيم فكرة الاضطهاد التي نادى بها الصهاينة في دعواتهم، بأن روجنا بكل ما نملك من سذاجة وسطحية، إلى أكثر الأقاويل بعداً عن العلم والتفكير السوي، وهي أن اليهود يحركون العالم في كل شيء بخيوط سرية من وراء الكواليس.

ولنعد إلى فكرة الاضطهاد كما يعرضها ويقدمها الفكر الصهيوني، لنرى كيف قام هذا الفكر بجعلها تغطي زمناً مترامياً بمساحة التاريخ اليهودي كله. فهو قد قدمها لنا في صور أربع متتالية تاريخياً تغطي كل صورة منها مرحلة هامة من مراحل الصيرورة اليهودية عبر التاريخ. ويمكننا إيجاز هذه الصور فيما يلي.

1 – أقدم هذه الصور وأوضحها حجة، هي مع الأسف الصورة التي تحظى بالقدر الأكبر من التركيز والاهتمام من قبل مفكري الصهيونية، وبالقدر الأكبر من القبول والتسليم من قِبل الآخرين بمن فيهم من يطرحون أنفسهم كنقيض للصهيونية. إنها الصورة التي ترجع بالاضطهاد إلى عصر الشتات البابلي الذي يزعم اليهود أنه أعقب طردهم من فلسطين.

2 – أما في العصر الوسيط فقد تمثلت صورة الاضطهاد المستمر في أحياء الجيتو وما لقيه اليهود فيها من عنت ومعاناة، علماً بأن تلك الأحياء لم تكن بالظاهرة التي تعرض لها اليهود في كافة أنحاء العالم، كما أنها لم تكن بشرية دائماً، فكيف يمكنها والحالة كذلك أن تمثل حلقة من حلقات الاضطهاد المتواصل والمزعوم.

3 – أما في العصر الحديث فقد وجد الفكر الصهيوني ضالته، فيما أقدم عليه هتلر حيال اليهود، علماً بأن المعسكرات النازية كانت قاصرة على أماكن محددة ومحدودة، هي تلك التي سيطر عليها النازيون، وعلى عصر محدد ومحدود هو عصر هتلر، علاوة على أن المعسكرات النازية لم تكن موجهة ضد اليهود، بل ضد كل من ليسوا آريين، وربما أن من قتل وحرق في تلك المعسكرات من غير اليهود كالبولنديين، أضعاف من ذهبوا ضحية هتلر من اليهود.

4 – أما الآن فمضطهدو اليهود هم العرب، حتى بعد انتزاع فلسطين عام (1948) واحتلال ثلاث دول عربية عام (1967) واجتياح لبنان واحتلال بيروت عام (1982) وارتكاب أكثر من خمسين مجزرة مروعة ضد الفلسطينيين والعرب حتى عام (1995).

ومع أنه لا يكاد يخلو تاريخ شعب من الشعوب من اضطهاد وقع عليه بشكل ما وفي وقت ما دون أن تكون لذلك دلالة تستدعي العجب، إلا أن الحركة الصهيونية ومن ورائها الدول الاستعمارية الكبرى تتجاهل كل ذلك عند الحديث عن الشعوب الأخرى، فالشعب الجزائري احتلت أرضه (130) عاماً وقتل منه خلال هذه الفترة على أيدي الاستعمار الفرنسي ما يربو على الثلاثة ملايين شخص، والأمريكيون لم يغادروا فيتنام إلا على أنقاض مدنها الكبرى وأراضيها الزراعية التي سمم الكثير منها لمئات السنين قادمة وعلى أشلاء ثلاثة ملايين قتيل من شعبها ومثلهم من المعوقين إعاقات دائمة. وما حدث للفلسطينيين لم يحدث لشعب من الشعوب عبر التاريخ.

إلا أن جوهر الفكر الصهيوني وهو يدرك هذه الحقيقة التاريخية كان لابد له كي تأخذ الحالة اليهودية خصوصيتها من أن يوفر لفكرة اضطهاد اليهود ثلاثة أبعاد هامة تمنحها هذه الخصوصية، وهي:

1 – الامتداد التاريخي، أي امتداد ذلك الاضطهاد واستمراره منذ وجود اليهود وحتى الآن، أي منذ العصور القديمة وإلى العصر الحديث مروراً بالعصور الوسطى.

2 – الامتداد الجغرافي، أي أن ذلك الاضطهاد قد شمل اليهود جميعاً مهما تباعدت بينهم شقة المكان، ومهما تباينت ظروف الأوطان التي اتخذوها مستقراً لهم، يستوي في ذلك يهود الشرق مع يهود الغرب، ويهود الشمال مع يهود الجنوب. أي أن اليهود مضطهدون أينما وجدوا، مما يؤسس لفكرة أنهم مضطهدون لأنهم يهود، ما يمثل المقدمة الطبيعية لنشأة الفكر العنصري لدى اليهود.

3 – الفارق الكيفي، أي أن الاضطهاد الذي وقع على اليهود لا يعادله أي اضطهاد وقع على غيرهم في أي زمان أو مكان، أي أن أحداً لم يلق ما لقيه اليهود من العنت والعذاب.

إلا أن “يوري إيفانوف” في كتابه “الصهيونية حذارٍ” يفند هذه الفكرة قائلاً: “إن التأكيد على أن شعباً ما أو قومية معينة، قد عانت من العذاب أكثر من أي شعب آخر في العالم وعلى امتداد التاريخ الإنساني كله، لا يعني فقط تشويه الواقع التاريخي جرياً وراء إثارة نعرات التعصب القومي الذميم، بل هو أيضاً انزلاق بالغ الخطورة إلى مواقع العنصرية”.

وعلى الرغم من التعارض الظاهر الذي يبدو للوهلة الأولى بين الإحساس بالدونية والاضطهاد من جهة والإحساس بالتميز والتفوق من جهة أخرى، إلا أن ثمة علاقة وثيقة تربط من الناحية السيكولوجية بين هذين الإحساسين المتناقضين ظاهرياً، بصرف النظر عن كونها علاقة سبب بنتيجة أو علاقة جوهر بمظهر أو أنها مجرد علاقة تآنٍ أو تتالٍ، وفي هذا السياق فإن التاريخ يحمل لنا نموذجين لا نكاد نجد من يتناول قضية تمايز مجموعة معينة من الناس عن بقية البشر إلا ويشير إليهما، أياً كان موقفه من قضية التمايز ذاتها، أو من قضية هذا النموذج أو ذاك. الأول هو النموذج الألماني أو قضية النازي المستندة إلى فكرة نقاء العرق الآري. أما الثاني فهو النموذج اليهودي أو قضية التميز الصهيوني المستند إلى فكرة نقاء ما يسمى بالجنس أو بالعرق اليهودي.

ما يلفت الانتباه في الموقف الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً حيال النموذجين العنصريين، النازي والصهيوني، هو حالة التناقض والازدواجية غير المبررة. ففي الوقت الذي تم خوض الحرب العالمية الثانية باشتراك فاعل من الولايات المتحدة للقضاء على النزعة العنصرية النازية المعادية للإنسانية والتي راحت تهدد البشرية والحضارة الإنسانية القائمة على عدم التفرقة العنصرية. نجد حلفاء الأمس ضد المحور العنصري النازي هم أنفسهم حلفاء اليوم للمحور العنصري الصهيوني باستثناء الحالة السوفيتية التي لها خصوصيتها التي لسنا في معرض مناقشتها هنا.

ففي الوقت الذي لا يختلف فيه عاقلان أو مفكران محايدان أو محللان نفسيان أو عالما اجتماع أو سياسيان نزيهان على أن الصهيونية نزعة عنصرية كالنزعة النازية ولا فرق إن لم تتفوق عليها في هذا المجال، إلى درجة أن عَبَّرَ العالم عن هذا الاقتناع في القرار التاريخي الذي وصم الصهيونية بالعنصرية في الأمم المتحدة، فإننا نجد أن من وصموا النازية بالعنصرية بالأمس القريب يساندون الصهيونية التي أجمع العالم على عنصريتها، ويفعلون المستحيل كي يلغوا قرار الأمم المتحدة سالف الذكر.. ما معنى هذا؟!

المعنى واضح ولا يحتاج إلى كثير فذلكة. أعداء النازية بالأمس لم يعادوا فيها عنصريتها بالدرجة الأولى، بل طرحها لنفسها منافساً إستعمارياً شرساً للاستعمار التقليدي الفرنسي والأنجلوساكسوني، هذا لا يعني أن النازية لم تكن عنصرية، فهي قد ربطت عنصريتها بنزعتها الاستعمارية الطامحة والصاعدة، ولكن عنصريتها لو لم تكن خطيرة وذات تهديد، أو لو عملت في إطار يصب في خانة المصلحة الاستعمارية التقليدية، لتم التغاضي عن عنصريتها، بل ربما لتم توظيف تلك العنصرية بشكل ما، كما يتم حالياً توظيف العنصرية الصهيونية المساندة للخندق الاستعماري التقليدي والمتحالفة معه والناشئة لخدمة مصالح هذا الاستعمار.

ولكن وحسب ما تقتضيه طبائع الأمور، كان على المؤسسة الاستعمارية التقليدية أن تلعب بأكثر الأوراق قدرة على تحشيد العالم ضد النازية، فعالمٌ يتحرر لن يقبل أو يتفهم الحرب ضد الألمان على قاعدة منعهم من تقاسم المستعمرات مع ناهبيها القدامى، فكان لابد من استدرار عطف ومساندة هذا العالم بإبراز المستعمرين القدامى وهم يحاولون الحفاظ على مستعمراتهم ومناهجهم الاستعمارية، كمن ينقذ العالم من عنصرية بغيضة قادمة. أما الصهيونية فلا داعي لإنقاذ العالم منها لأن الإمبريالية بحاجة إليها وحاجتها إليها حاجة حقيقية ووجودية ومصيرية.

عود على بدء.. من هم اليهود الذين استغرقهم الإحساس بالتمايز (العنصري) والمستند إلى إحساس أعمق بالدونية؟!

إن الواقع يكشف عن حقيقة بالغة الدلالة ألا وهي أن هذا الشعور بالتمايز لم يكن بالشعور العام الذي يشمل اليهود جميعاً في شتى أنحاء العالم، بل هو قد كان متمركزاً في يهود وسط وشرق أوروبا، ونحن نعلم – كما مر معنا – أن غالبية جيل “الحالوتس” الذي تعتبر تنشئته الاجتماعية نقطة البداية في معرفة التكوين السيكولوجي للإسرائيليين، قد هاجرت إلى فلسطين من وسط وشرق أوروبا، وبالتالي فإن لنا أن نسلم بأن عنصر الشعور بالتمايز كان ضمن العناصر الأساسية التي تضمنتها تنشئته الاجتماعية، وبالتالي فقد أصبح هذا الشعور ضمن مكونات تكوينه السيكولوجي.

لكن الأديب الصهيوني “حاييم بريير” الذي استوقفه هذا الإحساس الأجوف بالتمايز وحَيَّرَه، جعله يتساءل باندهاش قائلاً: “من أين جاء هذا الاحتقار من جانب اليهود للأغيار والشعور بالسمو عليهم؟! هل كان اليهودي عديم الشعور حقاً وميت الأحاسيس إلى درجة لم يشعر معها بأن حياة الأغيار الذين يحتقرهم، أكثر غنىً وأكثر جمالاً من حياته؟! كلا إن هذا مستحيل، ونحن لا نستطيع أن نصدق هذا. فإذا كان هناك احتقار للأغيار، فلم يكن ذلك سوى حقد طبيعي يشعر به الفقير تجاه الغني والراهب تجاه الفارس والعاجز تجاه القادر. إن هذا الاحتقار لم يكن سوى استسلام لنصيبنا في الدنيا، وأحياناً نوعاً من العزاء لآمالنا في العالم الآخر، يتلوه صرير أسنان وغضب داخلي عن وعي أو عن غير وعي”.

لا نعتقد أن هناك وصفاً أدق وأوضح وأشمل وأعمق لمشاعر التمايز عند اليهود مما قاله أحد كبرائهم “حاييم بريير”. لكن هذا التعالي من قِبل اليهود يخلق لديهم حالة من الدوران في حلقة مفرغة من تناوب عنصري التعالي والاضطهاد على مشاعرهم. فبإزاء تعالٍ يهودي يندفع الاضطهاد نحوهم، وهذا الاضطهاد يؤدي بدوره إلى مزيد من مشاعر الاضطهاد والدونية والظلم، لا مهرب منها ولا مفر إلا في المزيد من التمسك بالتعالي. وهكذا يتعقد الموقف وتتشابك حلقاته، وتتداخل الأسباب بالنتائج، ويمتزج الفعل برد الفعل، بحيث يصبح الأمر في نهاية المطاف وقد غدا من الصعب معرفة أيهما أعمق جذوراً وأشد تأثيراً، أهو تعالي اليهود وعزلتهم، أم هو اضطهاد الآخرين لهم.

لقد اختلطت عقدة الشعور بالاستعلاء عند اليهود بعقدة الشعور بالدونية مُشَكِّلَةً اختلالاً واضطراباً في الأداء السيكولوجي لديهم. ولقد عَبَّرَ الأديب الصهيوني “حاييم بريير” عن ذلك بقوله: “يُجمع كتاب تاريخنا على أن أجدادنا يهود الجيتو القديم كانوا يحسون بنوع من الكبرياء والسمو بالنسبة للجويم، حتى عندما كانوا يقبلون يدي أحدهم أو يركعون أمامه”.

ولا تقف عقدة الشعور بالاستعلاء العنصري في التكوين النفسي اليهودي عند حد، بل هي تصل إلى درجة الإيمان العميق لدى اليهودي بحقارة أمم العالم، عاكساً ذلك كله في تعبيرات لغته التي يستخدمها، فهو يستخدم ألفاظاً مثل “جوي”، التي يشير بها إلى الشخص غير اليهودي، وتعني “القذارة المادية والروحية والكفر”، ومثل “عاريل”، ومعناها “الأقلف”، أي غير المُخَتَّن الذي يبقى بدائياً وفطرياً فيظل قذراً وكافراً في آن واحد، ومثل “منزيم”، أي “ابن الزنا”، وهي لفظة تدل في أسفار العهد القديم على الشعب المختلط الأنساب، وقد خصصها اليهود فيما بعد للمسلمين.

وهكذا يتضح لنا أن الفكر الديني اليهودي قد صاغ العقلية اليهودية في إطار من العنصرية التي تُسْبِغُ على اليهود صفات المديح والتعظيم، في الوقت الذي تتعامل فيه مع الشعوب الأخرى غير اليهودية بسيل من الأوصاف العنصرية والشتائم التي تؤكد على أن الاستعلاء العنصري هو أساس ثابت في تكوينها.

وتعود عقدة الشعور بالاستعلاء عند اليهود إلى أسفار العقد القديم، إذ لا يتردد اليهود في تشبيه أنفسهم من خلاله بـ “شعب الله المختار”، معتقدين أن هذا الاختيار هو برنامج إلهي، إذ بهم يعاقب الله الأمم الأخرى، وهم الذين سيبقون وحدهم في آخر الزمان متسلطين على رقاب العالم.

كذلك فهم يسمون أنفسهم “الشعب الأزلي” (عم عولام)، و”الشعب الأبدي” (عم يتسح)، بحيث يعتبرون أنفسهم مثل الله، لا أول لهم ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية، وأنهم “الشعب المقدس” (عم قادوس).

يصف “فرويد” ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار بالخرافة المُطْبِقَة، ويقرر أن تلك حالة لا نظير لها على الإطلاق في تاريخ الأديان. ففي الحالات الدينية المعروفة، نرى الشعب يندمج في معبوده اندماجاً تاماً منذ البداية، أو يتحول الشعب إلى عبادة معبوده، ولم يحدث قط أن اختار الله عابديه.. في “سفر التثنية 2:14” نقرأ: “لأنك شعب مقدس للرب إلهك، ولقد اختارك الرب لتكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب التي على وجه الأرض”.

أما فيما يتعلق بعقدة الشعور بالاضطهاد (الدونية)، فإن العهد القديم زاخر بنصوص تتحدث عن ذلك، منها ما ورد في “سفر الخروج – 7:3”.. “فقال الرب لقد رأيت مذلة شعبي في مصر وسمعت صراخهم وعلمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأخرجهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة”.. وما ورد في “سفر الخروج – 13:15”.. “فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف”.. وما ورد في “سفر الخروج أيضاً – 9:3”.. “الآن هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إليَّ ورأيت أيضاً الضيق الذي يضايقهم به المصريون”. وأيضاً “1:20 من سفر الخروج”.. “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية”.. لقد خلقت هذه الأساطير الدينية التاريخية لدى اليهود إحساساً بالمذلة الدائمة، عوضوه بعد ذلك بسلوك عدواني ووحشي تشهد على ممارسته مدوناتهم التي سجلت أسطورة غزو أرض كنعان.

الفصل السابع: التوحد بالمعتدي وآثاره على السيكولوجية اليهودية

يقول الفيلسوف الألماني المثالي “هيجل”: “فَإنْ تَقْتُل فإنما نفسَك تَقْتُل”.. ذلك أن قدر الإنسان الذي لا مهرب له منه، هو أنه لا يوجد إلا في الآخر. ذلك الآخر، الذي رغم آخريته، ورغم تمايزه وانفصاله واستقلاله، فإنه في نهاية المطاف المرآة التي يرى فيها الإنسان ذاتَه. فِعْلَ القتل إذن، بقدر ما هو حماية للذات من خطر، لا مفر من جَعل فاعله يرى نفسه مقتولاً في ذات القتيل. تُعَدُّ هذه الفلسفة العميقة، التفسير الفعلي لمبدأ التَّوَحُّد بالمعتدي.

ولكن كيف يمكننا إسقاط ذلك على الإنسان اليهودي؟!

فإذا جاز لنا القول بأن أولئك الذين كانوا عبيداً في أرض مصر وفق رواية التوراة، قد تحولوا إلى غُزاة محتلين لأرض كنعان بعد فترة التِّيه والشتات الأولى. فإنه يجوز لنا القول أيضاً، إن أولئك الذين كانوا عبيداً في الجيتو الأوروبي في العصر الحديث، قد تحولوا هم الآخرون إلى غزاة محتلين لأرض فلسطين، بعد أن تعرضوا لسلسلة من الإضطهادات بلغت ذروتََها في اللاسامية النازية.

لقد نَفَذَت إلى أعماق مُكَوِّنات الشخصية اليهودية الإسرائيلية حقيقة أن أولئك الذين سبق أن عومِلوا باستخفاف من قِبل الآخرين، يفقدون الثقة في أنفسهم لا شعورياً. إنهم قد يحاولون إخفاء هواجسهم الداخلية عن الأشخاص الآخرين بالغطرسة، إلا أن افتقارهم الخفي للثقة في أنفسهم يظل قائماً. ومن أجل هذا السبب نراهم عندما يجدون الأشخاص الآخرين أضعف منهم يمارسون معهم الاستخفاف نفسَه والقسوة نفسَها اللذين احتملوهما في الماضي.. إن هذه الظاهرة معروفة في علم النفس بالتَّوَحُّد بالمعتدي.

إن الإنسان الإسرائيلي، بل والمجتمع الإسرائيلي، اتخذ من النازي مثلاً أعلى له، وهو الأمر الذي يعطي له علم النفس التفسير المعقول التالي.. إذا ما تعرض الفرد لعدوان لا قِبل له بمواجهته، وأصبحت الهزيمة خطراً يهدد اتزانه النفسي، فإنه كثيراً ما يلجأ إلى اتخاذ مصادر العدوان نماذج له يَقتدي بها، ومُثُلاً عليا يسير على هديها، حفاظاً على هذا الاتزان الذي تتهدده المخاطر.. إن التوحد بالمعتدي إذن هو حيلة لا شعورية تُصْطَنَعَ للتغلب على الخوف من المعتدي.

فلكي يتحول الإسرائيلي من (مُضْطهَد) إلى (مُضْطَهِد)، يتصرف بقسوة ووحشية. الأمر الذي يمكننا التأكيد معه على أن التركيب النفسي للشخصية اليهودية غير طبيعي، قائم على الوقوع في دائرة هذا المرض النفسي الخطير، ألا وهو “التوحد بالمعتدي”.. فكل يهودي يحمل في داخله أثر جرح نفسي قديم أو حديث نتيجة للإذلال الذي تعرض له هو أو أجداده.. وبالتالي فإن هذه الشخصية أحوج ما تكون إلى البطولة الكاذبة للشفاء من هذه الجراح.

ولكن وبما أن الحقيقة الدامغة تكشف عن أن ما يفعله اليهود الإسرائيليون أبعد ما يكون عن البطولة التي يحتاج إليها الشخص اليهودي ليشفى من أمراض ذُلِّهِ المُسْتَحْكِمَة فيه، فإن أزمة هذا اليهودي المضطرب تتعمق وتزداد عمقاً في توحده بالمعتدي، وبالتالي نراه يزداد إجراماً وقسوة ووحشية.

فهل يمكن اعتبار البطولة العسكرية، هي الفعل الإسرائيلي الذي أدى إلى جَعل رجلٍ مُسِنٍّ يبحث في أنقاض مخيمي صبرا وشاتيلا عن أشلاء حفيده، بعد أن هدمت القذائف الإسرئيلية بيته فوق رأسه؟! أم هل يمكن اعتبارها هي ذلك الفعل الذي أدى إلى جعل امرأة تفر من جحيم القصف في بيروت عام (1982) حاملة بين ذراعيها ابنتها ذات العشر سنوات وهي تنزف؟! أم لعل البطولة هي ما يمكنها أن تعنيه صورة مجموعة من الرجال والأطفال والنساء الذين يرفعون أيديهم بالاستسلام، فيما يحيط بهم حراس إسرائيليون مدججون بالسلاح؟! إن الأسرى الذين نراهم في مخيمات الاعتقال الإسرائيلية ترتسم على وجوههم، وتنطق عيونهم بعبارات لا يفهمها إلا اليهودي الذي عانى من قَبْلُ من الشعور بالإذلال.

ومع ذلك فالحقيقة مهما تاهت وغابت عن تلك العقول المُضطربة والنفوس المشروخة بالعقد، هي كما يصفها الصحفي الصهيوني “يعقوب تيمومان”، وهو يعبر عن فظائع عام (1982): “حرام علينا عقد المقارنات بين ما يحدث اليوم لهؤلاء العرب على أيدينا وبين ما حدث لنا في الماضي على أيدي غيرهم، لأننا لو عقدنا هذه المقارنات لاتضح لنا أن الجرائم التي ارتُكِبَت في حقنا بالأمس هي الجرائم نفسها التي نرتكبها اليوم في حق هؤلاء”.

والجرائم تتكرر باستمرار لتكريس هذه البطولة الزائفة، تجاوبا مع عقدٍ عَشَّشَت في أعماق الإنسان اليهودي. فمن صبرا في عام 1983، إلى قانا في عام 1996، وصولا إلى “مَرْوحين” و”عيترون” في عام 2006، وفي سلسلة من الجرائم لا نكاد نعرف لها بداية، ولا نحسب أن بالإمكان توقع نهاية لها بوجود هذه الدولة، تتواصل مسيرة التجاوب التلقائي مع متطلبات هذه النفس المريضة الموبوءة بشعور النقص المُعَبَّرِ عنه بمبدأ التَّوَحُّد بالمعتدي.

مجدداً، إنها عقدة التوحد بالمعتدي وتَقَمُّص شخصيته ودوره وأدائه، وإن يكن في حق آخرين أبرياء. فعندما وُوجِهَ اليهود بعدوان قاوموه، فلها لم يستطيعوا له صداً تغلبوا عليه بطريقة أخرى، وهي اعتبار أن المرفوضَ مقبولٌ، وأن المفروضَ مختارٌ. فبدأوا يتصرفون في حياتهم في الشتات ولسان حالهم يقول: “بدل أن يَفْرِضَ علينا الآخرون السكنى في ذلك الحي القميء، فَلْنُقْدِم نحن على تلك السكنى، كما لو كنا قد اخترناها، ولنعتبرها شرفاً لا يعادله شرف، ولنحتفل بنوالنا ذلك الشرف كل عام.. وبدل أن يَفْرِضَ علينا الآخرون ارتداء تلك الشارات المميزة تحقيراً وإذلالاً لنا، فلنحرص على ارتدائها باختيارنا شرفاً وفخاراً”.

إنها خاصية نفسية غريبة ومركبة وشديدة التعقيد، تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت أمراً يستعصي على الفهم. لكن علم النفس يفهمها ويفسرها جيداً، ويسميها “التوحد بالمعتدي”، كحل يحفظ للذات اتزانها ويُبْقَي على وجودها في مواجهة عدوانٍ كاد يدمرها. حل لا يلبث أن يتحول من مجرد قبول لما يَفْرِضُه العدو في حالة الضعف، إلى عدوان شرس وهمجي على من ترميهم الأقدار في طريق هذا المُتَوَحِّد المريض، عندما يمتلك ناصية القوة. وهذا هو قطعاً ما يحدث مع العرب عموماً، وفي فلسطين وإلى جانبها لبنان تحديدا.

لقد استمر اليهود في بعض الأماكن في إيطاليا، في إقامة احتفالات سنوية في ذكرى تأسيس الجيتو، أي أنهم كانوا يحتفلون بذكرى إقامة حوائط وأسوار العار هذه، لا بذكرى تهدميها كما يفعل الأسوياء عادة عندما يحتفلون بذكرى تَحَرُّرِهم، والأمر نفسه يتكرر فيما يتصل بالشارات المُمَيَّزَة التي فُرِضَ عليهم ارتداؤها قسراً، فقد وُوجِهَت في البداية بمقاومة عنيفة ورفض بالغ، إلا أنها هي نفسها قد تحولت في النهاية إلى موضع فخار، بل لقد استمر الكثير من اليهود المحافظين في ارتدائها حتى بعد أن كفت عن كونها مفروضة عليهم.

وعندما تحول هؤلاء الأذلاء المقهورون في الجيتو وتعاليمه إلى أقوياء متمكنين، إزاء طرف آخر ضعيف مُستصغر، تَجَلَّت تلك العقدة في ممارسات وحشية لا تفسير لها إلا بهذا المبدأ القاضي بتقمصهم كَمُعْتَدىَ عليهم سابقاً شخصية المُعْتَدِي الذي أذلهم، بالقتل والتدمير والإذلال، وبكل الجرائم والمجازر الممكنة والمتصورة، بل بهذا السور العار، الجيتو الذي أرادوا نقله إلى الآخرين!!

لقد عَبَّر جندي إسرائيلي شاب اعترته فجأة صحوة ضمير طارئة، عن حقيقة ذلك معترفاً بأنه رأى نفسه نازيا في فلسطين. فقد أورد مؤلف كتاب “أحاديث المقاتلين” اعترافات ذلك الجندي الشاب في أعقاب حرب (1967) التي جاء فيها: “إذ كنت في هذه الحرب، فقد تذكرت نكبةَ اليهود في أوروبا، فقد حدث هذا الأمر في لحظة معينة عندما كنت في طريق القدس، وكان اللاجئون يتدفقون أمامنا متجهين نحو الأردن، لقد شعرت على الفور بالتعاطف معهم، وحينما رأيت هؤلاء الأطفال المحمولين على أذرع آبائهم، رأيت فيهم نفسي محمولاً بين ذراعي أبي، وحينما دخلت معسكراً للاجئين للتفتيش، شعرت بأنني رجل جستابو” (أي رجل مخابرات نازي).

هذا هو على وجه الدقة ما وصف به “هون مدرسون” رئيس مجلس العموم البريطاني اليهود أثناء مناقشة قضية فلسطين في (31 يوليو 1946) قائلاً: “لقد أحضر الإسرائيليون النازية معهم من أوروبا إلى فلسطين متمثلة في التفرقة والتعصب العنصريين وفي الرعب والخضوع للقوة، فهم يحتمون بها لكيلا تدمرهم وتؤدي بهم إلى الزوال”.

لقد تمثل شكل تَوَحُّد اليهود بالنازية في أن جعلوا اليهودي الضحية نازيا له ضحاياه، يقتل بدلاً من أن يُقتل. فتشكلت في فلسطين العصابات الإرهابية التي صَدَّرَت كل أنواع الإرهاب للعالم. فعَلّمَت البشرية إلقاء القنابل في الأسواق لقتل الأبرياء، وعلمتهم تفجير وسائل النقل وخطف الطائرات وكل أنواع الموبقات البشرية التي تندرج تحت عنوان القتل المنظم الهادف إلى ترويع الآمنين، وارتكبت المذابح والمجازر وشتى صنوف الممارسات الإرهابية منذ ذلك الوقت ومازالت تمارسها حتى الآن.

إن الهدف الجماعي لعملية التَّوَحُّد بالمعتدي كما كشفت عنه دراسات التحليل النفسي، هو أن يتحول الحَمَلُ ذئباً، وهكذا لا يبقى أمامه خطر يخشاه، ولكن العملية مع ذلك أعقد من ذلك بكثير، فعندما يتحول الحَمل إلى ذئب، يظل مع ذلك يشعر في أعماقه بوجود الحمل، وتكون شراسته المبالغ فيها بهدف مغالبة خَوَرِه السابق ومشاعره القديمة، أي بهدف مغالبة الحَمَل القابع في أعماقه. ومن جانب آخر يظل يرى فيمن راح هو يفرض عليه دور الحمل – أي في ضحيته – يظل يرى فيه نفسه. أي أن القاتل يرى نفسه مقتولاً في ضحيته، وبهذا يستمر فعل القتل وتتفاقم شراسة القاتل، وكأن القاتل بذلك يهرب من صورته مقتولاً، وهي الصورة التي يراها ماثلة أمامه في ضحاياه، وهو أمر لا يستطيع منه خلاصاً.

من هنا نجد تفسير ذلك القهر الذي لا يجد منه القاتل فكاكاً، وهو أن يستمر في القتل لكيلا يُقتل. ومع تزايد ضحاياه يزداد خوفه من الثأر والانتقام، وبمواصلته فعل القتل يبرر لنفسه حماية نفسه المهددة. لقد عبر “عدنان الباجه جي” مندوب العراق الدائم في الأمم المتحدة عام (1967) عن ذلك بقوله: “إن أحقاد مئات الأعوام تجد مُتَنَفَّسَها من خلال الوحشية التي يُعامَل بها العرب على نحو لم يسبق له مثيل قط”.. ولكنه يتساءل مندهشا، ويحق له التساؤل.. “أي قَدَرٍ ساخر قاسٍ هذا الذي يجعل اليوم، العرب الذين كانت أراضيهم ملاذاً لليهود يفرون إليها من الفظائع الرهيبة التي كانوا يتعرضون لها في أوروبا خلال القرون الوسطى، ضحايا الاضطهاد بهذا المستوى من القسوة على أيدي اليهود بالذات؟! ولكن لِمَ الدهشة يا سيدي؟! إبحث عن الاستعمار الأوروبي وأنت تفهم الحقيقة.

الفصل الثامن: العدوانية اليهودية ضد العرب وأثرها في التكوين السيكولوجي اليهودي

إذا كان سواد الخطيئة ينبغي أن يُقاس بدرجة العنف التي أذنب بها المذنب، وبقدر العذر الذي يمتلكه في ممارسة عنفه، فإن سواد خطيئة اليهود أشد وعذرهم أقل في طرد الفلسطينيين من ديارهم في عام (1948)، من سواد خطيئة “نبوخذ نصر” ومن عذره في أسره اليهود إلى بابل، ومن سواد خطيئتي “تيتوس” و”هادريانوس” وعذريهما في تدمير القدس وإبادة أهلها وتشريد من بقي منهم، ومن سواد خطيئة وعذر محاكم التفتيش الأسبانية والبرتغالية في حق اليهود والمسلمين في الماضي.

ففي عام (1948) كان اليهود يعلمون عن تجربة ما يفعلون، وكانت مأساتهم الكبرى أن الدرس الذي استخلصوه من مواجهتهم مع النازيين، قد قادهم لا إلى تجنب ارتكاب الجرائم التي يمارسها النازيون في حقهم، بل إلى تقليدها ومحاكاتها والحرص على التفوق عليها.. ليس هذا حكمنا ولا رأينا. إنه حكم ورأي المؤرخ العالمي الشهير “أرنولد توينبي” في جرائم اليهود في فلسطين. و”توينبي” لم يجانب الحقيقة أبداً حين أعلن رأيه ذاك، لأنه الرأي ذاته الذي أعلنه ويعلنه زعماء اليهود ويقررونه ويفتخرون به ويؤكدون عليه في كل مناسبة.

هذا “بن غوريون” يقول: “بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار ستقوم يهودا”. وهو يعتبر “أن الجيش هو خير مُفَسِّرٍ للتوراة وخير مُعَلِّقٍ عليها”.. أما “مناحيم بيغن” نبي اليهود المعاصر فإنه يقول ما يعرض من خلاله فلسفته في صيرورة التاريخ، مقرراً ببرود عجيب وبثقة غير مسبوقة: “إن قوة التقدم في التاريخ ليست للعلم بل للسيف”. وعندما بهرته قاعدة “ديكارت” الشهيرة “أن أفكر إذن أنا موجود”، بصياغتها الإنسانية الفذة والعميقة، فإنه حَوَّرَها ولونها بكل الدموية التي راح يقرأ من خلالها العالم حوله قائلاً: “نحن نحارب فنحن إذن نكون”.

أما البدائية والغوغائية التي يندى لها جبين التفكير الإنساني الطبيعي، فإنها تَنضح من كلمات مفكر يهودي أكثر تطرفاً هو “يوسف بيردتيشفسكي” عندما يقول: “لقد كان اليهود في سابق عهدهم القديم مرتبطين ارتباطاً عميقاً بالطبيعة، وكانت حياتهم طبيعية (يقصد فطرية وتلقائية ومتحررة من الالتزامات والقواعد والقوانين)، وكان الذي يحدد طريقتهم في الحياة هو الجدوى، أي جدوى الأعمال الحقيقية، وهذه هي الفترة التي سادت فيها عبادة الأوثان بين العبريين، ومع ظهور الأنبياء ومطالبهم، ومع انتصار يهوة على البعل (يقصد الإله الوثني عند اليهود) بدأ التدهور في تاريخ اليهود، وبدلاً من السلوك الطبيعي والأخلاق المناسبة المستقاة من الحياة الطبيعية، فُرِضتْ على اليهودي أوامر ومحظورات بددت قوته. (أي أنه يقصد أن قوة اليهودي تكمن في غوغائيته البعيدة عن أي التزام أخلاقي).

هكذا إذن يدعو هذا المفكر اليهود إلى الهمجية، ويَعُدُّ تدخل الإله في حياتهم لتفعيلها وتطويرها بأنبيائه، على كل الإساءة التي أساءوها إليه والتشويه الذي وسموه به، تبديداً لها وحرفاً لمسارها عن طبيعته، ودهورة لقوتها. وهو يرى في عبادة “العجل” حالة أفضل لليهود من عبادة الإله الرحيم العظيم، إنه يُعلن بصراحة أن اليهودي يجب أن يبقى بدائياً فطرياً غوغائياً من الناحية الأخلاقية، ومتحرراً من الأوامر والتعليمات كي لا تتبدد قوته ونزعته إلى القتل وسفك الدماء، شأنه في ذلك شأن حيوانات الغاب.. أَيُّ غوغائية هذه التي قام عليها الفكر الصهيوني؟! وأَيُّ همجية تلك التي تقبل عقد المقارنات بين السيف والكتاب لتقدم السيف على الكتاب؟!

إن “بيرديتشفيسكي” يقول: “إن كلاً من السيف والكتاب يناقض الأخر، ويقضي عليه كلياً، إن الفترة التي يعيشها الشعب اليهودي هي فترة عصيبة، وفي مثل هذه الفترات يعيش الرجال وتعيش الأمم بالسيف وليس بالكتاب، فالسيف ليس سيفاً مجرداً وبعيداً عن الحياة، إنه تجسيد مادي للحياة في أنقى معانيها، أما الكتاب فليس كذلك”.

“زئيف جابوتنسكي” فيلسوف العنف والإرهاب في الحركة الصهيونية، لا يختلف كثيراً عن “بيرديتشفيسكي”. فلقد قال موجهاً مستشار الطلبة اليهود في فينا ناصحاً إياه: “تستطيع أن تلغي كل شيء، القبعات والأحزمة الملونة، وتستطيع أن تفرط في الشراب وسماع الأغاني، أما السيف فلا يمكن إلغاؤه، عليكم أن تحتفظوا بالسيف، لأن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً بل هو ملك لأجدادنا الأوائل، إن السيف والتوراة قد نزلا علينا من السماء”. أما في مجموعة قصصية له، نشرت باللغة الروسية عام (1930)، فهو يقول: “على التلاميذ أن يحصلوا على فرعين من فروع العلم، أن يتحدثوا العبرية وأن يضربوا بالقبضة”.

إن هذه الذهنية الدموية المفعمة بروح القتل والانتقام والحقد على الإنسانية عبر عنها شعراء يهود في قصائدهم وهم يمهدون الطريق لظهور أبشع أنواع الفكر الثأري في تاريخ البشرية.. فلنستمع إلى الشاعر “شاؤول تشير نحومسيكي”، وهو يجسد الحقد المسموم الذي لا يمكن لأي إنسان سوى اليهودي المعقد أشد ما يكون التعقيد، فهمه أو معرفة كنهه، في قصيدته “فليكن هذا ثأرنا”..

“سيأتي اليوم..

وتَغْرِسُ سكينك في عنق أخيك..

ابن أمك..

كأنك تذبح خنزيرك المفضل..

في عيد القيامة..

في الفِناء أو في ميدان القرية..

وسيكون رنين أنات موته مثل الموسيقى..

أو المهرجان في أذنيك المتلهفتين..

يا يوم الثأر!!

يوم ينتف ابنك شعر ذقنك التي علاها الشيب..

ويرفع في وجهك قبضته الصلبة مهدداً..

ويناديك من حنجرته الحيوانية..

أيها الشرير..

وأنت تذرف الدمع..

أمام كل الناس..

يا يوم الثأر والعقاب..

حين تعرض ابنتك الحبيبة نفسها عاهرة ضعيفة..

ملكتها الرغبة العامرة وسكرت في الخمر..

وأخذت تهمهم لك بكل قصص الزنا..

تلك التي ارتكبتها..

هذا هو ثأرنا..

فليعش ثأرنا..

نرثه جيلاً بعد جيل..

أماَّ في قصيدته “بقوة روحي”، فإن الشاعر اليهودي “باروخ المغنتسي” يقول:

يا سيفي..

أين سيفي؟!

سيفي المنتقم..

أعطني سيفي لأنتصر على أعدائي..

أين أعدائي..

سوف أصرعهم..

وأحطمهم وأقطعهم إرباً..

وسوف أوقف من الناس الذكرى..

سوف أقطعهم وأجتز جذورهم..

سوف أشهر يدي اليمنى القوية وأوبخ أعدائي..

وأجعل سيفي يشرب فوراً من دمهم..

وتستحم خطواتي في دماء الصرعى..

وتدوس قدماي على شعر رؤوسهم..

وسوف أقطع من يمين وأحصد من شمال..

فلقد اشتعل غضبي وصار جحيماً..

لقد ضايقني كثيرون..

ولكن لن يبقى أحد بعد المذبحة..

نعم، إني سوف أفنيهم حقاً..

يا سيفي..

أين سيفي؟!

سيفي المنذر؟!

أعطني سيفي فلن أغمده مرة أخرى..

حتى أذبح كل أعدائي..

لست أطيق الاحتمال..

لقد أشرقت روحي..

وغضبي مشتعل..

وقلبي تل يتحرك..

ودمي في عروقي، تيار من شرار حارق..

إن هذه الكلمات التي تصعب تسميتها قصيدة، ما هي في الواقع إلا كم من الألفاظ المتراكمة التي تعبر عن سَرد همجي يرفض الدخول في إطار مفهوم، لكنها تثير بلا شك تلك الروح الانتقامية القبلية البشعة التي حَلت في الشخصية اليهودية الصهيونية، بعد استجلاب كل ذلك التراث الهائل من تراكمات الحقد الديني والرغبة في الانتقام من الشعوب غير اليهودية كرد فعل لتاريخ من الإذلال والعبودية التي كان شطرها الأكبر اختيارياً.

لكن “باروخ المغنتسي” يُتْحِفُ بني قومه بقصيدة أخرى تقطر سماً زعافاً ضد من ليسوا يهوداً، فيقول:

فلترسل يا إلهي..

إني أضرع إليك أن ترسل سيفك لتثأر منهم..

ولتتركهم في بؤس شديد دون ذرية..

فلتصب حنقك على الأمم التي لا تعرفك..

ولتصب غضبك على الممالك التي لا تنادي باسمك..

لأنهم قد دمروا مساكن شعبك وأكلوا نصيب يعقوب..

في كل ليلة نصعد من قبورنا حيث دُفِنا..

لنشرب من دم هؤلاء الجزارين حتى تسكر أرواحنا..

نرضع من أنهار الدم..

رشفة.. رشفة..

قطرة.. قطرة..

لنسكر من الحزن ونسكر من الآهات، حتى تراهم عيناي يرتجفون..

لا يبل لي صدى، وأشعر بالشماتة من نظراتهم..

وقد جحظت أثناء الليل من العاصفة ومن شعرهم الذي يقف من الرعب..

هذه هي تركة الإجرام التي ورثها شعراؤهم وأدباؤهم لهم في فلسطين، كي تكون المثل الأعلى الذي يقتدون به.. الحاخام “يسرائيل هس”، يحدد موقفه من قتل العماليق، وهم الشعوب العربية، فقد كتب يقول في إحدى المجلات الدينية الناطقة باسم طلبة جامعة “برابلان” في مقال عنوانه “شريعة القتال في التوراة”: “ليست هناك رحمة في هذا الأمر الذي يفرض القتل والإبادة للصغار والكبار. يعلن الرب القتال المضاد، وليس المقصود بذلك مجرد نزاع بين شعبين، لأن الرب شخصياً مُجَنَّدٌ في هذه الحرب، لأن له مصلحة شخصية في الموضوع، سوف يقترب اليوم الذي نُدعى فيه جميعاً لشريعة الحرب المقدسة، هذا من أجل إبادة العماليق”.

وفي أحد المعاهد الدينية يقول التلميذ إنه فهم واستنتج من إجابة حاخامه على سؤالٍ يتعلق بقتال العرب وقَتلهم، أنه في ساعة الحرب مسموح له، وربما أكثر من هذا يجب عليه أن يقتل كل عربي وعربية يصادفانه في الطريق.

الحاخام “أبراهام أفيدان”، مسئول الشؤون الدينية السابق بالقيادة المركزية الإسرائيلية يحرض الجنود على قتل غير اليهود حتى بدون داعٍ، وذلك وفقاً لما تقتضيه شريعة اليهود، فهو يقول: “يجب علينا طبقاً للشريعة الدينية، ألا نثق بغير اليهودي، إنه مصرح لكم، بل من واجبكم طبقاً للشريعة أن تقتلوا المدنيين الطيبين، أو بمعنى أصح الذين يبدون طيبين، يجب عليكم أن تقتلوا أفضل الناس من غير اليهود”.

إن الأدبيات الصهيونية تزخر بمبررات لا نهاية لها للعنف وللقتل اللذين يستندان إلى الدين اليهودي ذاته، وذلك بالرغم من أن غالبية المستوطنين اليهود لم يكونوا يمارسون اليهودية، وكان كثير منهم ملحدين علناً، ولعله لهذا السبب مَثَّلَت مجزرةٌ مثل مجزرة “دير ياسين” أحد أسباب النصر كما يرى “مناحيم بيجن” الذي قال: “لولا النصر في دير ياسين، لما كانت هناك دولة إسرائيل”.

وهذه حقيقة، لأن هوية هذه الدولة هي القتل، واستهداف الإنسان بصفته إنساناً، ولذلك فقد كان لزاماً عليها أن تكون ولادة هويتها قد تشكلت عبر أعمال من شأنها أن تُثَبِّتَ هذا البعد فيها، ولقد كانت مجزرة “ديرياسين” وغيرها من المجازر التي سبقتها وتلك التي تلتها، هي بمثابة الأعمال المنشئة لتلك الهوية والمبقية على مبررات استمرارها.

ولعل الوصف الذي أورده “جاك رينيه” كبير مندوبي هيئة الصليب الأحمر الدولية لتلك المجزرة في حينها، أبلغ دليل على ما نقوله. فقد صرح بحرقة حقيقية: “لقد ذُبح ثلاث مائة شخص بدون أي مبرر عسكري أو استفزاز من أي نوع، وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساءً وأطفالاً وصغار، اغتيلوا بوحشية بالقنابل اليدوية والمُدي وبأيدي قوات “أرجون” اليهودية، تحت الإشراف والتوجيه الكاملين لرؤسائها”.

كما أن “رينيه” وصف القوات اليهودية التي لقيها في مكان الحادث قائلاً: “أنها تألفت من رجال ونساء مسلحين بالمسدسات والمدافع نصف الرشاشة والقنابل اليدوية، ومُدْيٍ كثيرة كان معظمها لا يزال ملطخاً بالدماء. بل إن شابة أرته مُدْيَتَها وهي لا تزال تقطر دماً، وكأنها علامة على النصر”.. شابَّةُ ودم ونصر وفخار بقتل العزل.. إنها المعادلة العار التي لا تجتمع أطرافها إلا في هذا النوع الغريب من البشر.

في مقال له بعنوان “حقيقة عن فلسطين” نشر عام (1891)، أي قبل أن يكون الإرهاب الصهيوني في فلسطين قد أخذ شكله المبرمج، قال “آحادها عام”، المفكر الصهيوني، منتقداً الممارسات اليهودية الأولى في فلسطين: “ماذا يفعل إخواننا المهاجرون اليهود في فلسطين؟! لقد كانوا عبيداً في بلاد الدياسبورا، وفجأة وجدوا أنفسهم وسط حرية بلا رادع لها، ولقد وَلَّدَ هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلاً إلى الاستبداد، كما تكون الحال عندما يصبح العبد سيداً، إنهم يعاملون العرب بروح العداء والشراسة، ويهينون حقوقهم بصورة مُعْوَجة وغير معقولة، ثم يوجهون لهم الإهانات دون أي مبرر كافٍ ويتفاخرون بتلك الأفعال فوق كل ذلك، وليس هناك بيننا من يقف في وجه هذا الاتجاه الخسيس والخطير في آن واحد”.

لكن “آحادها عام” يزداد قلقاً واشمئزازاً كلما تمادى اليهود في فلسطين في جرائمهم وممارساتهم العدوانية تجاه العرب، إلى أن يغدو صوته نشازاً، مع أنه أحد الآباء الروحيين لمعتقد العودة إلى أورشليم، ففي الثامن من أيلول/سبتمبر عام (1922) وعندما كان الإجرام الصهيوني في فلسطين في بداياته ولم يبلغ ذروته بعد، صرخ “آحادها عام” صرخته الشهيرة في خطاب مفتوح بعث به إلى جريدة “هاآرتس”، قائلا فيه بألم وحرقة دلت على أنه يهودي أكثر منه صهيونياً: “.. يا إلهي.. أهذه هي النهاية؟! هل هذا هو حلم العودة إلى صهيون؟! أن ندنس ترابها بدم الأبرياء؟! إن الله يكون قد أنزل بي العذاب، إذا مد في حياتي حتى أرى بعيني رأسي أنني قد حدت عن جادة الصواب.. إذا كان هذا هو المسيح، فإنني لا أريد رؤية عودته”.

لا تستعجل استحضار آلامك يا هذا المفزوع من رؤية بعض الأشلاء التي لونت طريقك إلى صهيون. فهذه لم تكن هي النهاية كما صور لك خيالك القاصر، بل كانت البداية، والأبرياء الذين هزَّك سقوطهم في ذلك التاريخ لم يكونوا كل ما في جعبة تلامذتك من جرائم القتل. لم يكونوا سوى قطرة من بحور دماء الأبرياء التي ستراق بعد ذلك، وأطمئن في قبرك وأحرق كل أوراق عودتك فالمسألة كلها لا علاقة لها لا بالمسيح ولا بعودته، إن كانت له من عودة.

ولكن علينا أن نعترف بأن الجذور والدوافع التي تستند إليها الشخصية الصهيونية في ممارساتها العدوانية ضد العرب والفلسطينيين، تُسْتَلْهَمُ غالباً من التراث الديني اليهودي بالدرجة الأولى. إن التوراة تطبع العقيدة العدوانية لدى اليهود الصهاينة بطابع خاص يقوم على مبدأ الربط الوثيق بين “حرب إسرائيل” و”رب إسرائيل”، ليُصبح هذا الرب هو “رب الجنود”، الذي يُمَّهد لبني إسرائيل السبيل لتحقيق مآربهم في الغزو والاحتلال وطرد الشعوب. فقد جاء في التوراة.. “الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحو اسمهم من تحت السماء”.

وهو الرب القاسي المتوحش الذي لا يعرف الرحمة بالإنسان أو الحيوان.. “إلهك في وسطك، إنه عظيم ومُخَوِّف”.. “فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة”.. “الرب إلهك هو العابر أمامك ناراً آكلة. هو يبيدهم ويذلهم أمامك، فتطردهم وتهلكهم سريعاً كما كلمك الرب”.. “ثم كلم الرب موسى قائلاً: أرسل رجالك ليتجسسوا على أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل”.. ورد موسى قائلاً: “فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها”.. ويوصي الرب موسى قائلاً: “تطردون كل سكان الأرض من أماكنهم وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم”.

وهناك علاوة على كل القسوة والدموية التي سبقت، صورة بشعة أخرى لأخلاقيات الحرب تتضمنها هذه الوصية من رب الجنود.. “وحين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون للتسخير ويُسْتَعْبَد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إليك، إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة وكل غنيمتها فتضمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هذه الأمم هنا. أما مدن هذه الشعوب التي يعطيك الرب إلهك فلا تستبق منها نسمة ما”.

بهذا يوصي الرب جنوده وأنبياءه وشعبه المختار في سفر التثنية، في مخالفة لأوصاف كل الأرباب الذين عرفناهم حتى في حضارات الوثنيين وعباد الأجرام والأرواح، ناهيك عن أتباع ديانات السماء التي يفترض أن التوراة تحتل مكان الصدارة التاريخية في الكتب التي أوحت بها، وتمثل الرب الذي بعث بها، متحدثاً عن نفسه في غيرها كالإنجيل والقرآن بأنه الرحيم الودود الذي وسعت رحمته كل شيء، وبأنه يحب الإنسان الذي خلقه ولا يرغب في رؤية دمه مهدوراً ومراقاً، وبأنه يعتبر قتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعاً، لا بل أنه في تعاليم المسيحية قد قدم نفسه قرباناً لفدية أبنائه المخطئين من بني البشر ليكفر عنهم خطاياهم بالتضحية بنفسه، بينما هو ينتشي في التوراة برؤية دماء الأطفال والأبرياء بل وحتى البهائم وهي تسفك بهذه البربرية التي عز نظيرها في التاريخ، لا بل إنه انعدم!!

الفصل التاسع: مؤسسات التنشئة الاجتماعية ودورها في تكوين السيكولوجية اليهودية

إن الأسرة الإسرائيلية تقوم بدورها، وليس في مقدور المنظمة الصهيونية ولا الدولة الإسرائيلية أن تَحول بينها وبين ذلك الدور الذي تفرضه طبيعة الإنسان البيولوجية. ولكن ما هي الأسرة الإسرائيلية؟! فمصطلح الأسرة كوحدة تنظيم اجتماعي في مجتمع ماَّ إنما يعني حالةً مُجتمعية تقضي بتوفر حد أدنى من التشابه بين وحدات ذلك التنظيم المختلفة التي هي الأسر. وهذا أمر لا يمكن تصوره في المجتمع الإسرائيلي بالصورة الموجودة في مجتمعات أخرى.

فالأسر النازحة إلى إسرائيل تحمل معها مفردات حضارية لحضارات شتى، ولكل حضارة تراثها بما فيه من عادات وتقاليد وقِيم وأنماط سلوكية وفكرية، ما ينعكس على خريطة البُنْيَة الأسرية للمجتمع الإسرائيلي، جاعلاً إياه لوحة فسيفسائية بلا معالم حقيقية أو وحدة موضوع. وإذن فإن الدور الذي تلعبه الأسرة الإسرائيلية في عملية التنشئة الاجتماعية لم يحقق في حقيقة الأمر ما يرجوه مؤسسو التجمع الإسرائيلي من الإسهام الفاعل في خلق تكوين سيكولوجي إسرائيلي مُوَحَّد للشخصية اليهودية الإسرائيلية.

وبإزاء هذا الواقع المرير الذي لا مجال لتجاوزه أو القفز عليه أو اللعب به أو التحكم فيه، لم يكن من حلٍ أمام القائمين على أمر صناعة المجتمع الإسرائيلي، إلا الاعتماد على مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى من أجل تحقيق ما لم تنجح الأسرة الإسرائيلية في تحقيقه، بحكم تباين المصادر الحضارية والثقافية لوحدات الخريطة الأسرية، وما يترتب على ذلك من تباين في التكوينات السيكولوجية التي تُوَرِّثُها تلك الوحدات إلى الأجيال القادمة.

وهكذا فقد اعتمدت التنشئة الاجتماعية في إسرائيل بالفعل على عدد من المؤسسات، تعمل جميعها وفي وقت واحد، مُسْتَهْدِفَة إلى جانب مهماتها ذات الطابع المتخصص، الإسهام قدر ما تستطيع في خلق التكوين السيكولوجي الإسرائيلي الواحد والموحد، وهذه المؤسسات تنقسم إلى أربع مؤسسات رئيسية هي:

1 – مؤسسات التنشئة الاجتماعية التعليمية.

2 – مؤسسات التنشئة الاجتماعية العسكرية.

3 – مؤسسات التنشئة الاجتماعية الدينية.

4 – مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأيديولوجية.

تعتبر اللغة العبرية الأداة الأساسية والفاعلة التي تستخدمها السلطات القائمة على إدارة مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة في إسرائيل، لتحقيق هدفين، الأول يتمثل في محاولة تدعيم فكرة الامتداد التاريخي لليهود من خلال تمثلهم للأدب اليهودي القديم المكتوب بالعبرية. فيما يتمثل الهدف الثاني في خلق الأرضية المناسبة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية لكي تمارس عملها ومحاولاتها في توحيد التكوين السيكولوجي للشخصية اليهودية في التجمع الإسرائيلي.

ومع ذلك فإنه لم يتسن للحركة الصهيونية أو لصانعي المجتمع الإسرائيلي تحقيق هذين الهدفين، وعلى وجه الخصوص الثاني منهما، بفعالية ومردود عبر استخدام هذه الأداة.. يقول “ميلفورد سبيرو” في كتابه “أطفال الكيبوتز”: “ينظر السابرا إلى كافة أشكال الأدب اليهودي تقريباً باعتبارها مثيرة للتقزز بدرجة تجعلهم لا يقدمون على محاولة قراءته، ويمتد ذلك إلى الأدب الصهيوني الحديث أيضاً”.

وإذن فما الذي حققته المؤسسات التعليمية في سياق محاولة خلق التكوين السيكولوجي الموحد لدى الشخصية اليهودية الإسرائيلية؟

في الدراسة التي أجراها العالم الأمريكي “جورج تامارين”، ونشرتها له الصحف الإسرائيلية في أواخر عقد السبعينيات، توصل إلى نتائج هامة وذات دلالة بهذا الخصوص.. فلقد تلخصت دراسة “تامارين” في توزيع (1066) بطاقة استطلاع رأي على (503) فتاة و(563) فتىً من تلاميذ مختلف فصول عدة مدارس إسرائيلية.

تتضمن البطاقة عرضاً لإحدى قصص التوراة الداخلة في البرنامج الدراسي لهؤلاء الطلاب من الصف الرابع وحتى الصف الثامن، وتدور القصة حول دخول “عيسوي نافين” بجيشه مدينة “أريحون”، وقضائه على ما فيها من كائن يتنفس، وكانت البطاقة تطلب من التلميذ الإجابة على سؤالين..

يدور الأول حول مدى خطأ أو صواب تصرف “عيسوي نافين”.

ويدور الثاني حول مدى جواز أن يفعل الإسرائيليون بسكان قرية عربية ما فعله “عيسوي نافين” نفسه.

وردت في إجابات التلاميذ عبارتان بالغتا الدلالة، بنسبة تشابه في الأجوبة تراوحت من (66%) إلى (95%) مع تغيير المدرسة أو المدينة أو المستعمرة.

الإجابة الأولى تقول: “ليس من المرغوب فيه أن توجد عناصر أجنبية في إسرائيل، فقد يكون لوجود سكان يدينون بأديان أخرى أثر ضار على الإسرائيليين”.

أما الإجابة الثانية فتقول: “في رأيي أنه يتحتم على جيشنا أن يفعل بأهالي القرية العربية نفس ما فعله عيسوي نافين بأهالي أريحون. فالعرب أعداؤنا، وحتى في الأسر لابد أنهم سيحاولون انتهاز الفرصة للفتك بحراسهم”.

من الواضح أن هناك بُعدين رئيسيين تجلياً بما لا يحتمل اللبس في إجابات التلاميذ الإسرائيليين، أما البعد الأول فهو الإحساس المتأصل بتعرض اليهود للخطر، بحيث يمكن أن يعد مجرد وجود مجموعة من العرب الأسرى خطراً على آسريهم من اليهود. وأما البعد الثاني فهو ذلك الإحساس المتجذر والغلاب بتمايز اليهود عن غيرهم، حتى أن من يعتنقون أدياناً أخرى يكونون بمثابة العناصر الأجنبية الضارة في إسرائيل.

ماذا يمكننا أن نستنتج من ذلك؟!

ببساطة شديدة فإن المؤسسات التعليمية الإسرائيلية مُسْتَغِلَّة نصوص التوراة، إنما تسعى إلى تحقيق هدفين. الأول، تدعيم الانتماء التاريخي ليهود إسرائيل إلى التاريخ اليهودي القديم، والثاني، تدعيم عنصرين رئيسيين في التكوين السيكولوجي الإسرائيلي المعاصر، وهما عنصر التمايز وعنصر الشعور بالاضطهاد. إلاَّ أن هناك عقبة هامة تعوق قيام المؤسسات التعليمية بدورها في مجال التنشئة الاجتماعية.

تتمثل هذه العقبة في حقيقة أن التلاميذ وهم داخل مجال التأثير الحقيقي للمؤسسات التعليمية، يبدأون علاقتهم بتلك المؤسسات وهم مازالوا أقرب إلى دائرة التأثير الفعال للأسرة، ما قد يسبب شيئاً من الصعوبة في بلوغ تأثير المؤسسات التعليمية عليهم غايته المرجوة.

أي أن التلميذ الذي يُتَوَقع منه أن يتأثر بمُدْخلات المؤسسة التعليمية إلى الحد الكفيل بدفعه إلى إمكانية التَّكَيُّف النفسي مع تلك المُدْخلات، هو في واقع الأمر ابن المرحلة العمرية التي يكون صاحبها واقعاً وقوعاً خضوعياً تحت تأثير المُدْخَلات التكوينية الأسرية، الأكثر قدرة من المُدْخلات التكوينية التعليمية على التحكم في تكوينه النفسي.

إن هذا على وجه التحديد هو ما تمت الإشارة إليه بالعقبة التي تعوق المؤسسة التعليمية عن أداء دورها في التنشئة الاجتماعية المُستهدفة الغايات بنجاح، مادامت هناك مؤسسةُ تنشئةٍ اجتماعيةٍ أخرى، هي الأسرة، تزاحمها بقوة على أداء هذا الدور، بما يعنيه في إسرائيل من عودة إلى نقطة الصفر التي هي العجز عن توحيد البناء السيكولوجي لليهود الإسرائيليين المنحدرين من أكثر من مائة ثقافة عالمية، أو بقاء فيها من غير حراك في الاتجاه المطلوب من حيث المبدأ.

وبإزاء ذلك وما يعنيه من عدم قدرة المؤسسات التعليمية التي ستقتطع فترة زمنية طويلة نسبياً من عمر الطفل اليهودي في مرحلة التكوين النفسي، على استغلال تلك الفترة في رَدْمِ الهوة النفسية الموجودة بين مختلف الإسرائيليين بسبب الأسرة، لم يكن هناك بد من أن تقوم مؤسسات أخرى بتَلَقُّف ذلك اليهودي بعد أن تَقذفه المؤسسات التعليمية خارجها، لتقوم باستكمال الدور الذي لم تتمكن تلك المؤسسات من استكماله، ربما تستطيع تحقيق ما عجزت عن تحقيقه، وهذه المؤسسات هي المؤسسات العسكرية.

من هنا جاءت أهمية الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات في استكمال عملية التنشئة الاجتماعية وتوجيهها نحو ما يُمَكِّنُها من تحقيق الوحدة السيكولوجية للإنسان اليهودي الإسرائيلي، بعد أن قَصَّرت الأسرة وقصرت المؤسسة التعليمية عن تحقيق الغاية في صورتها الطموح، حتى عبر أبرز وأهم مدخلاتها، ألا وهو عنصر “اللغة العبرية”.

لكن المؤسسة العسكرية لم تجد أمامها سوى أن تجتَرَ ما كانت تجتره قبلها المؤسسات التعليمية، ولكن بأسلوب عسكري يتناسب مع طبيعة المؤسسة ومع طبيعة المرحلة العمرية للمنتسبين إليها. لذلك فقد رأينا أن جوهر ما تقوم المؤسسات العسكرية الإسرائيلية بتلقينه للجنود فيما يتصل بعملية التنشئة الاجتماعية بهدف خلق تكوين سيكولوجي موحد بينهم، هو تنمية الشعور بأن ثمة تاريخ قديم يربط بين يهود التوراة ويهود إسرائيل.

إن كتاب التاريخ العبري الذي يُدَرَّس للجنود الإسرائيليين، يتضمن سردا ًكاملاً ومكثفاً لآلاف السنين الماضية، وبخاصة حكاية الأعوام الأربعين التي تاه خلالها العبرانيون في الصحراء، وحكاية خراب الهيكل، علاوة على ما يعتقدون أنه القمم التي ارتفعت إليها رسالة العبرانيين عبر التاريخ إلى ما فوق مستوى جميع الحضارات الماضية والحاضرة.

أما فيما يتصل بالتوراة، فإن انتقاء فصول معينة منها، يكشف لنا عن طابع عام يجمع بين تلك الفصول المنتقاة جميعاً، وهو عُنْف الإسرائيليين البالغ في مواجهتهم لأعدائهم الذين لم يكفوا عن العدوان عليهم طوال ذلك التاريخ القديم، ودمويتهم غير المسبوقة ولا الملحوقة في التعامل معهم. أي أننا مرة أخرى في مواجهة نفس العنصرين اللذين وجدناهما في صميم التكوين السيكولوجي لسكان “الجيتو” والمتمردين عليه “الحالوتس”، واللذين وجدناهما أيضاً في صميم الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها المؤسسات التعليمية في إسرائيل أيضاً، إنهما عنصرا الشعور بالتمايز والشعور بالاضطهاد.

ولعل الأهمية التي بدت للصهاينة الأوائل في الدور الذي يمكن للمؤسسات العسكرية أن تلعبه في تحديد التكوين السيكولوجي لليهودي الإسرائيلي في كل الأوقات التي يمر بها التجمع الإسرائيلي خلال صيرورته، هو الذي جعل تلك المؤسسات تنشأ في سياق تاريخي مقلوب يختلف عن كل ما حصل وسيحصل في كل أنحاء العالم.

فما يحدث عادة هو أن تنشأ الأمة في ظروف صيرورة تاريخية معينة، ثم تقوم الدولة وتتحدد أبعادها السياسية والأيديولوجية والطبيعية، بل والنفسية أيضاً، لتتحدد بالتالي التنظيمات السياسية والمجتمعية المناسبة لها وفق الظروف الثقافية التي أنشأتها، لتتشكل أخيراً المؤسسات العسكرية وفقاً لكل تلك المقتضيات، ونتيجةً لها. لكن الأمر بالنسبة للتَّجَمُّع الإسرائيلي سار على عكس ذلك المسار تماماً.

إن المؤسسات العسكرية كانت هي أول ما شهدته أرض فلسطين من بُنَى تنظيمية وَلَّدَتها الحركة الصهيونة المتكونة خارج الأرض الفلسطينية، ثم تلتها التنظيمات السياسية الإسرائيلية، وبعد ذلك نشأت الدولة الإسرائيلية التي راحت بعد ذلك تُعِدُّ العدة لتكوين الشعب والمجتمع الإسرائيلي وفق أسس فكرية ونفسية حُدِّدَت من خارج صيرورته الطبيعية، مادامت هذه الصيرورة غير موجودة من حيث المبدأ على أرض فلسطين ولا خارج أرض فلسطين.

أي أن المؤسسات العسكرية الإسرائيلية كانت هي بداية النشاط الصهيوني على أرض فلسطين وهي منتهاه أيضاً. ولكن ما يجب أن يلفت انتباهنا حقاً في هذا السياق، هو أنه بنفس القدر الذي نجحت فيه المؤسسات العسكرية – وإن يكن نسبياً – في خلق بذور لمقومات الوحدة السيكولوجية لدى شريحة من يهود إسرائيل، فشلت الصهيونية وتعثرت في استخدام الديانة اليهودية كمحور يتجمع حوله الإسرائيليون، وتتشكل من خلاله وحدة تكوينهم السيكولوجي.

فلقد نشأت حركة “الحالوتس” في البداية احتجاجا على الحياة اليهودية في الدياسبورا، وبالتحديد على الحياة دينية الطابع في الجيتو، ولما كان التمسك بالدين اليهودي في أشد صوره تشدداً وانعزالية وبتقاليده المنفرة، يُعد سمة رئيسية من سمات تلك الحياة، فإن تمرد جيل الحالوتس – وهو الجيل الذي ترك بصماتٍ واضحةً على الحياة في إسرائيل حتى اليوم – كان لا بد وأن يمتد إلى طقوس ذلك الدين الذي تمسك به آباؤهم الذين هاهم يتمردون عليهم كأشد ما يكون التمرد.

من جهة أخرى فقد كان التمسك الشديد بطقوس الدين اليهودي في الدياسبورا تعبيراً عن الشعور بالتمايز، والاختلاف عن الآخرين. أمَّا بعد أن أصبح الدين اليهودي هو الدين الرسمي للدولة الجديدة، فإن التمسك الشديد بتلك الطقوس، فقد دوره الوظيفي فانتفت الحاجة إليه.

أما التعارض الحقيقي والصارخ وغير القابل للحل بين تعاليم وطقوس الدين اليهودي بالغة الفجاجة والبدائية والقِدَم، وبين ظروف الحياة الفعلية غربية الطابع التي يعيشها التجمع الإسرائيلي حالياُ، فيعد ربما أحد أهم الأسباب التي أفقدت الدين اليهودي دوره في توحيد اليهود في المجتمع الإسرائيلي.

إذ كيف يمكن لهذا الدين أن يكون عاملاً مُوَحِّداً ومُمَحْوِراً حوله لمجتمع حكمته امرأة هي “جولدا مائير” في الوقت الذي تصرخ فيه نصوصه المقدسة المنتشرة في توراته وتلموده، بضرورة أن يحمد الرجل اليهودي الرب ألف مرة لأنه لم يخلقه امرأة!! تُرى هل يمكن للدين اليهودي أن يكون هو جوهر المجتمع الإسرائيلي، فيما نجد من بين أبنائه الخُلَّص من يرددون في فخر واعتزاز أن أطفالهم لا يبدو على مظهرهم أنهم يهود؟!

إن اليهودي الفرنسي “جورج فريدمان” في كتابه “أهي نهاية الشعب اليهودي”، لم يستطع إلاَ أن يقرر أن وحدة الشعب اليهودي ليست سوى مفهوم برامجاني لا حقيقة له ولا وجود. فهو يعتقد أن هناك استحالة واضحة في تعريف الشعب اليهودي من خلال الدين. ألا يعني ذلك مرة أخرى أن الدين اليهودي لا يمكنه أن يكون مُحَدِّداً لجوهر التجمع الإسرائيلي الصهيوني رغم أن كل سكانه يهود بوجه عام؟!

وكيف يكون كذلك ونحن نسمع من بين أبناء هذا التجمع من يقول: “إني أكرههم هؤلاء اليهود المتدينون، وحين أراهم أستطيع أن أفهم لماذا يصبح الناس معادين للسامية”. فإذا فشل الدين اليهودي في توحيد السيكولوجيا الإسرائيلية، وإذا كانت المؤسسات التعليمية في ذلك أفشل، وإذا كانت المؤسسات العسكرية عاجزة عن لملمة أشلاء هذه السيكولوجيا التي بعثرتها المؤسسات الدينية وقبلها المؤسسات التعليمية بسبب قصورها عن خلق المُكَوِّن النفسي المُوَحِّد لليهود الإسرائيليين، وإذا كانت الأسرة – ولعل هذا أهم ما في الموضوع – قد مثلت أكبر حجر عثرة حقيقي في وجه كل المحاولات الرامية إلى خلق ذلك المكون النفسي الموحد.. نقول: إذا كان الفشل هو حليف كل هؤلاء في تحقيق الهدف المرجو، فهل ينجح البحث عن أيديولوجية بديلة في تجميع الإسرائيليين؟!

في واقع الأمر فإن البحث عن هذا البديل الأيديولوجي الهادف إلى لملمة فتات النفسية اليهودية المقطعة الأوصال لم يثبت فشله فحسب بل وزيفه وكذبه أيضاً، لأن طبيعة الصهيونية وبالتالي طبيعة التجمع الذي تسعى إلى خلقه عصيتان على أي انتماء أيديولوجي حقيقي.

فلقد أوضح “برنشتاين” في كتابه “سياسات إسرائيل”، زيف مزاعم وجود أيديولوجية إشتراكية في إسرائيل يلتف حولها قسم من هذا المجتمع.. فهو يرى أنه “بينما تقوم الحركات الإشتراكية عادة بتنظيم طبقة عاملة موجودة بالفعل من أجل الصراع الطبقي ضد استغلال الرأسمالية. فإن الاشتراكية الصهيونية قد خَلَقَت في فلسطين بروليتاريا يهودية – مع قدر من التحفظ على وصفها بالبروليتاريا – تلقى دعماً مالياً وسياسياً من الرأسمالية اليهودية في أمريكا وأوروبا”.. لقد أصبح “الهستدروت” بمثابة أكبر المستثمرين في الإقتصاد الإسرائيلي.

وعلى عكس ما هو مألوف، فإن الأحزاب الاشتراكية في إسرائيل تعارض بوجه عام، التأميم والتخطيط الحكومي الشامل، فيما تقف الأحزاب المدافعة عن الإقتصاد الخاص في صف التخطيط الاقتصادي، كما أنها تضغط من أجل تأميم الصناعات الأساسية المملوكة للهستدروت.

تُرى، ألا تذكرنا هذه الصورة بموقف الأحزاب الإشتراكية والديموقراطية الألمانية من الاحتكارات في عهد هتلر والنازية؟!

وإذن أين المفر؟! وما العمل؟! وهل سيحقق “السابرا” عبر “الكبيوتز” ما عجزت عن تحقيقه بالصورة المَرْجُوَّة كافة المؤسسات التعليمية والعسكرية والدينية والأيديولوجية، وما وقفت في طريقه بالمرصاد مؤسسة الأسرة قبل ذلك؟! [1]

الطوائف الدينية والأمن القومي الإسرائيلي

اقرأ ايضا الطوائف الدينية والأمن القومي الإسرائيلي


[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close