fbpx
دراساتمجتمع

طبائع المصريين: الأصول والتطورات وعوامل التغير (2)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يجدر بنا طرح سؤال معضل، وهو: كيف نشأ الطغيان في مصر ؟ وما هي جذوره؟ فالغريب أنه على طول التاريخ المصري بداية من العصر الفرعوني مروراً بالعصور التالية حتى عصرنا الحالي، نجد أن ثمة عاملاً مشتركاً بينها باستثناء بعض الحقب الزمنية القصيرة، وذلك العامل هو الطغيان والاستبداد.

فبداية من الطغيان الفرعوني مروراً بالروماني وصولاً لمرحلة الحكم العربي والتي شهدت في بدايتها ولفترة زمنية حالة من الحكم المعتدل، ثم طغى عليها الطغيان والاستبداد وصولاً إلى مرحلة المماليك والتي كان لها الأثر الأكبر في تشكيل وجدان المصريين وصولاً إلى الدولة الحديثة حتى لحظتنا الراهنة.

فالطغيان لم يكن حالة عابرة، بل هو أمر ثابت مستقر، “قال المسعودي: وذكر جماعة من أهل العلم بالسير والأخبار أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما أراد الشخوص إلى العراق -حين بلغه ما عليه الأعاجم من الجمع ببلادهم- سأل كعب الأحبار عن العراق، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لما خلق الأشياء ألحق كل شيء بشيء.

فقال العقل: أنا لاحق بالعراق. فقال العلم: وأنا معك.

فقال المال: وأنا لاحق بالشام. فقالت الفتن: وأنا معك.

فقال الخصب: وأنا لاحق بمصر. فقال الذل: وأنا معك.

فقال الفقر: وأنا لاحق بالحجاز. فقالت القناعة: وأنا معك.

فقال الشقاء: وأنا لاحق بالبوادي. فقالت الصحة: وأنا معك”[1].

وبغض النظر عن اختلافنا مع بعض مضامين هذا النص؛ إذ إن الفتن -في وجهة نظري- ألصق بأهل العراق أكثر منه بأهل الشام، والعلم في أهل مصر له حظ وافر، إلا أن النص كاشف عن الصورة النمطية التي أصبحت سائدة عن المصريين وعلاقتهم بحكامهم.

واللافت للنظر أن المزايا التي تمتعت بها البيئة المصرية وساعدت على تكوين الدولة وترسيخ وجودها كانت في حد ذاتها هي عوامل نشأة الطغيان والاستبداد المصري. ويحلل إيتيان دو لا بويسي قبول استذلال الشعوب فقال: “لابد للناس -ما داموا ناساً فقبلوا بالاستذلال- من أحد أمرين اثنين: إما أنهم مقهورون أو هم مخدوعون. فالمقهورون يكونون كذلك بأسلحة الأجنبي. ويكون المخدوعون بالزمر والأحزاب، وغالباً ما يفقدون بوقوعهم ضحايا الخديعة، لكن قلما يغويهم خداع الغير بقدر ما يخدعون أنفسهم”[2]. والمصريون كغيرهم من الشعوب وقعوا في قبول المذلة إما للقهر الواقع عليهم، أو نتيجة لخداعهم. وقد فصّل د. جمال حمدان أصل البلاء عند المصريين بقوله: “لقد جاء الطغيان الفرعوني نتيجة حتمية للدولة المركزية، وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية. وكما كان لهذه المعادلة أو المسلسلة الإيكولوجية[3] مزاياها الواضحة، فلقد كان لها عيوبها الأوضح. نعم، بها كانت مصر أول وحدة سياسية، أو أول دولة موحدة في التاريخ، لكنها -أيضاً- صارت بها على الأرجح أول طغيان في الأرض، وأقدم وأعرق حكومة مركزية في العالم، ولكن أقدم وأعرض استبداد -أيضاً.

لقد دفع المصري منذ البداية ثمن وحدته السياسية المبكرة من حريته السياسية، واشترى الأمن الاجتماعي بالحرية الاجتماعية. وفي النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة، فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم، وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب. من هنا فإن الحكومة المركزية السباقة، التي نسرف في التفاخر بها عادة، ليست خيراً محضاً، بل لها مثالبها وثمنها الفادح، وسنرى كم يصدق هذا حتى وقتنا الحالي”[4].

ويؤكد د. محمد عبد الفتاح المهدي خبير الطب النفسي على كلام حمدان قائلاً: “وهناك من يقول بأن النيل (أو المجتمع النهري) هو أحد العوامل الكامنة خلف الطغيان في المجتمع المصري وليس كلها، وقد قال في هذا المعنى بارتملي سانت هيلر: (منذ الفراعنة كتبت على سكان مصر العبودية السياسية، وإني أبعد ما أكون عن القول بأن النيل هو السبب الوحيد لهذا الوضع المحزن، وإني لمدرك أن ثمة كثيراً من الناس أكثر عبودية وبؤساً دون أن يكون لديهم نيل.

كل ما أود أن أقوله هو أن النظام الطبيعي لهذا النهر العظيم كان في مصر أحد أسباب الطغيان، لقد وجد الطغيان فيه نوعاً من الضرورة، وكذلك حجة وذريعة خاصة) [Saint Hilaire  1857]”[5].

إذن فقد كانت السيطرة على نهر النيل من قديم الزمن تعني السيطرة على زمام الأمور والتحكم في الدولة، فنهر النيل هو أمان الشعب ومصدر غذائه، وولاء الشعب دائماً يكون لسيد النهر والمتحكم في جسوره وفروعه، لذا يجب هنا الخضوع التام لذلك السيد وعدم معارضته؛ فالمعارضة تعني قطع ماء النهر، ما يعني انعدام الحياة.

يقول ميلاد حنا: “إن التكوين النفسي للمصريين -مسلمين وأقباطاً- هو تراث الحضارات الزراعية المستقرة في الوديان المنبسطة منذ آلاف السنين حيث الأمان والولاء للحكومة المركزية التي تملك مفاتيح الحياة عن طريق نهر النيل العظيم، الشريان الذي يوصل الأمن إلى كل نجع في الوادي عبر القرون”[6].

هذا القول المتأصل عن المصريين له دلائله وشواهده في الواقع القديم والحديث، لكن في المقابل لو دققنا النظر -على الأقل- في العصر الحديث لوجدنا أن المصريين قد هبّوا هبّات كثيرة ضد المستعمرين والمستبدين، حتى إني قد قدّرت الفترة ما تحركات المصريين وهبّاتهم ما بين 25 إلى 30 سنة.

فانظر إلى ثورة عرابي التي بدأت سنة 1879م، ثم ثورة 1919م، ثم انقلاب يوليو 1952م، ثم انتفاضة الخبز 1977م التي سماها السادات: ثورة الحرامية، ثم انتفاضة الأمن المركزي سنة 1986م، ثم وقفات القضاة الاحتجاجية في 2005م ونزول الإخوان لأول مرة للشارع، ثم ثورة يناير 2011م.

هذه الأحداث قد تختلف وجهات النظر في تقييم دورها وأثرها، لكنها توحي وتؤكد على أن الحركية موجودة في الشعب المصري أو في بعض شرائحه التي تصبو إلى تغيير الوضع القائم أو تصحيحه.

صحيح أن معظم تلك الثورات أو الهبّات فشلت في تحقيق أهدافها ومطالبها وقد تم وأدها أو الالتفاف حولها، ولم ينجح إلا انقلاب يوليو 1952م، لكن المهم عندي إثبات أن الحركية الساعية لتغيير الأوضاع ومدافعة الاستبداد قد تضعف لكنها لا تتلاشى، وتظل جذوتها متقدة في بعض الصدور.

أضف إلى ذلك أمر آخر وقفت عليه، وهو إذا كانت النظرية تقول: المجتمعات النهرية يكثر فيها الاستبداد السياسي؛ لارتباط تلك المجتمعات بالزراعة والاستقرار. فإنه قد حدث في عهد السادات تغير في نشاط السكان في مصر، فلم تعد بلداً زراعيّاً، بل أصبحت بلداً بلا ملامح لها، فلا تعرف هل هي تجارية أم صناعية، لكنها في كل الأحوال لم تعد زراعية. بالإضافة إلى جفاف النيل بإقامة إثيوبيا السدود عليه.

فهل هذا التغير سيجعل تلك النظرية لا تنطبق انطباقاً تامّاً على المصريين، أم أن الاستبداد والطغيان متوطن في مصر؟

أظن أن تغير المجتمع سيعمل بالضرورة على تغير تعامله مع الأنظمة الحاكمة له.

وقد لاحظت أن فكرة الاستقرار التي كان يلمسها المجتمع في الزراعة قد استعاضت الدولة عنها في عهد السادات وأول عصر مبارك بالاستقرار الوظيفي، والعمل في دولاب العمل الحكومي. فالعمل في الدولة تجعل هناك استقراراً للملتحقين بهذه الوظائف من الشعب، وهذا الاستقرار جعل الشعب بجميع فئاته يطمح للعمل في الحكومة، حتى إن الشعب قال في ذلك مثلاً يدل على هذا السعي وهو: إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه. وهي يعني ألا تفوتك فرصة العمل الحكومي أبداً. لكن سياسة الخصخصة التي اتبعها مبارك في النصف الثاني لحكمه قد ضربت هذا الاستقرار في مقتل. فكل هذه التغيرات المجتمعية تدل عندي دلالة واضحة أن التعاطي مع الاستبداد والطغيان سيأخذ شكلاً آخر لم يكن موجوداً من قبل في العصور السابقة.

والدولة تستخدم العصا الغليظة وتصنع دولة الخوف وتفرض ما تشاه على الشعب، وتظن أنها تفرض استقراراً بالقهر، لكن الصبر الذي كان يُشتهر به المصري قديماً لم يعد على نفس الدرجة؛ فقد عيل صبره، وكثر تململه.

الطبيعة والشخصية المصرية

قد قررنا أن للبيئة أثراً كبيراً في تكوين وتحديد المواصفات للشخصية، وتحديد أسلوب تفكيرها ومعالجتها للأمور وتنظيم وإدارة شؤون الحياة.

فشخصية مواطن البيئة القاسية يختلف تماماً عن المواطن الذي يعيش في بيئة سهلة طيعة، أخطارها قليلة.

كذلك المواطن الذي يعيش على ساحل البحر تختلف شخصيته عن المواطن البدوي الذي يقطن قلب الصحراء مع ما يواجهه فيها من مخاطر وصعاب.

يقول د. المهدي: “للطبيعة أثر كبير على الشخصية لدرجة أن علماء النفس والاجتماع استطاعوا أن يضعوا صفات مميزة لسكان المناطق الريفية تميزهم عن سكان سواحل البحار، وتميز هؤلاء وهؤلاء عن سكان الجبال والصحاري”[7].

وقد تميزت البيئة المصرية بالوداعة والهدوء وقلة أخطارها الطبيعية؛ فهي خالية من التضاريس الوعرة, والصحاري الموحشة، وتتميز بالمناخ الجيد المعتدل؛ فهو غير قارس البرودة، وغير شديد الحرارة الخانقة، ولم تهددها كوارث طبيعية كالبراكين والزلازل.

“يقول جوستاف لوبون في كتابه (الحضارة المصرية القديمة): (إذا كان المصري قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة، فإنه قد جهل الآلام المفزعة والتي تنشأ على شواطئ البحار الموحشة، وفي خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة).

فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل في هدوء بين جنبات الوادي السهل المنبسط، ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والاسترخاء، وخرير المياه في القنوات والترع، وأنين السواقي وهي تروي عطش الأرض، ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة، والسماء الصافية معظم فصول السنة، والشمس المشرقة على مدار العام، والمناخ المعتدل صيفاً وشتاءً والذي يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة.

هذه هي الطبيعة التقليدية التي عاش فيها المصري على ضفتي النيل، وتركت بصماتها على شخصيته في صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة.

هذه السمات لا ندركها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون في بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة، أو من يعيشون في بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف، أو من يعيشون في غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر في كل لحظة، أو من يعيشون في القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثياباً ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها”[8].

تلك البيئة السمحة الوادعة ساعدت المصري على إقامة حضارة من أعظم حضارات التاريخ, كما وفرت له حياة آمنة مستقرة, أورثت الشخصية المصرية عدداً من السمات مثل: الطيبة والهدوء والتسامح وعدم الميل أو الانجرار إلى العنف.

لكن للطبيعة وجهاً آخر سلبيّاً للغاية, فهي كما أورثت المصريين سمات إيجابية بناءة ساهمت في خلق ونشأة واستقرار الدولة، أورثتهم جانباً آخر من الصفات السلبية كان له الأثر الأكبر في نشأة الطغيان السياسي واستفحاله في الدولة المصرية.

يقول د. المهدي: “وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفات إيجابية فإن لها -أيضاً- جانباً سلبيّاً, حيث منحت المصري شعوراً زائداً بالطمأنينة والسكينة وصل به في بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع، والميل إلى الاستقرار الذي يصل أحياناً إلى حالة من الجمود.

فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لا تتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة، بل تميل إلى الاستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله.

وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصري للوداعة والطمأنينة والاستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير، وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الاستبدادي على مدار التاريخ المصري، فقد كان الحاكم يبدأ بسيطاً متواضعاً، ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادي الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين، وشيئاً فشيئاً تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب، والحاكم يعرف دائماً أن الشعب المصري لا يميل إلى الثورة خاصة في أشكالها العنيفة.

فخلو الطبيعة المصرية -نسبيّاً- من الزلازل والبراكين والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبي لاستمرار الاستقرار واستقرار الاستمرار، وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر، واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين في الاستقرار والوداعة وراحة البال.

وذكر ابن خلدون في مقدمته: (أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح، والخفة، والغفلة عن العواقب)، وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يُحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم، وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاوناً أو رغبة في الراحة والاستقرار.

وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبي المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية؛ لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون، وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها؛ لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن”[9].

وهذا الكلام ليس على إطلاقه؛ إذ إن الكلام عن مصر تستشعر وكأن المتحدث عمم صفات أهل الوجه البحري على كل أهل مصر؛ فمصر فيها سيناء ولأهلها طباع خاصة نتيجة للبيئة الجبلية التي يعيشون فيها، وكذا أهل الصعيد فيهم حدة في الطباع.

والدراسة لمصر ترى أنها لا تشمل سيناء أو الواحات الغربية، ويكون التركيز منصبّاً على وادي النيل، بل على شمال مصر أكثر من جنوبها.

ثم إن الفيضان النيلي ليس بالأمر الهين، بل كان يدمر البيوت ويقطع طرق المواصلات.

وقد ينقطع الفيضان فيكون الجفاف، وكم حدث في مصر من مجاعات وأشهرها في العصر الفاطمي الشدة المستنصرية.

خصائص الشخصية المصرية

اتسمت الشخصية المصرية بقائمة طويلة من الخصائص المميزة لها قديماً وحديثاً، والتي تحفل بالكثير من المتناقضات؛ إذ يمكنك أن تجد السمة وضدها في آن واحد, وقد تكون إيجابياتها في حد ذاتها سلبياتها، وقد تجد سمة ما في حقبة زمنية معينة مزية وفي حقبة أخرى عيباً خطيراً.

وقد تكلم عن صفات المصريين القدماء، ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أثنى عليهم بقوله: “القبط أكرم الأعاجم محتداً، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب كافة، وبقريش خاصة”[10].

وقد وضع علماء الاجتماع قوائم عديدة لخصائص الشخصية المصرية، وغلب عليهم اتفاقهم على العديد من الصفات الأساسية والمميزة للشعب المصري.

وقد ذكر د. جمال حمدان قائمة طويلة بأهم الصفات والسمات التي اتصف بها المصريون منذ القدم حتى عصرنا الحالي فقال: “قد يكون من الطريف -كما هو من المفيد- أن نحاول حصر أهم الصفات والسمات والخصائص والمقومات التي وردت وألحقت أو ألصقت بالشخصية المصرية، وذلك في قائمة عرض أولية خام فقط قابلة للغربلة والتقييم بالانتخاب والاستبعاد والتصنيف والتوصيف فيما بعد.

فإذا ما التقطنا عينة عشوائية من الدراسات المتناولة للموضوع، وليكن (الطابع القومي للشخصية المصرية)، والتقطنا منه بالطريقة نفسها أكثر تلك الصفات والسمات تكراراً وترديداً، فسنخرج بمجموعة مطولة يمكن أن تقع في فئات متقاربة، كما يمكن أن تتناقض وتتضارب، ودعك الآن من كونها مزايا أو عيوباً أو إيجابيات أو سلبيات (أو سباباً) أو غير ذلك.

فإليك -مثلاً- ودون ترتيب صارم: المرح والصفاء (وعند ابن خلدون: الفرح والخفة والغفلة)، روح الفكاهة والنكتة والسخرية، الميل إلى الحزن، الانبساطية التي لا تميل إلى الفردية، البساطة والتعاون، حب الأسرة والأسلاف، التدين والنزعة الروحية والنزوع الديني، الغيبيات، التواكلية أو الاتكالية، الرضا (دون دونية)، القناعة، الطاعة التي لا تدعو إلى التمرد والثورة (ولكن دون غضاضة)، الدعة والوداعة، الصبر، السلبية والاستعداد للسلبية وغلو السلبية وسيادة السلبية (دون ذلة أو استكانة مع ذلك)، كثرة الخضوع والشعور بالتبعية، اللامبالاة، القهر وكف العدوان، المحسوبية والمحاباة، النفاق، وعند المقريزي (الدعة والجبن وسرعة الخوف والنميمة والسعي إلى السلطان)”[11].

والدكتور جمال هنا عاشق لمصر وغيور على المصريين؛ فكلما ذكر سلبية فيها منقصة وطعن شديد فإنه يحاول أن يضيف إليها ما يخفف من وطأتها وشدتها على الأنفس، ومن نُفرة الطباع والأسماع عنها.

فهل الذي عنده استعداد للسلبية وغلو فيها وتسود حياته السلبية لا يقبل الذل والاستكانة؟

لكن على العموم فبعد تلك التفصيلة يحدد د. جمال حمدان خمس سمات أساسية تعتبر مفاتيح الشخصية المصرية والمتحكمة فيها بشكل مؤثر وفعال فيقول: “لعل هناك شبه اتفاق على بعض خصائص أساسية تعد أركان أو أقطاب تلك الشخصية، أولها دائماً: التدين، وثانيها حتماً: المحافظة، وثالثها باستمرار: الاعتدال، ورابعها غالباً: الواقعية، وخامسها أحياناً: السلبية.

وبهذا الشكل تبدو السلسلة كمتوالية تنازلية إلى حد ما، تتدرج نسبيّاً من الموجب إلى السالب، أو من القوة إلى الضعف، وبذا -أيضاً- تتداعى منطقيّاً فيما بينها، بحيث تؤدي كل واحدة منها إلى تاليتها، التي تترتب بدورها على كل سابقاتها، وفيما عدا هذا، فلأن خاصية الاعتدال بالذات تمثل نقطة الوسط والارتكاز بين تلك الخصائص والنواة النووية في قلبها، فلعل لنا من قبيل اليسر والتبسيط الأكاديمي أن نتخذ منها المظلة الجامعة والعنوان الرئيسي العريض الشامل لها جميعاً.

فأما التدين إذا أردنا تفصيل ما أجملنا، فسمة مصرية أصيلة وقديمة، ولعلها هي التي منحت المصري قوة داخلية ومقاومة خارجية وصلابة غير عادية ضد الكثير من الأخطار والمحن والمآسي التي تعرض لها عبر التاريخ،، غير أن هذه الخاصية -يخشى البعض- كانت -أيضاً- مهرباً إلى حد ما من الصدام مع تلك الأخطار والتحديات، ومن ثم قد في النهاية تفضي بنا إلى خاصية السلبية، أو تؤكد تشخيصها.

ومهما يكن، فإن التدين والنزوع الديني إذا جاز أن يرد في دوافعه إلى الزراعة وطبيعة الحضارة الزراعية، على الأقل جزئيّاً، فلعله أن يكون بدوره دافعاً جزئيّاً مثلها وبجانبها إلى الصبر والدأب والجلد والتحمل، وهي الصفات التي تبدو عريقة القدم والجذور في التاريخ المصري، ويكاد يجمع الكل بلا تردد على التصاقها الشديد بالإنسان المصري عامة والفلاح المصري خاصة”[12].

الدين ليس دافعاً للسلبية، وهذا فهم مغلوط للدين والتدين، سواء أكانت الأنظمة هي التي أشاعته، أم بعض الجماعات الدينية بحسن نية أو سوء نية.

ولا يمكن إلباس بعض الصفات النفسية البشرية للدين؛ فالدين جاء لتقويم النفس ومعالجتها من أدوائها، فالأنفس السلبية الضعيفة تجعل ذلك مرده للدين، والدين بريء من ذلك؛ إذ الدين جاء لمنع استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، والتأكيد على تساوي الخلق في العبودية لله.

وفارق بين الصبر على البلاء عند نزوله وعدم وجود الوسيلة لدفعه، وبين الاستكانة والرضا به مع وجود القدرة لدفعه.

فالدين يدعو لدفع البلاء ومقاومة الظلم والطغيان، ومن سلك غير ذلك المسلك فإنه على غير الجادة.

ويلاحظ الكثير من الدارسين للشخصية المصرية التأثر العميق لديها بالدين، وأنه عامل مهم وحيوي وفعال في تكوين اتجاهاتهم ووجهات نظرهم تجاه الحياة، وفي تشكيل منظومة القيم الخاصة بهم.

ورغم تعدد صور الدين في المجتمع المصري واختلاف أنماطه إلا أن تأثيره ممتد إلى أغلب سلوكيات المصريين، وهو يشكل جزءاً كبيراً من ثقافتهم الشعبية.

ومن عجيب حال المصريين أنهم رغم الهجمات الشديدة على الإسلام، إلا أنهم متمسكون بالدين بطريقة عجيبة، يقول الدكتور محمد المهدي: “على الرغم من الحملات السياسية والإعلامية المضادة للالتزام الديني، والواصمة له بالإرهاب والتطرف، إلا أنك تجد الناس يزدادون التزاماً وتمسكاً بالدين (على الرغم مما لديهم من تناقضات)”[13].

عندهم تمسك بالدين يصاحبه تناقض يصعب عليك حل ألغازه؛ فتجد السبحة مع السيجارة في يد الرجل، والحجاب مع الدعارة؛ إذ أحياناً تجد من تعمل في الفسق والفجور تكون محجبة، وهذا ليس طعناً في الحجاب، لكنه وصف لحالات موجودة التزمت بالسمت العام للمجتمع، ثم اتخذت طريقاً منحرفاً، ويكثر بين المصريين الشتم والسب في الأسواق والشوراع فتسمع سبّ الدين، والشتم بالألفاظ الجنسية، وهذا ما لا تجده -مثلاً- في بلاد السودان أو المغرب العربي.

ويكمل الدكتور جمال حديثه فيقول: “أما المحافظة، بل والمحافظة الشديدة كما يشدد العقاد، فتعني أن المصري مقيم على القديم والتراث والتقاليد والموروثات، ولا يقبل الجديد بسهولة، وهذا يعني بدوره أنه تقليدي مقلد، غير ثوري غير مجدد، بل إنه -عند العقاد أيضاً- إذا ثار على الإطلاق فإنما ليحافظ على القديم والموروث، أي أنه -للغرابة والدهشة، وبصيغة نقيض النقيض- ثوري من أجل المحافظة.

ومن المحافظة وعدم الثورية -على أية حال- خطوة قصيرة ومنطقية إلى الاستقرار؛ فالاستقرار نتيجة المحافظة ولكنه بالمقابل يعود فيدعمها، ومن هذه الحلقة المفرغة أو اللولب الصاعد يتحقق الاستمرار إلى أبعد حد وينتفي التغير إلى حد بعيد، وهكذا تنتهي الدائرة مرة أخرى لتعود بنا حيث بدأنا بالمحافظة على القديم وعدم التجديد… إلخ.

وإذا كان ثمة من مصل مضاد نوعاً لهذه المحافظة المستمرة أو الاستمرارية في المحافظة، فهو الاعتدال، وإن كان هذا نفسه غير بعيد عن المحافظة، إن لم يكن حقّاً امتداداً مباشراً لها؛ فالاعتدال المغروس المركوز في طبيعة المصري، أيّاً كان أصله، فيبتعد به عن التطرف الشديد يميناً ويساراً، يبتعد به -ضمناً وديالكتيكياً ولحسن الحظ- عن التطرف في المحافظة، بذلك يوفر له هامشاً معقولاً من المرونة والتلاؤم والتغير والحيوية، التي تضمن له على أقل تقدير القدرة على التطور البطيء، التطور خطوة خطوة بالجرعات الصغيرة، وبالتالي تضمن له البقاء الطويل على المدى البعيد.

وأخيراً -وبحكم الاعتدال- كان المصري العادي أو المتوسط أميل في الغالب إلى الوداعة والهدوء والدماثة والبشاشة، وإلى الشخصية الاجتماعية الودودة، السلسة السهلة المنطلقة extrovert غير المنغلقة أو المعقدة، كما كان أجنح إلى التعاون منه إلى التنافس، وفي الوقت نفسه أبعد شيء عن العنف والقسوة والدموية والمزاج الحمراوي الدموي.

ومن الاعتدال بعد هذا نقلة لا شك قصيرة ومباشرة إلى الواقعية، فالإنسان المصري رجل عملي، علمته البيئة والتجربة -أي: الجغرافيا والتاريخ- احترام الواقع والالتصاق به وعدم الانفصال عنه أو التناقض معه، فهو إلا في القليل النادر لا يهرب من الواقع سواء بالتدين المفرط (الدروشة) أو بأحلام اليقظة والتمني المجنحة (الغيبيات) أكثر كثيراً مما يتصادم معه ويتحداه، وهو من ثم مطيع بالضرورة، أكثر مما هو متمرد بالطبع، فإذا ما عجز عن تغيير الواقع فإنه في العادة أو في النهاية يخضع له ويرضخ للأمر الواقع، إلا أنه حينئذ قد يسخر منه للتعويض والتنفيس.

من هنا تأتي شهرته الداوية في السخرية التعويضية، والتعويض بالتعريض بالواقع دون التعرض له، وهو بدوره التناقض الخفيف الذي أفضي به في نظر البعض إلى الشخصية الفهلوية smart التي تعوض عن عجزها العملي بالتذاكي المفرط smarting واصطناع اللامبالاة، أو ادعاء الحلم والتخفي وراء العقل والتعقل.

والنموذج المثالي أو التقليدي في ذلك هو علاقة الفلاح المصري بالسلطة والحكومة، فهو يكرهها ويخشاها منذ قال الجبرتي: (والمصري يكره الحكام في كل صورة حتى أدناها) إلى أن حدد العقاد علاقته بالحكومة كعلاقة (عداوة مريبة)، لكنه مع ذلك يقبل بها وقد يتملقها، إلا أنه حتماً يسخر منها ويتندر بها سرّاً وعلناً.

ولقد يعود بنا هذا السلوك أو التصرف الواقعي إلى صفة الاعتدال كنوع من الإفراط في العقل، إلا أنه أدعى وأفضى إلى السلبية كالنتاج النهائي لكل الخصائص السابقة وكالحلقة الأخيرة في سلسلتها المترابطة المتداعية، فالمحصلة النهائية لتلك المتوالية التنازلية من التدين إلى المحافظة إلى الاعتدال إلى الواقعية إنما هي منطقيّاً شخصية سلبية نوعاً أكثر منها إيجابية جدّاً.

فهو -المصري العادي أو المتوسط- في الأعم الأغلب وفي أغلب الآراء يتجنب الصدام ويتحاشاه، لاسيما في المواقف العدائية، وبالتالي يؤثر السلامة على المواجهة، والسلام على الصراع، وفي النهاية السلم على الحرب.

ومن هنا إلى جانب رد فعله السلبي الساكت إزاء القهر الحاكم أو الطغيان الحكومي جاءت التهمة الموجهة إليه منذ أقدم العصور إلى اليوم ابتداء من الإغريق حتى العدو الإسرائيلي بأنه شعب غير محارب، صحت هذه التهمة أو لم تصح”[14].

فالمواطن المصري يتسم بسلبية تبعده عن المشاركة بفاعلية في مجتمعه، خاصة في الناحية السياسية -استثناء فترة ما بعد ثورة يناير؛ فقد تجذر عنده الشعور بأنه لا قيمة ولا وزن لرأيه ما دامت السلطة هي المتحكمة والمتسيدة للساحة، نازعة من الشعب كل حقوقه، مما يفقده الشعور بالكرامة والاعتزاز ببلده.

كما أن لديه شعوراً مؤكداً بعدم تنفيذ القانون بشكل عادل، بل هناك امتيازات في تنفيذه، مما يفقد المواطن شعوره بالانتماء والواجب نحو بلده، لذلك نجد من الجمل الدراجة على ألسنة المصريين: البلد بلدهم – دي مش بلدنا… إلخ.

ويرجع السبب في ذلك إلى سياسة القهر والظلم الذي اتسم بها النظام المصري خاصة بعد انقلاب يوليو1952م، وانتقال كل السلطات إلى يد الحكومة الباطشة.

وهذا أوجد قطاعاً عريضاً من الشعب أُطلق عليه: (حزب الكنبة)، هذا الحزب هو الكتلة الحرجة لأي حراك، فإذا انحازت تلك الكتلة إلى أي طرف من أطراف الصراع مالت الكفة إليه.

“تلك في عجالة سريعة -مقتضبة ولكنها مركزة- الخصائص الرئيسية الخمس التي تميز الشخصية المصرية في أغلب الآراء، وإن جادل أو عدل البعض في بعضها أو كلها بدرجات متفاوتة، ثم اختلفوا أكثر في تقييمها وتأويلها سلباً أو إيجاباً وقوة أو ضعفاً، بحيث سنجد دائماً في الحساب الختامي الرأي المضاد والحكم ونقيضه، وفي النهاية الصورة الوردية والصورة القاتمة”[15].

بينما تُجْمِل الدكتورة عزة عزت “سمات الشخصية المصرية من واقع تحليلها لمصفوفة الأمثال الشعبية إلى العديد من النتائج نتخير منها التالي:

  • عاشق للاستقرار، ويتفرع عن ذلك حبه لبلاده، والتمسك بالقديم.
  • ساخر، وقد تتفرع عن ذلك سمات عدم الجدية والاستهتار.
  • متدين، ويتفرع منها أنه صبور، متواكل، يؤمن بالطبقية وقانع.
  • طيب عفوي، ويتفرع منها تلقائي، غير عقلاني، حذر وغير مجازف، يجنح نحو المبالغة.
  • ذكي حكيم، ويتفرع منها فهلوي، يغلب مصلحته الخاصة”[16].

وعلى نفس السياق تسير الدكتورة عزة فتجعل ما يتفرع عن الدين من سمات هي التواكلية، وزادت فكرة الطبقية.

كلام عجيب غريب؛ فالدين الإسلامي في كل مكان، فلماذا تسود الطبقية المقيتة في مصر لوحدها، ولا توجد مثلاً في السودان، وهي بلد نيلية زراعية، ولا في الجزائر كذلك.

والإسلام يدعو للمساواة بين البشر، وأن التفاضل بين الخلق بالتقوى والإيمان، لا بالأنساب والألوان والمناصب.

وإذا الدين مدعاة للتواكل فلماذا شعوب شرق آسيا المسلمة متقدمة، ولماذا الشعب التركي ناهض الآن، وكثير من الشعوب المسلمة كذلك، ولماذا شعوب أمريكا اللاتينية متخلفة وهي نصرانية كاثوليكية، وشعوب في آسيا بوذية… إلخ.

فالدين لا دخل له في تواكلية بعض الشعوب، وإنما هي حالة موجودة في بعض اللحظات من أعمار الشعوب، قد تطول وقد تقصر.

وهل الحكيم يكون متذاكيّاً (الفهلوي)؟

تناقض في التوصيف والتفريع، لكن لا ننكر أن الشعوب فيها كل المتناقضات، لكن الحديث عن الصفات والسمات الغالبة، لا يعني أن نجمع المتناقضات في سياق واحد.

والمصري لم يعد متمسكاً بالأرض ومحبّاً للمكوث في بلده التي تظلمه وتقهره، بل يسعى للهجرة بأي وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، بل إنه يرمي نفسه في المجهول والتهلكة هرباً من الواقع الذي يعيشه في مصر.

أصل الداء

ربما من المناسب قبل الخوض في الصفات السلبية والعيوب لدى الشخصية المصرية، ولمحاولة طرح تلك السلبيات بشكل دقيق علينا معرفة مصدر ومنبع تلك الصفات، وكيف اكتسبها الشعب أو أصابته؛ فهذا سيسهل علينا فهم انتشار تلك الصفات وتمكنها من البنيان المجتمعي.

يقول حمدان: “ثمة شيء واحد مؤكد لا خلاف عليه بين الجميع تقريباً؛ إن معظم سلبيات وعيوب الشخصية المصرية إنما يعود أساساً -وفي الدرجة الأولى- إلى القهر السياسي الذي تعرضت له ببشاعة وشناعة طوال التاريخ، هذه ولا سواها، نقطة الابتداء والانتهاء مثلما هي نقطة الاتفاق والالتقاء: السلطة، الحكم، والنظام: الطغيان، الاستبداد، والديكتاتورية: البطش، التعذيب، والتنكيل: الإرهاب، الترويع، والتخويف.

تلك هي الآفة الأم وأم المأساة.

ومن هنا يجمع الكل على أن النغمة الأساسية أو اللحن الخلفي المستمر وراء الشخصية المصرية في علاقتها بالسلطة ومفتاح هذه العلاقة التعسة هي العداء المتبادل والريبة المتبادلة، هي الحب المفقود والبغض الموجود بلا حدود.

أما إلى أي حد يعد الشعب نفسه مسؤولاً عن هذه العلاقة المأساوية أو المأساة العالقة، مَن السبب ومَن النتيجة، ومَن الفاعل ومن المفعول به؟

فتلك وحدها قضية أخرى، قد تكون موضع خلاف، وقد ترتب فروقاً ونتائج جذرية في المواجهة، ولكن الذي لا خلاف عليه هو أنه لا حل ولا أمل للشخصية المصرية حتى اليوم في التغير ولا في التخلص من سلبياتها الخطيرة المعقدة إلا بتغيير وتصفية القهر السياسي أساساً وأولاً وأخيراً”[17].

نعم، قد أصاب الدكتور جمال كبد الحقيقة؛ فالديكتاتورية والقهر أصل الأدواء التي تعاني منها البلاد والشعوب.

وقد لمسنا ذلك في ثورة يناير وما لحقها من أيام؛ حيث ظهر المعدن الأصيل الذي كان منزوياً عن الأنظار؛ حيث الأخلاق العالية، والتأدب والذوق، وحب الوطن، والعمل على رفعته، والتفاني في الخدمة… إلخ.

لكن لما جاء الانقلاب أظهر سفلة الناس وأوباشهم وسلط الضوء عليهم، فانزوى أهل المكارم والمعروف مرة أخرى، وظهر الانتهازيون والمنافقون والمتملقون… إلخ.

فثورة يناير أظهرت أفضل ما فينا، وانقلاب يونيو/ يوليو أظهر أسوأ ما فينا.

المجتمع والاعتدال

من أهم الصفات المميزة للشعب المصري، وهي -أيضاً- الصفة الأكثر تأثيراً في توجيه دفة العقل المصري، وقد اشتهر عن المصريين اعتدالهم في كافة مناحي الحياة دينية كانت أو اجتماعية؛ فلم يُعرف عنهم تعصب أو تطرف أو جنوح لاتجاه بعينه، بل تنصب حياتهم واختياراتهم دائماً على الأمور الوسط المعتدلة.

و”هناك إجماع شبه عام على أن الاعتدال، بمعنى: القصد والتوسط والبعد عن التطرف والجموح، أي: نقيض الراديكالية، واحد من أبرز سمات المصري العادي، وخصائص المجتمع المصري.

فإلى حدٍّ بعيد، مصر هي الاعتدال، والاعتدال هو مصر، والإنسان المصري معتدل المزاج بالطبع، وطبيعته التوسط في الأمور، وخير الأمور عنده الوسط، ومن ثم أتى ذلك الانسجام الاجتماعي النادر.

وسواء كان هذا المزاج المعتدل من وحي البيئة المعتدلة والمناخ اللطيف، أو كان ميراث تاريخٍ حضاري ألفي من التربية والتجربة المُرّة أو الحُرّة لا يهم، فإنه ينطوي في الحالين وفي التحليل الأخير على عنصر بيئي أيّاً كان.

وبهذه الصفة، راجع ذلك الرأي عن الطبيعة المصرية شبه النائمة، الرتيبة المسالمة جوّاً وسماء وصحراء، والأرض الوادعة بلا زلازل، مما طبع الناس على الوداعة والبشاشة، ولكن -أيضاً- على الكسل والمحافظة على القديم.

أو خذ هذا الرأي -أيضاً: طبيعة البلاد المصرية لم تظفر من التنويع بما يهيئ تمام الشعور بتغير أحوالها؛ فالشتاء غير قارس، والصيف مقبول، والربيع والخريف معتدلان اعتدالاً يثير النفوس، ولا يحركها قدر ما يثير ويحرك التطرف.

ثم إن المصري بحكم عمله الزراعي رجل عملي صبور، يبذر البذرة وينتظر أشهراً في عمل دائب قبل أن يجني الثمر، وفي هذا الصبر والمثابرة مدعاة للقصد والتمهل، والبيئة الزراعية رزقها يسير مضمون مما يعين على الإحساس بالطمأنينة والأمان”[18].

ويبدو أن الدكتور جمال كان أسيراً للفترة التي كوّن فيه تصوراته وألف فيها الكتاب؛ إذ لم ير التغيرات التي لحقت بمصر في عهد الانفتاح الساداتي، وعصر الخصخصة وبيع القطاع العام المباركي، والتي خلقت قلاقل في الشعب المصري، ولم يعد الشعب الزراعي القديم، بل ترك الأرض؛ إذ إن إنتاجها ما عاد يكفي معيشته، وهاجر هجرة العمالة إلى الدول النفطية.

ويكمل الدكتور جمال حديثه عن الاعتدال فيقول: “إلى هذا الميل نحو الاعتدال يرد البعض ابتداء صفات الصبر والطيبة والرضا والقناعة أو القنوع مع الإصرار الدؤوب والتركيز على العمل والبناء في الشخصية المصرية.

وهي الصفات التي بنت صرح الحضارة المصري، كما أنها هي التي ضمنت استمرار وبقاء الشعب الألفي في وجه الغزوات وغارات الاستعمار والحكم الأجنبي التي لا تنقطع”[19].

لكن للاعتدال وجهاً آخر -أيضاً؛ فكما كان سبباً في استقرار وبقاء الشعب والدولة, كان -أيضاً- سبباً مؤثراً وبقوة في نشوء الطغيان والاستبداد واستفحالهما وتوغلهما على الدولة والمواطن؛ فالجنوح نحو الاعتدال أورث الشخصية المصرية عدداً من السلبيات مثل: الرضا والقناعة الزائدتان عن الحد، والتساهل والتغاضي عن الكثير من المساوئ بحجة عدم انفلات الأمور والانجرار إلى الصراعات.

وفي ذلك يقول حمدان: “من الزاوية العكسية، لا ترى النظرية المضادة من معاني أو نتائج الاعتدال إلا صفات البساطة والطيبة الساذجة وعدم التفتح والتطلع.

أما روح السماحة وما يسمى دماثة الخلق المصري فمسؤولة عن كثير من السلبيات، فكما يقول كاتب معروف: فإن التسامح (ينزلق -أحياناً- عندنا إلى التساهل، والتساهل هو الوجه الممسوخ للتسامح).

وفي دراسة علمية لجامعة الإسكندرية عن إيجابيات وسلبيات الشخصية المصرية أن روح السماحة والدماثة المقولة، على مزاياها، تدهورت إلى عيوب عديدة وخطيرة كـ: السلبية والتواكل والغموض وتناقض القيم والقصور في الإدارة، ثم التهاون واللامبالاة والتسيب.

ولعل نتائج هذه الدراسة الجامعية المذكورة لا تنعكس ولا تترجم في الواقع العملي كما تنعكس وتترجم في الانهيار الأخلاقي والأدبي والمعنوي الذي تعيشه مصر اليوم بعد انهيارها المروع والمفجع سياسيّاً واقتصاديّاً وماديّاً على يد السبعينيات القاتلة.

روح السماحة والدماثة المقولة تلك هي -أيضاً- المسؤولة عن واحد من أخطر عيوب مصر، وهي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط -بل (للرجل الصغير)- بأكثر مما ينبغي، وتفسح له مكاناً أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدي -خاصة على مستوى النظام الحاكم حيث تحكم التفاهة حينئذ وتسود- يؤدي إلى الركود والتخلف، وأحياناً العجز والفشل والإحباط.

ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير، تضيق بالرجل الممتاز؛ إذ لا مكان له في توسطها ووسطيتها، وأفضل مكان له خارجها.

فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتباعيّاً لا ابتداعيّاً، تابعاً لا رائداً، محافظاً لا ثوريّاً، تقليديّاً لا مخالفاً، ومواليّاً لا معارضاً.

ولذلك فإن مصر ليست ولا يمكن أن تكون ثورية حقّاً، وبالتالي غير خالقة ولا قائدة جدّاً”[20].

وهذا الكلام نتفق معه جدّاً من حيث رؤية الحكام والأنظمة للمصريين، ورغبتهم فيما يجب أن يكونوا عليه، لكن المصريين يضرب الحكام والأنظمة بعضهم ببعض؛ فمن يرغب في مناهضة الأنظمة الشمولية والديكتاتورية فإنه غير مرحب بحياته فضلاً عن الترحيب بأفكاره ذاتها، فالمعارض السياسي جزاءه القتل السياسي أو الحبس أو النفي، وأداة الحاكم في مواجهة هؤلاء فئة من المنافقين والمنتفعين والجهلة.

ومعنى هذا أن وصف مصر -وبالتبعية المصريين- بالعموم أنها لا يمكن أن تكون ثورية فهذا الإطلاق يحتاج إلى مراجعة.

فقد ثار المصريون على ظلم الولاة من الأتراك وأتوا بمحمد علي، وثاروا ضد أولاد محمد علي على يد عرابي، وثاروا ضد الإنجليز في ثورة 1919م، وأيدوا انقلاب يوليو 1952م وتغيير نظام الحكم، وقاموا ببعض الهَبّات حتى جاءت الثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011م التي أضاعها الساسة باختلافهم وتشرذمهم وسذاجتهم.

أما الطرف الذي هو أداة الحكام فقد سيطر عليهم الاعتدال السلبي المتطرف، سيطر على عقولهم وتفكيرهم واستحوذ عليه تماماً، وأصابهم بانتكاسات فطرية وأخلاقية جعلتهم دائماً أشخاصاً مترددين جبناء خاضعين وخانعين غير ميالين للصدام، بل يميلون دائماً نحو الجنوح للاستسلام مفضلين الحياة بصعوباتها على الحرية وما ستجره عليهم من عناء حتى الوصول إليها.

يقول حمدان: “أما كيف كان الاعتدال آفة الشخصية المصرية في الصميم وعلى وجه التعميم كما تذهب هذه النظرية، فذلك أن المصري فعلاً صبور ولكنه قنوع أكثر مما ينبغي، دؤوب مثابر إلا أنه إيجابي أقل مما يجب، وواقعي جدّاً بدرجة تجعله مثاليّاً أقل من اللازم جدّاً، مستقر إلى حد بعيد لكنه غير حركي بما فيه الكفاية، محافظ بالتأكيد إلا أنه غير ثوري على الإطلاق، طيب سمح الأخلاق حقّاً ودمث فعلاً غير أنه بسيط غير طلعة محدود الأفق نوعاً، صلب إلى حد معلوم ولكنه غير طموح جريء مغامر بما فيه الكفاية، بعيد بالفعل عن التعصب بيد أنه ليس قريباً بالقدر الصحيح من العصبية وقوة الشكيمة التي هي أساس الصلابة الوطنية، وفي النتيجة النهائية أميل إلى الكم منه إلى الكيف، يفضل الحياة على الحرية، والبقاء على القيادة، باختصار شخصية غير مقتحمة غير متحدية أو متوثبة متفجرة وإن كانت معتدلة، شخصية متوسطة ولكنها غير طليعية غير قيادية”[21].

ولا زال الدكتور جمال يهاجم هذا (الاعتدال) فيقول: “الاعتدال المصري هو أساساً (تطرف في الاعتدال)، وهو من ثم مرض خبيث، بل ومن أخبث أمراض مصر، وربما مقتلها البطيء المزمن على مر الزمن، فإذا كان التطرف في التطرف تدميراً وهدماً وعدمية، فإن التطرف في الاعتدال هو إفراط في السلبية.

ومن هنا فإن بعض التطرف خير من بعض الاعتدال، فقد يكون الاعتدال فضيلة، ولكنه قد يكون أحياناً الفضيلة التي هي عجز.

والمطلوب لمصر الآن هو (الاعتدال في الاعتدال)، ولا علاج لها سوى جرعة محسوسة ولكنها محسوبة من التطرف المعتدل كمصل مضاد لاعتدالها المتطرف”[22].

وقد لوحظت هذه الآفة فيما حدث أثناء وبعد ثورة 25 يناير، وجنوح متصدري المشهد الثوري إلى الاعتدال المفرط الذي أدى إلى كارثة الانقلاب العسكري فيما بعد؛ فكثير من المواقف كانت تحتاج حلولاً جذرية قوية وقرارات صارمة عاجلة لا ميوعة فيها أو جنوحاً مبالغاً فيه ناحية الاستكانة والبحث عن حلول مرضية لعديد من الأطراف في تجلٍّ تام وصريح للاعتدال المتطرف، ما تسبب في حدوث صحوة جديدة للنظام القديم وتمكنه من مفاصل الدولة مجدداً مُزيحاً القوى المعتدلة بالقوة.

وقد وضع حمدان علاجاً لتلك الآفة القاتلة بقوله: “ما ينقص مصر إذن بالتحديد في هذه النظرية هو قدر معتدل من العنف وأكثر منه من العنفوان، قدر من القوة وإرادة القوة بل وعبادة القوة، سواء على مستوى الفرد أو الوطن، سواء في الداخل أو في الخارج، تضمن بل ترد لها جميعاً الكرامة المفقودة والعزة الوطنية الضائعة والشعور بالانتماء والفخار والمجد القومي.

فمصر لا يمكن أن تكون كبراً بلا كبرياء، وافتخاراً وغروراً بالادعاء، وادعاء بالزعامة دون قيادة… إلخ؛ فالعنف -الحميد- إذن، العنف الثوري، قليل منه يصلح الأمة، كما أن كثيره يضرها. ومن غيابه بالذات جاءت السلبية الواضحة والمحزنة في سجل مصر عبر التاريخ وعلى كل المستويات.

أبسط أعراض هذه السلبية بداية هو إهمالنا للموقع واستغلالنا إياه بطريقة سلبية وتركه مجالاً للأجانب، عسكريّاً غلبنا الدفاع دائماً على الهجوم، وهو في صراع القوة والصراع من أجل البقاء طموح متواضع وأضعف الإيمان، دفعنا ثمنه سيادة الاستعمار على مصائرنا ومقدراتنا لألفي سنة، وباسم أننا شعب مسالم، ما زالت مصر لا تذهب إلى الحرب إلا إذا جاءت الحرب إليها، وقد تجنح إلى السلم حيث يجب وجوباً القتال.

وهكذا ما أكثر ما تحول البحث عن السلام باسم العقل أو استجدائه باسم التحضر إلى التردي في الاستسلام والاستخذاء والتفريط الوطني والقومي.

هذا في الخارج.

أما في الداخل فإن سلبية المواطن الفرد إزاء الحكم جعلت الحكومة هي كل شيء في مصر والمواطن نفسه لا شيء؛ فكانت مصر دائماً هي حاكمها.

وهذا أس وأصل الطغيان الفرعوني والاستبداد الشرقي المزمن حتى اليوم أكثر مما هو نتيجة له، فهو بفرط الاعتدال مواطن سلس ذلول، بل رعية ومطية لينة، لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم، ولا يجيد سوى نفاق السلطة والعبودية للقوة، وما أسهل حينئذ أن يتحول من مواطن ذلول إلى عبد ذليل”[23].

هذا الكلام يكتب بماء الذهب، ولو تم وضعه نصب الأعين لتبدل الحال بمصر والمصريين إلى خير حال.

ثورة الشعب المضطهد

حين يصل الاعتدال السلبي مداه يصل -أيضاً- الطغيان والتسلط مدى متوحشاً، ويصبح الحل الوحيد لمجابتهه حينذاك بمقدار معين من العنف الثوري -المماثل لعنف الدولة- لإيقاف توغل السلطة, وبدون ذلك المقدار من العنف المناسب تفشل أي محاولة ضد السلطة, وترجح كفة الأخيرة وبقوة.

ولعل ما حدث في ثورة 25 يناير خير دليل على ذلك, فموجة الثورة الأولى التي اتسمت بشيء من العنف الثوري تجلت في مواجهة الشرطة وإجبارها على الانسحاب هو ما دفع الثورة نحو استكمال طريقها والوصول إلى نقطة بعينها قبل أن يعتلي قيادتها “المعتدلون المتطرفون”، ويوجهون دفة الثورة نحو طريق أخرى تماماً غير التي كان من المفترض أن تسلكها.

يقول د. حجازي مستعرضاً العنف المجتمعي المجابه لعنف السلطة: “يصل المجتمع المتخلف بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد فترة شيوع العلاقات الاضطهادية.

وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسؤولة عن القهر (المستعمر والمتسلط الداخلي).

يتضح للشعب المقهور أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد كي يعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود. لقد يئس من إمكانية الوصول إلى الحق الذاتي بالرضوخ أو بالعنف الداخلي. ليس هناك من لغة ممكنة من قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة، لغة الغلبة، ومع ترسخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ، يترسخ الإحساس بضرورة العنف وإلا تحول الشعب إلى ضحية دائمة ونهائية.

نحن هنا أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء بـ(رد الفعل الحرج)، والتي تتلخص في الخيار بين الفناء أو المجابهة”[24].

ولعل هذا ما كان واضحاً في ذهن سيث لوثر حينما خطب في إحدى مؤتمرات العمال في القرن التاسع عشر موجهاً خطابه للحكومة الأمريكية قائلاً: “سوف نجرب صندوق الانتخابات أولاً, وإذا لم يفلح في أن يأتي لنا بحقوقنا, فسيكون البديل الآخر والأخير هو صندوق الذخيرة”[25].

وقد حدد د. المهدي ثلاثة أسباب هي التي تدفع المصري للثورة، فقال: “والمصري يتحرك ويثور في حالات قليلة ومحددة وهي:

1- حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة.

2- حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين.

3 – حين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر.

والطغاة والمستبدون كانوا يعرفون حدود هذه الأشياء فيحفظون له الحد الأدنى منها حتى يضمنوا استمرار ولائه، أو يحاولون خداعه حتى لا يصل إلى حالة الشعور بالمهانة أو العوز المُحرض على الثورة”[26].

ورغم هذا فالثورات الشعبية تأتي على حين غفلة من الحكام، والشعوب كما أن بعضها عنده قابلية للاستعمار فعندها قابلية للتثوير.

وما يحدث في العالم العربي يؤكد ذلك.

المنتفعون من الاعتدال

لا ينمو ذلك الاعتدال المفرط ويتوغل في المجتمع المصري بشكل طبيعي، بل هناك من يبذر له البذرة، ويمهد له الأرض، ويفتح له العقول، ويساعد على انتشاره بكل قوة، وهؤلاء هم المنتفعون من الاعتدال -كما وصفهم حمدان.

ويتمثل هؤلاء في رجال السلطة وجهاز الحكم.

فالاعتدال بذلك الشكل ضمان للسيطرة المطلقة وفرض النفوذ؛ إذ لا وجود أمام السلطة لمن يعارضها ويصارعها ويسعى حثيثاً للخلاص منها؛ لذا تتمكن تلك السلطة من مفاصل الدولة بشكل كبير وتفرض إرادتها تماماً.

فطالما الشعب طيع ومستكين ومأمون جانبه تصبح يد الدولة باطشة وجائرة وتتعمق سلطتها في المجتمع وتتجذر بشكل قوي.

وربما لو قمنا بعملية إسقاط سريعة لذلك الموقف على عدد من رموز التيارات الإسلامية المعارضة للسلطة لوجدنا حرصاً شديداً من جانب الدولة على إبقاء عدد من الرموز والكوادر -المتسمة بالاعتدال المتطرف- على رأس تلك الحركات والعمل حثيثاً على عدم التعرض لهم أو إبعادهم عن المشهد؛ لما يمثلوه من ضمانات لعدم جنوح أتباعهم ناحية قدر من العنف والعنفوان الثوري اللذين وصفهما حمدان.

يقول حمدان: “لا غرابة إذن في أن تكون السلطة والحكم والنظام في مصر دائماً وأبداً هي أكبر دعاة الاعتدال المصري المزعوم، وأشد المهللين المحبذين المزينين له، ومحترفي التغني المخادع الماكر به؛ ذلك لأن هذا الاعتدال المرضي ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم، ولكن -أيضاً- ضمان التسلط والسيطرة المطلقة. فمجتمع هذا النوع من الاعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع، ومجتمع بلا صراع هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان[27][28].

وقد رأينا كيف كان الآباء المؤسسون لأمريكا ينظرون إلى روح التمرد والثورة على أنها أداة بناء وعلاج ضروري لأمراض الحكومة، وكشيء صحي للمجتمع، كما عبر توماس جيفرسن -والذي كان سفيراً لدى فرنسا- أثناء إحدى التمردات بقوله: “إنني أومن أنه لشيء طيب أن يحدث تمرد صغير من وقت لآخر، إنه علاج ضروري لصحة الحكومة، وإني لأعوذ بالله من أن تمر علينا عشرون سنة دون وقوع تمرد، لا بد أن تروى شجرة الحرية من وقت لآخر بدماء الوطنيين والطغاة، فتلك الدماء هي سمادها الطبيعي”[29].

فهذا الصراع بين المجتمعات والأنظمة صحي ومطلوب؛ حتى تتم عملية التقويم الذاتية للجميع، فلا يطغى طرف على آخر.

يقول حمدان: “بقدر ما كان النظام الحاكم يزين ويمجد فضيلة الاعتدال، كان ولا يزال يشوه ويندد ويدين أدنى علامة أو بادرة من اليقظة والوعي والفهم، أو أوهى اختلاجة من التحرك والعنف الثوري من جانب الشعب المخدوع المقهور، وكان أبداً يرفع شعار محاربة العنف ويصمه زوراً وبهتاناً بالإرهاب البشع والفوضى والتمرد… إلخ.

وعلى سبيل المثال فكل انتفاضة شعبية هي (انتفاضة حرامية).

غير أن الحقيقة أن ما تصمه السلطة بخطر التطرف والعنف ليس إلا دفاع الشعب الطبيعي عن نفسه ضد ديكتاتوريتها الباطشة الكابتة، مثلما هو رد فعل المجتمع الصحي ضد تطرفها هي في الاعتدال السلبي والاستسلامي العاجز المريض.

على أن أغرب ما في الأمر حقّاً أن الذي كان يمارس العنف فعلاً بأبشع صوره من دموية وتعذيب وإرهاب إنما هو الحكم نفسه والحاكم وحده، وذلك على الشعب تحديداً، وذلك -أيضاً- كأمر يومي وكروتين عادي طوال التاريخ.

فالشكل الوحيد للعنف (الشرعي) في مصر كان عبر التاريخ وحتى اللحظة هو الاستبداد والطغيان والبطش الحاكم.

على أية حال، فإن من هنا جميعاً، من الاعتدال المريض العاجز، ومن غياب العنف الثوري الصحي، كانت أزمة الديمقراطية المتوطنة في مصر، بل كان إزمان الديكتاتورية بها؛ بل وأسوأ أنواع الديكتاتورية؛ لأنها أشدها عجزاً وفشلاً وتفاهة بقدر ما هي أشدها ضراوة واستماتة وأنانية واستكباراً.

وكما رأينا، لم يحدث أن قامت أو نجحت ثورة شعبية في مصر، ولا حدث أن أسقط الشعب النظام الحاكم أو فرض الحاكم قط”[30].

وهنا نتفق مع الدكتور جمال؛ فدائماً يتحرك الشعب ويثور، ثم تتدحرج الدولة في حجر آخرين.

والأمثلة واضحة في مصر والسودان والجزائر وليبيا؛ فالشعوب لا تقطف ثمار تحركاتها وتضحياتها، ويقطف الثمرة ذوو الشوكة والحيلة والمكر والدهاء التي هي شبه منعدمة في التيار الإسلامي الذي لولاه ما نجحت أي ثورة شعبية.

لكن التيار الإسلامي ينجح على مستوى الشعوب، ويفشل في فهم الدولة وكيفية التعاطي معها أو إدارتها أو حتى الانبثاث في دواليبها.

مأساة الحل الوسط

من الاعتدال المتطرف تنتج ظاهرة “الحل الوسط” والتي تظل هي الأسلوب السائد في طريقة تعاطي المصريين مع الأزمات والمشاكل؛ فدائماً يبحثون عن حل وسَطي لإنهاء أزماتهم ومشاكلهم، وتجد الأثر المشهور “خير الأمور أوساطها”[31] حاضراً بين المصريين وبقوة في كل مناحي حياتهم، ودائماً ما تجد عبارة: “حل توافقي” تتردد على ألسنة الساسة، أو عبارة: “مسك العصا من المنتصف”، لكن في النهاية وبسبب ذلك الحل الوسطي التوافقي تتفاقم المشكلات وتتعاظم؛ إذ إن المهدئات والمسكنات لا يمكنها تقديم حلول جذرية وإنهاء سبب الأزمة، بل هي مخدر وقتي يزول أثره بعد فترة وتبرز الأزمة من جديد أكثر سخونة والتهاباً.

فالمصري لا يميل أبداً إلى الحلول الجذرية القاطعة؛ لما قد تجره عليه من مواجهات وصدامات لا يحبذها المصري المسالم، بل يحاول أن يكيّف أوضاعه ويرتبها وفق الحال الموجود.

وحتى حين يقرر اللجوء إلى الحل الجذري يتخذ قراره متأخراً بعد استفحال الفساد وتوغله في المجتمع ما يزيد حينها من حجم الخسائر التي كان يمكن تفاديها لو تم اتخاذ قرار الحل الجذري مبكراً.

وأعظم مثال نشاهده شكل ووضع الثورة المصرية منذ يناير وحتى لحظتنا الراهنة، وما تعرضت له من خسائر وانتكاسات جراء الابتعاد واجتناب الحل الجذري الذي ربما لم تكن لتصل خسائره وفداحة ثمنه لما وصلت إليه الأمور.

 يصف حمدان ذلك الحل الوسطي بقوله: “يرى نقاد مبدأ الاعتدال أن مصر إذا كانت تعيش باستمرار تقريباً في أزمات مستمرة متعاقبة أو متراكبة؛ فإن المأساة الحقيقية في ذلك أنها لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الجذري الراديكالي قط، وإنما الحل الوسط المعتدل، أي: المهدئات والمسكنات المؤقتة، والنتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر، ولكن مرة أخرى تهرب مصر من الحل الجذري إلى حل وسط جديد، وهكذا.

بعبارة أخرى: مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال، فلا هي تنهار قط، ولا هي تثور أبداً، ولا هي تموت أبداً، ولا هي تعيش تماماً، إنما هي في وجه الأزمات والضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر، تتدهور، تطفو وتتعثر، دون حسم أو مواجهة حاسمة تقطع الموت بالحياة أو حتى الحياة بالموت، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف، ومن الصحة إلى المرض، ومن الكيف إلى الكم، وأخيراً من القمة إلى القاع.

غير أن النتيجة النهائية لهذا الانحسار المستمر المساوم أبداً وصفقات التراجع إلى ما لا نهاية، هي أننا سنصل يوماً ما إلى نقطة الانكسار بعد الالتواء، وبدل المرونة سيحدث التصادم، ومحل المهدئات ستحل الجراحة، أي: سنصل إلى نقطة اللاعودة إلى الحل الوسط، وعندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضاً، ولكن بعد أن يكون المستوى العام قد تدنى إلى الحضيض، والكيف قد تدهور إلى مجرد كم، والمجد إلى محض تاريخ، وذلك هو الثمن الفادح للاعتدال.

إن ما تحتاجه مصر أساساً إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً، يعني: تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة، قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها؛ فهذا لا يسبق ذلك، ولكنه يترتب عليه، ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر”[32].

هذا ما يسمى بالوعي قبل السعي، والإدراك قبل الحراك[33]، فمعرفة مكامن الضعف من الشخصية يمكن معالجتها، لكن أن يظل الضعف والمرض والعلة دون معرفةٍ أو وقوف عليها، والمضي في التغيير؛ فذلك يؤدي إلى طريق مسدود، أو أنصاف ثورات يمكن الالتفاف عليها، واحتواء نتائجها.

والحلول الوسط ليست سيئة في حد ذاتها؛ فقد تكون علاجاً مرحليّاً، لكن أن تظل الحلول غير جذرية دائماً وأبداً، فمعنى ذلك أننا نهرب للأمام، وستلاحقنا المشاكل ولا مفر من ذلك، وكلما تأخرنا في الحل استفحلت استفحالاً يكلفنا مزيداً من الجهد والوقت… إلخ.

الجزء الأول الرابط، الرابط البديل


Footnotes

[1] أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: أسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1409هـ، (2/38).

[2] العبودية الطوعية، ص(159) باختصار.

[3] الإيكولوجيا هو علم البيئة، وهو معني بدراسة “تلاؤم الكائنات الحية مع بيئاتها المحيطة، وكيف تتأثر هذه الكائنات بالعلاقات المتبادلة بين الأحياء كافة وبين بيئاتها المحيطة” [موقع ويكيبيديا].

[4] شخصية مصر، (2/555).

[5] سيكولوجيا الشخصية المصرية، http://shaabanonline.blogspot.com/2011/08/blog-post_6538.html.

[6] الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ص(35).

[7] سيكولوجيا الشخصية المصرية، مدونة shaabanonline.

[8] السابق.

[9] السابق.

[10] فضائل مصر المحروسة، ص(14).

[11] شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان (شخصية مصر الحضارية)، (4/523-524).

[12] السابق، (4/524-525) باختصار.

[13] د.محمد المهدي: الشخصية المصرية، موقع واحة النفس المطمئنة، إشراف الدكتور محمود أبو العزائم.

[14] شخصية مصر، (4/525-527).

[15] السابق، (4/527).

[16] منير شريف وأحمد عمر: غواية السلطة الأمن واستشراف المستقبل، تقديم: د. علي مبروك، دار العين للنشر، مصر، الطبعة الأولى، 1435هـ – 2014م.

[17] شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان (شخصية مصر الحضارية)، (4/522-523).

[18] السابق، (4/536-537) باختصار.

[19] السابق، (4/538) باختصار.

[20] السابق، (4/539) باختصار.

[21] السابق، (4/544).

[22] السابق، (4/545).

[23] السابق، (4/545-546) باختصار.

[24] د.مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة التاسعة، 2005م، ص(54-55).

[25] هوارد زن: التاريخ الشعبي للولايات المتحدة من 1492، ترجمة: شعبان مكاوي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، الطبعة الأولى، 2005م، (1/353).

[26] الشخصية المصرية، موقع الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية.

[27] “القِنّ: العَبْد إذا مُلِك هُوَ وأَبَوَاهُ، يَسْتَوي فيه الاثنانِ والجَمْع والمُؤنَّثُ، ورُبَّما قَالُوا: عَبيدٌ أَقْنَانٌ، ثم يُجْمَع على أقِنَّة” [الصحاح، (7/34)].

[28] شخصية مصر، (4/547).

[29] التاريخ الشعبي للولايات المتحدة من 1492، (1/165).

[30] شخصية مصر، (4/547-548) باختصار.

[31] أخرجه البيهقي في “السنن الكبرى”، (3/273) عن عمرو بن الحارث بلاغاً، وقال: “هذا منقطع”.

[32] شخصية مصر، (4/548-550) باختصار.

[33] من كلام فضيلة الدكتور رمضان خميس غريب.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close