
العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هي من أكثر العلاقات تعقيداً ويصعب فهمها وتحليلها إلى حد كبير؛ فسلبياتها قد تكون في حد ذاتها إيجابيات من وجهة نظر أخرى؛ فالاستكانة والخضوع التي تميز بها المصري كانت سبباً في قيام دولة مركزية قوية حالت دون تقسيم مصر إلى دويلات أو إقطاعيات، ومنعت حدوث اضطرابات أو اقتتال داخلي بين طوائف الشعب.
وأحياناً كثيرة كان المصريون خارج معادلات الصراع على السلطة؛ مثلما كان في العصر المملوكي؛ إذ تحدث الانقلابات والاغتيالات، والشعب يقبل أي حاكم جديد ويرضخ له.
لكن في الوقت ذاته كانت تلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي مصدر الاستبداد والتغول من الدولة على حقوق الفرد والمجتمع؛ فإنه بقدر ما علا شأن الدولة والحاكم انحط قدر المواطن تماماً وتلاشى أي وجود له، وأصبح مجرد منفذ وأداة في يد السلطة، وقد عملت الحكومات المتتابعة على إخضاع المصريين وسلب إراداتهم؛ ليسهل انقيادهم.
يقول د. ميلاد حنا: “إن هذه الدولة المركزية التي يسيطر عليها الوالي وتملك كل شيء، قد أوجدت على مر العصور والقرون حالة من الخضوع والسلبية لا زالت آثارها موجودة حتى الآن، وكان ذلك مثار تعليق وتندر كثير من الكتاب والمفكرين.
يرى أرنولد توينبي أن الفلاح المصري -على مر التاريخ- كان ينظر إلى ممثلي السلطة -وعلى رأسهم حاكم الدولة- نظرة إجلال بلغ حد التأليه والتقديس، ولذلك كان يذعن لأوامرهم بصورة شبه مطلقة، وأصبحت طاعة الحاكم وكل من يمثله واحدة من أبرز صفات الفلاح المصري”([1]).
لا أعرف لماذا نخص المصريين وحدهم بهذا الأمر، فما الفرق بينهم وبين العراقيين أو الشاميين؛ فهم مثلهم مثل المصريين خاضعون للسلطان، ولا حول ولا قوة لهم في الصراعات التي كانت دائرة بين القادة والساسة، فكانت تأتي دول وتذهب أخرى والشعوب لا تملك إلا القبول بالدولة الجديدة حتى وإن أسفت على الدولة السابقة.
فلا أظن أن الفلاح هو السبب في هذه الحال.
والناظر لسوريا اليوم يجد فيها من يسجد لصورة بشار -لعنه الله، فهل هي بيئة نيلية؟
وهل هذا الخضوع لدولة الأسد الأب والابن بسبب أن السوريين فلاحون؟
هذا الأمر يحتاج إلى بحث أكثر؛ حتى نرد الأمر لأسبابه الحقيقية؛ ولا نحمِّل أمراً أكبر مما يحتمل.
وأرى أن الأمر هو عدم تسلح هذه الشعوب، فماذا يفعل الزارع أو التاجر أو الصانع وهو أعزل من السلاح أمام الدولة وبطشها، لابد أنه سيستكين وينتظر الفرصة للتخلص من هذا البطش، أو تكون له طرق أخرى في المقاومة ليس على رأسها السلاح الذي لا يملكه.
وعلى نفس النسق المشهور يسير طارق حجي فيقول: “علاقة المصريين بحكامهم (تاريخيّاً) هي علاقة تختلف عن علاقة معظم شعوب العالم بحكامهم؛ فمصر التي ألّهت حكامها منذ عشرات القرون، ومصر التي أعطت حكامها المماليك (الأبهة والسلطان المطلق والتفخيم العظيم)، لا تزال آثار منها في وجدان وعقول أبنائها”([2]).
وعلى نفس الأمر عندي فالمماليك كان حكمهم مبسوطاً على مصر والشام، فهل الشامي مثله مثل المصري في علاقته بالمماليك أم دونهم؟
أظن أنهما لم يختلفا في خضوعهما للمماليك.
“أما عباس محمود العقاد فكان له رأي مختلف من منطلق أن الإنسان المصري ينظر إلى السلطة نظرة الشك والريبة وليس التقديس والخوف، وأن الفلاح يرتبط بالأمة والحياة القومية عن طريق روابط الأسرة التي تشكل له ضماناً ما ضد القسوة والظلم. وأن الفلاح كان دائماً متحفزاً للتغيير، غير أن الفلاح في ثورته يريد أن يرى الصفوف حوله، ولا يحب أن يخاطر وحده”([3]).
وربما لو أسقطنا ما حدث خلال ثورة يناير من بدء الثورة؛ حيث كانت الأعداد صغيرة، ثم اتسعت دائرة الاحتجاج شيئاً فشيئاً مع شعور الناس بتعاظم الثورة وقربها من تحقيق هدفها، ثم بعد تنحي مبارك تهافت باقي الشعب على الانضمام للصفوف والمشاركة في الحياة السياسية الجديدة التي كان ينأى عنها فيما قبل, المهم ألا يكون هو في مقدمة الصفوف، وألا يتلقى صدمات المعركة أولاً ووحده.
أما الدكتور جمال حمدان فيقول عن علاقة الشعب المصري بالسلطة: “أما العلاقة بين الحاكم والمحكوم فهي تقليديّاً علاقة قهر ومقت، إكراه وكره، استبداد وحقد، بينما العلاقة بين الحكومة والشعب هي الريبة والعداوة المتبادلة بكل التفاهم الصامت، إن لم تعد الأولى العدو الطبيعي للثاني في نظر البعض.
بالمثل، فإذا كانت مصر -لحسن الحظ- لم تعرف (طبقة حاكمة) وراثية على غرار سلالات الأرستقراطيات الأوروبية فإنها -لسوء الحظ أكثر- عرفت غالباً العصابة الحاكمة (ولا نقول أحياناً: الحثالة الحاكمة) بمعنى: عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية.
ومن هنا فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة فقد كانت على العكس بشريّاً غاباً لا حديقة، إن كانت زراعيّاً مزرعة لا مرعى، فقد كانت سياسيّاً مرعى لا مزرعة للأسف. وبالتالي فكثيراً ما كانت مصر إلى حد بعيد حكومة بلا شعب سياسيّاً، وشعباً بلا حكومة اقتصاديّاً.
وهذا ما يصل بنا في النهاية إلى ذروة النظام، وذروة المأساة –أيضاً، لقد كانت مصر أبداً هي حاكمها، وحاكمها هو عادة أكبر أعدائها، وأحياناً شر أبنائها، وهو على أية حال يتصرف على أنه (صاحب مصر)، (ولي النعم)، أو الوصي على الشعب القاصر الذي هو (عبيد إحساناته)، ووظيفته أن يحكم ووظيفة الشعب أن يُحكم، وأن الشعب الأمين هو شعب أمين، والمصري الوطني الطيب هو وحده المصري التابع الخاضع، إن لم يعتقد حقّاً أن المصري لا يكون مصريّاً إلا إذا كان عبداً أو كاد.
والحقيقة أن حاكم مصر طوال تاريخها الماضي إن لم يكن ينظر غالباً إلى الوطن كضيعته الخاصة وإلى الشعب كقطيع، فقد كان على أحسن تقدير يتبنى فكرة الراعي الصالح والرعية التوابع، أي: فكرة الأبوة والأبوية العتيقة، الطيبة أو القاسية بحسب الأحوال، وبحيث كان الحكم المطلق أشبه عمليّاً بالحكم الرومانتيكي، والدولة الفردية أقرب في الواقع إلى (الدولة الشخصية)”([4]).
وهذا الكلام ينطبق تمام الانطباق على نظام انقلاب 2013م.
وقد وصلت بنا تلك العلاقة المعقدة بين الشعب والسلطة إلى حالة مزرية من الفساد السياسي والاجتماعي أطبقت منذ عصور على المجتمع المصري واستحكمت فيه بعنف، وصار المواطن في نظر الدولة شيئاً تافهاً لا قيمة له على الإطلاق، وصار الحاكم هو المريد والمنفذ وصاحب الشأن والأمر، بينما ينظر إلى الشعب على أنه معدوم الفهم لا يعي أمور الدولة والسياسة وأنه مجرد منفذ لمشيئة الحاكم الملهَم.
يقول د. أحمد عكاشة “خبير الطب النفسي” عن تلك العلاقة المعقدة: “نحن أمام مواطن ليس له بالفعل أي دور في مجريات أمور وطنه. وما زال أصحاب نظرية أن الشعب قاصر، والحكام هم الأوصياء عليه متمسكين بنظريتهم، نشيطين في تطبيقها بكل الوسائل وفي كل ما يمس حياة المواطن، يريدون من المواطن أن يحتشد كلما دعت حاجتهم هم إلى الاحتشاد، ويلزمونه بأن يتفرق عن غيره وينصرف إلى نفسه إذا انتفت الحاجة -حاجتهم هم أيضاً- إلى احتشاده!
يقررون أبسط أمور حياته اليومية والعامة وأعقدها، ويؤكدون له أن سائر الشؤون ليست شؤونه! إذا كانت للدولة مشكلة مع المواطن كانت هي المشكلة صاحبة الأولوية المطلقة، أما إذا كان للمواطن مشكلة مع الدولة فهي في آخر قوائم اهتماماتها”([5]).
فمن أجل فرض هيمنتهم وسطوتهم سلك حكام مصر مع الشعب سياسة التبخيس وتقليل الشأن، والوصاية عليه، وأن الشعب غير مؤهل لقيادة نفسه أو اختيار طريقه السياسي، وكان سدنة نظام مبارك مثل أحمد نظيف وعمر سليمان يدندنون دائماً أن الشعب غير مؤهل لممارسة الديمقراطية، وتم زرع تلك الأفكار السلبية طوال عقود في عقول المصريين حتى أصبحت مهيمنة على تفكيرهم، فتجد على ألسنة الكثيرين منهم عبارات دارجة من عينة: “الحكومة أدرى بما تصنع”.
والعجيب انتقال تلك الظاهرة إلى التيار الإسلامي حيث احترف قادته في الآونة الأخيرة سياسة تبخيس الصف التابع لهم واتهامهم دائماً بعدم الفهم والتبصر بما يدور حولهم، وأن قياداتهم فقط هي التي تدرك كنه الأمور وعواقبها، حتى درج على ألسنة الصف عبارات من عينة: “إخوانا اللي فوق عارفين وفاهمين”.
وخلال فترة ثورة يناير حتى فترة قريبة بعد الانقلاب العسكري كانت تلك العبارة تقال بثقة شديدة من أفراد تلك التيارات معتقدين ومتيقنين من تبصر وإلمام قيادتهم بما يحاك حولهم، بينما هم -نسبة كبيرة من الأفراد- من وجهة نظرهم أنهم أنفسهم لا يفقهون ولا يحسنون فهم ما يدور حولهم.
وهذا تجلٍّ صريح لسياسة التبخيس التي تقوم بها السلطة الحاكمة منذ عقود، ونتاج ما رسخته في العقول, والتي جعلت الشخصية المصرية ترى في نفسها دونية واحتقاراً، وأنها لا تصلح لقيادة نفسها أو تحديد اختياراتها.
يقول د. مصطفى حجازي: “أبرز ملامح هذه المرحلة([6]) اجتياف([7]) عملية التبخيس التي غرسها المتسلط في نفسية هذه الجماهير. تتمثل عدوانيته وقهره ذاتيّاً على شكل مشاعر إثم ودونية. يزدري إنسان العالم المتخلف ذاته، ويخجل منها، ويود لو تهرّب من مواجهتها، كما ينقم عليها في الوقت نفسه. وهنا يكيل النعوت السيئة لنفسه، متهماً إياها بالتقصير والتخاذل والجبن. يميل إلى إنزال العقاب بنفسه حتى إنه يرى أحياناً في القهر والظلم الإنسانيين، كما في قسوة الطبيعة واعتباطها، عقاباً مستحقّاً له على تخاذله واستكانته. وبذلك يصبح حليف المتسلط الأول في حربه ضد وجوده، ووجود الآخرين أمثاله. بينه وبين هؤلاء تقوم علاقة ازدراء ضمني؛ لأنهم يعكسون له مأساته وعاره، كما يعكس مأساتهم وعارهم”([8]).
وعلى مدى قرون عملت الأنظمة والحكومات التي تولت قيادة الشعب المصري على تحويله إلى مجموعة من الأقنان والعبيد؛ ليسهل انقيادهم وتملِّك زمامهم، كما عملت بشكل حثيث على وأد روح الثورة والحرية في نفوس الشعب، وقتل كل بادرة أمل في أن يصير الحكم والإدارة يوماً ما لذلك الشعب المقهور.
يقول إيتيان دو لا بويسي عن فكر الطغاة ونظرتهم للشعوب: “لا يجدون من وسيلة لضمان طغيانهم الجديد ما هو أفضل من نشر العبودية وتعميمها، وبذل كل قوة لاستبعاد أفكار الحرية من رعاياهم، مما يؤدي إلى محوها من ذاكرتهم مهما يكن العهد بها قريباً”([9]).
وقد ساهمت تلك الأمور المزروعة في العقول عنوة من قِبل السلطة في عملية التكوين السلبي للشخصية المصرية، وتنامي الرضوخ والخضوع للسلطة، وتفشي صفات النفاق والتزلف، وفقدان المصري لكثير من الصفات الإنسانية، والتي يصفها د. مصطفى حجازي بقوله: “لا يجد الإنسان المقهور من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية كقَدَرٍ مفروض.
ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام([10])، والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاءً لشره أو طمعاً في رضاه.
إنه يعيش في عالم بلا رحمة أو تكافؤ إذا أراد المجابهة أو فكر في التمرد، فسيأتي الرد عندها حاسماً يقنعه بقمع أفكاره التمردية.
إن عالم التخلف هو عالم التسلط واللاديمقراطية، يختل فيه التوزان بين السيد والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حدّاً تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها تنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيّؤ([11])“([12]).
وبينما تتعاظم صورة الحاكم والسلطة في المجتمع المصري وتصل إلى درجة التوحش والتوغل، تتقزم صورة المواطن ويتحول إلى شيء لا قيمة له على الإطلاق، لا قيمة لحياته، ولا قيمة لرأيه، ولا قيمة لوجوده من الأساس.
وتتجذر تلك القيم في عقل السلطة والحكومة، وتصبح مسلمات وواقعاً تتعامل على أساسه مع المواطن (الرخيص) فتنتهك حريته وكرامته، وتصبح حياته لا ثمن لها، وما يحدث في أقسام الشرطة في مصر من معاملة غير آدمية يرجع جزء كبير منها إلى تلك الصورة النمطية في عقل رجال السلطة، أن المواطن لا قيمة له فإذا أُزهقت حياته جراء التعذيب أو الإهمال فلا مساءلة ولا عقاب.
وكذلك على مستوى باقي أجهزة الدولة تجد الإهمال يحيط بكل ما يتعلق بحياة المواطن من: صحة ومواصلات وغذاء وغيرها.
ويصف د. مصطفى حجازي تلك العلاقة بدقة قائلاً: “بدل علاقة أنا – أنت التي تتضمن المساواة والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر، وحقه في الوجود، ذاك الاعتراف الذي يشكل شرط حصولنا على إنسانيتنا من خلال اعتراف الآخر بنا كقيمة إنسانية، بدل هذه العلاقة تقوم علاقة من نوع أنا – ذاك. ذاك هو الشيء، هو الكائن الذي لا اعتراف به، بإنسانيته وقيمتها، أو بحياته وقدسيتها. باعتباره شيئاً يصبح كل ما يتعلق به أو ما يمت إليه مباحاً (غبن، اعتداء، تسلط، استغلال، قتل، إلخ..)، ذلك هو الإنسان المقهور إنسان العالم المتخلف”([13]).
وبينما تهوي شخصية المواطن المصري المقهور ومكانته إلى الحضيض، تتعاظم صورة الحاكم، وتتزايد نرجسيته ويصبح هو المُلهَم والمخلِّص والمنقذ، ولا أحد غيره قادر على قيادة الوطن والعبور به إلى بر الأمان.
تأمل -على سبيل المثال- حالة محمد علي وجمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي، وما جرى معهم من تحول الحاكم إلى السيد المطلق والشعب إلى عبيد.
يقول حجازي: “على العكس تتضخم ذاتية المتسلط بشكل مفرط يحتوي الآخر الشيء، ويجعله تابعاً له وأداة لخدمته في حالة من طغيان الأنوية. لا اعتراف إلا بـ أنا – السيد، لا حياة إلا له، لا حق إلا حقه. مما يجعل كل تصرف، كل نزوة، كل استغلال وتسلط مبرراً كجزء من قانون الطبيعة.
وبمقدار ما تتضخم ذات المتسلط تفقد ذات التابع المسود أهميتها واعتبارها حتى تكاد تتلاشى إنسانيتها كليّاً.
والواقع أن السيد لا ينظر إلى الآخر المقهور كإنسان فعلي. إنه يفقد التعاطف معه والإحساس بمعاناته وآلامه ومخاوفه وحاجاته. ومن هنا تلك القسوة البادية في تصرفاته تجاه من يخضعون له، تلك اللامبالاة تجاه معاناتهم”([14]).
وقد وصلت تلك النرجسية إلى التيارات الإسلامية التي تصدرت المشهد السياسي من بعد ثورة يناير حتى الآن؛ فقادتها يرون أنفسهم المخلصين والمنقذين، وهم وحدهم القادرون على تولي عجلة القيادة والوصول بالوطن أو الجماعة إلى بر الأمان.
وبقدر ما ينظر المتسلط إلى شعبه بدونية واستحقار لعقله ينظر هؤلاء إلى أتباعهم بدونية واستحقار مماثل لعقولهم وآرائهم ويسوّقون الحجج الواهية لتبرير ذلك، وهو ما أوجد تسلطاً وديكتاتورية داخل تلك التيارات المفترض أنها في الأساس تناضل وتكافح ضد السلطة الديكتاتورية، فأصبح ما تعاديه هي ملوثة به.
وقد عمل الاستبداد في مصر بكل قوة على إبقاء الشعب تحت سطوته وقوته، وقاوم أي محاولة لتغيير ذلك النمط السائد؛ لذا دائماً ما يجنح إلى استخدام القوة الباطشة لتأكيد سلطته ونفوذه؛ فبقاء حكمه يعتمد على خوف الشعب وخضوعه ومدى انقياده له؛ فالمستبد “ينظر إلى أبناء الفئة المستغلَّة ككائنات هزيلة، مستضعفة وجبانة، ولا بد أن تبقى على هذه الحالة، لا بالإقناع والمنطق، بل بالقوة والقسر. وبمقدار ما يبخس الإنسان المقهور، ويفرض عليه الانحطاط والشقاء، يصبح اتكاليّاً مستكيناً مستضعفاً. وهذا بدوره يؤكد في ذهن المتسلط أسطورة تفوّقه وخرافة غباء وعدم آدمية الإنسان المستضعف”([15]).
أو كما وصف إيتيان دو لا بويسي هذا الوضع بقوله: “أما الناس الخاضعون، المفتقرون للشجاعة والحيوية، فهم ذليلو القلوب، وعاجزون عن إنجاز المآثر، والطغاة يعرفون ذلك؛ لذا فهم يبذلون أقصى ما في وسعهم لإذلالهم أكثر فأكثر”([16]).
وينتشر وباء التسلط في المجتمع بين جميع أفراده وطبقاته وعلى جميع مستوياته، ويتوغل داء التسلط داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، فيتحول كل مسؤول إلى ديكتاتور متسلط يفرض نفوذه وسيطرته على من هم دونه.
يقول د. مصطفى حجازي: “بقدر ما تتضخم (أنا السيد)، وينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود، يصبح الأول أسير ذاته، وينحدر الثاني إلى أدنى سلّم الإنسانية، ويصبح عنف علاقة التسلط مضافاً ومتفاعلاً مع قسوة الطبيعة واعتباطها، هو القانون الذي يحكم حياة الإنسان المقهور بأجمعها (على مختلف مستوياتها وأوجهها وتفاصيلها) يعمم نموذج التسلط والخضوع على كل العلاقات وعلى كل المواقف من الحياة والآخرين والأشياء.
تتسم علاقة الرئيس بالمرؤوس بهذا النمط التسلطي الرضوخي، كما تتسم به علاقة الرجل بالمرأة والكبير بالصغير، والقوي بالضعيف، والمعلم بالتلميذ، والموظف ورجل الشرطة بالمواطن. كل سلطة، مرتبية كانت أم طبيعية تصطبغ لا محالة بهذه الصبغة”([17]).
ويرجع بعض الباحثين الشكل الذي وصلت إليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى العصر المملوكي الذي يعتبر صاحب النصيب الأوفر في تأثيراته على الشخصية المصرية كما سنعرض لاحقاً.
يقول طارق حجي: “وهناك الكثير الذي يمكن أن يُقال عن أثر العهد المملوكي على تكوين الشخصية (أو العقلية) المصرية في هذا المجال بالتحديد”([18])؛ أي: علاقة الحاكم بالمحكوم والشخصيات العامة وإضفاء هالات من القداسة والفخامة عليها.
ويرى طارق حجي أن السبب في تلك الظواهر السلبية هم المحكومون وهم مصدر الظاهرة، فيقول: “ورغم تسليمي بأن المحكومين في هذا الوطن هو مصدر الظاهرة، إلا أن التغيير يبقى مستحيلاً ما لم يبدأ من قمة الهرم المجتمعي؛ إذ إن البدء من القاعدة مستحيل لعمق الظاهرة ومدى اتساعها.
وأعني أن رأس المجتمع هو القادر على البدء في بث قيم أخرى مختلفة في هذا المجال، قيم تناسب حقيقة العلاقة بين الطرفين (كما آلت إليه مع التطور الإنساني)، وتناسب القيم التي استقرت في المجتمعات ذات الحظ الوافر من الديموقراطية”([19]).
والمتابع للإعلام يرى مدى التردي في القيم وبثها، بل صناعة رموز من سفلة المجتمع، وتدهور في الأخلاق، ونشر أخلاق التملق والكذب والاستهتار والتحلل القيمي والأخلاقي… إلخ.
والإعلام ما أراه إلا فرعاً من أفرع المخابرات، وكأن هذا هو سياسة الدولة، ويفعلون في الشعب أكثر مما يتمنى الأعداء أن يفعلوه بالشعب المصري.
لعنة الحكم العسكري
سيطرة القوة الغضبية على القوة العقلية تضييع للدولة؛ إذ ليست حياة الدول وأعمارها كله يكون في الحروب، حتى لو انشغلت في الحروب فالجبهة الداخلية تحتاج لتدبير من نوع آخر، أما إن كانت القوة الغضبية تتحكم في الداخل فهي تفرط في مهامها المنوطة بها، وتتدخل فيما لم تُهيئ له.
والقوة الغضبية هي القوة العسكرية، وتركها لميدانها ومزاحمتها لأهل السياسة أو إزاحتهم بقوة السلاح هو هدم للدولة.
وحكم العسكر هو مصدر البلاء وأس الفساد الذي ضرب صميم الدولة المصرية وهدم بنيانها ودمر مقدراتها، ولم تتخلص مصر من الحكم العسكري منذ انقلاب 1952م، ولما قامت ثورة يناير عاد العسكر بأسوأ مما كانوا عليه سابقاً.
والملاحظ أنه حين تبرز الانقلابات العسكرية تختفي الثورات الشعبية، أو تبرز على استحياء على شكل هبّات أو انتفاضات يسهل قمعها وإطفاء جذوتها، أما إذا بلغت التحركات الشعبية حد الثورة وأصبحت من الخطورة بمكان جرى احتواءها وتدجينها لتظل الآلة العسكرية هي المسيطرة والمتحكمة.
فثورة ثورة يناير تم العمل على تدجينها ومحاولة التحكم بها من قِبل الدولة العميقة، لكن حين فشلت عملية التدجين كان قرار الإنهاء العسكري وعودة الانقلابات من جديد.
يقول د. جمال حمدان: “إن مصر المحافظة أبداً المفرطة الاعتدال جدّاً والتي لا تؤمن بالطفرة ولكن بالتدريج الوئيد أساساً، لم تعرف الثورة الشعبية بالكاد، ولكن الانقلاب العسكري فقط وبالتحديد، وذلك منذ الفراعنة والمماليك حتى اليوم بلا استثناء ولا اختلاف، استمرارية في قاعدة الانقلابات وغياب الثورات.
فخلال أكثر من 5000 سنة لم تحدث أو تنجح في مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة مؤكدة، مقابل بضع هبات أو فورات فطيرة([20]) متواضعة أو فاشلة غالباً، مقابل عشرات بل مئات من الانقلابات العسكرية يمارسها الجند والعسكر دوريّاً كأمر يومي تقريباً منذ الفرعونية وعبر المملوكية وحتى العصر الحديث ومصر المعاصرة.
وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليديّاً ومن البداية إلى النهاية شعباً غير محارب جدّاً، أو إلى حد بعيد في الخارج، كانت مجتمعاً مدنيّاً يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم.
وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب، كثيراً ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان كالقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب.
من هذا وذاك -كيف لا؟- جاءت لعنة خضوع الحكم العسكري الاغتصابي الاستسلامي للاستعمار الأجنبي على المستوى الخارجي، ولعنة خضوع الشعب السلبي المسالم للحكم البوليسي في الداخل.
وهي جميعاً سلسلة متناقضات ساخرة بقدر ما هي قطعة من الاستمرارية المأساوية المحزنة المخجلة”([21]).
وهؤلاء ينطبق عليهم قول القائل: “شر خصال الملوك: الجبن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء”([22]).
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: “ثلاث من الفواقر: جار مقامة إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت عليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك”([23]).
وقضية أن شعب مصر شعب غير محارب فهذا صحيح، لكن جيشه من الجيوش التي يُحسب له ألف حساب.
وهل كل الشعوب تنخرط في الجيوش حتى تكون تلك سُبة في الشعب المصري؟
وقد استند العسكر المنقلب على حديث مشهور يجعل لجند مصر خصيصة وميزة عن غيرهم من الأجناد، والحديث أخرجه ابن عساكر عن أمير المؤمنين عمر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض”.
فقال له أبو بكر: ولم ذاك يا رسول الله؟!
قال: “لأنهم في رباطٍ إلى يوم القيامة”([24]).
والعلماء مجمعون على تضعيف الحديث، وبطلانه، قال الشيخ أبو إسحاق الحويني: “الحديث الذي فيه الفضل لجند مصر فيه راو ضعيف عن مجهول عن مجهول لا يُعرف، وهذا عند علماء الحديث اسمه: إسناد ساقط، وهو باطل لا تصح نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم”([25]).
إلا أن ضعف هذا الحديث لم ينف عن أهل مصر خصوصية خصّهم بها رسول الله؛ فعن أم سلمة قالت: أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند وفاته فقال: “الله الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم يكون([26]) لكم عدة وأعواناً في سبيل الله”([27]).
وقال فيه الهيثمي: “رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح”([28]).
فهذه وصايةٌ خاصةٌ من رسول الله بأهل مصر قبيل وفاته، وطلبَ هذا من المسلمين أو من قادتهم، وذكر أن المصريين عدة للإسلام، وأعوان في سبيل الجهاد والنصرة للحق.
وإيرادي لهذا الحديث لإثبات أن جند مصر إن كانوا على الجادة والتربية السليمة والفهم الصحيح لنصروا الإسلام نصراً مبيناً، ولكانوا شوكة في حلق الأعداء.
وأنهم يصلحون للحرب والعسكرية حتى وإن كانوا في أصل حياتهم مدنيين، لكن يبقى التوجيه الصحيح السليم لهم، واستخدامهم في سبيل الله لا سبيل الشيطان والأهواء والافتراق.
التشبث بحكم مصر
إن المرء ليقلب أوجه النظر في سر تشبث العسكر بحكم مصر، وعدم تخليهم عنها، وإراقتهم للدماء المعصومة دون أن تطرف لهم عين لا لشيء إلا لمعارضتهم لحكمهم دون أن يحملوا ضدهم السلاح.
وبعد تقليب النظر كان هناك مدخل لابد منه؛ وهو أن الملك لا يُسلمه صاحبه طوعاً، بل يُنتزع منه انتزاعاً، وهذا مستفاد من قوله -تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26].
ثم إن مصر لها أهمية عظمى بين البلدان المجاورة؛ فقد كان عمرو بن العاص يقول: “ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة”([29]).
وهي لها تاريخ عريق في الاستقلال عن دولة الخلافة؛ مثلما فعل أحمد بن طولون باستقلاله عن الدولة العباسية، وفيها استقرت الخلافة الفاطمية، واستمرت فيها الخلافة العباسية بعد سقوطها ببغداد، واستقلت دولة محمد علي عن الخلافة العثمانية.
ومنها خرج من ثار على أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
وهذا يعني أنها ليست بالدولة القليلة الشأن، ضعيفة الموارد، بل إن مواردها مغرية لأصحابها، وقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “من أعيته المكاسب فعليه بمصر، وعليه بالجانب الغربي منها”([30]).
وقال الألباني: “ضعيف”([31]).
وضعف الحديث لا ينفي صلته بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالجملة.
وهذا الأثر وما ورد في القرآن وما نعايشه ونراه في مصر من خيرات لا متناهية يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن من يسيطر عليها يسيطر على (خزائن الأرض).
وهذه وحدها كفيلة بأن يسيل لها لعاب الطامعين في حكمها.
وقد قيل عن مصر: يسرقها حكامها من أيام الفراعنة للآن، وما زال فيها الخير.
وعدد المصريين في حد ذاته ثروة؛ إذ إن من يحكمها فإنه يحكم ثلث العرب، وأي دولة قوية تحتاج إلى مساحة كبيرة وموارد وفيرة وعدد كبير من الشعب، وهذه أمور متوفرة في مصر تجعلها مهيأة للقيام بدور إقليمي وعالمي.
لكن للأسف عسكر مصر رغم توفر كل أسباب القوة والرخاء قزّموا دور مصر، وجعلوها تابعة تنتظر الدعم المادي والسياسي من الخارج.
الحرب الأهلية والفتن
كانت حدة الحروب الأهلية قد خفتت في المنطقة العربية، لكن مع اشتعال ثورات الربيع العربي جاءت الثورات وهي تحمل في طياتها حروباً أهلية بين أبناء الوطن الواحد، أكلت الأخضر واليابس.
وما يحدث يؤكد كلام لينين حين قال: “ما من ثورة عظيمة واحدة حدثت في التاريخ بدون حرب أهلية”([32]).
لكن مصر لم يحدث فيها ما حدث في غيرها من البلدان المجاورة.
ولما حدث انقلاب 2013م كانت الأمور مرشحة للوقوع في براثن الحرب الأهلية؛ إذ قُتل آلاف المصريين بدم بارد في الشوارع عقاباً لهم لرفضهم للانقلاب العسكري الغادر.
لكن لم يحدث ذلك.
والمطلع على تاريخ مصر القديم والحديث لا يكاد يظفر بحرب أهلية فيها، وإن كان هناك بعض المناوشات بين السلطة وبعض القبائل أو المناطق.
فقد كانت هناك -مثلاً- حرب مباشرة “بين سلاطين المماليك وقبائل العربان، التي ذاع منها في نهايات العصر العثماني تمرد الهمّامية في صعيد مصر على دولة علي بك الكبير في القرن الثامن عشر، والدور السياسي الذي انخرط فيه عرب الهنادي في الصحراء الغربية ومحيط الإسكندرية”([33]).
فهي تجريدات تأديبية، وما يحدث في سيناء لا أظنها حرباً أهلية، بل هي أشبه ما يكون بتمرد في مكان ويحاول الجيش أن يخمده، وتقوم هذه المجموعات المتمردة بحرب عصابات ضد الجيش.
وبالتفتيش في مناقب مصر وفضائلها وقفت على هذا النص لكعب الأحبار الذي قال فيه: “لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر.
فقيل [له]: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟
قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلك يعافون، ومن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وروي عن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله”([34]).
فمشكلة مصر مع حكّامها وليس فيما بينهم.
الدولة المركزية العميقة
كثيراً ما استمعنا إلى مصطلح الدولة العميقة في مصر، وتمكّنها من مفاصل الدولة بشكل مذهل، حتى إن الدخيل عليها -مرحلة حكم الإخوان بعد ثورة يناير- استصعب عليه كثيراً التحكم في تلك المنظومة، فهو إما أن يسايرها وإما أن يدخل معها في صراع صفري؛ إما هو أو هي.
وكما رأينا كانت الغلبة للدولة المركزية العميقة الضاربة بجذورها في مفاصل الحكم والسلطة. فتاريخ الدولة العميقة ليس وليد هذا العصر، بل هو ضارب بجذوره لحقب سحيقة في التاريخ المصري.
يحدد د. جمال حمدان شكل تلك الدولة المركزية العميقة التي تقوم على أعمدة أساسية متكاملة ومترابطة من خلال شبكة مصالح معقدة وقوية للغاية, واللافت للنظر أن شكلها منذ عصور بعيدة لم يتغير كثيراً عن شكلها الحالي إلا في الأدوات والوسائل المتاحة لطبيعة الزمن وتغيرات الحياة، فيقول: “والواقع أن هيكل النظام الفوقي أو الطبقة الحاكمة الذي تستقر فوقه الأوتوقراطية([35]) الطاغية وتستند إليه كان يتحلل في عناصره الأولية إلى ثلاثة أعمدة أساسية: بيروقراطية منتفخة متضخمة، وثيوقراطية هي الأخرى متورمة، وأرستقراطية عسكرية شديدة البأس، والكل يقوم على قاعدة عريضة محكومة من بروليتارية فلاحة عاملة”([36]).
أي: موظفون في الجهاز الإداري للدولة إلى جانب المؤسسة الدينية معهما المؤسسة العسكرية، هذه المؤسسات هي عماد الحكم والحاكم، وهي بمجموعها متسلطة متمكنة من رقاب الطبقة الكادحة من الفلاحين والعمال والحرفيين.
وكلما قرأت قوله -تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ [الأعراف: 111-113].
فانظر كيف صدر الأمر من فرعون بعد استشارة الملأ، فنزل أمره في كل مدينة في مصر عن طريق الشرطة الذين أذاعوا الخبر، وحشدوا السحرة، وفعلاً اجتمع السحرة ولبّوا نداء فرعون، وكانوا في الموعد المضروب.
الهامش
[1] الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ص(103) باختصار.
[2] طارق حجي: نقد العقل العربي من عيوب تفكيرنا المعاصر، اقرأ سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن دار المعارف، الطبعة الثانية، 1999م، ص(155-156).
[3] الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ص(104).
[4] شخصية مصر، (4/577).
[5] د.أحمد عكاشة: ثقوب في الضمير نظرة على أحوالنا، دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1414هـ – 1993م، ص(12-13).
[6] مرحلة القهر الإنساني والرضوخ.
[7] “اجْتَافَ الثّوْرُ الكِنَاسَ: إذا دَخل جَوْفَه” [أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري: تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، (11/143)].
[8] د.مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص(42).
[9] إيتيان دو لا بويسي: مقالة العبودية الطوعية، ترجمة: عبود كاسوحة، مراجعة: د.جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، كانون الأول (ديسمبر) 2008م، ص(158).
[10] “الاستزلام: هو عبودية زائداً (عليه) رضى طوعيّاً تامّاً لتلك العبودية؛ لأسباب انتهازية نفعية. إن الاستزلام يمارس عادة بلا خجل وبلا قيم تحكمه، بل إن ممارسه يعتقد أن ذلك شطارة وحنكة وفهم ذكي واقعي للحياة” [علي فخرو: الاستزلام السياسي في أرض العرب (مقالة)، القدس العربي، 7فبراير 2018م].
وقيل: “الاستزلام: ظاهرة سلوكية مجتمعية، تشير إلى أشخاص يتبعون زعيماً سياسيّاً، أو قائداً عسكريّاً، أو وجيهاً اجتماعيّاً، أو مديراً ومسؤولاً في دائرة معينة، وكل ذلك لمصلحة شخصية، كما أنها تشير -من ناحية عكسية- إلى الزعيم أو القائد أو الوجيه والمسؤول نفسه، الذي يعمد إلى تشكيل مجموعات من الأزلام، وتقريبهم إليه وإتاحة المنفعة لهم، مهما صغرت” [حافظ قرقوط: الاستزلام، شبكة جيرون الإعلامية، 13يناير 2018م].
[11] “التشيؤ يعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية)، ومعاملة الناس باعتبارهم موضعاً للتبادل، فيَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء.
أي: تحول ما هو ليس بشيء ليصبح شيئاً” [تشيؤ: موقع ويكيبيديا].
[12] د. مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص(39).
[13] السابق، نفس الصفحة.
[14] السابق، نفس الصفحة.
[15] السابق، ص(40).
[16] العبودية الطوعية، ص(169).
[17] د.مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص(40).
[18] نقد العقل العربي، ص(158).
[19] السابق، ص(159).
[20] “كل شيءٍ أَعجلته عن إدراكه فهو فَطِير، يقال: إِيايَ والرأْيَ الفَطِير، ومنه قولهم: شَرُّ الرأْيِ الفَطِير” [محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري: لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، (5/55)].
[21] شخصية مصر، (4/578).
[22] أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي: سراج الملوك، 1289هـ، ص(60).
[23] أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ، (1/56).
[24] أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المعروف بابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، دراسة وتحقيق: علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ – 1998م، (46/163).
[25] درس له على قناة الندى، منشور على يوتيوب بتاريخ 11/8/2103م.
[26] كذا، وفي غيره من كتب الحديث: “يكونون”.
[27] أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني: المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الطبعة الثانية، 1404هـ – 1983م، (23/265).
[28] نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ – 1988م، (10/63).
[29] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله عبد الحكم بن أعين القرشي المصري: فتوح مصر وأخبارها، تحقيق: محمد الحجيري، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ – 1996م، ص(209).
[30] تاريخ دمشق، (60/325).
[31] محمد ناصر الدين الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ – 1992م، (4/359).
[32] عرض كتاب الهروب من الحرب الأهلية مصر نموذجاً، نشر في 4أكتوبر 2105م، موقع مصر العربية.
[33] جمال الجمل: عن فوبيا الحرب الأهلية في مصر (مقالة)، نشرت في 11أبريل 2018م، موقع عربي 21.
[34] فضائل مصر المحروسة، ص(29).
[35] هي حكم الفرد.
[36] شخصية مصر، (2/555).

طبائع المصريين ـ الأصول والتطورات وعوامل التغير (1)