fbpx
تقديراتاوروبا وامريكا

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بقدوم الثامن من ديسمبر 2018، كانت المسيرات تجوب مدنا فرنسية مختلفة، وباريس بصفة خاصة، لتمثل ذروة ثلاثة أسابيع من المظاهرات ضد قرار الرئيس ماكرون برفع أسعار الوقود، وفي أعقاب جمع أكثر من 900 ألف توقيع على عريضة شعبية ضد القرار اﻷخير. قطع عدد يقدر بحوالي 300 ألف متظاهر يرتدون سترات صفراء واضحة للناظرين، الطرق في 2000 نقطة عبر فرنسا، بينما أظهرت استطلاعات الرأي أن ما بين 66 إلى 80 بالمائة من الفرنسيين يدعمون الانتفاضة. وعكر العنف والنهب والحرق صفو المسيرات التي كانت في معظمها سلمية، ولكن الدعم استمر في التصاعد. وعكست صرخة جمعية عاصفة، في المقام اﻷول، الأسى لتدني مستويات المعيشة في البلاد وتآكل القدرة الشرائية.

وبحلول منتصف ديسمبر، بدأت الحركة في اكتساب توجه لتغيير جذري من خلال دعوات لعهد جديد تماما. وأدى العنف من جانب كل من المتظاهرين والشرطة إلى اعتقال 2000 مدنيا، فيما تعرض آلاف للطعن واﻹصابة في معارك الشوارع، بينما لقي شخص واحد حتفه. وأعلن بنك فرنسا أن النمو المتوقع في الربع اﻷخير لعام 2018 قد انخفض للنصف، من 0.4 بالمائة إلى 0.2 بالمائة فقط، مع خسائر إضافية منتظرة إذا ما سقطت الحكومة بسبب الغضب الشعبي. وكان توقع وزير المالية الفرنسي أسوأ حتى من ذلك؛ ففي الاثنين العاشر من ديسمبر أعلن أن النمو السنوي المتوقع يُقدر بـ 1.7 بالمائة فقط.

في البداية لم تعكس التظاهرات أي أثر ملحوظ على ماكرون. ولكن بعد وصول حجم وحدة التظاهرات إلى ذروتها في السبت الثامن من ديسمبر، حيث اعتبر التراجع عن السياسات الضرائبية المعلنة بشكل واسع ‘غير كاف،’ ضمت المطالب إعادة توزيع الثروة، رفع اﻷجور، إصلاحات لسياسات المعاشات، زيادة الحد اﻷدنى للأجور، ومزيد من مدفوعات الضمان الاجتماعي لتخفيف اﻷذى عن مواطني فرنسا من الطبقة الوسطى والفقراء. وتعهد خطاب علني في الإثنين التالي بتسريع اجراءات ‘الوقت اﻹضافي’، وإصلاح نظم التأمين ضد البطالة، والخدمة المدنية، والمعاشات، وزيادة الحد اﻷدنى للأجور. ومع ذلك، كانت بلاغة ماكرون الفخمة متأخرة ولم تعكس قرارين مصيريين في عام 2017: بخفض ضرائب الشركات من 33 إلى 25 بالمائة وإعادة هيكلة الحماية القوية للعمال للسماح للشركات بتوظيف وفصل الموظفين من خلال مفاوضات مباشرة والحد من قدرة اتحادات العمال على التأثير على هذه العملية. وضرب القرار اﻷخير بروتوكولا عمره عقد كامل، قيد اﻷعمال الفرنسية وأثر على أمن وظائف المواطنين الفرنسيين.

في حين قبل بعض المتظاهرين التنازلات اﻷخيرة، اعتبر قائد المعارضة اليمينية المتطرفة جان اوك ميلينشون، وماري لوبان، رئيسة المسيرة الوطنية، السياسات الجديدة غير فعالة بالنسبة لجزء كبير من الشعب الفرنسي وأن الحكومة قد فشلت في ملاحظة اﻷبعاد الاجتماعية والثقافية للتظاهرات. مع ذلك، أظهر استطلاع للرأي أجرته ‘أوبينيون واي OpinionWay” في 11 ديسمبر أن ما يقرب من نصف سكان فرنسا أقنعتهم وعود الرئيس في حين قال 51 بالمائة أنها لم تقنعهم. فماكرون الملقب بـ “برئيس اﻷثرياء“، ينظر إليه بشكل واسع على أنه غير متصل بالواقع، متكبر، ونخبوي يظن أنه “يعرف كل شيء“، وهو يخدم الطبقات العليا اجتماعيا واقتصاديا وظهرت سياساته كامتداد طبيعي للأداء السابق في ظل رئاسة فرانسوا أولاند. وقد بلورت أزمة الوقود هذه الصورة أكثر؛ فتقتبس بولين بوك في تقريرها للوموند عن أحد متظاهري السترات الصفراء قوله “يتحدث أفراد النخبة عن نهاية العالم بينما نتحدث عن نهاية الشهر.”

برغم كل شيء، نجا ماكرون من تصويت على سحب الثقة في 13 ديسمبر ويتوقع للتظاهرات أن تنحسر بعد الإجراءات الجديدة. ووفق محللين، فإن التآكل والنزاع الداخلي حول تمثيل ومستقبل الحركة كافيين لتدميرها ذاتيا. مع ذلك، فاﻷسباب الجذرية والظروف التي تمنحها قوة الدفع، في الغالب، لن تتغير. برغم أن متوسط الدخل هو 31,137 دولار أمريكي سنويا، فقد عانت البلاد من فجوة كبيرة في الدخول، يتلقى من خلالها العشرون بالمائة اﻷعلى دخولا ما يقارب خمسة أضعاف ما يتلقاه العشرين بالمائة اﻷدنى دخولا. إلى جانب نمو متوسط بلغ 1.8، ونسبة بطالة بلغت 9 إلى 11 بالمائة منذ عام 2013، وارتفاع للضرائب أو تخفيض لعوائد أصحاب المعاشات، وخفض قدره 3.2 مليار يورو في الضرائب على ثروة 350 ألف من اﻷعلى دخلا والذين تزيد ثروة كل منهم عن 1.3 مليون يورو، كل ذلك قد فاقم الغضب على خيارات الحكومة الحالية ورفع الدعوات ‘لعهد جديد’ بالكامل.

عقد اجتماعي جديد

يتطلع كثير من الباحثين والمحللين إلى عقد جديد بين المواطنين وسلطات الدولة على أساس تحديات خطيرة تتخطى المحددات الوطنية الاجتماعية-الاقتصادية في فرنسا. فقد دفعت النيوليبرالية حكومات متعاقبة إلى تحميل مواطني الطبقة الوسطى والفقراء عبء تطوير كامل ‘نموذج’ التقدم.

ﻷن النظرية والممارسة تنظران إلى المنافسة على أنها “الوجه” المحدد للعلاقات اﻹنسانية، كما كتب مونبيو، يُعرَف المواطنون في كلاسيكيات النيوليبرالية كمستهلكين تكافئ اختياراتهم في السوق الكفاءة وتعاقب غيابها بطرق أفضل من أي تخطيط للدولة. وتعير النظرية قليلا من الاهتمام إلى حقيقة أن الكفاءات تُنتج وتُورث من خلال امتيازات غير مكتسبة – الميراث، الطبقة، الثروة، التعليم- في حين أن “عدم الكفاءة” يؤشر لفجوات في إعادة التوزيع تُمرر إلى غالبية المواطنين من أعلى إلى أسفل. يؤكد مونبيو، مع ذلك، في مقاله، عن علم، أن اقتصاديات النيوليبرالية اعتبرت الجهود ﻷجل مجتمع أكثر مساواة على أنها “غير بناءة وضارة أخلاقيا.” وفي حين تحمل اﻷفراد المسؤولية عن البطالة بدلا من الفرص المتضائلة بالسوق، وتلقي بمسؤولية ديون اﻷسر على المعيلين “عير المبادرين، ومحدودي اﻷفق”، بدلا من ارتفاع مصروفات اﻹسكان بشكل غير متكافئ، وسوء تخطيط المدن الكبرى وتآكل القدرة الشرائية، فقد ساء الوضع بنمو التضخم وفشل السياسات المالية منذ عام 2007.

نشرت جريدة الإيكونومست، الداعم القوي للسياسة النيوليبرالية على مدى 175 عاماً، مؤخرا عددا حول نجاحات وإخفاقات النيوليبرالية مؤكدة أن العشرين عاما اﻷخيرة قد حول المجتمعات إلى أقلية من الرابحين وغالبية من الخاسرين، وخلقت أرستقراطيات/كارتيلات أعمال، ونفت الناس عن المدن المزدهرة. ويعترف “إعلان” الجريدة بأن النخبة الليبرالية قد أصبحت مرتاحة في نفوذها وليس لها مصلحة في اﻹصلاح. ويدلل المقال على ذلك بنتائج استطلاعات الرأي التي تظهر أن 36% فقط من اﻷلمان و9% من الفرنسيين لديهم أمال في جيل قادم سينعم بحياة أفضل، وأن ثلث اﻷمريكيين فقط يعتقد أن الديموقراطية أساسية. في نفس الوقت، ارتفعت نسبة مؤيدي حكم عسكري في الولايات المتحدة من 7 إلى 18 بالمائة بين عامي 1997 و2017.[1]

على نفس اتجاه هذه النتائج، يؤكد مونبيو أن ‘السوق’ الذي يعتبر كحقيقة طبيعية، مثل قوانين الجاذبية، ويشبه ‘الاستثمار’ كحلب للأصول القائمة للحصول على إيجارات، وفوائد، وعوائد، وأرباح رأسمالية، في حين يعزو خلق الثروة إلى اﻷنشطة المنتجة والنافعة اجتماعيا، وهو ما يحدث نادرا. وبينما تقلل تطورات التكنولوجيا من الاعتماد على الجهد البشري وأن التجارة الدولية جاءت بمزيد من المنافسين إلى السوق العالمي، انتقلت وظائف كثيرة إلى خارج أوروبا وضغط على العمال الباقين حتى “يتخلون عن حماية اتحادات العمال وعن المزايا الاجتماعية ليبقوا في وظائفهم.”[2] بدلا من اتحادات العمال، بدأ الناس في الاعتماد على الجهود الذاتية لتحقيق استقرار اقتصادي وثروة في وسط توتر كبير بالسوق، دعم صعود مبادرات اﻷعمال اﻷمريكية، مثل ‘آمواي Amway, التي استثمرت سعي الموزعين للتوظيف الذاتي لتروج وعودا زائفة باﻹثراء السريع خلال السبعينات. وباختلاق تسويق متعدد-المستويات MLM، جنى أصحاب اﻷعمال أرباحا بالمليارات من وقت الموزعين وجهدهم في مقابل متوسط قدره 20-30 دولار كدخل صاف بينما تجنبوا كل الاستحقاقات المالية للعمال النظاميين – خدمات الرعاية الصحية، بدل البطالة، معاشات التقاعد، إلخ.[3]

روجت خصخصة الخدمات الاجتماعية للكفاءة، وقادت الجامعات اﻷمريكية بين 1993 و2013 إلى قبول طلاب من الأسر من ال1% اﻷكثر ثراءً أكثر مما قبلت من أبناء أسر ال50% اﻷدنى ثروة.[4] ويورد جارنر أن في بريطانيا لدى الطلبة اﻷثرياء عشرة أضعاف الفرص للقبول في جامعات القمة مقارنة بالطلبة من أسر أفقر. وقد أثر هذا على الحراك الاقتصادي لعمال الطبقة الوسطى العاديون وأدى إلى نمو متباطئ للدخل. على سبيل المثال، تملك اﻷسر من ال1% اﻷكثر ثراءً في الولايات المتحدة 40% من الثروة الخاصة، ولمتوسط الدخل بالساعة الحالي فقط نفس القدرة الشرائية التي كانت له في عام 1978، وتقدر ديون اﻷمريكيين من الـ 90% اﻷدنى ثروة بـ 73% من إجمالي الديون. وفي أوروبا كان تكافؤ اﻷجور أفضل مما هو في الولايات المتحدة، ولكن يظل 20% من السكان يتلقون 5.2 مرة قدر الدخل مقارنة بالـ 20% اﻷدنى، وهو ما يرفع المطالبات “بنظام يعمل بكفاءة للنقل الاجتماعي للمال والعون الاجتماعي والضرائب على الثروة بدلا من الضرائب على العمل.” مرافقة لتراجع بطيء عن سياسات الرفاه منذ السبعينات، أدت الظروف القاسية للبطالة، والمعاشات اﻷدنى للمتقاعدين، وزيادة اﻷوضاع الوظيفية غير المعتادة ذات وصول محدود ﻵليات التأمين والدعم لوظائف الدوام الكامل ذات اﻷجور والمستقبل المهني، إلى أن تصارع الطبقة الوسطى اﻷوروبية أزمة دخول طالت لعقود.

تعاملت إصلاحات السياسة اللانهائية بالكاد مع هذه المشكلات. ومن ثم فخيبة اﻷمل قي سياسات ماكرون الموجهة للأثرياء تشبه في جزء كبير منها تلك في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما حيث حصل 1% من السكان على ثلثي نمو الدخل بينما بقي الفقر بين اﻷطفال الفقراء السود هائلا. عدم حزم أوباما في مواجهة مجرمي وول ستريت وضع اﻷساس لصعود متطرفي اليمين المتطرف الذين ملأوا حملة ترامب الانتخابية في عام 2016. وبالمثل، اعتمد انتخاب ماكرون كثيرا على مستوى تعليم قاعدته الانتخابية، حيث صوت اﻷقل تعليما بشكل واسع لماري لوبان، منافسته الشعبوية من اليمين المتطرف، فيما اختار أصحاب الدرجات العلمية ماكرون. ويوضح التمييز المتعمد بين من يملكون ومن لا يملكون والإشارة اﻷكبر إلى ماكرون في المناطق ذات النصيب اﻷقل من الطبقة العاملة، بشكل جزئي لماذا كان أغلبية متظاهري السترات الصفراء عمالا شباب غير مهرة و/أو عاطلين. انضمام موظفي الطبقة الوسطى إلى العمال غير المهرة في انتفاضتهم يؤشر إلى خيبة أمل متنامية في التغييرات اﻷخيرة في قانون عمالة البلاد والتهديدات الناجمة عنها للأمن الوظيفي لملايين المهنيين وأصحاب الياقات البيضاء. تراجع ماكرون إلى سياسات الرفاه ورفع الأجور الدنيا قد يخفف من حدة الغضب الشعبي في قاعدته الانتخابية، ولكن أثر انتشار الظاهرة إلى الدول العربية لا يزال ينتظر الظهور، حيث رافقت النيوليبرالية وإجراءات التقشف عقودا من حكم اليد الحديدية لنخب عسكرية أو شبه عسكرية كانت شرعيتها السياسية والاجتماعية دائما [؟]. ولكن حتى على أرض الوطن رسم الخبراء علاقة سببية بين ضعف الدعم الشعبي للنيوليبرالية وبين تطبيق الحكومات السلطوية ﻹجراءات التقشف في أوروبا والولايات المتحدة.

اﻷزمة المالية وصعود السلطوية الليبرالية

في الماضي، كان الترافق بين ‘اقتصاديات السوق الحر’ أو تحرير الاقتصاد والسلطوية، وحتى الديكتاتورية، مثبتا في بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية. الحالة جديدة في السياسة اﻷوروبية وفي الولايات المتحدة، برغم أن تاريخ النيوليبرالية المختلط مع الديكتاتورية يعود في جذوره إلى عدم ثقة هايك في العدالة الاجتماعية وتعليقاته على السلطوية السياسية.[5] كانت التحديات لسلطة وشرعية الأنظمة اﻷوروبية المحلية في تصاعد طوال العقد التالي على أزمة 2007 المالية. تدني شعبية الحزب الاشتراكي الديموقراطي في ألمانيا في انتخابات عام 2009 إلى أدنى مستوى منذ 1945؛ وفقدان دعم الجزب الاشتراكي الديموقراطي السويدي (SAP) في الانتخابات العامة عام 2010 بعد هيمنة سياسية استمرت منذ عام 1920؛[6] وهزيمة حزب العمال الاشتراكي اﻷسباني (PSOE) في 2011، كل تلك كانت علامات دعم أقل للاعبين السياسيين الكلاسيكيين بعد انحدار هالة النيوليبرالية وتراجع السياسات الديموقراطية اﻷوروبية.[7]

تعود جذور اﻷزمة إلى الدينامية التاريخية والمفاهيمية المتناقضة بين الرأسمالية والديموقراطية. ويمكن تعقب نقد ترافق الديموقراطية مع الرفاهية السياسية-الاقتصادية المتنامية في ظل النيوليبرالية ﻷعوام سابقة على 2007[8] مع اعتبار أن كل من رولز وهابرماس قد تجاهلا أهمية النفوذ الاقتصادي والأيديولوجي كوسيلة للهيمنة السياسية. وقد تم اعتبار الثقافة الديموقراطية من المسَلمات برغم تأثير الفردانية لسوق رأس المال الذي أضعف منصات التفاوض الجماعي وسمح بقدر أكبر من عدم المساواة. وحسب تعبير ويلكنسون: “احتكارات اﻷعمال والتسليع والمنافسة ودوافع الربح يمكنها أن تؤدي إلى تآكل التضامن والروابط المجتمعية التي تحتاجها الديموقراطية – وهي بالفعل كذلك.”[9] لم تترجم هذه الدينامية النظرية إلى سلطوية سياسية بشكل مباشر. في اﻷعوام من 1970-74 سُوق للنيوليبرالية في بريطانيا ‘بتحريض’ الناس ضد ‘اتحادات’ العمال لحشد عدم الرضا ضد الحكومة الاشتراكية الديموقراطية التي فشلت في التعامل مع الانكماش الاقتصادي لعام 1973 في أعقاب ارتفاع أسعار البترول. وفي ظل حكم مارجريت تاتشر، تراجعت توقعات أصحاب الياقات البيضاء والزرقاء لما يمكن تحقيقه حتى في ظل حكومة تقدمية وتم تقريبا تحقيق توافق عام على أنه ‘ليس ثمة بديل آخر.’ في أعقاب أزمة 2007، تلاشى الجهد المبذول لحشد الدعم الشعبي أو تحييد المقاومة والمعارضة من خلال تقديم تنازلات والتلاقي في منتصف الطريق. التطبيق المباشر لسياسات التقشف وتهميش الفئات المتضررة أعقبها “التخلي-الذاتي عن السلطة للمؤسسات والحكومات والبرلمانات الديموقراطية الصورية في إطار الدستور والقانون.” وفرضت مؤسسات النظام اﻷوروبي و’الترويكا‘ (صندوق النقد الدولي، البنك المركزي اﻷوروبي، … إلخ) إجراءات مؤلمة شملت “خصخصة، وتحرير اقتصادي، وإصلاحات لسوق العمالة، وزيادات للضرائب بأثر رجعي.”[10] التخلي القسري عن المؤسسات التي اعتادت التخفيف بحق من الطبيعة الموجعة ﻹعادة الهيكلة الاجتماعية-الاقتصادية في اقتصاديات ما بعد مرحلة تاتشر قد حفز الاستخدام المتزايد للإجراءات التنظيمية فيما يخص اتحادات العمال وجماعات المصالح،[11] واستبدل برامج الرفاه الاجتماعي ببرامج التشغيل المؤقت، وتجاوز المعايير الدستورية، الديموقراطية التمثيلية وسيادة القانون، للحفاظ على استقرار العملة واﻷسعار، وعلى الانضباط المالي، وتنافسية السوق.[12] وعطى ذلك مؤشراً على التراجع عن نيوليبرالية ‘الطريق الثالث’ التوافقية نحو مزيد من السياسات القسرية، والاستقلال النسبي للدولة عن المجتمع وتطبيع عدم المساواة، وتسليع العلاقات الاجتماعية. وقد تزعزعت في النهاية شرعية هذه السياسات والمنطق المشكل لها، التي أنشأتها وطبقتها معاهدة ماسترخت.

ونتيجة لذلك، اختزلت السياسة في منطق سياسي اقتصادي وحيد وأعاقت الحكومات إمكانية التنافس على توزيع الموارد وإعادة التوزيع ‘العادلة’ بشكل عفوي. وتُفصّل بعض اﻹحصائيات حقائق مثيرة حول الاقتصاد الفرنسي وسياسات إدارة اﻷزمة. فلم تصب أزمة 2007 العائدات المالية ‘لفائقي الثروات’ أو ثرواتهم وتزايدت دخولهم بنسبة تقارب 7% للـ 10% اﻷعلى دخلا منهم، ما بين عامي 2004 و2010، في حين أن 19.6% من المجموعات اﻷكثر فقرا -أسر العائل الواحد، النساء المتقاعدات، والأطفال تحت 18 سنة- كانوا يصارعون لمقاومة الفقر في نفس الفترة من 2009 إلى 2010. ووصلت الديون المتعثرة للعائلات ذروتها بمقدار 1,624.933 مليار دولار أمريكي في أعقاب وصول إجمالي الديون المتعثرة إلى نسبة هي اﻷعلى تاريخيا بلغت 4.5% في ديسمبر 2013. وفي حين يتزامن هذا مع زيادة عامة في الديون المتعثرة للعائلات اﻷوروبية وصلت إلى 4.6% في 2017، مما دعا المجلس اﻷوروبي للأزمات النظامية إلى إصدار تقرير حول حل أزمة القارة المالية، فالذروة في فرنسا قادها إجراءات تقشف حادة لتحقيق هدف الحكومة في خفض العجز المالي الحكومي إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي في نفس الفترة -أي من 2013 إلى 2014- بإجراء رفع للضرائب وخفض للنفقات واللذان حجما معا القدرة الشرائية المتوسطة للعائلات بمقدار -1.5 نقطة سنويا ما بين 2007 و2014. وبانكماش دخل العائلات القابل للإنفاق ولجوء المعيلين إلى السحب على المكشوف، شهدت القوانين العقابية معدلات تنفيذ أعلى؛ فخلص تقرير في 2015 للمجلس اﻷوروبي إلى زيادة قدرها 23.3% في عدد السجناء لكل 100,000 من السكان في فرنسا و31% زيادة في تعداد نزلاء السجون ليصل إلى 76,111 سجين. ويوضح الرقم كيف يعكس فرض الضرائب وسياسات إعادة التوزيع نيوليبرالية ‘ضبطية’ قيها “يطبق القانون بشكل أداتي كأداة لاحتكارات رأس المال القوية”[13] التي تتزايد ثرواتها بينما يصارع مزيد من العائلات مع الدين، السجن ومخاطر المصادرة بسبب تزايد الديون المتعثرة عبر القارة.

يعزو كثير من المحللين انتفاضة السترات الصفراء الكاسحة إلى ‘الرأسمالية المتحولة من الخير إلى الشر”؛ وهي في الواقع تعكس رفض بل وتحدي الخطاب المؤسسي الذي عزل السياسات النيوليبرالية عن المعارضة الاجتماعية والسياسية.[14] في نفس الوقت، يستدعى الدعم اﻷكاديمي من داخل الفكر الليبرالي بشدة. ويؤدي الإهمال المستمر في الكتابات المحافظة ﻷثر رأس المال والأيديولوجية على الهيمنة السياسية إلى ظهور نظريات نقدية تؤكد تفضيل الديموقراطية لمصالح احتكارات اﻷعمال حتى في أوقات اﻷزمة.[15] والمثال الأيرلندي دال بهذا الصدد. باﻷرقام، ساعد الدعم العاجل من صندوق النقد الدولي ﻷيرلندا بقروض إنقاذ بلغت 67.5 مليار يورو على حماية حاملي أذون الخزانة والمستثمرين داخل الاتحاد اﻷوروبي الذين رفضوا قبول أن استثماراتهم في الدين السيادي أصبحت تقدر بـ 80% من قيمتها اﻷصلية، وذلك بدلا من مساعدة أفراد الشعب اﻷيرلندي خلال اﻷزمة المالية.[16] وأصر حاملو أذون الخزانة على عدم تقبلهم لأي خسارة وحملوا كل المعاناة على مالكي اﻷصول الذين فقدت أصولهم قيمتها، حتى برغم كون اﻷزمة فشلا كاملا بشكل واضح للمنظومة البنكية. وفي لحظة أصبح أفراد من أصحاب الملكيات مشردين وجردوا من اﻷمان الاجتماعي. وترك ارتفاع إيجارات المساكن العمال الشباب محرومين من التعافي؛ فيعيش أكثر من 8% من الأيرلنديين في فقر مستمر؛ ويظهر تقرير عن استطلاع رأي أجرته التايمز الأيرلندية Times/Ipsos MRBI أن الحكومة تتمتع بدعم 37% فقط من الناخبين الراضين عن سياساتها.[17] وباختصار، خدم الانقاذ فقط ثلث السكان من اﻷثرياء.

لا عجب إذًا أن أزمة 2007 المالية قد فتحت المجال لشعبوية سياسية تكتسب مزيدا من اﻷرض في فرنسا وإيطاليا وكثير غيرهما من دول وسط وشرقي أوروبا- مثل الجبهة الشعبية والبديل ﻷلمانيا[18] – في رد على اللامساواة الاجتماعية الاقتصادية المتنامية، والطرد من السكن، وسد سبيل الصعود الاجتماعي للناخبين الفقراء ومن الطبقة الوسطى. هكذا تحولت أوربا إلى ليبرالية غير ديموقراطية.

أصوات ردود اﻷفعال في العالم العربي

اكتسبت انتفاضة السترات الصفراء دعما متناميا في العالم العربي. ففي مصر، حيث المفارقة والسخرية والتعريض هي الشغل الشاغل للملايين، أنشأأ مستخدمو فيسبوك وشاركوا عشرات الميمات التي تربط الانتفاضة الفرنسية بالموجة الكاسحة من المظاهرات في 2011 وتستدعي التجارب التي لا يمكن نسيانها، والتعليقات اﻹعلامية، والتصريحات الرسمية. قاد المقارنات العديد من التشابهات بما في ذلك الانفجار العفوي دون قيادات للغضب، واستخدام رموز بارزة وتقنيات تظاهر مبتكرة، وتمثلت الدوافع الاجتماعية-الاقتصادية في الفقر، سياسات التقشف، واللا مساواة الاجتماعية. وتعكس اللقطات التالية قليلا من اﻷمثلة لبعض الميمات اﻷكثر انتشارا.

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

إشارة إلى فيديو: عزمي مجاهد: “فرنسا تحتاج رئيسا كالسيسي للخروج من الأزمة.

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

إشارة إلى تعليق السيسي الغاضب في ملتقى شباب العالم حول الشكاوى بسبب ارتفاع سعر البطاطس إلى ١٣ جنيه “إنتوا عايزين تبنوا بلدكم ولّا تدوروا على البطاطس؟” والذي بدوره أثار موجة من السخرية.

إشارة لقول السيسي: “أنا يومين وأموت، ونصيحتي للمصريين: خلوا بالكم من بلدكم.”

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

إشارة إلى حوار السيسي مع لميس الحديدي حيث يقول: “إنتوا عايزين تاكلوا البلد؟”

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

إشارة إلى حديث السيسي في مؤتمر الشباب ٢٠١٦ والذي قال فيه: “أنا عشت ١٠ سنين مفيش في تلاجتي حاجة غير المياه.” [هاشتاج #تلاجة_السيسي]

عهد فرنسا الجديد وردود الفعل العربية

إشارة إلى التحية الشعبية لقوات الجيش التي انتشرت لحماية المتظاهرين في ميدان التحرير ضد قوات الأمن المركزي، قبل الاستيلاء الدموي على السلطة الذي أدى إلى قتل أكثر من ١٠٠٠  متظاهر سلمي في ميدان رابعة، والذين كانوا معتصمين ضد الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي في ٣ يوليو ٢٠١٣.

إشارة إلى تعليق عفاف شعيب على مظاهرات 2011 لأن ابن أخيها لم يتمكن من تناول البيتزا أو الريش (أضلع اللحم).

الميمات المنتشرة على نطاق واسع، حفزت بعض ردود الفعل للإعلام وردود سياسية متطرفة. محمد رمضان، محام ارتدى سترة صفراء في دعم ساخر للتظاهرات الفرنسية، تم حبسه بتهمة التحريض على التظاهر ضد الحكومة وترويج أخبار كاذبة. ونشر الرئيس السابق لقوات شرطة دبي، ضاحي خلفان، تويت قام لاحقا بحذفه اتهم فيه حركة اﻹخوان المسلمين المحظورة في مصر بالتحريض على المظاهرات ضد حكومة ماكرون. محمد الباز، كاتب معروف في اليوم السابع، واحدة من أوسع صحف مصر انتشارا، اختلق رواية عن أن اﻹخوان قادة نشطون للمظاهرات في فرنسا ﻷن السلطات كانت تتعقب مصادر تمويل المنظمة. اﻷكثر كوميدية كان حظرا غير معلن لاستخدام أو بيع السترات الصفراء اللامعة في مصر. ووفق حمزة هنداوي حصرت السلطات بيع السترات الصفراء للمشترين العابرين، وحصرت البيع بالجملة بين عدد ضئيل من الشركات الموثوق فيها وفقط بتصريح من الشرطة. وحتى يضع حدا للنقد المتوقع، قال السيسي في تعليق لبرنامج “يحدث اﻵن في مصر” أن اﻹعلام المصري ينبغي أن يبرز رخص الوقود في مصر عندما يعرض تقاريره عن مظاهرات الوقود حول أوروبا.

يوجه الرد الرسمي في مصر الاهتمام إلى التشابهات بين دوافع مظاهرات 2011 في مصر ومظاهرات الانتفاضة الفرنسية, خاصة  بعد القلق من الاضطراب الاجتماعي المدفوع بإجراءات التقشف. في نوفمبر 2016 اتخذت السلطات المصرية قرارا مصيريا بتعويم العملة الوطنية في محاولة للوفاء بمطالب صندوق النقد الدولي في مقابل حزمة قروض قدرها 12 مليار دولار. وفي خلال عدة أيام ارتفع سعر الدولار بمقدار من 9 إلى 13 جنيه, ليصل إلى 18 جنيه للدولار بنهاية 2018. عندما تظاهر الناس ضد مبارك’ تحرك سعر الدولار من 5.8 إلى 7 بنهاية العام الذي حكم فيه محمد مرسي, الرئيس الأول المنتخب ديموقراطيا لمصر, ومن ثم إلى 18 خلال السنوات الخمس لحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.

اختلفت التقارير حول عواقب هذه القرارات في بوابات الأخبار الدولية والمحلية. فقد أوردت ستاتيستا، وهي بوابة أخبار عن احصاءات عالمية، أن المعدل الكلي للبطالة قد ارتفع من 8.8% في 2007 إلى حوالي 12% في 2017، في حين وصلت البطالة بين الشباب إلى ما بين 34% إلى 35% ما بين 2012 و2017. الجهاز المركزي للتعبئة واﻹحصاء، بوابة الحكومة الرسمية للإحصاءات، أوردت أن 27.9 من معيلي العائلات يعانون من البطالة. بالمثل، أوردت ستاتيستا أن التضخم يبلغ 20.86% في 2018 مقارنة بـ10.2% في 2016، ولكن الأرقام المحلية والدراسات تشير إلى أن التضخم في مؤشر الأسعار السنوي قد تراوح فوق 31.7% منذ 2017 في حين وصلت الزيادة في السلع الغذائية وحدها إلى 41.7%.[19] ومن ثم فالتكلفة الدنيا للغذاء ﻷسرة من أربعة أفراد في 2017 قد ارتفعت إلى 2,835 جنيه (157.5 دولار). وعند المقارنة بمتوسط الدخل الأسبوعي في القطاعين العام والخاص الباغ 1050 جنيه، أي حوالي 233 دولار أو 7.8 دولار في اليوم، وحد أدنى للأجور قدره 1200 جنيه (70 دولار) وحد أدنى للمعاشات قدره 750 جنيه (42 دولار) – وفق تقارير الجهاز المركزي للتعبئة واﻹحصاء، تصبح كل من الأرقام الدولية والمحلية لمستويات الفقر موضع شك. يورد كل من اليونيسيف والبنك الدولي أن الفقر قد بلغ 27.8%، في حين يقول الجهاز المركزي للتعبئة واﻹحصاء أنه يبلغ 30.2$ على المستوى القومي و60% في الصعيد حيث لا تستطيع اﻷسر تحمل كلفة الغذاء اﻷساسي، أو المأوي، أو الاحتياجات الصحية، خاصة في محافظتي أسيوط وسوهاج. كلا الرقمين يقصر عن الحقيقة. فخط الفقر في مصر يقاس بحوالي 750 جنيه في الشهر، ما يكافئ 40 دولار في الشهر أو 1.33 دولار في اليوم، في حين أن خط الفقر العالمي هو 1.9 دولار في اليوم. ومن ثم يقدر كثير من المحللين المحليين أن الفقر المدقع في مصر قد وصل إلى 50% على المستوى القومي وأكثر من ذلك بكثير في الصعيد مقارنة بأرقام 2015. مع ذلك، فإحصائيات الفقر والدخل تخفق في إقناع وسائل اﻹعلام الرسمية بأن مصر ليست بلدًا منخفض اﻷسعار بالنسبة لغالبية شعبه، حتى وإن عد الثامن بين دول العالم الـ50 اﻷدنى أسعارًا في العالم.

ولتجنب الاضطرابات الممكنة، رفع القطاع الخاص بالفعل أجوره بما بين 20-25% في 2017 فيما رفعت الحكومة الأجور الأساسية بنسبة 14% للموظفين المثبتين وبنسبة 20% لغير المثبتين لعام 2017-2018. ورفعت بعض المعاشات بنسبة 15% ولكن بصفة عامة لم تواكب الزيادات معدلات التضخم المتزايدة التي تضغط على المجموعات ذات الدخل المتوسط والمنخفض الذين ينفقون أكثر من 40% من دخولهم على الغذاء، و60% على الصحة والتعليم – كما تخلص دراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.[20] ويتضح عبء الإصلاح بصورة أكبر في دراسة أخرى تورد أن الزيادة في الرسوم الأساسية للكهرباء بين عامي 2016 و2018 كانت 28.7% في المتوسط لكل شرائح الاستهلاك. لم تكن الزيادة تافهة بالنسبة للأسر ذوات الدخل المتوسط والمنخفض والذين قفزت فواتيرهم بـ 22.1 و25.2% على الترتيب. ويقابل هذا المؤشرات العامة للا مساواة بشكل دقيق. وبرغم الترويج له على أنه ضروري لإصلاح الاقتصاد وتحجيم العجز الحكومي، فقد وزعت أعباء الإصلاح بشكل غير متساو بين الشرائح العليا والدنيا وكانت شبكات الأمان لغالبية المتضررين غير كافية أو حتى غائبة. قبل الإصلاح سجل مؤشر جيني للبنك الدولي لمصر 31.82 في 2015. وبعد عام أورد البنك الدولي أن الـ 10% الأعلى دخلا من المصريين تمتعوا بـ 48.5% من إجمالي الدخل القومي, مقارنة بـ 18.2% فقط  للـ 50% الأدنى دخلا بين السكان. ومع ذلك يضع معامل جيني مصر بمكان جيد فيما يتعلق باللا مساواة في الدخل، ولكن اﻷرقام المحلية بعد عام من اﻹصلاحات تقدم مشهدا مختلفا. في 2016، اعتبر الجهاز المركزي للتعبئة واﻹحصاء أن أسرة مصرية تنفق 60,700 جنيه سنويا (حوالي 5,000 جنيه شهريا) بين الـ 10% اﻷكثر ثراءً من المصريين، في حين ينفق اﻷكثر فقرا 3.300 جنيه سنويا (277 جنيه في الشهر). أكثر من ذلك تورد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن أغنى سكان مدينة ينفق 100 ضعف ما ينفقه أفقر سكانها.[22] عالميا، تصنف مصر الثامنة بين اﻷسوأ من حيث توزيع الثروة. وتعطي أرقام توزيع الثروة صورة أكثر واقعية للوضع. فالـ10% اﻷكثر ثراء من المصريين يملكون 61% من إجمالي الثروة، برغم أنهم يحصلون على 28.3% فقط من الدخل. ويقفز نصيبهم إلى أكثر من 73.3% في 2014 وفق التقرير العالمي للثروة للكريدي سويس.[23]

ولكن قد يكون لدى المصرين سبب أقوى للتحالف مع المتظاهرين الفرنسيين ضد حكومة ماكرون. فعلى اﻷقل يملك الفرنسيون رفاهية التظاهر. فيمكنهم حشد وتنظيم المسيرات في أمان دون المخاطرة بقضاء حياتهم خلف القضبان أو التعرض للقتل خارج إطار القانون. المصريون، على الجانب اﻵخر، لديهم معركة مع ماكرون الذي كان داعما دائما للنظام العسكري القمعي الذي أزاح رئيسا منتخبا بشكل ديموقراطي – محمد مرسي. وفي لقائه بالسيسي في 24/10/2017، أكد ماكرون دعمه ﻹجراءات التقشف في مصر من خلال ‘وكالة التنمية الفرنسية’ وأنه ‘لن يلقي على المصريين دروسا حول حقوق اﻹنسان،’ مشيرا إلى عدم الاستقرار والتطرف الديني الذين تواجههما مصر وفق ظروفها. يأتي هذا في ظل اتهامات يوجهها عدد كبير من منظمات حقوق اﻹنسان، منظمة العفو الدولية، وحركة عالمية لحقوق اﻹنسان على وجه التحديد، التي تدين الحكومة الفرنسية وشركات السلاح للتساهل مع القمع في مصر. ولتحجيم تدفقات الهجرة عبر السواحل المصرية، وقعت اتفاقية لبيع أربع طرادات من طراز جويند 2500 بقيمة حوالي مليار يورو منذ 2014، أعقبها طرادين إضافيين بقيمة 500 مليون يورو، ووقعت هذه الاتفاقية خلال زيارة ماكرون لمصر في مايو 2018 كوسيلة لنقل المعرفة العملية بالتكنولوجيا واختصار الوقت المطلوب لبناء الطرادات الستة. وشملت اتفاقيات التعاون العسكري البالغ قيمتها 6 مليارات يورو على اﻷقل، بيع 24 مقاتلة من طراز رافال، وفرقاطة متعددة المهام، ومدمرتين من طراز ميسترال، منذ عام 2013. وفي حين يمكن تبرير مبيعات العتاد العسكري التقليدي بمحاربة الإرهاب في شمالي سيناء، فكثير من الشركات الفرنسية متورطة في إمداد وكالات إنفاذ القانون في مصر بأدوات رقمية قوية مكنت الخدمات الأمنية من إقامة منظومة سيطرة أورويلية لتفريق وقمع أي محاولة للتظاهر أو حشد المعارضة ضد سياسات الحكومة الجارفة الفقراء وحقوق اﻹنسان. وقد ورد في تقرير أصدرته حركة عالمية لحقوق اﻹنسان في 02/07/2018 أن ‘بعض الشركات قد باعت تقنيات الخدمات اﻷمنية للرقابة الفردية (AMESYS/NEXA?AM Systems)؛ والسيطرة الجماعية (طائرات بدون طيار Safran، وقمر صناعي AIRBUS/THALES) وعربات نصف مدرعة Arquus أو (RTD سابقا) معدلة للبيئة العمرانية. ومن ثم فقد ساهمت هذه الشركات في بناء رقابة واسعة النطاق وهيكلا للسيطرة الجماعية يهدفان إلى منع كل معارضة أو حركة اجتماعية مما أدى إلى القبض على عشرات اﻵلاف من المعارضين والنشطاء. فحتى المعدات التقليدية مثل مدمرات الميسترال (DCNS)؛ وفرقاطات فريم (DCNS)؛ طرادات جويند؛ مقاتلات الرافال؛ المركبات المدرعة (Arquus)؛ صواريخ جو-جو ميكا وصواريخ سكالب البحرية (MBDA)؛ وصواريخ جو-سطح ASM من (SAGEM)، كلها كانت مسؤولة عن قتل وتعذيب واعتقال آلاف المدنيين المسالمين بحجة ‘الحرب على اﻹرهاب.’ وتورد حركة عالمية لحقوق اﻹنسان أن الصادرات العسكرية والاستخباراتية الفرنسية لمصر تقدر بما بين 39.6 مليون إلى 1.3 مليار يورو ما بين 2010-2016. ومؤخرا، أكد تقرير لمنظمة العفو الدولية نشر في 2018 أنه منذ 2011 كانت فرنسا موردا رئيسيا للأسلحة المستخدمة في أغراض القمع العسكري والمدني على السواء وأن مزيدا من الاهتمام قد وجه إلى التعاقدات متعددة المليارات للمقاتلات والقطع البحرية في حين أن الشركات الفرنسية تورد معدات أمنية بشكل روتيني مثل Sherpa والمركبات نصف المدرعة MIDS التي ظهرت عدة مرات في عمليات قمع للمدنيين منذ عام 2013.[24]

وفي حين تدين هذه المنظمات فرنسا للتخلي عن مبادئ الحرية واﻹنسانية لصالح المصالح الاقتصادية واﻷمنية، فالوجه السلطوي لاقتصاديات النيوليبرالية هو دافع أقوى يوحد الناس في مصر مع متظاهري السترات الصفراء في فرنسا، وبلجيكا، وحول العالم. فسبب رئيسي لدعم العسكرة الديكتاتورية في مصر هو اقتصادي بقدر ما هو أيديولوجي وهو رفض اﻹسلام السياسي عندما تأتي به إلى السلطة انتخابات ديموقراطية. الفاتورة طويلة الأمد لسياسات النيوليبرالية هو عدم استقرار اجتماعي-اقتصادي وسياسي متزايد يؤثر على اﻷوروبيين كما يؤثر على شعوب الشرق اﻷوسط.

فالعواقب الاجتماعية-الاقتصادية لانتقال الشركات متعددة القومية إلى البلدان اﻵسيوية الأرخص أو لانكماش القدرة الشرائية، مدمرة بنفس القدر، إن لم تكن أقل تدميرا من سجن 60,000 معيل، والاخفاء القسري والقتل خارج إطار القانون/إطلاق النار على آلاف اﻷبرياء الذين تكافح عائلاتهم في مواجهة سياسات التقشف، ونقص الخدمات، وعدم استقرار الدخل – كل ذلك إلى جانب الاقتلاع الاجتماعي والحياة الممزقة المصاحبة للعيش في ظل نظام إجرامي. فإن لم يكن ﻷجل المبادئ الليبرالية التي ألهبت حماس المثقفين خلال قرون، ينبغي لسياسات النيوليبرالية أن توازن من خلال حلول ديموقراطية سليمة تمنح ‘الحق في الاختيار’ لكل اﻷفراد وكل اﻷمم، والتي تعني أيضا تعليق بيع واستخدام الأسلحة ضد المدنيين المسالمين تحت دعاوى، الحرب على اﻹرهاب.’ للمصريين كل الحق في الانضمام للفرنسيين في مواجهة سياسات ماكرون النيوليبرالية. فلهم حق مساو في العيش في أمان وازدهار في وطنهم بدلا من قذف حياتهم في البحر فقط ليتم القبض عليهم بواسطة الطرادات الفرنسية المتقدمة ليواجهوا التهديد بالاعتقال بعد ذلك. إن حلا ديموقراطيا اجتماعيا في فرنسا سوف يفرض مساءلة مسلمات النيوليبرالية ولكنه أيضا سيسعى لتحجيم الاضطراب الاجتماعي-الاقتصادي في البلدان التي يتسبب دعم الدكتاتورية فيها في أزمات محلية وعالمية مفجعة[25].

عهد فرنسا


الهوامش

[1] The Economist, “The Economist at 175: A Manifesto for renewing liberalism” 13/09/2018, via: link

[2] Colin, Nicolas, “The Yellow vests don’t need cheaper gas, they need a new deal for the entrepreneurial age” Forbes, 17/12/2018 via: link

[3] Mondom, Davor “The conservative business model that paved the way for the Trump presidency” Washington Post, 11/10/2018, via: link

[4] The Economist, ibid.

[5] Cf. W. Scheuerman, ‘The Unholy Alliance of Carl Schmitt and Friedrich Hayek’ (1997) 4 Constellations Cited in Wilkinson, A. Michael “Law, Society, Economy Working Papers” Forthcoming in E.Mamopoulos and F. Vergis (eds.) The Crisis Behind the Crisis: the European Crisis as a Multi-Dimensional Systemic Failure of the EU, Cambridge University Press, 2018, p.9.

[6] J. Rawls, Political Liberalism (Columbia University Press, 1993); J. Habermas, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy (MIT Press, 1995). In Wilkinson, 2018, p.8.

[7] Bruff, Ial, “The rise of authoritarian neoliberalism” Rethinking Marxism published online 28/10/2013 on: link p.114

[8] See S. Hix and A. Follesdal, ‘Why there is a democratic deficit in the EU: a response to Majone and Moravscik’ 2006, 44 JMCS 533-62 in Wilkinson, 2018, p. 5.

[9] Wilkinson, 2018, p.8.

[10] Wilkinson, ibid, p.5

[11] See Brown Willy, Bryson, Alex, and Forth, John, (2008) ‘Competition and the Retreat from Collective Bargaining’ NIESR Discussion paper no.318, August 2008. Retrieved on 17 December 2018 via: link

[12] Wilkinson, ibid, p.3.

[13] In Bruff p.116.

[14] Ibid, p.115.

[15] see writings of the Frankfurt School of Theodor W. Adorno and Max Horkheimer.

[16] In Inman, Phillip, 22.11.2010 ‘Ireland Bailout: Who Really Benefits?’ The Guardian. Retrieved from: link

[17] In Inman, Phillip, 16.06.2018 ‘Ten Year on, how countries that crashed are faring’ , The Guardian, retrieved from: link

[18] On Europe and Nationalism see the BBC map:

[18] عن أوروبا والقومية أنظر خريطة BBC في link.

[19] See the recent CAPMAS issue on price indexes published December 2018 on:

[19] أنظر اﻹصدار اﻷخير للجهاز المركزي للتعبئة واﻹحصاء حول مؤشرات اﻷسعار المنشور في ديسمبر 2018 على: link.

[20] The Egyptian Initiative for Personal Rights (EIPR).

[20] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (EIPR).

[21] Gini measures inequality between 0 (everyone has the same income) and 100 (richest person has all the income. See:

[21] يقيس مؤشر جيني اللا مساواة ما بين 0 (للكل دخل متساو) وحتى 100 (الشخص اﻷكثر ثراءً يحصل على كل الدخل. أنظر: link.

[22] Both reports are cited in

[22] كلا التقريرين مقتبسين في link.

[23] Cited by Osama Diab “Egypt’s Widening Wealth Gap”, published May 23, 2016 and accessed via link

[24] Also see Amnesty, “Egypt: France flouts international law by continuing to export arms used in deadly crackdowns” 16/10/2018. Accessed 07/01/2019 on: link and Amnesty, “Bloody Repression in Egypt: Stop the Sale of French Arms!” 16/10/2018. Accessed 07/01/2019 on: link

[25] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

عهد فرنسا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close