
نشرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية في عددها الصادر في الأول من يناير 2023 تقريراً بعنوان: “لا توجد دولارات: أزمة العملات الأجنبية تضرب الاقتصاد المصري”، يتناول فيه أزمة شح العملات الأجنبية الذي تعاني منه البلاد منذ أشهر والتي لها أثر مدمر على الاقتصاد المصري المتعثر من الأساس. وقد جاء التقرير على النحو التالي:
مع نقص المعروض من العملات الأجنبية في مصر، قضى رفيق كلوفيس شهر ديسمبر 2022 بأكمله في انتظار معرفة ما إذا كان البتك الذي يتعامل معه سيتمكن من توفير مبلغ الـ 67000 دولار الذي يحتاجه لتمويل استيراد شحنة من قطع غيار السيارات قادمة من أوروبا.
ولكن بحلول نهاية العام، كانت الدولارات ما زالت غير متوفرة؛ ونتيجة لذلك، فقد مثّلت وارداته في عام 2022 بأكمله مجرد عُشر الكمية التي اعتاد على استيرادها في العام الواحد.
وقال كلوفيس “الظروف كارثية. حيث لا توجد دولارات وليس لدي أي فكرة عن كيفية حل تلك المشكلة. عندي خمسة موظفين، ونحن مستمرون للآن اعتماداً على ما حققناه خلال السنوات السابقة”.
وتشترك العديد من الشركات في نفس المأزق الذي يعاني منه هذا المستورِد كلوفيس، حيث تكافح مصر، وهي أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان، في مواجهة أزمة العملات الأجنبية منذ أدى الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شهر فبراير إلى خروج 20 مليار دولار من التدفقات النقدية من مصر خلال الأسابيع الثلاثة الأولى فقط من الحرب، حيث هرع مستثمرو المحافظ الأجنبية إلى خارج البلاد بحثاً عن ملاذات آمنة.
وعلى الرغم من الودائع القادمة من الإمارات والسعودية وقطر، والتي تبلغ 13 مليار دولار، بالإضافة إلى 3.3 مليار دولار أخرى من حصيلة بيع الأصول إلى الإمارات في عام 2022، إلا أن المعروض من العملة الأجنبية ظل في حالة تناقص شديد في مصر، الدولة التي تعتمد على الاستيراد بشكل رئيسي.
وكان عبد الفتاح السيسي قد صرح قبل أسبوع بأن البنوك ستقوم بتأمين العملة الأجنبية اللازمة للإفراج عن الواردات المتراكمة في الموانئ في غضون أربعة أيام، دون إضافة أي تفاصيل. ووفقاً لمصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، فإنه لا تزال هناك بضائع تقدر قيمتها بـ 9.5 مليار دولار رهن الاحتجاز في موانئ الدولة.
وقد أثّر ارتفاع معدلات التضخم المترتب على حرب أوكرانيا ظلاله على أسعار السلع الأساسية مثل القمح – باعتبار أن مصر هي أكبر مستورد للحبوب في العالم – مما أدى إلى زيادة الضغوط على موارد العملة الأجنبية في البلاد، وهو ما أجبر البنك المركزي المصري على خفض قيمة الجنيه في مارس وأكتوبر. وبلغ معدل التضخم في نوفمبر إلى 18.7%، بحسب البيانات الرسمية، وهو أعلى معدل له خلال خمس سنوات.
وللمرة الرابعة خلال ست سنوات فقط، اضطرت مصر إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، الذي بدوره وافق الشهر الماضي على منحها قرض بقيمة 3 مليارات دولار على مدى أربع سنوات. ويكمن جوهر الاتفاق مع الصندوق في التزام القاهرة بالانتقال إلى نظام سعر صرف مرن تقوم قوى السوق بتحديد قيمة العملة – وهو أمر طالما دأبت الحكومات المصرية على مقاومته.
وفي مسعى للحفاظ على العملة الأجنبية، كان البنك المركزي قد وضع قيوداً على الواردات في مارس 2022. حيث أدى اشتراط استخدام خطابات الاعتماد إلى إبطاء العملية وتسبب بالتالي في تراكم الطلبات غير المستوفاة على الدولار. كما أن البنك كان اعتمد أولوية في إتاحة الدولار، حيث وضع السلع الأساسية مثل الأغذية والأدوية على رأس القائمة. ولكن البنك المركزي المصري عاد فألغى شرط استخدام خطابات الاعتماد في 29 ديسمبر.
وأدى تخفيض قيمة الجنيه المصري لمرتين إلى هبوطه من حوالي 16 جنيهاً مقابل الدولار إلى 24.7 جنيهاً. بينما يبقى معدل سعر الجنيه في السوق السوداء أقل من ذلك بكثير، ورفع البنك المركزي أيضاً أسعار الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس في 22 ديسمبر، مما أدى إلى رفع سعر الفائدة على الإيداع لليلة واحدة إلى 16.25%. وتجاوز هذا الارتفاع توقعات المحللين وعكس القلق المتزايد بشأن التضخم وهبوط الجنيه مقابل العملات الأجنبية، وفقا لمؤسسة كابيتال إيكونوميكس للاستشارات في لندن.
وقد تضررت جميع الأعمال التجارية بدءاً من مزارع الدواجن وصولاً إلى مصنعي السيارات بشدة في مصر التي تستورد معظم حاجاتها من الغذاء والعديد من المدخلات الأساسية للصناعات الغذائية. وبينما يفكر صانعو السياسات في موعد وكيفية الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، بحيث لا يدعم البنك المركزي قيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، يشتكي رواد الأعمال من عدم وجود رؤية بخصوص المستقبل.
وقال رئيس شركة تعمل في مجال تربية الدواجن: “نحن نعمل يوما بيوم”، واشتكى من أن شحنات الحبوب، وخاصة فول الصويا والذرة المستخدمة في العلف، عالقة في الموانئ بسبب النقص في الدولار. وأضاف: “كل يوم علينا أن نبحث عن وسيلة لتوفير العلف للطيور، حيث ينفد العلف أحياناً ولا نستطيع تغذية الطيور.”
وقال إن الأعمال التجارية الزراعية اضطرت إلى “إخلاء” بعض مجموعات الطيور عن طريق بيعها بالخسارة قبل أن يحين الوقت المعتاد لإرسالها إلى السوق. وقال المسؤول التنفيذي: “السعر أقل بكثير من التكلفة ونعلم أن بعض منافسينا اضطروا لقتل الكتاكيت”. وأضاف: “إن الانخفاض الكبير في المعروض من الدجاج المباع للحوم أدى إلى زيادة الأسعار بأكثر من 50%.
وقال محمد أبو باشا، رئيس قسم تحليل الاقتصاد الكلي في بنك إي إف جي هيرميس للاستثمار، والذي يتخذ من القاهرة مقراً له، إن التحول إلى سعر صرف مرن لا يمكن أن يحدث “بين عشية وضحاها” وإن السلطات بحاجة إلى “بناء احتياطي من العملة الأجنبية أولاً بشكل مثالي للمساعدة في حل مشاكل تراكم الطلبات قبل الانتقال إلى سعر الصرف المرن.”
وأوضح فاروق سوسة، كبير الاقتصاديين في بنك جولدمان ساكس، الخيارات الصعبة التي تواجه القاهرة في سعيها لتوفير سيولة للتعامل مع الطلب المتزايد على الدولار في المدى القريب.
وقال: “يستطيع البنك المركزي المصري تصفية السوق من خلال الاستمرار في رفع أسعار الفائدة وتعويم العملة وتقييد المعروض النقدي، لكن التداعيات على الأسعار والنمو ستنطوي على إشكاليات كثيرة. إنما الخيار الأفضل للسلطات هو انتظار التدفقات التي ستأتي من القطريين والإماراتيين والسعوديين لشراء أصول في مصر، ولكن هذا أيضاً غير مؤكد”.
وبينما يفكر صانعو السياسات في الخيارات المتاحة لحل الأزمة، فإن التوقعات بالنسبة للعديد من الشركات تظل غير مؤكدة. حيث قال أحد كبار المديرين في شركة معدات سيارات متعددة الجنسيات إن شركته كانت أفضل حالاً من معظم الشركات لأنها كانت تعمل أيضاً في مجال التصدير، مما أتاح لها الوصول إلى العملات الأجنبية. لكن هذه الاحتياطيات يمكن أن تُستنفد ولذلك فالشركة ليس على يقين مما إذا كانت ستقبل الطلبات الجديدة.
وقال: “لست متأكداً من أنني سأستطيع تصفية جميع المدخلات المستوردة لتقديم طلب جديد، حيث سأضطر إلى دفع الآلاف على هيئة رسوم بينما أنا في انتظار توفير الدولارات،” مضيفاً: “وفي حالة وافقت الشركة المورِّدة في الخارج على تأجيل الدفع واستطعت إخراج البضائع من الميناء، فربما يكون سعر الدولار قد ارتفع بمجيئ الوقت الذي يتعين عليّ الدفع فيه.”
وقال: “من المحتمل أيضاً أن تواجه الشركة المصنعة للسيارات التي أزودها هنا مشاكل، لأن توريد أجزاء أخرى لم يتم، وفي النهاية لا نصل إلى منتج نهائي، مما يؤدي إلى فشلنا جميعاً.”
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.