غير مصنف

فروض الكفاية وملامح مشروع حضاري

نحن أمام شريعة رائعة، لا نظير لأحكامها، تنزيل من حكيم حميد، أعظم ما في أحكامها من وجوب وندب وإباحة وحرمة وكراهة مراعاة الفطرة الإنسانية، فالإنسان في حقيقته مجموعة غرائز تتحرك على الأرض، من حرية واختيار وتنوع وملكية وحب وبقاء وشهوات من نساء وبنين إلى غير ذلك من غرائز مركوزة ومحفورة في طبيعة وكينونة الإنسان.

لن تجد تكليفا بالطلب أو الترك إلا ويراعي الشارع الحكيم الغريزة ويؤكدها ولا يهملها أو يقصيها أو ينسفها، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ  [الملك: 14] , وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88], صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: ١٣٨], ولو تتبعنا كل تشريع بالطلب على حدة لوجدنا فيه من المصالح والمنافع الكثيرة التي تعود علي الإنسان بصفته إنسان، وكذا كل تكليف بالترك يدرأ عنه من المضار والمفاسد التي لا حصر لها.

والعلماء قسموا الواجب الشرعي عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، أغلبها وأشهرها:

أولا: من حيث التعيين والتخيير

إلى واجب معين ومخير، والواجب المعين: ما كان التكليف فيه بواحد معين لا اختيار في تركه، وذلك مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج، فالبالغ العاقل الذي ليس لديه مانع من موانع التكليف تجب عليه الصلاة والزكاة إن ملك نصابا وحال عليه الحول، والصيام ما لم يكن مريضا أو على سفر، والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، كل ما سبق واجبات وأمور معينة لا اختيار للإنسان المكلف فى تركها.

 وأما الواجب المخير: ما كان التكليف فيه بواحد غير معين من أمور معينة، وذلك مثل كفارة اليمين، فالواجب فيها واحد مبهم من أمور معينة، وهى الإطعام أو الكسوة أو العتق، فالثلاثة ليست واجبة، وإنما الواجب أحدها لا بعينه، وأيضا مثل أسرى الحرب، فالإمام مخير بين القتل أو الفدية أو المن عليهم وإخلاء سبيلهم أو الرق، فالواجب واحد من الأربعة، صحيح كل واحد من الأربعة يصح وصفه بالوجوب، لكن الواجب منها عند الأداء واحد فقط.

 التنوع والاختيار واضح تماما في الواجب المخير، وفيه مراعاة للجانب الفطري الذي لا ينفك عن طبيعة الإنسان ألا وهو الحرية والاختيار من بين أمور متعددة، كل مكلف يختار الأنسب والأصلح له، ولم يجعل الشارع الحكيم الواجب على نمط واحد في التكليف، لئلا تحصل المشقة غير المعتادة التي قد تسبب للإنسان حرجا وضيقا.

 حتى الواجب المعين الذي لا تخيير فيه يسقط عن المكلف بحالة الضرورة أو عدم الاستطاعة، فالصيام يرفع عن المريض والمسافر، لما فيهما من مظنة المشقة، والزكاة لا تجب إلا على الشخص الذى ملك نصابا وحال عليه الحول، وكذا الحج لا يجب إلا على المستطيع ماليا وبدنيا مع أمن الرفقة والطريق، نعم الصلاة لا تسقط أبدا ولها أحكامها الخاصة بها عند حالة السفر أو المرض.

بهذا يظهر جليا أن التكليف ليست غايته الاستعباد أو الاستبداد بالإنسان، قدر مراعاته لتهذيب النفس وسموها، واعتدال الفطرة ووسطيتها في غرائزها، وإخراجها من طاغوت نفسها إلى التشرف بعبادة ربها.

ثانيا: من حيث الوقت إلى مطلق ومقيد

والواجب المطلق هو الذي لم يحدد الشارع الحكيم وقتا له، وإنما ترك تحديد وقت الأداء للمكلف نفسه حسبما يرى من وقت مناسب يؤدي الواجب فيه، ومن أمثلته: قضاء الصيام لمن أفطر وعنده مرخص للفطر، فالمرأة – مثلا – التي أفطرت في نهار رمضان بعذر الحيض، يجب عليها قضاء هذه الأيام التي أفطرتها، لكن متى ؟ الشارع الحكيم لم يحدد وقتا معينا للقضاء، وإنما ترك ذلك لاختياره وحريته، بحيث لا ينقضي العمر الممكن إلا وتكون قضت ما عليها من واجب.

وأما المقيد فقسمه العلماء قسمين: مضيق وهو الذي يكون الفعل المطلوب أداؤه علي قدر الزمن تماما، فالفعل والزمن متطابقان، ومن أمثلة ذلك: صيام رمضان، فالفعل وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج بنية التعبد بالصيام، يستمر في الزمن المخصص شرعا من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فالفعل وهو الإمساك، والزمن المحدد الإمساك فيه على قدر بعضهما، بحيث لا يجوز الإفطار قبل نهاية الزمن وهو الغروب، ولا الإمساك بعد نهايته.

وأما الموسع: فهو الذي يكون الزمن فيه أوسع من أداء الفعل، فمثلا الفعل يحتاج أداؤه عشرة دقائق ويأتي الشارع ويعطيه من الوقت ثلاث ساعات، يختار المكلف أي الأوقات يكون مناسبا له أولا أو وسطا أو آخرا، لا جرم ولا إثم ولا معصية عند اختيار الأداء في وسط الوقت أو آخره، – فمثلا – صلاة الظهر يبدأ وقتها من الساعة الواحدة ظهرا ويمتد وقتها إلى الرابعة أول بداية صلاة العصر، فالوقت ثلاث ساعات، وأداء الصلاة لا يزيد عن ثلث ساعة غالبا، فمن صلى في الساعة الواحدة يكون مؤديا للصلاة، وكذا من صلى في الساعة الثالثة يكون مؤديا للصلاة، المهم لا يخرج الوقت المحدد شرعا إلا وقد صلى، وهذا معنى قوله r: ((الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا))[1], ((الوَقْتُ بيْنَ هَذَيْنِ))[2], أي ما بين بدايته ونهايته تصح الصلاة فيه وتوصف بالأداء.

وبناء عليه: أنت ترى مدى ما تركه الشارع من حرية في اختيار الوقت الذي يؤدى فيه الواجب حسب قدرة المكلف ونشاطه وعلو طاقته وهمته، فالمسألة ليست طقوسا تؤدى بلا فهم وتعقل، وإنما أداء الراحة والسعادة، وهذا جلي الظهور في الواجب المطلق، حيث المكلف يختار الزمن المناسب في نشاطه وقوته وعلو همته، وواضح أيضا في الواجب الموسع بنسبة تجعل المكلف في حيز الاختيار، بخلاف المضيق الذي يكون التكليف فيه في الوقت الذي حدده الشارع، ولا تظهر فيه حقيقة الاختيار، وهو قليل في التشريع سواء في العبادات أو المعاملات بالنسبة لما فيه الاختيار.

ثالثا: تقسيم الواجب باعتبار الفاعل

هذا تقسيم للوجوب باعتبار من يجب عليه، وحاصله: أنه ينقسم قسمين: فرض عين وفرض كفاية.

أما فرض العين فهو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً من كل واحد بعينه من المكلفين، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة.

أما فرض الكفاية فهو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً من غير نظر بالذات إلى فاعله.

ومعنى هذا: أن فروض الكفاية أمور كلية، يتعلق بها مصالح دينية ودنيوية لا تصح حياة الناس ولا ينتظم أمر الخلق في معاشهم ومعادهم إلا بحصولها، والشارع طلب حصولها من أي فاعل، ولا يقصد تكليف واحد بعينه، وامتحانه بها، وذلك لأنها متعلقة بالنظام العام، الذي لا يختص بواحد بعينه، بخلاف الفروض العينية، فهي متعلقة بالنظام الخاص بكل واحد من المكلفين بعينه.

الواجب الكفائي ينقسم أولاً باعتبار المصلحة وتكرارها إلى: مالا تتكرر مصلحته بتكرار الفعل الواجب، وإلى ما تتكرر مصلحته بتكرار الفعل الواجب، ثم ينقسم ثانياً باعتبار المصلحة إلى ديني ودنيوي.

فأما التقسيم الأول: باعتبار تكرار المصلحة أو عدم تكرارها فيتنوع إلى:

أولاً: مالا تتكرر مصلحته بتكرار الفعل الواجب، وإنما يحصل تمام المقصود بمن أدي الفعل أولاً، وليس هناك مصلحة أخري في أداء الفعل بعد ذلك.

ومثاله: إنقاذ الغريق، فالمصلحة تتحقق بفعل أول منقذ، ومثله تغسيل الميت وتكفينه ولحده.

ثانياً: ما تتكرر مصلحته بتكرار فعله، مع حصول تمام المقصود بمن أدي الفعل اولاً، فإذا أدي غيره ذلك الفعل مرة ثانية كان في تكرره مصلحة، كإقامة السلطة التنفيذية التي تقوم برعاية مصالح الناس، من حفظ دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتقوم بأمر الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وإقامة السلطة القضائية التي تقيم الحق والعدل بين الناس، والسلطة التشريعية التي من أكبر مهامها تقنين القوانين التي بها تتحقق مصالح العباد في ضوء القيم والمبادئ التي جاءت بها النصوص الشرعية، وكذا الاشتغال بالطب والعلم عموما وكل ما فيه حاجة ترفع عن الإنسان الحرج والمشقة وغير ذلك.

التقسيم الثاني: باعتبار المصلحة الدينية والدنيوية.

 هذا تقسيم اصطلاحي، وإلا فإن كل مصلحة دنيوية تقوم على أتم وأكمل وجه فهو مطلوب ديني أيضاً، ومثلوا للأول: برد السلام من الجماعة، فيكفي فيه الواحد، وما يتعلق بالجنازة من تغسيل وتكفين وصلاة ولحد، فإذا فعل البعض سقط الحرج والإثم عن الباقين، واذا تركه الكل أثم الجميع، ومنه أيضاً: الجهاد لرفع الظلم عن المستضعفين في الأرض، وإبعاد هيمنة أكابر المجرمين عن دولاب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومنه طلب العلم الشرعي بفروعه المختلفة من فقه وأصول وتفسير وحديث ولغة وأدب ونحو وبلاغة.

فمن المعلوم أن العلم الشرعي منه ما هو واجب عيني، يأثم الفرد بتركه والتهاون فيه، ومنه: معرفة شرائع الإسلام، وأركانه وفرائضه، كالصلاة وشروطها وأركانها ومبطلاتها، وكذا معرفة الحلال والحرام في المأكل والملبس والمشرب والمسكن والمركب وغيرها فإنها تتعلق بحياة كل فرد، ويأتي في هذا حديث النبي r: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))[3].

ومن العلم الشرعي ما هو فرض كفاية، كالعلم بأحكام الفرائض والمواريث، والعلم بالقواعد التي تؤدي إلى استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، فهذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة من الناس، وإنما تحتاج إلى خاصة منهم، يتعلمون هذه العلوم حتى يستقيم أمر الاجتهاد والفتوى.

وأما الثاني: فهو ما أوجبه الشارع على الكافة لمصلحة دنيوية، فإن فعله البعض تحققت المصلحة، واذا تركه الجميع لحقهم الحرج والعنت والمشقة والإثم في الدنيا والعذاب في الآخرة.

ومن أمثلته: تعلم الطب والهندسة والعلوم العصرية التي تقوم عليها الصناعات المختلفة من طيران وسفن وقطارات وغير ذلك مما يحتاجه الناس في حياتهم، فليس تعلم هذه العلوم في نظر الشارع من قبيل المندوب أو المستحب أو المباح، وإنما من قبيل الفرض الذي يثاب الإنسان على فعله ويعاقب ويعاتب ويلام ويذم على تركه، لأن فيه مصلحة عامة للناس.

 فكل علم لا يستغني عنه ولا تقوم الحياة إلا به فهو مطلوب شرعاً على سبيل الفرض والحتم، فالطب ضروري لحياة الأبدان والرياضة والهندسة لحياة العمران، والزراعة والصناعة والتجارة لحياة الأمم والشعوب، وبدونها تنعدم وتذبل وتموت.

 كل ذلك لا يمكن تحققه على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة، ومؤسسات كبرى تطلع بالمهام التي لا يستطيع الأفراد والكيانات الصغرى أن تقوم بها، ومن هنا تبرز حقيقة وأهمية وجود الكيان الإداري والتنظيمي الذي يحقق هذه المصالح، فالتصور بأن الإسلام يمكن أن تتحقق المصالح الكبرى التي جاء من أجلها في دول لا تؤمن بأحقيته في القيادة والسلطة وهم وهراء.

 حكم الواجب الكفائي:

الواجب الكفائي كأي واجب يثاب المسلم على فعله ثواب الواجب، لأنه مهم شرعاً، ومطلوب حصوله في حياة الناس الدينية والدنيوية على السواء، وكذا يعاقب المسلم على تركه، عقاب الواجب، من العيش الضنك في الدنيا، ثم يحشره الله يوم القيامة أعمي، لتركه وإهماله أداء الواجب الذي فرضه الله عليه.

ومن سمات فرض الكفاية أنه دائر مع الظن في تحقيقه والقيام به وجوداً وعدماً، فإذا ظن المكلف أن غيره قام بأداء الواجب الكفائي على أكمل وجه وأتمه، سقط الطلب عنه، وعن الآخرين، فإذا ظن أن الأمة فيها ما يكفيها من العلماء الراسخين الربانيين الذين يعلمون ويربون الناس، ويأخذون بأيديهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى القيم الأخلاقية، فإنه يسقط عنه هذا الفرض، ويصير في حقه مندوباً، لا فرضاً.

واذا ظن المكلف أن الامة تحققت فيها الكفاية الإنتاجية التي يحتاج إليها الناس في طعامهم وشرابهم وملبسهم ومسكنهم ومركبهم وسائر حياتهم الضرورية التي لا تنفك عنها حياة آمنة مطمئنة مستقرة، فإن الفرض يسقط عليه، وتبقى مشاركته في هذه الأنشطة أمراً محموداً، للخروج من حد الضرورة إلى حد الكفاية وإن ظنت طائفة قيام غيرها به، وظنت أخري عكسه سقط عن الأولى، ووجب على الثانية.

 محل الخطاب في الواجب الكفائي:

تحقيق الواجب الكفائي واجب، سواء تعلق بأمر ديني، أو أمر دنيوي، فالنظر فيه كما قلنا إلى تحقق الفعل، لا إلى ذات الفاعل، المهم أن يتحقق الفعل، ويقوم في حياة الناس.

 والأصوليون اختلفوا في تعيين المخاطب بالواجب الكفائي، هل جميع المكلفين، أو بعضهم، على مذاهب، أشهرها مذهبان:

المذهب الأول: أن الخطاب موجه إلى جميع المكلفين، وهو مذهب الجمهور، نص عليه الشافعي – رضي الله عنه – في الأم[4] فقال: “حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع عامتهم تركه، واذا قام به منهم من فيه كفاية، أجزأ عنهم، إن شاء الله تعالى “، وكذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه “الغزو واجب على الناس كلهم، فإذا غزا بعضهم، أجزأ عنهم”[5].

وأختار هذا المذهب من فحول علم الأصول: أبو الحسن البصري، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الرازي، المعروف بالجصاص، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب وغيرهم.

واستدلوا على ذلك: بأن الواجب الكفائي لو لم يكن واجباً على جميع المكلفين ؛لما إثم الجميع بتركه، لكنهم يأثمون جميعاً عند تركه، فدل ذلك على أنه موجه للجميع، وهو المطلوب.

المذهب الثاني: أن الخطاب موجه إلى بعض المكلفين، لا إلى جميعهم.

واستدلوا: بأن الخطاب في الواجب الكفائي، لو كان موجهاً إلى الجميع ؛لما سقط بفعل البعض، لكنه يسقط بفعل البعض إجماعاً، فدل ذلك على أن الخطاب موجه إلى المكلفين، وليس إلى جميعهم، وهو المدعي.

وبعد ذكر المذهبين يظهر هذا التحقيق:

فنقول: لا خلاف لأحد في أن فرض الكفاية يسقط بفعل البعض، وهو ما احتج به القائل بأن الوجوب على البعض، كما إنه لا خلاف في تأثيم الكل عند تركهم جميعاً، وهذا ما احتج به القائل: بأن الوجوب على الكل، كما إنه لا خلاف في أنه متى حصل المقصود من فرض الكفاية، سقط الطلب، ولا يأثم أحد؛ لأن الشارع إنما قصد من مشروعية فروض الكفاية وقوع المصلحة، وحصولها دون إتعاب المكلفين بالذات، فلو حصلت المصلحة بنفسها، وحصل المقصود من فرض الكفاية بدون فعل أحد، كما لو أسلم جميع الكفار قاطبة، أو ماتوا جميعاً، يسقط وجوب الجهاد عن ذمة جميع المكلفين به.

وبهذا يظهر أنه لو سقط الوجوب بأي سبب كان، لا يستلزم إثم الكل، لحصول المقصود، فالقول بأن الوجوب على الكل أو على البعض المبهم كلاهما صحيح، ومآلهما واحد بالنظر إلى المقصود بالذات من فروض الكفاية، فكان الخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة خلافاً لفظياً، ليس له ثمرة.

وأما من قال: إن الخلاف حقيق ومعنوي وله آثار فقهية، منها: مسألة الصبي المميز اذا صلي على الجنازة فيسقط الواجب الكفائي به عند الشافعية، ولا يسقط الواجب به عند الحنفية، لأن فعل الصبي نافلة، فلا يتأدى به الواجب عن المكلفين، بدليل أنه لا يصح اقتداء البالغ بالصبي فيها.

فهذا الخلاف مبني على الخلاف في المدرك الفقهي، الذي يرجع إلى اختلاف النظر في الدليل التفصيلي، فلا ينافي أن الخلاف لفظي بين الأصوليين.

تعيين الواجب الكفائي:

كثير من الناس ينظرون إلى الواجب الكفائي نظرة عدم اهتمام، ويتعللون لعدم الأهمية، بأنه اذا فعله البعض سقط عن الباقين، وهو ليس عنده قدرة على العطاء والأداء، وبعض الاحصاءات تقول: إن ما يزيد عن ٦٠% من المسلمين لا يعرف إلا الواجبات العينية فقط، من صلاة وصيام وزكاة وحج، وماعدا ذلك من أمور السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة، وإقامة حياة كريمة طيبة، بعيدة عن التلوث العقدي والفكري والسمعي والبصري، ليس من الدين في شيء.

هذا ما تطلقه بعض وسائل الإعلام بالليل والنهار على المسلم المهتم بأمر دينه، وشأنه العام، ومشاركته بجد في إقامة دولة قوية صاحبة ريادة وقيادة، وعزة ومكانة للمسلمين، يصف ذلك كله بأنه إسلام سياسي، وكأن من اشتغل بالشأن العام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي قد أضاف للدين ما ليس منه، وهذا بلا شك فيه ظلم عظيم، وبهتان كبير على الإسلام كدعوة ودولة، وجيش وفكرة، وحكومة وامة، وجهاد ورحمة، وعقيدة وعبادة، ومادة وثروة، وكسب وغني.

فهذه من بديهيات الإسلام، التي يعرفها كل من قرأ القرآن، واطلع على سنة نبينا العدنان، فالشارع الحكيم نظر إلى الفروض الكفائية على أنها مطلوب تحصيلها بغض النظر إلى فاعلها، ولكن المسلمين اذا تركوها وأهملوها وتكاسلوا عن أدائها فيأتي الشارع الحكيم ويجعل هذه الفروض من باب الفروض العينية، فتكون متعلقة بكل شخص، ومطالب بها كل فرد أسرة وحي، بل المجتمع بأسره مطلوب أن يساهم في تحقيقها، وإقامة المصالح المترتبة عليها.

وعلماء الأصول ذكروا الحالات التي يتعين فيها فرض الكفاية، وهي خمس حالات:

الأولى: اذا ظن المكلف أن غيره لم يقم به، ففي هذه الحالة يتعين الفرض الكفائي، ويصير فرض عين عليه، لأن فرض الكفاية دائر مع الظن وجوداُ وعدماً، فإذا ظن أن غيره فعل، يسقط عنه، وإن ظن أن غيره لم يفعل وجب عليه وجوباً عينياً، سواء قام غيره، أو لم يقم، ومثاله: إذا وجد عالم واحد في المدينة، ولم يوجد غيره بالفعل، تعين عليه الفتوى، واذا طلب للقضاء تعين عليه وجوبا عينيا، ولا يصح له التذرع بأن البعض من العلماء طلبوا للقضاء فامتنعوا، لأن امتناعهم كان لعلمهم بوجود غيرهم من العلماء، فخافوا من المنصب خشية أن يكون الاختيار للابتلاء، فامتنعوا ورعاً وزهداً وخوفاً من تبعات هذا المنصب، ومثله اذا وجد طبيب واحد في البلدة، تعين عليه الواجب الكفائي، وأصبح لازماً عليه معالجة كل من يأتي إليه، لعدم وجود غيره.

الثانية:اذا اختاره الإدارة التنفيذية – مؤسسة الرياسة – واحدا معينا، أو اختارت مجموعة معينة، لأداء مهمة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو تعليمية أو تربوية، داخلية أو خارجية، وكان عند الشخص من المواهب والملكات التي يستطيع بها أن يؤدى المهمة التي كلف بها تعين عليه وصار فرض عين.

وهنا تظهر أهمية اختيار الاشخاص ذوي الكفاءات المهنية الخاصة لأداء المهام الخاصة التي لا يستطيع البعض أن يقوم بها، ويدخل في هذا الاختيار كل المناشط الحيوية التي تتوقف عليها حياة العباد، كالنشاط الزراعي والصناعي والتجاري وغيرها من الأنشطة الحيوية، التي لا غنى عنها في قيام المجتمع الآمن سياسياً واقتصادياً وعلمياً وصحياً وتربوياً وأخلاقياً.الثالثة: اذا لم تتحقق الكفاية فيمن قام به، فإذا مات شخص – مثلا – وقام واحد من المسلمين بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ولحده، ولم يستطع الأداء، فيصبح ذلك فرض عين على جميع أهل البلدة فيأثمون جميعاً بتركه، واذا كانت البلدة تأثم بترك فرض متعلق بحق من حقوق الميت، فمن باب أولى تأثم بحق متعلق بالأحياء.

فإذا تركت الأمة الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة مؤسسة الرياسة التي تحرس الدين، وتسوس حياة الناس به، في جميع شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذا إقامة الصناعات والحرف المختلفة التي لا غنى عنها في أمور حياتهم ومعاشهم وبلوغ الحد المناسب في علوم التقنية الحديثة، لإيصال رسالة الإسلام إلى الناس جميعاً في عالم أصبح قرية صغيرة، تتداول فيه المعلومات كل دقيقة، فيما يحصل في أوله يعلمه آخره، وما يحصل في آخره يعلمه أوله، فأصبح من اللازم والحتمي حتى تقام المصالح المتعلقة بقيام المجتمع الصحيح في عقيدته وعبادته وأخلاقه وفكره وسلوكه وتقدمه من الفروض العينية، لأنها بالفعل لم تتحقق بما فيه الكفاية.

ليس معنى هذا أن يقوم الشخص الواحد بسد هذا الاحتجاج في جميع المجالات المختلفة، من صناعة وزراعة وتجارة وتقنية وعلوم سياسية واقتصادية وغيرها، فهذا أمر مستحيل، والإنسان بمفرده لا يمكن أن يقيم مجتمعاً ناهضاً صالحاً قوياً، إنما المقصود أن يشارك كل فرد من أبناء الأمة في تخصص من هذه التخصصات، ولا يجلس كسولاً متفرجاً شأنه وحاله يقول، أنا لن أصلح الكون، أنا مالي، يفعله غيري.

فهذا لاشك فيه هدم للقيم، وهدر للطاقات وضياع للأوقات، التي هي أنفس مقومات حياة الأمم والشعوب، فالشخص عليه دور في ذلك، وهو أن يختار العمل المناسب لمواهبه وطاقاته وتأهيله ودراسته، ويؤدي فيه أداء كافياً على قدر استطاعته، وكذا دور الأسرة واضح في تشجيع أولادهم للقيام بسد هذه الثغرات العلمية الكبيرة في الواقع، فتغرس في أبناءها حب العلم، واختيار الأنسب منه لكل فرد من أفرادها، فهناك من يصلح للهندسة أو التجارة أو الحياة العسكرية وغير ذلك من الأنشطة العلمية التي تقوم عليها المجتمعات القوية.

وهناك دور على مؤسسات المجتمع المدني، في تأهيل وتدريب أبناء المجتمع؛ لأجل القيام بالمهمة على أحسن حال، وكذا إقامة المشروعات المناسبة التي لا يستطيع الأفراد أداءها بأنفسهم، لاحتياجها لرأس مال لا يناسب طاقات الأفراد، وهنا نحيى ونثمن كل جمعية أو مؤسسة تسعى لإقامة مشروعات كبيرة تهتم بصحة المواطن وعقله وفكره، وسلوكه وأخلاقه، فلها بلا شك له دور رائد في إدارة في تحقيق بعض المقاصد المتعلقة بفروض الكفاية.

كنا وما زلنا قبل الانقلاب العسكري نأمل في الكثير من مؤسسات المجتمع المدني في دور مناسب، يليق بعددها الكبير، والمنتشر في جميع أنحاء مصر، ويليق بما عندها من طاقات ومواهب، وقوة مالية ومادية، حتى تقوم بدورها بسد احتياجات الكثير من أبناء المجتمع، لكن جاء الانقلاب العسكري ونهبها، وأوقف جل نشاطها الدعوي والمجتمعي.

كما أن هناك واجبا أصلي على مؤسسات الدولة – وهو دورها الرئيس – في سد احتياجات أبناء الوطن الواحد من الأمور الضرورية والحاجية وإقامة المشروعات العملاقة، التي تذهب بداء البطالة، وتغني الناس من فقر، وتطعمهم من جوع، وتكفل لهم حياة تعليمية وصحية وأمنية مناسبة، تليق بهذا المخلوق الكريم الذي كرمه الله سبحانه وتعالى.

الرابع: إذا حدث غزو للأمة من جانب أعدائها على أراضيها، أو مقدراتها، أو ثقافتها، أو تاريخها المجيد، أو شريعتها الغراء، فهنا يجب أن تنهض الأمة بأسرها حتى تجاهد في سبيل حياتها، فالأمم لا تحيا بلا قيم، وعلى رأسها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولا تحيا بدون قوة عسكرية ترهب كل من تسول له نفسه أن يحوم حول حماها، وتردع كل من ينتهك شبرا واحدا من أرضها، فإذا دخل الأعداء منشط من مناشط الحياة في بلادنا، أو استأثروا به، واستفادوا وحدهم منه، وغلب أمر أهل البلاد خوفا من شرهم واعتدائهم، هنا يجب أن تحيا هذه الفريضة العينية، وهي الجهاد بكل غال ونفيس، لصد هذه الهجمة الظالمة، والخروج من هذا الاستعمار البغيض بكل صوره وأشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والإيمانية وغيرها.

ولا أكون مبالغا أن أقول: إن أي جماعة أو تنظيم أو حزب لابد وأن يكون هدفه الأول، هو دفع الشر الذي دخل علينا بجميع أشكاله وصوره المختلفة، حتى غزانا في عقولنا وبيوتنا ومؤسساتنا السياسية والاقتصادية والتعليمية، فأصبح المسلمون لا يملكون من أمرهم شيئا، إلا إنهم يدورون حيث دار المستعمر، في دولاب اقتصاده، وفي حمق سياسته، وفي قيمه الناقصة، التي أدت بكثير من الشباب إلى الدمار والخراب.

 والأصل أن ينطلق الدعاة والمصلحون كالسهم كي يعيدوا لهذه الأمة عقلها الذي سلب، وفكرها الذي نضب، وكرامتها التي أهينت، ودولتها التي أسقطت، وخلافتها التي نسيت، وشأنها العالمي المؤثر الذي ضاع واندثر، فلا تنم المؤسسات ولا الدعاة المربون المصلحون، حتى يحييوا هذه الفرائض في حياة المسلمين، فتتحقق بحمد الله وبفضله وعونه وكرمه، نجحت نجاحا كبيرا.

نعم الجماعة أو المؤسسة التي أيقظت الهمم، وأحيت النفوس، وربت على قيم الإسلام قامات علمية وثقافية وحضارية وعسكرية وسياسية واقتصادية واخلاقية وتربوية، أدهشت القريب والبعيد، وأثرت في حياة الداخل والخارج، حتى أصبحت بفضل الله، ملئ السمع والبصر، بما لها من حب وقبول عند أبناء الوطن الإسلامي كله، فعاشت في القلوب فأحيتها، واهتمت بالأبدان فقوتها، ونهضت بالأسرة فأيقظتها، وتغلغلت في المجتمع فصانته من القيم السلبية التي جاء بها المستعمر.

إتمام فرض الكفاية:

الواجب في إطار التكليفات التي كلفنا الله بها، يترتب عليه من المصالح الكبرى بتحققه وقيامه، وتفوت بتركه بل قد تترتب كثير من المفاسد على فوته، فما شرعه الله علينا من واجبات ومندوبات لا شك فيه من المنافع التي تعود على الفرد والمجتمع، بقيام هذه الواجبات والمندوبات وعلى قدر ما في الفعل من منافع ومصالح يكون الحكم التكليفي الخاص به، فالمنافع المترتبة على إقامة الواجبات والفروض، لا شك أكبر من المنافع المترتبة على تحقيق المندوبات، ولذا كان هذا الفعل واجبا وذاك مندوبا.

والواجبات الكفائية لا شك أنها من باب الفروض، ويترتب عليها من المصالح والمقاصد الكبيرة ما لا يترتب على فعل غيرها، بل إنها متعلقة في غالبها بسد احتياجات عامة، تخص المجتمع بأسره، وليست قاصرة على فئة أو طائفة منه، ولذا نظر كثير من علماء الأصول إلى فروض الكفاية نظرة لها من الأهمية تفضل الفروض العينية، فالإمام الإسنوي رحمه الله في التمهيد نسب لأهل التحقيق: أن فرض الكفاية أهم من فرض العين، والاشتغال به أفضل من الاشتغال بأداء فرض العين، وهذه رؤية إمام الحرمين والإمام النووي وغيرهم.

لعل العلة في ذلك أنهم نظروا في القائم بفرض الكفاية إلى أنه يسد مسد الأمة، ويسقط الحرج عنها، وفرض العين في الغالب قاصر في منافعه ومقاصده على المشتغل بأدائه، ولا يعني هذا أن المسلم يتذرع بترك الواجبات العينية بحجة الاشتغال بالفروض الكفائية، إنما المقصود – والله أعلم – أن الكثير من المسلمين حصروا المنافع والمقاصد والمصالح في أداء الفروض العينية بما لها من أثر في الدنيا، وثواب عظيم في الآخرة.

وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى، فأراد علماء الأصول أن يقولوا لمن حصر المنافع والثواب في الفروض العينية إن هناك ثوابا أعظم ومنافع ومقاصد أكبر، تتحقق لمن قام بها وأداها، وهي الفروض الكفائية، فلا شك في أن الساعي في مصلحة الجماعة له من الأجر والثواب ما لغيره من الساعي على مصلحة فردية، وإن كانت واجبة فحصر الثواب في الفروض العينية أمر لا يصح ولا ينبغي، بل إنه موجود فيها وموجود أكثر في تحقيق الفروض الكفائية، ولعل هذا ما قصده علماؤنا، وليس معناه التعارض بين الفروض، وترك بعضها العيني من أجل إقامة بعضها الآخر الكفائي.

وهذه التمهيد يدخل بنا بعد أن بينا أهمية إقامة الفروض الكفائية إلى اختلاف الأصوليين في إتمام الفروض الكفائية على مذهبين:

الأول: إن الواجب الكفائي يتعين إتمامه بالشروع فيه، كالواجب العيني سواء بسواء، بجامع الفرضية في كل.

وهذا المذهب اختاره ابن السبكي وغيره وهو ظاهر مذهب الحنابلة، حيث ذكر الفتوحي أن: يؤخذ لزومه بالشروع في مسألة حفظ القرآن، فإنه فرض كفاية اجماعاً، فإذا حفظه انسان، واخر تلاوته من غير عذر، حتى نسيه، فإنه يحرم على الصحيح من المذهب.

ويؤيده: أن الشروع في صلاة الجنازة يوجب الإتمام، وأن الخروج للقتال اذا التقى الجمعان يوجب الإتمام، ويقاس عليه: من شرع في علم من العلوم وهو مؤهل له، فيجب عليه الإتمام، وكذا الطبيب الذي شرع في العملية الجراحية وعنده القدرة فيجب عليه الإتمام.

الثاني: ان الفرض الكفائي لا يتعين بالشروع فيه، ذكره الزركشي عن الغزالي.

ويؤيده:أن الخطاب في الكفائي موجهٌ للمجموع، بخلاف الواجب العيني، فإن الخطاب فيه موجهٌ الى كل مكلف بذاته، كما إن فعل البعض في الأول يسقط الإثم عن الباقين، وفعل غير المكلف في الثاني لا يسقط الإثم عنه.

والصواب – والله اعلم – أن الشروع في الواجب الكفائي لا يوجب الإتمام بإطلاق، نعم هناك من الفروع الفقهية كالجهاد والجنازة يجب الإتمام فيه، لكن الفروض الكفائية كثيرة، وهي تمثل الجانب الأكبر من فروض الشريعة، والعبرة بتمام حصول المقصود، وتحقيق المصالح والمنافع، فإذا شرع شخص في فرض كفاية مع الآخرين، وقد تمت المصلحة وقامت بهم، وتحققت الغاية من الفرض، وأقيم على وجه التمام والكمال، فمن اللائق أن نقول لمن شرع في الفرض، ان يختار غيره من الفروض الكفاية التي تحتاج إلى أيد كثيرة، وعقول واعية، والفروض التي لم تتحقق كثيرة، فلا يصح أن ننشغل جميعاً بأداء فرض واحد من فروض الكفاية بالشروع فيها، ونترك غيرها من الفروض التي لم يشرع فيها أحد، أو التي شرع فيها أشخاص ولكن لم تتحقق الكفاية بهم، فالتوازن مطلوب، حتى تتحقق جميع الفروض.

بعض الفروع الفقهية المترتبة على فرض الكفاية:

يتفرع على فرض الكفاية من ناحية محل الخطاب، فروع كثيرة، منها:

الفرع الأول: إذا صلى على الجنازة واحد، ثم صلى بعد ذلك فرد كان أو جمع، فهل هذه الصلاة فريضة أو نفلا؟

على قول الجمهور القائل بأن الخطاب موجه للجميع تقع الصلاة الثانية فرضاً، وليس نفلاً، صحيح أن الفرض سقط بفعل البعض، والإثم ارتفع، إلا إن فعل البعض الآخر يقع فرضاً ايضاً، لأن فيه ترغيب للمكلفين، وثواب الفرض يزيد على ثواب النفل، فكل من جاهد أو طلب العلم يقع ذلك منه فرضاً، وإن كان فيمن سبقه كفاية، لأجل الخطاب الموجه إلى الكل، وأما من قال: إن المخاطب في الواجب الكفائي يتعلق ببعض المكلفين تكون الصلاة الثانية نفلاً، ويلزم اطراده في الطائفة الثالثة بطريق الأولى.

وفيه نظر، لأن صلاة الجنازة لا يتنفل بها، بدليل إنه لا يسن إعادتها لمن صلاها، وتلك أمارة عدم جواز التنفل بها، وإذا ثبت عدم جواز التنفل بها لكانت صلاة غير الأولى، فتقع فرضاً لانفلاً.

الفرع الثاني: إذا سلم شخص على جماعة، فرد عليه أكثر من واحد السلام، فأي فرد من هذه الجماعة حصل ثواب الواجب؟

والجواب هنا: أيضاً مبني على القول بالمخاطب في فرض الكفاية، فإن قلنا المخاطب الجميع وقع السلام من الجميع فرضاً، لانفلاً، ويثاب كل من رد ثواب الفرض، ومن قال: المخاطب البعض يقع رد واحد منهم واجباً، وما زاد يعد نفلاً، فهو من قبيل الزائد على الواجب، والزائد على الواجب لا يقع واجباُ، إنما يقع نفلاً كمن مسح القدر الواجب في الرأس، ثم زاد عليه، فالزيادة هنا لا تقع فرضاً، لأنه يجوز تركها، وهو اختيار الإمام الرازي والقاضي البيضاوي ومن تبعه.

وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن القدر الزائد على الواجب يكون واجباً، لأن الواجب قد تأدي بالكل، فيقع الزائد واجباً.

وفيه نظر من وجوه:

الأول: أن هذا قياس مع الفارق، فالأصل مسح الرأس واجب لا يتقدر بمقدار معين، أما الفرع، فالواجب فيه يتحقق بأداء واحد من المكلفين.

الثاني: أن حصول الثواب لواحد غير معين عند رد الجميع في وقت واحد، لا يعقل بخلاف الثواب على الجزء المفروض في مسح الرأس، وما زاد فهو نفل، فإنه أمر معقول.

الثالث: أن ثواب الفرض أزيد من ثواب النفل، والناس يطمعون في زيادة الأجر والثواب، ويحرصون عليه، والقول بأن كل من رد السلام من الجماعة يعد قرضاً له يحقق ذلك.

ملامح مشروع حضاري:

واضح من التقسيم السابق أن الواجب العيني مطلوب من كل عين أي ذات أو شخص، ويجري ذلك في العقيدة، مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه، وفي الأخلاق مثل الصدق والأمانة والوفاء والحياء والأخوة، وفي العبادات مثل الصلاة والزكاة والصيام، وأكل الحلال من الطيبات بالبيع أو التجارة أو المضاربة أو المشاركة في المعاملات.

كل ذلك من فروض الأعيان، الفعل والفاعل معينين، أما الواجب الكفائي فالمقصود الأول فيه هو تحقيق الفعل بغض النظر عن الفاعل، المهم أن يتحقق الفعل قام به فلان أو علان، أو هذا أو ذاك لا يهم.

كثير من المسلمين لا يعرف من فروض الكفاية إلا صلاة الجنازة فقط، لكن الحقيقة أن فروض الكفاية تمثل الجسم الأكبر من الإسلام، وغالبها يتعلق بالصالح العام للأمة، أو النظام العام الذي لا يستغني عنه أي مجتمع، والساعي من الأمة في تحقيق فروض الكفاية له من الأجر والثواب الذي قد يفضل ثواب بعض الواجبات العينية، لأن ما يتعلق بالشأن العام وتحقيق مصالحه ومنافعه التي تعود على الجميع أفضل بلا شك من المصالح الشخصية التي تعود علي الفرد من تحقيق الواجبات العينية، صحيح الكل فرض ومطلوب تحقيقه، لكن الساعي في تحقيق المصالح العامة أفضل بكثير من الساعي في تحقيق المصالح الفردية.

والفروض الكفائية التي طلبها الشارع الحكيم تشكل ملامح لمشروع حضاري إنساني عام، لا تتوقف مصالحه ومنافعه على فئة بعينها بل يتعدى إلى الجميع، ولا أبالغ إذا قلت: إن المشروع الحضاري الإسلامي منافعه ومصالحه تتعدى المسلمين إلى غير المسلمين، فهو رحمة لجميع بني الإنسان على اختلاف شرائعهم ومللهم، بل يستفيد منه الحيوان والنبات والجماد، لأنه منسجم مع الكون المخلوق بيد الله العلى القدير.

 وهذه المنظومة الحضارية التي أساسها الفروض الكفائية من عند الله العليم الخبير، فالخالق للإنسان والمصدر للقيم واحد، فلا تناقض ولا تضاد بين ما فرضه الله سبحاته وتعالى من قيم حضارية وبين مفردات الكون من سماء وأرض وجبال وأنهار وشمس وقمر وإنس وجن وحيوان، بل ينسجم جميع الكون تحت مظلة التشريع المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وخلاصة ما يسعى إليه المشروع الحضاري الإسلامي تحقيق الكفايات المادية والمعنوية التي بها قيام حياة الإنسان، من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، واحترام كرامة وحرية وإرادة واختيار الإنسان، هذا على سبيل الإجمال.

وتفصيل ذلك نذكر منه بعض الملامح المهمة وهى:

أولا: منظومة القيم الحضارية المتعلقة بالكسب والمال والعمل، وتحقيق الكفاية لأبناء الأمة فيما تتطلبه الحياة المادية من ملبس ومأكل ومشرب ومسكن ومركب تليق بآدمية الإنسان المكرم من الله سبحانه وتعالى، إذ لم يجد له منذ بداية خلقه إلا الجنة مسكنا ومأكلا ومشربا وملبسا، قال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (١١٩) [طه: ١١٨ – ١١٩ ], وهذا من غاية التكريم له، لكن آدم – عليه السلام – عصى ربه فأنزله إلى الأرض كادحا ومكافحا، فحتي يتحقق له بعض ما كان عليه من تكريم كامل، لم يتركه بلا هدى، فقال له: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (١٢٤)[ طه: ١٢٣ – ١٢٤].

ولا ينكر منصف كم الآيات والأحاديث التي تتعلق بمنظومة التنمية المادية المتعلقة بالنشاط الحضاري الإنساني من تعمير للكون، سواء أكان بالنشاط الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو التقني والإبداعي، والضابط في ذلك ” أن كل ما يحقق للإنسان الحياة والرفاهية فهو مطلوب شرعا ما لم يكن محرما”.

 دليل ذلك: أنه شرع الزكاة، وجعلها ركنا من أركان الإسلام، وهى عبادية مالية، تتعلق بذمة الإنسان الغني، بصفته الإنسانية، بغض النظر عن بلوغه وعقله، فهي تتعلق بالمال الذي بلغ نصابا وحال عليه الحول لا غير، وهذا مقصود الشارع منها، أنها تغطى احتياجات شريحة في المجتمع ليست بالعدد القليل,

قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  [التوبة: ٦٠] , فالزكاة تكفي هؤلاء.

أما باقي أفراد المجتمع المكلفين شرع لهم وجوب العمل، فأحل له البيع والشراء والمضاربة والمرابحة والمزارعة والمشاركة وغير ذلك، التي تغني الناس من فقر، وتطعمهم من جوع، وتكسوهم من عري.

والإسلام لا يقف بمنظومته الحضارية الإنسانية عند حد تحقيق الضروريات فقط بل يتعدى ذلك إلى تحقيق الحاجيات التي ترفع عن الإنسان الضيق المادي إلى السعة والغنى، بل ترتفع به الى حد الرفاهية وضابطه في ذلك ” كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ودينك لا تكلمنه “

خلاصة القول: أن كل ما يتعلق بحياة الإنسان المادية التي تحييه كريما متعففا يكون من فروض الكفاية.

ثانيا: منظومة القيم الحضارية المتعلقة بتحقيق العدل والمساواة بين الناس، فالعدل روح الحضارة، وميزان تقدمها، والظلم هادم للعمران، محطم للحضارات، فيأتي علي رأس هذه المنظومة احترام حرية الشعوب في اختيار حكامها، إذ هم مناط تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وكذا إقامة منظومة القضاء على أسس موضوعية حيادية بعيدة كل البعد عن آفات الرشوة والرغبة والمصلحة الشخصية، لا نستطيع أن نحصي عدد النصوص من كتاب وسنة قولية وعملية من كثرتها التي حضت على إقامة العدل والمساواة، فهما مقصد المقاصد، وغاية الغايات، ومنتهى آمال الشعوب، وتحقيقهما من فروض الكفايات.

ثالثا: منظومة الأحكام المتعلقة بالعلم والثقافة والمعرفة، أكاد أجزم أنه لا نظير لأي تشريع حث على العلم وشرفه، كما في المنظومة الحضارية الإنسانية الإسلامية، آلاف الآيات والأحاديث والأقوال المأثورة عن سلفنا الصالح تجعل من المعرفة والتفقه والتعلم شرفا وتاجا للإنسان، والعلم والمعرفة الأصل فيهما أنهما من فروض الكفاية، تحيا بهما الأمم، وتموت بعدمهما.

 رابعا: منظومة الأحكام المتعلقة بالقوة والحماية والدفاع عن الدين والنفس والمال والعقل والعرض والأرض، فالأصل في الجهاد أنه فرض كفاية، لا يجب إلا على البالغ العاقل الحر القادر علي الدفاع والجهاد.

خامسا: منظومة الأحكام المتعلقة بحماية المجتمع من الآفات والسلبيات من الغش والتدليس والغرر والنصب وغير ذلك، شرع لتحقيقها وإقامتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأصل فيها أنها فرض كفاية.

وفي نهاية البحث أقول: إن كل هذه الأحكام الأمة مكلفة بإقامتها، حتى يحيا الإنسان حياة كريمة، ولكل مسلم أن يختار ما يناسبه من هذه الأحكام، المهم إلا يترك فراغا للعدو يدخل منه، وجزى الله خيرا من قال: ” نريد أن نمتلك غذاءنا وسلاحنا ودواءنا ” فمن امتلك ذلك امتلك إرادته وحريته وكرامته ([6]).

أهم المصادر والمراجع:

أولًا: كتب أصول الفقه:

  1. الإبهاج في شرح المنهاج: للعالمين الجليلين الشيخ تقي الدين السبكي، المتوفى سنة (685هـ) والقاضي تاج الدين السبكي المتوفى سنة (771هـ) ط: مكتبة الكليات الأزهرية، الحاج حسين محمد إمبابي وأولاده.
  2. إرشاد الفحول: للعلامة محمد بن علي بن عبد الله المعروف بالشوكاني المتوفى سنة (1255هـ) ط: دار الفكر.
  3. أصول البزدوي: للعلامة فخر الإسلام علي بن عبد الكريم بن موسى المعروف بالبزدوي الحنفي، المتوفى سنة (482هـ) ط: دار الكتاب الإسلامي مطبوع على هامش كشف الأسرار للبخاري.
  4. أصول السرخسي: لشمس الأئمة محمد بن أحمد الحنفي، المتوفى سنة (490هـ) حقق أصوله الأستاذ / أبو الوفا الأفغاني، ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
  5. التحرير الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية: للعلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السكندري السيواسي الشهير بالكمال بن الهمام، المتوفى سنة (861هـ) طبع مع شرحه تيسير التحرير للعلامة محمد أمين المعروف بأمير بادشاه، ط: دار الكتب العلمية – بيروت – رلبنان.
  6. التلويح في كشف حقائق التنقيح: للعلامة سعد الدين مسعود ابن عمر التفتازاني الشافعي المتوفى سنة (792هـ)، ط: محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر.
  7. حاشية الرهاوي على شرح المنار لابن ملك: للعلامة شرف الدين أبو زكريا يحيى الرهاوي المصري على شرح المنار لابن ملك. طبعة عثمانية د / سعاد ت (1315هـ).
  8. فواتح الرحموت: للعلامة أبي العباس عبد العلي محمد نظام الدين الأنصاري، طبع مع المستصفى للإمام الغزالي، ط: دار الفكر.
  9. كشف الأسرار على أصول البزدوي: للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة (730هـ) ط: دار الكتاب الإسلامي.
  10. مسلم الثبوت: للمحقق محب الدين بن عبد الشكور المعروف بالبهاري المتوفى سنة (1119هـ) طبع مع شرحه فواتح الرحموت، ط: دار الفكر.

ثانيًا: كتب الفقه:

من كتب الفقه الحنفي:

  1. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: تأليف علاء الدين أبي بكر مسعود الكاساني الحنفي الملقب بملك العلماء المتوفى سنة (587هـ) ط: المكتبة العلمية – بيروت – لبنان.
  2. المبسوط: للإمام الفقيه الأصولي النظار أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة (490هـ) ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.

من كتب الفقه الشافعي:

  1. الأم: للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204هـ) ط: دار المعرفة – بيروت – لبنان.
  2. المجموع شرح المهذب: للإمام يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (676هـ) حققه وأتمه الشيخ محمد نجيب المطيعي، ط: مكتبة المطيعي.
  3. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: للعلامة محمد بن أحمد الشربيني الخطيب المتوفى سنة (1977هـ) ط: مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر عام (1377هـ).

من كتب الفقه الحنبلي:

  1. المغني: لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة (630هـ) ط: دار الحديث – القاهرة.

ثالثًا: كتب اللغة العربية:

  1. القاموس المحيط: لمجد الدين الفيروزأبادي، ط: دار الحديث – القاهرة.
  2. لسان العرب: للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري – ط: دار الفكر – بيروت – لبنان.
  3. مختار الصحاح: للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي، عني بترتيبه الأستاذ / محمود خاطر، ط: دار الحديث – القاهرة.
  4. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي: للعالم العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة (770هـ) ط: المطبعة الأميرية بالقاهرة (1928هـ)، الطبعة السابعة.

[1] صحيح مسلم ح85, 1/89 , دار إحياء التراث العربي – بيروت, تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

[2] صحيح مسلم ح614, 1/429.

[3] سنن ابن ماجه ح 224, 1/81, دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي, تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. وقال الحافظ العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: “رواه ابن ماجه من حديث أنس وضعفه أحمد والبيهقي وغيرهما” إحياء علوم الدين 1/2, وقال البيهقي في شعب الإيمان: ” متنه مشهور وإسناده ضعيف وروي من أوجه كلها ضعيفة” 2/724, قال المناوي في تخريج أحاديث المصباح: ” في إسناده حفص بن سليمان ابن امرأة عاصم ثبت في القراءة لا في الحديث وقال البخاري تركوه” 1/161, وقال العجلوني في كشف الخفاء: “فيه كذاب” 1/161, وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 1/347, قال المنذري في الترغيب والترهيب: ” لا يتطرق إليه احتمال التحسين” 1/75.

[4] الأم :ج١، ص٢٧٤

[5] راجع : شرح الكوكب المنير:ج١،ص٢٧٦،٢٧٥.

[6] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى