fbpx
اوروبا وامريكاترجمات

فورين أفيرز: النهاية الحقيقية للسلام الأمريكي .. باكس أمريكانا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في 13 يونيو 2013 مقالا كتبه مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بعنوان: “النهاية الحقيقية للسلام الأمريكي–باكس أمريكانا”، حيث يرى بأن الغزو الروسي لأوكرانيا يشكل تهديداً للنظام الدولي الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واعتمد بشكل رئيسي على القوة الأمريكية، وبالتالي نهاية هيمنة ما يُعرف بالسلام الأمريكي أو باكس أميركانا، والبدائل المطروحة لذلك، وخاصة في ظل العداء المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين. وقد جاء المقال على النحو التالي:

غالباً ما يوصف النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية بأنه نتاج للقوة الأمريكية. فقد فرضت الولايات المتحدة المنتصرة، مع حلفائها، إرادتها على بقية دول العالم، من حيث صياغة المؤسسات (الدولية) والمعايير التي تخدم مصالحها وتؤكد أسبقيتها على دول العالم. ولكن هذا النظام هو أيضاً نتاج للضعف “المصطنع” لكل من ألمانيا واليابان، إلى حد ما قد لا يحظى بالتقدير الكافي من المراقبين. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن ما بعد عام 1945، تحاشى كلا البلدين (ألمانيا واليابان) عمداً وضع ‘القوة العظمى’، وتبنَّيا مقاربات سلمية في سياستهما الخارجية.

وبعبارة أخرى، فإن الوضع الفريد للاقتصادات التي تشغل المركز الثالث والرابع على مستوى العالم يتربع في قلب النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن هذا النظام أصبح يبدو طبيعياً للكثيرين في الغرب، إلا أنه في الحقيقة يستند إلى حالة غير طبيعية يمكن القول إنها: التهدئة القسرية – بسبب الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ – لدولتين كان من المتوقع أن تصبحا دول إقليمية مهيمنة في حقبة ما قبل الحرب الحديثة.

يهدد الغزو الروسي لأوكرانيا – وكذلك العداء المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين – بقلب هذا الوضع الراهن رأسا على عقب، ومعه بالطبع “باكس أمريكانا” أو هيمنة السلام الأمريكي، وهو الوضع الذي صمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. وفي معرض ردها على عدوان موسكو، أعادت ألمانيا توجيه سياستها الخارجية بشكل أساسي، وتعهدت بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل جذري واتخذت موقفاً متشدداً تجاه أزمة أوكرانيا. ويبدو أيضا أن اليابان، التي تشعر بالقلق من سعي الصين إلى الهيمنة الإقليمية، هي أقرب من أي وقت مضى إلى تبني تحول مماثل لما فعلته ألمانيا.

وعلى المدى القصير، قد تعجل هذه التحولات بمسألة توحيد الغرب أو حتى إعادة إحيائه من جديد. ومؤخراً رفعت الحرب في أوكرانيا من معدل اعتماد ألمانيا واليابان على الولايات المتحدة، وأدت إلى الوصول لمستويات من التعاون معها لم نشهدها منذ الحرب الباردة. ولكن إذا استمرت ألمانيا في مسارها الجديد وشرعت اليابان في مسار مشابه لذلك، فقد يحدث عكس ذلك تماماً، حيث ستصبح كلتا الدولتين أقل اعتماداً على الولايات المتحدة وأكثر ارتباطاً بجيرانهما.

مثل هذا التحول من شأنه أن يغير بشكل معمق ليس فقط النظام الأمني ​​في أوروبا وآسيا ولكن ديناميات العالم الغربي كذلك – وبالتحديد في اللحظة التي تنتقل فيها الحرب العالمية الثانية من حيز الذاكرة إلى صفحات التاريخ. فمن ناحية، سوف يفسح انزواء “باكس أمريكانا” الطريق لتكريس أنظمة أمنية إقليمية أكثر تعاوناً. ومن ناحية أخرى، سيتعين على الولايات المتحدة إعادة تشكيل تحالفاتها، ومعاملة الحلفاء كأصحاب مصلحة حقيقيين بدلاً من معاملتهم كشركاء صغار. قد يكون الانتقال مؤلماً وصعباً لواشنطن على المدى القصير. ولكن على المدى الطويل، ستكون هذه التغييرات ذات فائدة كبيرة للنظام العالمي وحتى للولايات المتحدة نفسها.

نقطة التحول

بعد أربعة أيام فقط من غزو روسيا لأوكرانيا، ألقى المستشار الألماني الذي يتسم بالحذر في العادة، أولاف شولتز، خطاباً ثورياً أعلن فيه عن “نقطة تحول” – كما تُرجمت من الألمانية – في السياسة الخارجية الألمانية. وقد كانت التحولات التي وضعها شولتز شديدة العمق حتى إنها قد تكون بمثابة تغيير في هوية الدولة نفسها. حيث قررت برلين تزويد أوكرانيا بالأسلحة بعد عقود من مقاومة تسليح المتقاتلين في أي منطقة صراع، وإنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتحديث قواتها المسلحة بعد سنوات من التباطؤ الشديد في الإنفاق الدفاعي، وإنهاء اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة بعد سنوات من محاولات إحداث تحول في روسيا من خلال العلاقات الاقتصادية معها.

وقد أدى الإعلان عن هذه التغييرات الأساسية إلى إشعال النقاش بشكل أوسع حول ما يمكن أن تعنيه نقطة التحول تلك، ليس فقط بالنسبة للجوانب المختلفة للسياسة الألمانية، ولكن أيضاً بالنسبة للدور الأوسع للدولة في العالم. ويرى بعض المحللين أن ألمانيا إنما تستيقظ متأخراً على طبيعة مسؤولياتها بعد عقود من الانتفاع الجيوسياسي المجاني، لكن كثيرين آخرين انتقدوا وتيرة التغيير البطيئة ويخشون أن السياسة الجديدة التي تبنتها برلين لن ترقى إلى مستوى التوقعات.

كان للنقاش الدائر حول نقطة التحول هذه في ألمانيا تأثير قوي على اليابان، حيث بدأ مسؤولو الدفاع والأمن يدركون تنامي العدوانية لدى الصين. إن مواجهة قوة صاعدة في مقابل قوة متراجعة مثل روسيا تضع اليابان في موقف أكثر تعقيداً من الموقف الذي تجد ألمانيا نفسها فيه – ويمكن القول أيضاً بأنه وضع أكثر خطورة على المدى الطويل. في عام 2005، كان لدى اليابان والصين ميزانيات دفاعية متطابقة تقريباً. أما الآن، فميزانية الدفاع الصينية تفوق ميزانية اليابان بخمسة أضعاف؛ وبحلول عام 2030، من المتوقع أن تبلغ تسعة أضعاف. (على سبيل المقارنة فقط، كانت ميزانية الدفاع الروسية أكبر بنسبة 18 في المائة فقط من ميزانية ألمانيا قبل أن تعلن برلين عن نقطة تحولها مؤخراً).

رداً على عدوان موسكو، أعادت ألمانيا توجيه سياستها الخارجية بشكل أساسي

ومن أجل الحفاظ على وضع أقرب إلى التوازن في المنطقة، اتبعت اليابان استراتيجية ثلاثية المحاور:

 – أولاً، زادت طوكيو من إنفاقها الدفاعي بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة، من 45.1 مليار دولار في 2017 إلى 54.1 مليار دولار في 2021. وقد ناقش الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان ضرورة أن تهدف البلاد إلى إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، مما يعني مضاعفة ميزانيتها الحالية.

– ثانياً، سعت اليابان إلى تعميق تحالفها مع الولايات المتحدة. فقد بدأ الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم مناقشات داخلية حول الردع النووي، بما في ذلك القضية المثيرة للجدل المتعلقة باتفاقية مشاركة نووية محتملة مع واشنطن، والتي من شأنها أن تلزم طوكيو بالمشاركة في المشاورات حول الأسلحة النووية واستخدامها كجزء من هيكلية لصنع القرار المشترك.

– كما تعيد اليابان صياغة علاقاتها الأمنية مع شركاء آخرين في المنطقة، لا سيما أستراليا والهند والفلبين وسنغافورة وفيتنام.

وتعمل طوكيو الآن على دمج هذه التغييرات في إستراتيجية جديدة للأمن القومي سيتم نشرها بحلول نهاية العام.

وتنعكس هذه الاستراتيجية الناشئة في استجابة اليابان للغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يختلف بشكل ملحوظ عن ردها على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014. ففي ذلك الوقت، سعت اليابان إلى الحفاظ على علاقات مستقرة مع موسكو؛ فجزئياً كان ذلك التوجه للتحوط ضد بكين، وجزئياً – تماما مثل ألمانيا – كان من أجل الحصول على طاقة رخيصة من روسيا.

ولكن هذه المرة، اقتربت اليابان من تعليق علاقتها الثنائية مع روسيا، وانضمت إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية في فرض عقوبات على موسكو، وقدمت مساعدات مالية، بالإضافة إلى مساعدات عسكرية غير مميتة، لأوكرانيا. لقد قامت اليابان بذلك جزئياً لتقوية علاقاتها مع واشنطن، ومن ناحية أخرى لخشيتها من أن تتجه الصين إلى شن هجوم مماثل على تايوان. حيث تريد اليابان فرض تكاليف باهظة على روسيا حتى تدرك الصين الرسالة: في حالة غزو تايوان، ستطغى عليكم العقوبات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

“قوى عادية”؟

وعلى مر السنين الماضية، أجرت ألمانيا واليابان العديد من النقاشات الوطنية حول أن تصبحا مجرد “قوتين عاديتين”، وقد تحركتا تدريجياً في هذا الاتجاه. أصبح كلا البلدين الآن أكثر نشاطاً عسكرياً مما كان عليه منذ عقود، لكنهما ما زالا أقل من المتوقع بسبب الضرورات الاقتصادية. لكن الحرب في أوكرانيا يمكن أن تغير ذلك كله.

وتواجه كل من ألمانيا واليابان لأول مرة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تهديدات لا يمكن الهروب منها. فبعد إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، كان المستشار الألماني هيلموت كول مولعاً بالقول إن البلاد “محاطة بالأصدقاء والشركاء فقط”. أما الآن، يبدو أن هناك إجماعاً مجتمعياً في ألمانيا على أن هذا الوضع قد تغير: وحتى قبل أن تبدأ موسكو غزوها لأوكرانيا، زعم أكثر من نصف الألمان الذين شاركوا في استطلاع تم إجراؤه في يناير 2022 بأن موقف روسيا من أوكرانيا يشكل تهديداً عسكرياً كبيراً لبلادهم. ويخشى كثير من اليابانيين أيضاً من أن الحرب على تايوان قد تكون هي الحرب التالية بعد أوكرانيا.

وتُظهر استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى من الجمهور الياباني قلقون من أن الحرب الروسية على أوكرانيا ستؤثر على طريقة تعامل الصين مع نزاعاتها الإقليمية. وكما أخبرني نائب رئيس المعهد الوطني للدراسات العليا في طوكيو، ناروشيج ميتشيشيتا، “إذا كانت هناك حرب في مضيق تايوان، فستشارك اليابان تقريباً بشكل تلقائي، حيث تستوعب اليابان القواعد الأمريكية والتي ستهاجمها الصين.”

ومن المتوقع أيضاً أن يكون هناك موقف أمني أكثر قوة بالنظر إلى تغيير الأجيال: فالشعور بالذنب لدى ألمانيا واليابان آخذ في التلاشي بالتوازي  مع رحيل آخر جناة وضحايا الحرب العالمية الثانية الذين لا يزالون على قيد الحياة. وكما جادل المؤرخ أندرياس ويرشينج، فإن الحرب في أوكرانيا تعمل على تسريع انفصال ألمانيا عن ماضيها النازي (بشكل مقلق، كما يراه). فبعد أن اتخذت موقفاً ضد موسكو، أصبحت برلين في نهاية الأمر “في الجانب الصحيح من التاريخ”.

ومع وجود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين، فإن هناك شرير آخر قابع في القارة الأوروبية متهم بارتكاب إبادة جماعية ومواصلة حرب إبادة. وفي هذه الأثناء، يطغى الخوف في اليابان من قوة الصين الصاعدة، على ذكرى الجرائم الماضية التي ارتكبتها هذه الدولة، سواء وسط الجمهور الياباني أو في العديد من العواصم الآسيوية الأخرى.

يتلاشى الشعور بالذنب لدى الألمان واليابانيين بالتوازي مع رحيل آخر جناة وضحايا الحرب العالمية الثانية

وأخيراً، قد لا تشعر ألمانيا واليابان أن بإمكانهما الاعتماد على الولايات المتحدة من أجل حماية أمنهما. فوفقاً لاستطلاع تم إجراؤه مؤخراً، يعتقد 56 % من الذين تم استطلاع آرائهم من الألمان أنه في غضون عشر سنوات، ستكون الصين قوة عظمى تفوق قوتها قوة الولايات المتحدة. وقال 53 % إنه لا يمكن الوثوق بالأمريكيين بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً في عام 2016، وقال 60 % إن ألمانيا لا يمكنها دائماً الاعتماد على الولايات المتحدة للدفاع عنها، وبالتالي يجب عليها الاستثمار في الدفاع الأوروبي.

وتشترك في هذه المخاوف حتى أكثر شرائح النخبة ذوي التوجهات الأطلسية. وكما أخبرني السفير الألماني السابق لدى الولايات المتحدة ولفغانغ إيشينغر، “الألمان محظوظون بوجود بايدن في البيت الأبيض حالياً، لكن ألمانيا بحاجة إلى خطة بديلة في حالة حدوث تغييرات كبيرة في السياسة الأمريكية”. ويعتقد إيشينغر أنه يجب على ألمانيا استكشاف إمكانية الحصول على ضمان نووي من فرنسا، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره حتى قبل بضعة أشهر.

ومع أن الشكوك حول القوة والموثوقية الأمريكية أقل وضوحاً في اليابان، فوفقاً لاستطلاع رأي تم إجراؤه في أبريل، يدعم ما يقرب من ثلثي اليابانيين تعزيز القدرات الدفاعية لليابان، وتتفق الغالبية مع اقتراح الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وقد أوضح كين جيمبو، المتخصص في الأمن ​​بجامعة كيو، أنه بعد الاضطرابات التي شهدتها سنوات حكم ترامب، يعتقد العديد من الاستراتيجيين اليابانيين أن البلاد بحاجة إلى زيادة الاستثمار في الدفاع عن نفسها و “التنويع (في العلاقات الأمنية) خارج نطاق الولايات المتحدة”. وقد راقبوا بقلق بالغ رفض واشنطن التدخل المباشر في أوكرانيا، بعد إبراز جوانب الاختلاف بين حلف شمال الأطلسي وحليف للغرب من خارج الناتو، والتحذير من مخاطر مواجهة روسيا ذات الترسانة النووية. وبحسب جيمبو، فالسؤال هو، “إلى أي مدى يمكننا (اليابان) الوثوق بالولايات المتحدة للدفاع عن تايوان في مواجهة التهديدات النووية الصينية”.

أعباء مشتركة

وقد أبرزت الحرب في أوكرانيا حتى الآن مدى احتياج ألمانيا واليابان للولايات المتحدة. وتشير ردود أفعال كلا البلدين إلى التوجه لإحياء – بل وحتى توسيع – تحالفاتهما التقليدية مع واشنطن على المدى القصير. فلم تكن طوكيو فقط هي التي وقفت إلى جانب الغرب وانضمت إلى نظام العقوبات ضد روسيا، بل إن برلين أيضاً أعادت التزامها بحلف الناتو، وأعطت إشارات بأنها تخطط لشراء طائرات مقاتلة أمريكية من طراز إف-35، وقررت كذلك بناء محطات للغاز الطبيعي المسال تسمح لها بشراء الولايات المتحدة عوضاً عن الغاز الروسي.

ويأمل ذوو التوجهات الأطلسية في ألمانيا بأن تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى ربط الولايات المتحدة بأوروبا وإعادة إنشاء نموذج الحرب الباردة الذي تقود فيه الولايات المتحدة وتساهم أوروبا بقدر ما يجب عليها. لكن التحولات في سياسات الدفاع الألمانية واليابانية يمكن أن تخلق على المدى الطويل ترتيباً مختلفاً بشكل كبير، وتؤدي إلى تغيير النظام الإقليمي في أوروبا وآسيا، وإلى تحويل تحالفات كلا البلدين مع الولايات المتحدة.

ومن المرجح أن يتزامن تصاعد القوة لألمانيا واليابان مع تقلص قوة الولايات المتحدة على المدى الطويل (تقلص القوة الاقتصادية والعسكرية لواشنطن نسبياً)، وهو اتجاه من غير المرجح أن يتغير في ظل الحرب في أوكرانيا. وستضطر الولايات المتحدة إلى تركيز مواردها المحدودة على التحديات التي تفرضها الصين. كما جادل محللون مثل روبرت كاجان بأن انزواء “السلام الأمريكي” قد يفسح المجال لتحل محله حالة من الفوضى العالمية. هذا ممكن بالتأكيد. لكن هذا ليس ما حدث تماماً في معظم أنحاء الشرق الأوسط، حيث كانت الولايات المتحدة أكثر انخراطاً في العقدين الماضيين وحيث تتراجع الآن بشكل كبير.

فقد وصف جوليان بارنز-داسي وهيو لوفات من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية كيف كان هناك اندفاع أولي في المنافسة الإقليمية بين إيران والمملكة العربية السعودية وفي الصراعات العسكرية التي اجتذبت قوى خارجية، مثل روسيا وتركيا. ولكن بعد ذلك تباطأت العديد من هذه الصراعات، وبدأت عمليات إعادة تنظيم كانت مدفوعة محلياً؛ وعلى سبيل المثال، ففي مؤتمر بغداد الذي عُقد في أغسطس 2021 تم دعوة الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية لتدخل في حوار مع بعضها البعض.

أما في أوروبا، فيمكن أن يؤدي تقليص إنفاق الولايات المتحدة إلى مزيد من السيادة بأوروبا، وذلك بمجرد أن يدرك الأوروبيون في نهاية الأمر بأن الحرب في أوكرانيا لن تدفع الولايات المتحدة إلى إيقاف محور تركيزها طويل المدى تجاه قارة آسيا. حيث يُعد أحد أسباب فشل الأوروبيين في تطوير سياسة خارجية مشتركة هو افتقارهم إلى الثقة في بعضهم البعض. لكن عدوان موسكو على أوكرانيا جمع الأوروبيين معاً جنباً إلى جنب، وأقنع الدول التي كانت تفضل سابقاً التعامل مع روسيا، مثل ألمانيا وإيطاليا، بتبني سياسة الاحتواء. وإذا استمر هذا التقارب، فبالإمكان أن نرى تحالفاً استراتيجياً أوروبياً حقيقياً، مدعوماً في نهاية المطاف بصناعة أسلحة أوروبية، وحتى من الممكن تصوره من خلال رادع نووي أوروبي أكثر انتشارا (أو على الأقل رغبة  فرنسا في تقاسم الرادع النووي الذي لديها).

وعلى المدى الطويل، يمكن لأوروبا صياغة إطار عمل مشترك لإدارة العلاقات مع القوى الأخرى، مثل روسيا وتركيا، بما في ذلك من خلال الردع وفض الارتباط الانتقائي لتقليل التوترات، وشكل من أشكال الحوار لمنع التصعيد. وبدلاً من الاستمرار في توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فقد تختار أوروبا ترتيبات متعددة الأطراف أصغر حجماً وأكثر مرونة تشمل بعضاً من أهم اللاعبين، مثل الرباعية في آسيا. وباختصار، فقد يصبح النظام الأوروبي آسيوياً بدرجة أكبر.

من المرجح أن يتزامن تصاعد قوة ألمانيا واليابان مع تقليص الإنفاق الأمريكي

في الوقت نفسه، سيكون من المرجح أن تصبح آسيا أكثر أوروبية. إذ ستحافظ الولايات المتحدة على تحول اهتمامها إلى المحيطين الهندي والهادي، لكن وزنها الاقتصادي والعسكري سوف يتقلص مقارنة مع وزن الصين. ولذلك، فمن المحتمل أن تعزز طوكيو والقوى الإقليمية الأخرى علاقاتها مع الولايات المتحدة ولكن في نفس الوقت ستستمر في التنويع بعلاقاتها بما يتجاوز تحالفاتها التقليدية مع واشنطن. وكما قال ميتشيشيتا: “ما نحاول القيام به هو دعوة المزيد من الأصدقاء للانضمام إلى التحالف بين اليابان والولايات المتحدة.”

 وبالفعل بدأ يظهر نظام آسيوي جديد يشمل العلاقات مع الولايات المتحدة وتعاون أوثق بين قوى مثل أستراليا والهند واليابان والفلبين وسنغافورة وفيتنام. يقول جيمبو إن الدول الآسيوية لن تشكل تحالفاً شبيهاً بحلف شمال الأطلسي، بل ستزيد من التعاون في مجالات مثل الاستخبارات والأمن البحري وإنفاذ القانون. وقد دث بالفعل مستوى معين من التكامل الإقليمي في مجال في التجارة والتبادل التجاري دون مشاركة واشنطن من خلال الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادي – التي تشكلت بعد انسحاب الولايات المتحدة من سابقتها – وكذلك ‘الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة’.

أما فيما يتعلق بالأمن، يمكن أن يظهر تقسيم أكثر توازناً للعمل. حيث سيتعين على الأوروبيين تحمل المزيد من المسؤولية المباشرة عن الأمن في أوروبا الشرقية والبلقان والشرق الأوسط. أما في آسيا، فسيتعين على القوى الإقليمية أن تستثمر أكثر في قدراتها الخاصة لموازنة النفوذ الصيني في المنطقة.

وعلى حد قول إلبريدج كولبي، الذي شغل منصب نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي في إدارة ترامب، في مقابلة مع نيكاي آسيا: “تقع الولايات المتحدة على بعد 5000 ميل من اليابان وتايوان، لذلك نحن بحاجة إلى أن تفعل اليابان المزيد.” وبما أن المسارح الأوروبية ومنطقة المحيطين الهندي والهادي أصبحت أكثر ارتباطاً – ليس أقله من خلال التقارب الصيني- الروسي – فمن الممكن أن تدعم القوى الأوروبية والآسيوية بعضها البعض. قد تطلب اليابان وكوريا الجنوبية، على سبيل المثال، من الأوروبيين الرد بالمثل على دعمهم لفرض عقوبات على روسيا. وقد تكون النتيجة هي أنظمة إقليمية أكثر تعقيداً، حيث لا تزال الولايات المتحدة تلعب دوراً مهماً ولكنها لم تعد تحتل الصدارة.

شكل مختلف من التحالف

تأمل إدارة بايدن أن تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى تعزيز التحالف العالمي للديمقراطيات، ووضع كل من روسيا والصين في موقف دفاعي. ونتيجة لذلك، تعتبر بكين هذا الصراع حرباً بالوكالة تهدف جزئياً إلى إضعاف الصين من خلال إقناع الدول الآسيوية بالمقارنة بين أوكرانيا وتايوان. وبالطبع فإن الوجه الآخر للعملة هو جهود واشنطن لإقناع الأوروبيين بأنهم إذا أرادوا الاستمرار في الاستفادة من الدعم الأمريكي، فسوف يتعين عليهم التحالف مع الولايات المتحدة ضد الصين.

ولكن نظراً لأن ألمانيا واليابان أصبحتا الآن أكثر قوة وأكثر انخراطاً في أنظمة الأمن الإقليمية الخاصة بهما، فمن المرجح أن تصبحا أكثر حزما أيضاً في وضع أجنداتهما الخاصة. وهذا بالضبط هو ما حدث في الشرق الأوسط، حيث أدى الحد من الإنفاق الأمريكي الدول أقل رغبة في اتباع نهج واشنطن دون الحصول على شيء في المقابل. وعلى سبيل المثال، فقد رفضت المملكة العربية السعودية طلبات الولايات المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا وزيادة إنتاج النفط لتلبية لحاجيات الطلب المتزايد. وبدلاً من ذلك، عملت الرياض مع موسكو للإبقاء على أسعار النفط عند مستويات مرتفعة. وحتى حلفاء الولايات المتحدة الآخرون في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، فقد قاموا بالمثل من حيث مقاومة مطالب الولايات المتحدة.

ويبدو أن العديد من المحللين والمسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن الدَيْن التاريخي لحلفاء الولايات المتحدة يعني أنه من المتوقع أن يقفوا إلى جانب الولايات المتحدة ضد الصين في الكثير من المجالات ولكن بتكلفة أكبر. وقد قدم ترامب التوضيح المثالي لهذا الوضع عندما هدد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) بينما كان يطالب الأوروبيين بحظر شركة هواوي الصينية العملاقة للتكنولوجيا من شبكات الجيل الخامس.

لكن التغييرات الجارية في برلين وطوكيو تشير إلى أن نوعاً مختلفاً من العلاقات يلوح في الأفق، من حيث علاقة أكثر توازناً من التحالفات التي أسست لها واشنطن وحافظت عليها في فترة ما بعد الحرب. ومع انخفاض الأهمية النسبية لمساهمات الولايات المتحدة الدفاعية وارتفاع تكاليف الانحياز، يبدو من غير المرجح أن تكون واشنطن قادرة على الاعتماد على تلقي الدعم التلقائي منهما. وبدلاً من ذلك، سيتعين على الولايات المتحدة أن تعتاد على علاقات أكثر تعاوناً وإنصافاً يتم فيها كسب هذا الانحياز.

نعم سيؤدي هذا إلى إيجاد تحديات وإثارة صداع في البداية، خاصة وأن واشنطن مجبرة على كبح جماح توجهاتها أحادية القطب. ولكن إذا ثبت أن النظام الدولي الجديد مستقر ويساعد في تعزيز المصالح الأمريكية، فقد يبدأ دافعو الضرائب الأمريكيون مرة أخرى في رؤية شبكة التحالفات للبلاد على أنها أحد الأصول الهامة وليس مجرد استنزاف للموارد العامة. لا يمكن فقط تقاسم عبء توفير الأمن بشكل أكثر إنصافاً في مثل هذا النظام، ولكن الولايات المتحدة وحلفائها سيكونون قادرين أيضاً على وضع معايير وتعزيز القيم الليبرالية التي، على الرغم من أنها لن تكون أمريكية صافية، إلا أنها ستكون بالتأكيد أمريكية أكثر منها صينية. وبعبارة أخرى، فإنه يمكن أن يتيح أفول السلام الأمريكي أو “باكس أمريكانا” الفرصة لنموذج تعاوني جيد للقيادة المشتركة، وليس للفوضى.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close