fbpx
كتب إليكترونية

كتاب الثورة 12 الإمبراطورية الأمريكية

صعود راسخ واضمحلال مراوغ

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مع وصول سفن الرجل الأبيض إلى سواحل القارة الأمريكية، ظهر مصطلح “العالم الجديد”، ثم ومع قيام الجنود الأمريكيين، هواة جمع التذكارات، بمقايضة السجائر والشوكولاتة بمسدسات جنود الجيش الألماني المستسلمين لهم في نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبح الطريق مفتوحا أمام “العالم الجديد” ليحكم “العالم كله”.
هناك ـ بالقطع ـ استكشافات أخرى لسواحل الأمريكيتين سبقت سفن الرجل الأبيض، وأمارات أخرى لسيادة “الإمبراطورية الأمريكية” سبقت حسم الحرب العالمية الأولى، بالضبط كما أن هناك علامات لحياة الجنين تسبق “صرخة الميلاد” التي لا يعتد إلا بها بداية للعمر.
ولم يقتصر التغيير ـ المؤثر والباقي ـ الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى في بنية العالم على:
1 ـ إسقاط الدولة الجامعة للمسلمين “الخلافة الإسلامية”.
2 ـ إقامة الدولة الجامعة لليهود.
لكنه تضمن أيضا فتح الطريق أمام الإمبراطورية الأمريكية للهيمنة على العالم، الذي أصبح مجالا مفتوحا، مكونا من كيانات ضعيفة على الأصل، أضيفت إليها أوربا، القوية سابقا، والتي أنهكتها الحرب، وأسقطت منها ثلاث إمبراطوريات كبرى، هي: إمبراطورية النمسا والمجر، وروسيا القيصرية، والإمبراطورية الألمانية.
وباستثناء البعد الديني في اضمحلال أوربا، حيث سقطت إمبراطوريتان كاثوليكيتان لتخلفا جمهوريات علمانية، صعد فيها نفوذ البروتستانت واليهود، وسقطت أخرى أرثوذكسية مخلفة اتحادا شيوعيا للجمهوريات، فإن الأمر يمكن تلخيصه في سقوط الإمبراطوريات الأوربية “إمبراطوريات العالم القديم” لفتح طريق الهيمنة أمام الإمبراطورية القادمة من العالم الجديد، التي “ورثت” مجد كل هذه الإمبراطوريات مجتمعة، وكان “المنهج” هو أول ما استلمته الإمبراطورية الأمريكية من ميراثها، ليصعد بها من دولة نائية على الضفة الأخرى من المحيط، إلى قيادة العالم، وملخصه: فرض الضرائب الباهظة، وتوجيه حصيلتها للإنفاق العسكري من أجل غزو الدول الأخرى.
وعن اعتماد إمبراطوريات أوربا على هذا المنهج تقول دراسة عن “الطريقة التي احتلت بها أوربا العالم” نشرتها مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في أكتوبر/تشرين الأول 2015: “احتل الأوربيون 84% من العالم كله ما بين العامين 1492 و1914”. وتضيف: “قد يظن البعض أن سبب هيمنة أوربا على العالم أمر شديد الوضوح وهو الثورة الصناعية، بالإضافة لمناعة الأوربيين ضد بعض الأمراض، كالجدري الذي أباد العديد من السكان الأصليين في بعض الدول (في أمريكا نفسها في واقع الأمر). لكن السبب السابق وحده لا يمكنه تفسير غزو الأوربيين للأمريكيتين، حيث نجا العديد من سكان أمريكا الأصليين من الأوبئة. كما يفشل أيضًا في تفسير الاحتلال الأوربي للهند، حيث امتلك الهنود مناعة مماثلة ضد الأمراض. كما يفشل سبب “التصنيع” وحده في تبرير الأمر بأكمله، حيث استطاعت أوربا احتلال 35% من مساحة العالم قبل ظهور بوادر الثورة الصناعية”.
وتضرب المجلة مثلا بأن “بناء قصر فرساي الضخم كلف الملك لويس الرابع عشر أقل من 2% من حصيلة الضرائب. وذهبت بقية الأموال لتمويل المعارك والحروب.. بينما واجه القادة خارج أوربا محفزات مختلفة جذريا، وهو ما أبقى الكثير منهم في حالة ضعف عسكري. ففي الصين على سبيل المثال، تم تشجيع الأباطرة على خفض الضرائب والاهتمام بأسباب معيشة الناس بدلا من السعي للمجد العسكري”. وتوضح فورين أفيرز أنه “لهذا لم يتمكن القادة في كل مكان من ملاحقة الابتكارات الأوربية في المجالات الحربية والعسكرية”.
وتضيف “لأن الدول الأوربية صغيرة المساحة ومحدودة جغرافيا فكان بإمكان الأوربيين التعلم من أخطائهم بسهولة، واقتباس نجاحات جيرانهم. ومثلا عندما بنى ملك السويد غوستاف أدولفوس سفينة حربية ثنائية السطح فإنها غرقت سريعا بعد إبحارها. ولكن البحرية السويدية وغيرها من البحريات الأوربية تعلمت من هذا الخطأ سريعا، وبحلول القرن الثامن عشر كانوا يبنون سفنا ثنائية السطح أو حتى متعددة الأسطح، ولم تتميز فقط بكونها أكثر استقرارا، بل كانت أيضًا أكثر قدرة على المناورة وذات مدى حربي أكبر” .
وتؤكد فورين أفيرز أنه: “من دون التركيز أحادي التفكير على الحرب والقدرة العالية على فرض الضرائب، ما كان لأية إمبراطورية أوربية أن تقوم”.
وتشير المجلة إلى أن سبب “فقر السلطات الحاكمة” خارج أوربا كان قلة الضرائب المفروضة والمحصلة، ولهذا “ففي أواخر القرن الثامن عشر كانت الضرائب المفروضة على الفرد في فرنسا أعلى 15 مرة عن الصين” وكانت الضرائب المفروضة على الفرد في إنجلترا أعلى بأربعين مرة. “وحتى تلك الضرائب القليلة (في الصين) لم تذهب لتطوير ودعم نوع جديد من أساليب القتال”.
وترصد الدراسة أن تقدم أوربا العلمي والتقني كان يعني المزيد من الضرائب، التي أمكن فرضها بفضل الارتفاع الحاد في دخل الفرد، وفي العام 1914 كانت حصيلة الضرائب في فرنسا وألمانيا قد تضاعفت 15 مرة مقارنة بالقرنين السابقين، ولم تغير الزيادة الهائلة في الإيرادات من طبيعة إنفاقها، إذ ظلت النفقات الحربية تلتهم القسط الأوفى منها.
وتشير فورين أفيرز إلى أن المغامرين والمستكشفين الأوربيين كانوا نقطة في سياق هذا المنهج، إذ لم يكونوا أكثر من صائدي كنوز ورسل غزو. وفي نهاية الدراسة تقول المجلة “أعطت الحروب والأموال الكثيرة المنفقة عليها سبقا كبيرا جدا للأوربيين في مجال التقنيات العسكرية، مكنهم في النهاية من احتلال أغلب دول العالم وإبقاء شعوبها تحت السيطرة من دون الحاجة لأعداد كبيرة من الجنود الأوربيين في الخارج. ومن دون هذه المزايا ربما كان الأوربيون سيصبحون أغنياء في النهاية، بل وربما يتجهون للتصنيع مبكرا، لكنهم لم يكونوا ليهيمنوا على العالم في العام 1914” .
هكذا إذا، إمبراطورية لا ترى في السكان المحليين مواطنين بل تراهم “أقنان أرض” و”ثيران طواحين” عليهم الاستمرار في العمل المضني، الذي يسلمون عائده ـ مجبرين ـ للإمبراطورية، التي تسمي حصيلة عملهم “دخلها”. ولا ترى في الشعوب الأخرى إلا طرائد لا حق لها في امتلاك ثروات أرضها، بل إن هذه الطرائد نفسها مجرد جزء من هذه الثروات وهم ملك خالص للإمبراطورية، كعبيد فعليين، ربما تطورت طبيعة الرسن الذي في أعناقهم ليصبح ربطة عنق أنيقة، لكن جوهر الاستعباد مازال قائما، وإنتاجهم مجرد جزء آخر من دخل الإمبراطورية، الذي تنفق معظمه على مزيد من السلاح ومزيد من الحروب.
وفي سياق مقارنتها بين مثالي الصين وأوروبا، تشير دراسة “فورين أفيرز” إلى أن الصين الكبيرة القوية لم تشعر بتهديد يدفعها إلى التسلح، فقلت نفقاتها العسكرية، بينما كان الأمن هو الهاجس الأكبر لدول أوربا الصغيرة، التي لم تتوحد منذ إمبراطورية روما، فظلت أوربا تضاعف نفقاتها العسكرية حتى وصلت أعلى معدلاتها ـ بالنسبة للأعوام السابقة ـ في العام 1914، وهو العام نفسه الذي نشبت الحرب العالمية الأولى فيه (28 من يوليو/تموز) إيذانا بنهاية نمط “الإمبراطوريات” لصالح “إمبراطورية” واحدة نشأت على القاعدة نفسها: ضرائب تنفق على التسليح، وحروب تضمن الهيمنة، هي الإمبراطورية الأمريكية، التي تقارن دائما بروما وكثيرا ما تسمى روما الجديدة، وربما يفسر هذا الاسم “الولاء” الذي تبديه أوربا تجاهها، باعتبارها النسخة الجديدة من “الإمبراطورية الحامية”.
ولعل ما قالته فورين أفيرز، في هذه الدراسة، يكشف “السطر الخفي” الذي لم تصرح به دراسة أخرى، نشرتها المجلة نفسها في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، تحت عنوان “نهاية ـ أو تهاوي ـ البقية” بشأن ما اعتبرته “خرافة اقتراب الدول النامية اقتصاديا من الدول المتقدمة” والبقية المشار إليها في العنوان مصطلح يعبر عن القوى الاقتصادية محل الاعتبار من خارج العالم المتقدم. وفي التفاصيل أشارت المجلة إلى أنه منذ العام 1950كان الثلث فقط من الأسواق الناشئة قادرا على النمو بمعدل خمسة في المئة أو أكثر سنويا. وحافظ أقل من الربع على هذا المعدل لمدة عقدين، وواحد من عشرة لمدة ثلاثة عقود. بينما حافظت كل من: ماليزيا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وتايلند، وهونغ كونغ فقط على معدل النمو هذا لمدة أربعة عقود.
وفي الوقت نفسه، فشلت عشرات من الأسواق الناشئة في اكتساب أي قدر من القوة الدافعة للنمو المستدام . وترصد المجلة فشل كل التوقعات بشأن تمكن دولة ما من إزاحة الولايات المتحدة عن عرش القطب الواحد، مؤكدة أنها “باقية وتتمدد”، لأسباب عزتها إلى قصر نفس “البقية” وتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على القمة من حيث جودة التعليم الجامعي ومعدلات الابتكار، وهو ما بدا غير كاف للإقناع وحده، حتى جاءت الدراسة عن الطريقة التي احتلت بها أوربا العالم لتضيف السطر الناقص، وهو الروح الإمبراطورية، العسكرية بالضرورية، والتي تعتمد على نهب سكان مركز الإمبراطورية بالضرائب، واستعباد غيرهم بالغزو والاحتلال والحروب.
هذه الحقيقة لا تماري فيها الصين نفسها، حيث قال نائب رئيس مجلس الدولة، أي مجلس الوزراء، “وانغ يانغ” أمام المنتدى الاقتصادي الأمريكي الصيني المشترك الذي انعقد في شيكاغو نهاية 2016: “من تقود العالم هي الولايات المتحدة الأمريكية، لدينا فهم واضح لذلك، والصين ليس لديها أية أفكار ولا تمتلك القدرات لتحدي الدور القيادي لها”! وحسبك أن الإمبراطورية الأمريكية تحلق عاليا بثروة قدرها 72 تريليون دولار، مقابل 22 تريليون للصين، الثانية في الترتيب، ما يعني أن الصين أقل من ثلث أمريكا، وأنها ـ لكي تبدأ التفوق بفارق طفيف، عليها أن تزيد ثروتها 350%، وهو طموح بالغ الصعوبة في ضوء أن أمريكا ـ في الواقع ـ هي الأكثر قدرة على مضاعفة ثروتها، بفضل هيمنتها على أدوات الاقتصاد، ونفوذها السياسي المتعاظم.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن زيادة الثروة يعني زيادة القدرة العسكرية، التي يعني المزيد منها القدرة على تحقيق المزيد من الثروة، وهكذا في دوامة مضطردة من التغذية المرتجعة، انتقلت من الأسلاف الأوربيين عبر الحرب العالمية الأولى، إلى الإمبراطورية الأمريكية، التي كانت الحرب هي الظهور الأول لها باعتبارها “روما الجديدة” القادرة ـ وحدها ـ على حماية أوربا من خطر البرابرة!
التحول من دولة إلى إمبراطورية ـ الذي بات راسخا لا جدال فيه بعد الحرب العالمية الثانية ـ تحقق عمليا بفضل الحرب الأولى، وبدأ اقتصاديا، من قبل بدء مشاركة الولايات المتحدة في الحرب، حين تخطى إنتاجها إنتاج الإمبراطورية البريطانية بأكملها (المركز والمستعمرات) لتصبح الأجدر بحمل لواء العالمين الأنغلو ساكسوني والبروتستانتي، وبالتالي الأجدر بانتقال مركز قيادة العالم إليها، وكان تقدير الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون 1913 ـ 1921م” الذي صرح به في صيف العام 1916 أن “بريطانيا تمتلك العالم وألمانيا تريده”. وفي المقابل كانت الولايات المتحدة، حتى بدأت التحول في هذا التاريخ “مثالا للفساد المدني وسوء الإدارة والسياسات المدفوعة بالجشع”، كما يقول المؤرخ “آدم توز” في كتابه “الطوفان”، الذي يشير إلى أن اعتداء الغواصات الألمانية على سفن أمريكية لم يكن العامل الوحيد، ولا الحاسم، الذي دفع أمريكا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، بدءا من عامها الثالث (1917)، العام نفسه لسقوط روسيا القيصرية أمام الثورة البلشفية، التي حصلت على دعم ألماني، وأسفرت عن حكومة أخرجت روسيا من الحرب، لتنعم ألمانيا بجبهة شرقية آمنة، ويصبح بوسعها تركيز جهودها على الجبهة الغربية (فرنسا وبريطانيا) بأمل حسم الحرب لصالحها، ولكن هيهات، ففي هذه اللحظة بالضبط تدخلت الولايات المتحدة، مكثفة ضرباتها على ألمانيا بالتحديد، لتسقط بالحرب إمبراطوريتها التي ساهمت في إسقاط الإمبراطورية الروسية بالثورة.
في 1917 كانت أوربا تتداعى اقتصاديا، مقابل الصعود الأمريكي، فألمانيا تحت حصار اقتصادي معزولة عن التجارة العالمية، وبريطانيا اشترت في العام السابق (1916) معظم احتياجاتها من الولايات المتحدة أساسا، وكان عليها أن تدفع ثمن معظم استهلاكها من البترول، وثلثي استهلاكها من الحبوب، ونصف الذخيرة، وربع محركات الأسطول. وكانت فرنسا وإيطاليا في موقف مماثل، ولم يكن أمام هذه الدول المدينة إلا إصدار سندات بالدولار، وليس بعملتها، تضمن للأمريكيين سداد ديون بلغت قيمتها، في مطلع 1917، ملياري دولار.
وعلى الصعيد الداخلي، تحولت المصانع الأمريكية ـ عمليا ـ نحو الإنتاج العسكري، وكذلك حركة الصادرات، واتخذ الرئيس ويلسون الموقف الذي أدى إلى تكوين جنين الإمبراطورية الأمريكية، وهو جنين احتاج إلى كساد عالمي، عانت منه الولايات المتحدة كغيرها، وإلى حرب عالمية أخرى لإتمام مخاضه، والمخاض دائما دموي، والإمبراطورية لا تبالي بما يلقاه سكان مركزها، ولا أطرافها، ولا أتباعها، فالمهم هو أن تتزايد هيمنتها.
ذهب ويلسون إلى استغلال أمريكا قوتها لإخضاع القوى الكبرى المتصارعة، بدلا من الانضمام لأي منها، وهو موقف آتى أكله في نهاية المطاف، حيث إن الولايات المتحدة، وبرغم معاناتها من كساد العام 1920 كغيرها، فإنها خرجت من هذا الكساد وهي أكبر دائن وأكبر مالك للذهب في العالم، وبالتالي القوة صاحبة القرار في الغطاء الذهبي للعملات. وكان على المدينين، في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة، القبول بأحد خيارين: الأول: العودة إلى غطاء الذهب الأمريكي كما كان في العام 1913 (حيث الدولار يساوي 0.05 من الأوقية) ما يعني أنهم سيتحملون عبء الركود الأمريكي إضافة إلى الركود الخاص بهم، وهذا هو ما اختاره البريطانيون وحدهم، مفضلين دفع ثمن مضاعف للركود على المعاناة المستمرة. والآخر: خفض الغطاء الذهبي للعملة المحلية، ما يعني الاعتراف بانخفاض قيمتها إلى الأبد، وأن المودعين والمقرضين المحليين سيحصلون على عائد أقل مما ستحصل عليه أمريكا نظير ديونها، وهذا هو ما اختارته سائر دول أوربا، ونتيجة لهذا أصبحت في حال أسوأ من بريطانيا.
وقد طالبت الولايات المتحدة مدينيها بالسداد بدءا من العام 1919، واعتمد المدينون في السداد على أموال التعويضات التي حصلوا عليها من ألمانيا، وهي تعويضات كانت ألمانيا تدفعها بدعم من القروض الأمريكية التي حصلت عليها لتدفع منها للحلفاء الذين هزموها في الحرب من ناحية، والتي كانت ملزمة بسدادها لأمريكا من ناحية أخرى، يعني أنها كانت تدفع مرتين، ما جعل قدرتها على السداد تتضاءل، وبحلول العام 1931 توقفت ألمانيا عن الدفع للحلفاء تماما، ما جعل دورة السداد تنهار، إذ عجز الحلفاء بدورهم عن الدفع لأمريكا، وفي العام 1934 كانت بريطانيا مدينة لأمريكا بـ4.4 مليون دولار من قروض الحرب العالمية الأولى.
ويقول آدم توز: “كانت الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إصلاح هذا النظام المجنون، ولكنها لم تفعل”. ونتيجة لإحجامها هذا وضعت بذرة النظام العالمي القائم حتى اليوم، حيث سقطت الحكومات البرلمانية الممثلة للأغلبية، في ذلك العالم المتداعي، لصالح ديكتاتوريات عسكرية. وهي البذرة التي ستمر بتحولات الحرب العالمية الثانية، ثم السبعينيات، والتسعينيات، والعقد الأول من القرن الجديد، لتفضي إلى عالم مضطرب غير قابل للاستقرار، في ظل حكومات غربية تزداد تفتتا، تشكلها أقلية أو ائتلافات عارضة من أقليات، وحكم عسكري ـ بصيغ مختلفة ـ في جمهوريات الموز وآسيا وأفريقيا، يقوده قطب عالمي واحد، هو الإمبراطورية الأمريكية (1 )*.
وفي هذا العالم ليس متاحا للمسلمين إلا البقاء “في قاع البئر”، منذ هدمت الحرب العالمية الأولى دولتهم الجامعة، وحالت الثانية دون جمع شيء من شتاتها، بل إن طرح مسمى “العالم الإسلامي” في حد ذاته هو نتاج “للتصنيف العرقي الإمبراطوري للإسلام” كما تقول مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، في مقال عنوانه “كيفية اختراع العالم الإسلامي” منشور بتاريخ يونيو 2017، وفيه تقول المجلة: “أثار فرض ترامب ما يسمى الحظر الإسلامي جدلا شديدا. وعلى أية حال، فإن معناه الضمني هو أن هناك وجودا لمجتمع متجانس أجنبي من المسلمين على كوكب الأرض، وهي فكرة قديمة، حسبما يوضح المؤرخ “سميل أيدين” في كتابه “فكرة العالم الإسلامي”، حيث إن “مفهوم “العالم الإسلامي” ليس نتيجة “متطلبات دينية ولا مستوى فريد من التقوى الإسلامية”. بل هو نتاج “للتصنيف العرقي الإمبراطوري للإسلام”(2 )* التاريخي الغربي، من ناحية، و”للمقاومة الإسلامية لهذه الهوية العنصرية” من ناحية أخرى . وجعلت عملية التبادل هذه، التي تركزت في القرنين التاسع عشر والعشرين، فكرة العالم الإسلامي لمن هم خارجه وداخله ذات مغزى. ولا يشير المصطلح إلى مكان بل إلى سلسلة من النصوص التي طورها المسلمون، وغير المسلمين، للتنقل بين المفاهيم العرقية للإيمان، والغربة، والحداثة”.
هذا التصنيف “العرقي الإمبراطوري” للإسلام يعبر في حقيقة أمره عن الرغبة المحمومة في إبقاء الدولة الجامعة للمسلمين في قبرها، الذي حفرته الحرب العالمية الأولى، وجصصته الحرب الثانية، باختلاقها دولا قومية من أشلاء الخلافة للحيلولة دون قدرتها على الالتئام مرة أخرى، ولعبت “الحكومة العالمية” سواء في صيغتها الأولى “عصبة الأمم ـ أو عصبة الدول بالأحرى” أو الثانية “الأمم (الدول) المتحدة” دور “شاهد القبر” الذي يقول بوضوح: “لن نسمح بحكومة عالمية إسلامية، ولا بدور قيادي للمسلمين في حكومتنا العالمية”.
ونعود إلى مقال “كيفية اختراع العالم الإسلامي” الذي لا يكتفي بالإشارة إلى الدافع العنصري الإمبراطوري للحرب على المسلمين، لكنه يعود للربط بين هذه الحرب وبين الثورة المضادة محليا وعالميا، وبالتالي الربط بين مقاومة المسلمين وبين الثورة الإنسانية الواحدة ذات الساحات المتعددة، حيث تقول المجلة: “إن مشروع قانون مجلس الشيوخ رقم 68، الذي قدمه “تيد كروز” في يناير/كانون الثاني 2017، طلب من وزارة الخارجية الأمريكية إعلان جماعة الإخوان المسلمين، وهي منظمة سنية دولية، جماعة إرهابية. ومثلما نشر المخططون الاستعماريون الأوربيون فكرة “العالم الإسلامي” لإبلاغ ممارساتهم الإدارية، استولت بعض بؤر اليمين الأمريكي على مسمى “الإخوان المسلمون” لوصف المنظمات الإسلامية الدينية بأنها جبهات للإرهاب. وهذا هو المنطق الذي جعل منظمات حقوق الإنسان الإسلامية ـ مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية ـ يتم انتقادها باعتبارها منافذ للإخوان المسلمين. واستخدمت حكومات بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط ـ مثل مصر والسعودية ـ منطقا مشابها لتشويه سمعة الإخوان المسلمين، إذ قاد عبد الفتاح السيسي حملة قاسية ضد الجماعة وحلفائها المتصورين، كما روجت بعض دول الخليج ـ مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة ـ لدى الحس الشعبي العام أن الإخوان تهديد لأنظمتها المحافظة. وعلى غرار فكرة العالم الإسلامي، صار الإخوان رمزا انتشر في الغرب والشرق الأوسط لتحقيق أغراض سياسية، وهنا يثبت كتاب أيدين قيمة كبيرة من خلال الكشف عن الكيفية التي تشكل بها التحيزات العنصرية والحضارية والسياسية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، رؤى معاصرة للعالم الإسلامي داخله وخارجه” .
وهنا نرى الربط واضحا بين الثورة المضادة في أبعادها: العالمي والإقليمي والمحلي، حيث تلجأ واشنطن وأبو ظبي والقاهرة للحيلة نفسها، بالربط بين مسمى “الإخوان المسلمين” وبين “الإرهاب” ثم اعتبار كل من ينتمي للثورة أو للإسلام من “الإخوان” وبالتالي إدانته بـ “الإرهاب”.
وكالعادة تفضل الإمبراطورية الأمريكية ألا تخوض المعركة ـ كلها أو معظمها ـ بنفسها، بل تفضل توظيف العناصر المحلية، التابعة لها مباشرة، أو المتأثرة بنفوذها، أو بدعايتها، لخوض الحرب بدلا منها.
وفي هذا السياق دعونا نتذكر كيف استثمرت الإمبراطورية الأمريكية الحرب الأفغانية السوفيتية (25 من ديسمبر/كانون الأول 1979 ـ 15 من فبراير/شباط 1989) بكاملها لصالحها، حيث قال روبرت غيتس ـ المدير السابق للمخابرات المركزية الأمريكية، ووزير الدفاع السابق ـ في مذكراته “من الظلال” إن المخابرات الأمريكية بدأت بمساعدة الحركات المعارضة في أفغانستان قبل 6 أشهر من التدخل السوفيتي. ووقع الرئيس الأمريكي ـ آنذاك ـ جيمي كارتر، في 3 من يوليو/ تموز 1979 قرارا يسمح لمخابرات بلاده بحملات دعائية لتغيير موقف الشعب الأفغاني من الحكومة المقربة من السوفييت.
كانت واشنطن تعرف أطماع موسكو، منذ القياصرة، في أفغانستان، فمنحتها “دفعة صغيرة” في الظهر تشجيعا لها على التورط في حرب ما كان يمكن لها أن تنتصر فيها. ولتحرير “أرض المسلمين” من “الشيوعيين الملاحدة” راحت أمريكا تطالب العواصم العربية التابعة لها بالدفع مقابل توصيل أسلحة إلى “المجاهدين” عبر باكستان، وكانت أسلحة خفيفة تضمن إطالة أمد الحرب، من دون حسم، لمزيد من جني الأرباح، ومزيد من استنزاف الاتحاد السوفيتي، وعندما فطن السوفييت وصعدوا هجماتهم بالدبابات والطائرات، قدمت واشنطن ـ بالطريقة نفسها ـ الصواريخ القادرة على إسقاط الطائرات وتدمير الدبابات.
لكن “الصفقة” هذه المرة كان يمكن أن تورط أمريكا طرفا مباشرا في الحرب، إذ إنها الجهة الوحيدة التي تملك هذا النوع من الصواريخ، والسوفييت يعرفون ذلك، وكان الحل أن تأتي “البضاعة” من تل أبيب على أن تدفع الرياض، وتتولى القاهرة الوساطة، مقدمة أيضا جزءا من البضاعة، كما تتولى الشحن إلى باكستان، ومنها ـ عبر الحدود وبواسطة رجال القبائل المشتركة بين البلدين ـ إلى أفغانستان.
ولمزيد من التمويه، خرجت حملة إعلامية ضخمة، تمثلت في عشرات الكتب والمطبوعات، وشرائط التسجيل بالصوت والصورة، تتحدث عن “معجزات” في أفغانستان، حيث يقذف المجاهدون طائرات السوفييت المقاتلة بالأحجار فتسقط، ولم يقل أحد أن هذه الأحجار كانت من نوع “ستينغر (FIM-92 )” الصاروخ الأمريكي الشهير المضاد للطائرات، ولا أن أمريكا أسقطت الاتحاد السوفيتي بطريقة قريبة جدا من الطريقة التي اتبعتها ألمانيا لإسقاط روسيا القيصرية التي ورثها الاتحاد السوفيتي، ولا أن الإمبراطورية الأمريكية هي الرابح الوحيد من حرب دفع الأفغان ثمنها شهداء وجرحى ودمارا، ثم احتلالا أمريكيا صريحا، ودفع العرب ثمنها أموالا وتبعية واضطرابا أمنيا بذريعة “مكافحة الإرهاب”، ودفعت باكستان ثمنها مزيدا من النفوذ الأمريكي على أرضها، ومزيدا من الضعف في مواجهة الهند، خصمها الإقليمي والجار المنافس. لم يلتفت أحد لشيء من هذا، في غمرة الانشغال بمعجزة الحجارة التي تصطاد الطائرات (3 ).


الهامش

(1) مقابل حرص الإمبراطورية الأمريكية على تحصيل ديونها إلى السنت الأخير، بطريقة تاجر البندقية في اقتطاع رطل من لحم المدين، نجد إقدامها على خداع العالم وإهدار مدخراته بواسطة ما عرف بـ”صدمة نيكسون”. ذلك أن الدولار الأمريكي الذي صدر للمرة الأولى فى 1792م، أصبح من دون غطاء ذهبي (أي لم تعد الحكومة تتعهد لخامل الدولار بدفع قيمته ذهبا) منذ أول إصدار من الدولار الورقي في 1862م، ما أدى إلى حدوث تضخم كبير اضطرت معه الحكومة لإعادة الغطاء الذهبي في 1879م، لكنها ألغته مرة أخرى بسبب الكساد العظيم في 1933 ولمدة سنة واحدة، حيث عاد الغطاء الذهبي مرة أخرى في 1934م.
وبعد ذلك بعشر سنوات، 1944م، وقعت الولايات المتحدة، على رأس 44 دولة، اتفاقية “برايتون وودز”، التي أدت إلى اعتماد الدولار الأمريكي مرجعا لسعر عملات الدول الأخرى، حيث كانت تملك 75% من ذهب العالم، وكان الدولار هو العملة الرئيسية الوحيدة المغطاة بالذهب، ما جعل معظم دول العالم تعمل على تكديس احتياطياتها بالدولار الأمريكي، أملا في استبدالها بالذهب حين تحتاج إلى ذلك.
وهو أمل أطلق عليه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الرصاص أمام العالم كله، فيما عرف بصدمة نيكسون، إذ أعلن في العام 1973 إلغاء تعهد الحكومة الأمريكية بتحويل الدولار إلى ذهب، وذلك بعد أن توسعت الولايات المتحدة في طباعة الدولار لتغطية نفقاتها العسكرية مع تورطها في حرب فيتنام (1956 ـ 1975م) بحيث لم يعد كل الذهب الموجود لديها قادرا على تغطية قيمة الدولارات المطبوعة، كانت الدولارات تطبع سرا، حتى وقعت الأزمة، التي كان لابد أن تقع، في العام 1971م، عندما طالب الرئيس الفرنسي شارل دي غول الولايات المتحدة، تطبيقا لاتفاقية برايتون وودز، بأن تحول إلى ذهب 191 مليون دولار أمريكي، هي الاحتياطي الدولاري الموجود في البنك المركزي لبلاده، وكان سعر أوقية الذهب آنذاك 35 دولارا (سعرها الآن 1210 دولارات) ما أدى إلى عجز الولايات المتّحدة لاحقا عن تحويل أي دولارات إلى الذهب، وعالج نيكسون الأمر مستندا إلى قوة بلاده العسكرية وورطة الآخرين الاقتصادية معلنا ـ ببساطة ـ أن بلاده لن تسدد ما هي مدينة به من ذهب لدول العالم، التي لم يكن أمامها إلا الاستمرار في تكديس الدولارات، لأنها لو لم تفعل ذلك، ولو طرحت مدخراتها الدولارية للتداول دفعة واحدة، لانهارت قيمة الدولار وأصبح لا يساوي شيئا، ولفقدت هذه الدول ـ بالتالي ـ كل احتياطياتها النقدية، بعد أن أصبح الدولار مجرد ورقة ملونة، وأصبحت العملات الأخرى مجرد أوراق أخرى تساوي قدرا من أوراق الدولار الملونة.

(2) في حرب البوسنة (مارس/آذار 1992 ـ نوفمبر/تشرين الثاني 1995م) وقعت 26 مذبحة، قتل فيها أكثر من 200 ألف شخص، واغتصبت 60 ألف امرأة، ونزح 1.8 مليون لاجئ، فقط لأنهم من المسلمين الذين لم تستهدف المذابح غيرهم، والذين اعتبروا، ومازالوا، عرقا منفصلا، مع أنهم ينتمون إلى العرق السلافي الذي ينتمي إليه الكروات سواء بسواء، لكنه “التصنيف العرقي الإمبراطوري للإسلام”.

(3) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close