fbpx
كتب إليكترونية

كتاب الثورة 8- من أخذ بيد الجنرال وصولا إلى الانقلاب؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

“اللي كلف ما ماتش” عبارة اختصر فيها المصريون استشرافهم لمصير حراكهم الثوري بعد تكليف حسني مبارك “المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد” في 11 من فبراير/شباط 2011، معبرين عن أن من “كلَّف” هو كمن “خلَّف/أنجب” لم يمت، وأن الخلف سيواصل طريق السلف، ما يعنى نهاية الحراك. ولم يكن الاكتفاء بـ”السخرية” مع هذه الرؤية المأساوية تعبيرا عن “الاستخفاف” بقدر ما كان إدراكا لطول المسافة التي تفصل بين الحراك وبين الحسم.
يقول “بيتر دراكر” في كتابه “عصر الانقطاع The Age of Discontinuity ” إن “الثورة هي الزلزال أو الاندفاع البركاني الذي يطمس المشهد المألوف ويخلق مشهدا جديدًا. لكن هذه الثورات هي إلى حد كبير آثار التحولات في الأسس التي تسبقها وتجعل الثورات حتمية. وتنجم هذه الثورات عن عدم الاستمرارية: من خلال تراكم التوتر بين الواقع الجديد الكامن وبين مظهر المؤسسة الاجتماعية القائمة والسلوك المعتاد الذي لا يزال يتطابق مع حقائق الأمس الأساسية” (1 ).

الثورة ـ إذا ـ ليست حدثا يصنع (وليس أسوأ من تدليس من ادعوا أن “ميدان التحرير مفتوح في أي وقت” إلا حماقة من صدقوهم) لكنها مرحلة مفصلية في سياق مجتمعي يمهد أوله لها وينتج آخره عنها. الثورة ـ كما أخبرتكم من قبل ـ لا تهدم دولة قائمة لكنها تزيح أطلال دولة تحللت “ماتت والريحة سبقت طلعة أنفاسها”(2 ) وتمنع جثتها من مواصلة ادعاء الحياة. و”دراكر” يحدثنا عن الثورة باعتبارها ناتج تغير في البنية التحتية للمجتمع (أي قواعده البينية التي تقوم على أساسها علاقاته الكلية) لا يواكبه تغير في البنية الفوقية (الفكر والقانون ومرتكزات السلطة) ما يحدث خللا يصل إلى حد التناقض، الذي يعبر عنه حراك يؤدي إلى ثورة. ولم يكن مشهد “التكليف” يعلن افتتاح “حراك” لكنه كان يكرس “سلطة العسكر” وهي العدو الأساسي الذي قامت الثورة أساسا لإسقاطه وتفكيك مرتكزاته في الداخل والخارج، والمؤكد أن “تكريس السلطة” لا يمكن أن يكون مقدمة لسقوطها، وأن “دوامة الوعي الثوري” يصعب أن تتسع في ظل حكم المجلس العسكري، ما يعني أننا بصدد سقوط عنيف وسريع في جب “الثورة المضادة”.
بالنسبة للأقليات المتساندة كان المشهد يعني التزامها بالعودة سريعا إلى حدود 24 من يناير، محيطة بالجنرال، ومرجئة رغبتها في إعادة ترتيب أوضاعها إلى ما بعد العاصفة، ومخلصة لسلطته التي أدركت أنها مهددة بالانهيار، وأن انهيارها يؤذن بقيام سلطة الأغلبية ونهاية مكاسب الأقليات. وهكذا رأينا التفاف هذه الأقليات حول جنرالها، وفتح خزائن ثرواتها، وخبراتها، وصلاتها الإقليمية والدولية، وهو مشهد أكثر من منطقي، لكن ما بدا مجافيا للمنطق هو أن يشارك بعض المنسوبين للأغلبية في “مولد سيدي الجنرال” الذي انطلق في 11 من فبراير/شباط 2011، فيما وصفه الفريق “محمد علي بلال” بأنه “انقلاب متفق عليه” وهو وصف دقيق، مع تأكيد أن الانقلاب يظل انقلابا، سواء جاء بالاتفاق أم بالإكراه، فلا يمكن اعتباره إلا جريمة، والجرائم لا يبيحها رضا الأفراد بارتكابها.
كانت لقاءات ممثلي الأقليات المتساندة تتواصل مع شخصيات من العسكر، أحدها كان عبد الفتاح السيسي، وأبرزها أحمد شفيق وعمر سليمان، الذي قاد اجتماع الأحد 6 من فبراير/شباط، والذي ميزه عن غيره حضور د. محمد مرسي ود. سعد الكتاتني! وهو الاجتماع الذي استبق د. عصام العريان مشاركة الإخوان المسلمين فيه بتصريح نشره موقع “سي إن إن” يقول: “لم نغير موقفنا، قررنا أخذ مطالب الشعب لطاولة المفاوضات”. مؤكدا أن “الاحتجاجات الشعبية ستستمر ولن تستجيب لأوامر أو مطالب الحكومة المصرية بالتوقف” لأن “الضغط في الشارع وعلى طاولة المفاوضات سيؤديان لخروج معقول لمبارك ووضع سيناريو أكثر تناسباً لانتقال السلطة”.
وحسب الموقع نفسه، أشارت جماعة الإخوان المسلمين إلى أن “النظام قبل شروط الجماعة بوقف ومحاكمة رموز الفساد ومن تسبب بالأذى للشعب المصري على مدى 30 عاماً، وإتاحة حق التظاهر وعدم التعرض للمتظاهرين، ووقوف الجيش على الحياد”. وكلها عبارات لا تعني ـ رغم فخامتها ـ إلا القبول بإجهاض الثورة، التي قزمتها الصياغة لتصبح مجرد “احتجاجات شعبية” أثرها يوازي أثر “طاولة المفاوضات” والهدف منهما معا هو “سيناريو مناسب لانتقال السلطة” مع طمأنة الجميع ـ في الداخل والخارج ـ إلى توفير “خروج معقول لمبارك” فضلا عن الترويج لفرية “وقوف الجيش على الحياد” وخدع من قبيل “ضمان حق التظاهر” و”محاكمة الفاسدين”(3 ).

وكلها نقاط تقدم تصورا بائسا، لا يفرق بين “الثورة” و”عريضة الاسترحام” ولا يفكر في أكثر من تداول السلطة بين أشخاص ينتمون للدولة نفسها، وتحافظ خطتهم على بقائها بأدق تفاصيلها، وانظر ـ مثلا ـ إلى استحالة الجمع بين ما ذكر عن ضمان الخروج المعقول لمبارك (رأس الدولة المستهدفة بالثورة) وما ذكر عن محاكمة رموز الفساد ومن آذوا الشعب المصري! أليس مبارك أكبر رموز الدولة الفاسدة؟ أليس أبرز من آذوا الشعب المصري؟ بلى، لكن من قدموا هذا الطرح لم يبلغوا من “الثورية” الحد الذي يجعلهم يتصورون أن “الرئيس” سيحاكم! أو ـ لا سمح الله ـ سيعاقب!

ياللهول: أيحاكم ويعاقب وهو الرئيس؟ لا، بل يكفيه أن يعزل مغادرا السلطة بشكل “معقول” كما قالوا، ويكفي الجماهير التي يرونها غاضبة لا ثائرة، أن تفرغ غضبها في بعض الحاشية، عملا بعبارة دولة العسكر الخالدة “لا عيب في الرئيس لكن من حوله هم من يسيئون لصورته”! والأسوأ أن تأكيد “حياد الجيش” يعني التسليم ببقاء السلطة في يد العسكر (إذ لا يطلب الحياد إلا ممن يملك الانحياز، ولا يملك الانحياز إلا من يملك سلطة) مع التبشير بأن العسكر، وبضمان كلمتهم ليس إلا، لن يستخدموا سلطتهم وسيقفون على الحياد! ولك طبعا أن تسأل: الحياد بين من ومن؟ من هما طرفا الحياد؟ هل هناك أطراف غير الثورة؟ وتسأل فمن يمثل أنقاض الدولة التي أزاحتها الثورة إذا؟ ولي أن أسألك: وهل ينطوي هذا التصور على أية ثورة؟ بالقطع لا. لك أن تسأل: ما قيمة كلمة يقولها الفرعون وهو يغرق؟ وأسألك: وهل كان يغرق؟
الواقع أنه كان يمكن أن يغرق، لكنه لم يجد نفسه حتى مهددا بالغرق، ولا بأدنى منه، وليس هذا بسبب مساندة الأقليات له فقط، وقد ساندته، لكن السبب الأساسي هو المساندة المخلصة التي قدمتها قيادات، تنتمي إلى الأغلبية، للجنرال، ومازالت هذه القيادات، حتى الآن، تشكل “الفك الآخر” للكماشة التي وقعت الثورة بين فكيها، حيث الفك الأول هو منظومة العسكر بمكوناتها وأجنحتها وسوابقها ولواحقها وروابطها.
كانت الأقليات، التي أربك الجنرالَ حراكُها في 25 من يناير، لتعديل المواقع فيما بينها، قد أنهت اتفاقها معه على أن يجري، في الوقت المناسب، تعديلا يستجيب لتغير أوزانها داخل منظومته. وكانت الأغلبية التي أرعب حراكها حراس الجنرال وصناعه، قد أوكلت أمرها إلى قيادة انفصل كثير منها عن الأغلبية منذ زمن طويل، والتحق بمعية الجنرال، أو صار يطمح إلى الالتحاق بها، وراح هؤلاء المنفصلون يتصرفون في حدود الوعي بطبيعتهم كإحدى الأقليات المتساندة، أو في حدود طموحهم إلى أن يصبحوا منها. وهكذا وجد الجنرال نفسه محاطا بسياج من أقلياته، وممن يطمحون إلى اللحاق بركبها، ولم يشعر أبدا بما يدعو للخوف، بل وجد نفسه في موقف يجعله قادرا على التهديد، على نحو ما أثبت “عبد الرحمن يوسف” في مقاله “يوميات ثورة الصبارـ 9″(4 ) المنشور في “المصري اليوم بتاريخ الثلاثاء 19/4/2011، من أنه وبعض الشباب من حضور الاجتماع مع عمر سليمان أصروا على مطلب عزل مبارك، فرد عليهم “إذا أصررتم على هذا الطلب، سيرحل الرجل، وسوف يسلم البلد لإدارة عسكرية، وسنعود إلى نقطة البدء التى كانت فى عام 1952!” وانظر إلى الصياغة “يسلم البلد” كأنها ملكه يفعل بها ما يشاء، وإلى التهديد بالعودة إلى العام 1952 في تأكيد على أن ما جرى فيه لم يكن إلا انقلابا عسكريا، قبض فيه الجنرال على زمام السلطة بقسوة متخليا عن قناعه، وتلويح بأن “عناد” الثوار سيعيد الجنرال إلى القسوة نفسها، فهو باق في قلب السلطة لم يغادر موقعه، وليس هناك في الأفق ما يشير إلى أنه سيكون مضطرا لذلك، ولم تكن “القيادات الإسلامية” وفي القلب منها قيادات الإخوان المسلمين بعيدة عن حسابات الجنرال، من زاوية العمل لصالحه. صحيح أنهم كانوا حريصين على استبعاد “مبارك” وعلى إدانته كما ينبغي، وتصدوا لأدوات الداخل ومساعي الخارج التي تساعده، لكن من قال إن “مبارك” هو النظام، أو هو “حكم العسكر”؟ ومن قال إن العسكر اعتبروا الإبقاء عليه خيارا أساسيا؟ لقد بدا الأمر أشبه بسلخ جلد الأفعى، وهو ربما يؤلمها، لكنه يكون أيضا مفيدا لها، ومعبرا عن نموها، وفي كل الأحوال فإنه لا يكفي لقتلها.

لم يكن بمقدور الجنرال، ولا أقلياته المتساندة، ولا واشنطن وأزلامها، عرقلة مسار الثورة إلا بفضل استدراج حراك الأغلبية المستبعدة (الذي انطلق في 28 من يناير/كانون الثاني 2011) إلى فخ تبني خيارات الثورة المضادة، وأولها تكليف المجلس العسكري بالحكم في 11 من فبراير/شباط 2011، الفخ الذي سارت إليه ـ بين من سار ـ وخلفها الجماهير، قيادات إسلامية، مضللة أو سيئة التقدير أو بدافع من الانتهازية، أو لأن بعضها أصبح فعلا جزءا من الأقليات المتساندة.
وكان تعطيل العسكر للدستور، ثم الاستفتاء على تعديله (مارس/آذار 2011) هو المحطة الثانية، التي أدت إلى (شرعنة) انقلاب التكليف المتفق عليه. لم تكن الحاجة ملحة منذ الأصل لتعطيل الدستور، إذ إن الأمور استمرت وكأنه لم يعطل. وفي الاستفتاء، طرح المجلس العسكري تعديل 9 مواد من دستور 1971م، وأعلن أن الموافقة على التعديلات (نعم) تعني عودة العمل بهذا الدستور بعد تعديله لمدة 3 سنوات، بينما رفض التعديلات (لا) يؤدي إلى إلغاء الدستور وإصدار العسكر إعلانا دستوريا بمعرفتهم.
كان العسكر يضعون كل رهانهم على (لا) التي تجعلهم ينفردون بالدستور، والسلطات كلها، بعد انفرادهم بالسلطة التنفيذية، وكانت الوجوه التي تدعو إلى (لا) هي نفسها التي رأيناها تتصدر مشهد انقلاب 3 من يوليو/تموز 2013 بعد ذلك، إنها رؤوس الأقليات المتساندة، التي صورت للجنرال، بفضل كونها الأعلى صوتا، أنها قادرة ـ بإعلامها ومالها ـ على قيادة الجماهير، لهذا راهن بكل ثقله على ما أشارت به، راهن على (لا) قبل أن يفيق على خطأ تقديره، مكتشفا أن الأعلى صوتا لم يحصل إلا على 22% تقريبا، بينما حصل الأكثر حشدا على أكثر من 77% من أصوات المشاركين، وهم نحو 41% ممن يحق لهم التصويت (تقريبا 14 مليون ناخب قالوا نعم و4 ملايين صوتوا بلا). ولو تمسكت جماعة الإخوان المسلمين ومن حولها بهذه النتيجة، وأصرت على عودة الدستور المعطل لأسقطت من يد العسكر الورقة الأساسية التي عول عليها لإجهاض الثورة، ووضعت انقلاب التكليف على طريق الاحتضار، أو لفجرت ـ مبكرا ـ مواجهة كان العسكر سيرتكبون بخوضها خطأ كبيرا، وكان النصر فيها أقرب لجانب الثورة. لكن المجلس العسكري ـ وقد أدرك ورطته وخطأ تقديره ـ بادر ـ فورا ـ بالاعتذار لقيادات الجماعة وحلفائها، وضغط ـ مهددا تارة ومتعللا بالرغبة في الاستقرار تارة أخرى ـ مطالبا بإهدار نتيجة الاستفتاء، وبأن يظل من حقه وضع إعلان دستوري، يشترك فيه ـ من باب المصالحة ـ بعض (فقهاء) الجماعة وحلفائها. وهكذا تم ابتلاع الطعم (الرخيص) وأصبح من المتعذر الإفلات من الشص!
كان على الجميع الدفاع عن “إرادة الشعب” عن “الأغلبية المستبعدة” التي لم تقصر في بذل كل ما تملك مرتين: الأولى في ميادين الثورة، والأخرى في كل الاستحقاقات الانتخابية.
في ميادين الثورة قدمت “الأغلبية” وهي تتلمس أولى خطوات عودتها من منفى الاستبعاد إلى وطن الحضور تضحيتها الكبرى، حيث سالت دماؤها وأُزهقت أرواحها، وهي التضحية التي بيعت للجنرال بالموافقة على “انقلاب التكليف”! وأرجو أن تنفضوا عن رؤوسكم مسألة أنها موافقة جاءت “تحت التهديد” بالتصعيد من جانب العسكر، فلا أحد يمكنه أن يهدد شعبا ثائرا خرج منه الملايين إلى الميادين. الصحيح أن التهديد كان باستبعاد قيادات وكيانات من طاولة تقاسم السلطة، ولو كان لدى هؤلاء الحد الأدنى من الحصافة، أو الدراية بالقواعد، لأدركوا أن “الثورة لا تساوم” وأنهم بقبولهم المساومة يكونون قد قبلوا بنهاية الثورة أو نهاية دورهم فيها. ولأدركوا ـ في المقابل ـ أن “السلطة لا تقتسم” وأنها ـ كرأس المال ـ تتراكم حيث توجد، ما يعني أن كل وعود اقتسامها “برق خلب” وأكاذيب عسكر.
والحالة الأخرى التي قدمت فيها الأغلبية المستبعدة كل ما تملك كانت في الاستحقاقات الانتخابية، وأولها استفتاء الدستور، الذي لم تستجب فيه الأغلبية إلا لحسها الشعبي، لتصوت عكس تيار الإعلام وإغراءات مؤتمرات الفنادق والقاعات الفخمة، وتوجيهات السلطة. تصوت ضد خيار العسكر وبنسبة تزيد على ثلاثة من كل أربعة أشخاص. ومرة أخرى يهدر من غلبوا على أمر قيادتها هذا الإنجاز، متخلين عن إرادتها مقابل وعد بالمشاركة في سلطة قامت على جثة هذه الإرادة.
وكان إهدار إرادة 77% من الناخبين، تجربة أداء (بروفة) لإهدار إرادة الناخبين بعد ذلك، بحل مجلس الشعب (الذي شارك في اختيار أعضائه أكثر من 27 مليون ناخب، صوت أكثر من 10 ملايين منهم لصالح ائتلاف الحرية والعدالة) في 14 من يونيو/حزيران 2012، ثم إهدار إرادة الناخبين بالانقلاب في 3 من يوليو/تموز 2013 على الرئيس “د. محمد مرسي” المنتخب بأغلبية 51.73% من الأصوات.
وبعد هذه “المطاردة” الطويلة، التي حرص فيها العسكر (مستخدمين كل أدواتهم من منصة القضاء إلى الدبابة) على “استئصال” أي وجود للإخوان المسلمين، باعتبارهم رأس الجسر الأقوى للأغلبية التي يريدون إعادتها إلى حظيرة الاستبعاد، لضمان إخماد الثورة، بعد المطاردة التي رفض فيها العسكر (حتى وهم في أسوأ لحظات تراجعهم أمام الثورة) التسليم بأي تقاسم للسلطة، وبأية شراكة مع الإخوان (ولو في أدنى درجاتها)، وبرغمها، فمن المدهش أن نجد تبريرات تصدر من داخل الإخوان، أو من حولهم، تبدأ بتساؤل يقول إنهم لم يميلوا للجنرال وحدهم، فلماذا الاهتمام أكثر بنقدهم وحدهم؟ يا سادة: أنتم الفريسة، والجنرال الصياد والأقليات أدواته، وبديهي أن تحرص الفريسة دائما على أن تظل بعيدة عن الصياد، وألا تطمئن إليه، ولا تقترب منه، ولا تدعه يمسك بها بدعوى أنه يمسك بأدواته أيضا، إذ إن علاقة الصياد بأدواته نقيض علاقته بالفريسة.
إن هذا التبرير يشير إلى الإصرار على غياب التصور، الذي حدثتكم عنه منذ الفصل الأول مستحضرا عبارة لـ”عبدالقاهر الجرجاني” يقول فيها “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، وحسب التصور الكلي فإن دولة “حكم العسكر” التي تستهدف الثورة إسقاطها تتكون من “جنرال في القلب وأقليات متساندة من حوله وركنها الثالث استبعاد الأغلبية”. هذه هي الدولة التي قامت لإسقاطها ثورة كان “الإخوان المسلمون” منها في صدارة حراك الأغلبية المستبعدة، التي كان انتصارها يعني الخروج من سجن الغياب إلى أفق الحضور، بينما الهزيمة تعني البقاء في المعتقلات والمنافي وهوامش الدولة، أما حراك الأقليات المتساندة فكان، فقط، لإعادة ترتيب الأوضاع فيما بينها، على نحو لا يعني أكثر من أن تسبق إحداها الأخرى ـ أو تتأخر عنها ـ بخطوة. وعلى الأصل فإن هذه الأقليات جزء من منظومة الجنرال، كانت وستظل، فهل يجوز بعد هذا أن نقارن بين موقف الأقليات من الجنرال (حاميها وبؤرة جمعها) وموقف من ينتمي للأغلبية (عدو الجنرال المستبعد دائما من جانبه)؟ إن الأمر يشبه ضحية تبرر غفلتها تجاه اللص، لدرجة مساعدتها له على سرقتها، بقولها: ولماذا تحاسبني وحدي؟ ألم تر كيف كان صديق اللص وابنه وزوجته يساعدونه؟
ثم إن الاستدراج لم يتم عبر موقف واحد، ولم يتم في يوم وليلة، لنعذر من أخذوا به على غرة، كما كانت أصوات الإنذار، طوال الوقت، أعلى من وساوس الشياطين، من أول انقلاب التفويض، إلى الإصرار على استفتاء تعديلات الدستور، إلى إهدار نتيجته، إلى تصديق فقهاء قانون العسكر والالتزام بقانونهم الانتخابي، رغم أنه كان فخا واضحا، وكان إلغاء مجلس الشعب المنتخب “بناء عليه” مسألة وقت لا أكثر، إلى إدارة مجلس الشعب بمنهج ورجال “فتحي سرور” ومنهم أمينه العام “سامي مهران” المدان بالكسب غير المشروع، الذي اصطحبه “د. سعد الكتاتني” معه أثناء سفره لحضور مؤتمر البرلمان العالمي، بالمخالفة للقانون، إلى الموقف الهزيل من حل المجلس، إلى الافتتاحية الهزلية لمحاكمة مبارك ورجاله، إلى إصرار الرئيس المنتخب “د. محمد مرسي” على مجاراة العسكر ـ على نحو يسمح لهم بإظهاره شريكا في جرائمهم ـ مع الاكتفاء في مواجهتهم بمناورات محدودة تثير الشفقة، وتظهره متراجعا معظم الوقت، ومنها اصطحابه بعض لصوص المال العام على طائرته، وهم أنفسهم اللصوص الذين شوهوه إعلاميا وحاصروه اقتصاديا ومولوا تحركات “البروليتاريا الرثة” ضده.

وأذكر أنه بعد إعلان آخر نتائج انتخابات مجلس الشعب، طالبتُ بأن تنعقد جلسته الأولى في ميدان التحرير، حتى يجد “نواب الثورة” أنفسهم وسط حاضنتهم الشعبية، ويضيق الخناق على نواب الثورة المضادة، وربما يجدون أنفسهم، مع التكرار، مضطرين للانسحاب، لكن الرغبة في تصديق وعود “السلطة المستقرة” كانت أقوى أثرا من صوت النذير، وهكذا خرج رئيس البرلمان “د. سعد الكتاتني” بتصريحه الشهير “الشرعية للبرلمان وليست للميدان” ما جعله وبرلمانه أسرى في قبضة الجنرال وأقلياته يتلعبون بهم. كان التصريح، مع نداءات أخرى، يطالب الثوار بالانصراف من الميادين لـ”تدور عجلة الإنتاج”! هكذا قالوا، وكأن هذا الإنتاج مجرد آلة تدار بكبسة زر، وليس معبرا عن علاقات مجتمعية بالغة التعقيد، ومن دون أن يسألوا: وفي كيس من ستصب غلة هذا الإنتاج؟ ولما كان هذا النداء قادما ممن يفترض أنهم يمثلون الأغلبية (التي سيحرص العسكر على تسميتها من الآن فصاعدا بالإخوان) فإن أبناء هذه الأغلبية هم من استجابوا له، لتبقى الساحة خالية للأقليات المتساندة (التي سماها العسكر الثوار) يحركها الجنرال كما يشاء، وتؤدي له ما يريد. فهي تهتف باسم عبد المجيد محمود (النائب العام الذي كان إسقاطه مطلبا ثوريا) وتصر على إعادته، وتساند المحكمة الدستورية (محكمة العسكر التي اعتبر رجال القانون تأسيسها يوما أسود في تاريخ القضاء) وهي تؤدي دورها في مؤامرة حل مجلس الشعب، حتى لا يأتي الرئيس المنتخب ويكون معه أيضا برلمان منتخب، كما أن الأقليات المتساندة (المسماة ثوارا) هي من ساند قضاة العسكر وشيخهم “أحمد الزند” وهم يصرون على عدم الاعتراف ببعض التعديلات القانونية بدعوى أنها تهدر حقوق القضاة، وهو نفسه “الزند” الذي احتقر الشعب كله بعد الانقلاب قائلا “نحن هنا على أرض هذا الوطن أسياد، وغيرنا هم العبيد” فلم ينبس “الثوار” ببنت شفة، بل ظلوا يدافعون عنه باعتباره رجل “السيسي”، وهي نفسها التعديلات التي أصدر “السيسي” بعد الانقلاب وبإرادته المنفردة ما يتجاوزها، بل ما يجعل القضاة “لعبة بيديه” فلم يتخل “الثوار” عن هتافهم له!
هكذا كان الأمر منذ البداية، وهكذا لم يتمكن “من غلبوا على أمر الثورة” من إدراكه: هناك دولتان، دولة الجنرال وأقلياته المتساندة التي لم تسقط، ودولة الأغلبية التي لم تقم لأن ممثليها لم يدركوا أن الجنرال خصم وليس حكما، بل هو النقيض البنيوي الذي لا يمكن أن يكون شريكا لهم، ولا هو يقبل بأن يصبحوا شركاء له. وبسبب هذه الضلالة الواضحة، مر الانقلاب سلسا من مرحلة إلى أخرى، في سياق صاغه الجنرال وأقلياته، وساعدهم فيه من تولوا أمر الأغلبية:
1 ـ انقلاب التفويض (العسكر يهيمنون على البلاد) 11 من فبراير/شباط 2011.
2 ـ الإعلان الدستوري 31 من مارس/آذار 2011، العسكر يهدرون إرادة الشعب.
3 ـ حل مجلس الشعب (يونيو/حزيران 2012) العسكر يرفضون وجود برلمان لا يختارونه بأنفسهم.
4 ـ انقلاب 3 من يوليو/تموز ليستقر الجنرال على رأس السلطة التنفيذية ويبدأ في تشكيل السلطات الأخرى، والعبث بها أيضا، من لجنة الدستور الهزلية واختراقاته العابثة، إلى التلاعب بالقضاء، إلى برلمان “عساكر المراسلة” إلى تفريغ سلطة شيخ الأزهر من محتواها. والعرض مستمر، من نهاية “الحراك الثوري” إلى بداية “الثورة المضادة” التي نتناولها في الفصل التالي(5 ).


الهامش

1 The Age of Discontinuity: Guidelines to Our Changing Society – Harper colophon books – Peter F. Drucker – Harper & Row, New York, 1992 – Preface to the 1983 edition: “Revolution is the earthquake or the volcanic eruption that obliterates the familiar landscape and creates a new one. But these revolutions are largely the effects of shifts in the foundations that precede them and make the revolutions inevitable. These revolutions result from discontinuities: from the buildup of tension between a new underlying reality and the surface of established institution and customary behavior that still conform to yesterday’s underlying realities”.

2 من قصيدة “الأحزان العادية” للشاعر “عبد الرحمن الأبنودي.

3 موقع سي إن إن عربية.

4 «يوميات ثورة الصبار» (9) عمر سليمان حاول إقناعنا بأن رحيل مبارك غير ممكن وأنه يجب أن ننزل بسقف أهدافنا، المصري اليوم ـ الثلاثاء 19 من أبريل 2011 ـ عبد الرحمن يوسف ـ

5 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close