fbpx
كتب إليكترونية

كتاب الثورة 9 الثورة المضادة وحاملو صحيفة المتلمس

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

هامش: “تضرب “صحيفة المتلمس” مثلا لمن يحمل بيده كتابا فيه حتفه، و”المتلمس” وابن أخته “طرفة بن العبد” شاعران كانا ينادمان الملك “عمرو بن هند” فبلغه أنهما قالا فيه هجاء، فأرسلهما إلى عامله على البحرين بكتابين فيهما الأمر بقتلهما، وأوهمهما أنه أمر لهما فيهما بجوائز”.

مع إعلان “د. محمد مرسي” رئيسا سألني صديق، له أيضا مكانة الإبن: هل نحن في مرحلة “أربكان” أم “أردوغان”؟ وأجبته: أخشى أننا في مرحلة “عدنان مندريس”*. وفي التفاصيل قلت له: الانقلاب وقع فعلا، استوفى أركانه وبقي إعلانه.

ذلك أن الثورة المضادة حدث تراكم عبر “سياق”، و”محصلة” فصول متتابعة لها في كل فصل منها أصل، و”خطوة أخيرة” في الطريق نحو إعادة صياغة “دولة الجنرال” التي تعرت ـ منذ 2 من أغسطس/آب 1990م ـ وبدت حقيقتها للناظرين: مجرد هيكل أجوف، بعد أن سقط عن الجنرال وهم (الحاكم الوطني/ العربي/ المسلم) وظهر، كما هو في الحقيقة، مسخا عاجزا تماما، سواء وهو يغزو الكويت، أو وهو يشترك مع من يدعي أنهم أعداؤه في تدمير العراق، ثم في حصاره، ثم في نصب “عودة العلاقات” فخا لتمهيد احتلاله.

” أم أنهم أزمعوا ألا يظللنا

في أرضنا نحن لا سفح، ولا جبلُ

إلا بيارق أمريكا وجحفلها

وهل لحُرٍ على أمثالها قبلُ؟

وا ضيعة الأرض إن ظلت شوامخها

تهوي، ويعلو عليها الدون والسفلُ

كانوا ثلاثين جيشا، حولهم مددٌ

من معظم الأرض، حتى الجار والأهلُ”*

كان جنرالات العرب، أحفاد “محمد علي” ضمن الـ”ثلاثين جيشا”، وكانت هناك أمريكا ودول الناتو ـ طبعا ـ وأيضا جيش “العدو الصهيوني” الذي قاتل معه “الأشقاء العرب” جنبا إلى جنب، صحيح أن التنسيق السياسي مع تل أبيب كان قائما من قبل وطوال الوقت، منذ جيل “حاييم وايزمان” ومناورات “مستر بيف”*، وصحيح أن الجنرال ـ كما أشرنا من قبل ـ كان مشاركا أساسيا في مشروع الكيان الصهيوني منذ بواكير التمهيد لإقامته، لكن الجنرال ـ ومنذ “التحالف ضد العراق” ـ نشأت بينه وبين جيش الاحتلال، وعلى نحو علني “زمالة سلاح” توجب الشعور بـ”وحدة المصير” من ناحية، ومن ناحية أخرى تسقط من يد الجنرال لافتات “العروبة” و”الإسلام” والتصدى للاستعمار والصهيونية، على نحو يتسق تماما مع رؤية “السادة” في الغرب، الذين رأوا أيضا صعوبة استمرار جنرالهم من دون لافتات، وأن الجماهير ـ وقد أدركت أن قوته عليها لا لها ـ ستسعى للخلاص منه، بعد اجتياز سنوات الصدمة والذهول، التي طالت متيحة للغرب مهلة معقولة، بفضل قدرته على حرف مسار الغضب ليتجه إلى “الأشخاص” وليس إلى “النظام”، لكنها مهلة، والمهل بطبيعتها مؤقتة، وملامح”سلطة الاحتلال” التي يتساقط لحم وجه “الجنرال” ليكشفها يوما بعد يوم فرضت إعادة صياغة دولته على أساس قمع لا يقيم وزنا للحقوق، ولا يبالي بضماناتها، ولم تكن “الحرب على الإرهاب” التي أعلنها جنرال مصر منذ التسعينيات (بالتزامن مع تحالفه العسكري المعلن مع الصهيوني) إلا الذريعة التي سيستمر استخدامها لإعفاء الجنرال من أي التزامات: لا تنمية، ولا أمن، ولا تغطية للحاجات الضرورية، ولا سيادة وطنية. ولتجريد الشعب من أية ضمانات: لا دين ولا دستور ولا مجتمع دولي، ولا قانون، ولا تقاليد، ولا روابط إنسانية. وهو بالضبط ما فرضته الثورة المضادة: جنرالا لا حدود لسلطته من دون التزامات ولا واجبات، يقمع بالقوة في حدها الأقصى شعبا لا حقوق له مع تحميله كل الواجبات.

يصعب ـ إذا ـ أن نحدد لحظة بعينها منطلقا للثورة المضادة، لكن يمكن أن نقترح ـ بمنطق التغليب ـ تاريخ 30 من يونيو/حزيران 2013 باعتباره اليوم الذي أعلن فيه الجنرال هيمنته على الحراك الجماهيري وتجييره لصالحه، ولم تكن كل “الانقلابات على الثورة” التي وقعت بعد ذلك في ساحاتها (مصر ـ تونس ـ سوريا ـ ليبيا ـ اليمن) وفي المواقف المعلنة منها على الصعيدين الإقليمي والدولي إلا نتائج مباشرة لهذه الانطلاقة.

في مصر، كان “د. محمد مرسي” يقف على رأس “حالة”، نشأت منذ 11 من فبراير/شباط 2011، من الاشتباك بين “الحراك الثوري” و”الثورة المضادة”، وهي حالة استخدمها العسكر غطاء لسلطتهم المستمرة والمهددة في الوقت نفسه، التي راحوا ـ في الخفاء ـ يعيدون صياغتها ويهيئون المسرح لإعلان استتبابها، كما راحوا يفككون الحراك الثوري، بتصعيد الصراع بين القوى “الأكثر حشدا” وبين نظيرتها “الأعلى صوتا”، مطمئنا إلى أن أيا منها لا يمكنها تجاوزه، فهو يمتلك القوة النيرانية التي يعتمد عليها في مواجهة أي حشد، ويهيمن على المنصات الإعلامية التي تجعله الأقدر على ضبط نغمة الصوت وارتفاعه. كما أفسح الجنرال الطريق أمام الأقليات المتساندة (الأعلى صوتا) مع تغذية طموحها للعب دور أكبر، لإجبار الأغلبية (الأكثر حشدا) التي “تهدد” بالانتقال من “الغياب” إلى “الحضور” على البقاء مستبعدة كما هي.

هذه “الحالة” التي قامت مع “انقلاب التكليف” لا يمكن اعتبارها نتاجا ثوريا، سواء أكان هذا النتاج دولة أم سلطة، فلا لها مؤسسات، ولا هي تمتلك تصورا لماهية الثورة ولا هي تعبر عنه، ولا كانت قادرة ـ بحكم تكوينها الملتبس ـ على ذلك الامتلاك ولا هذا التعبير، وحسبك أن تتذكر أسماء من تصدروا المشهد العام ـ حتى 30 من يونيو/حزيران 2013م ـ من صناع قرار وقادة رأي وتنفيذيين، لتدرك أن معظمهم ينتمي ـ منذ البداية ـ لفريق الثورة المضادة، وأن القليل الآخر حرص على ألا يصطدم ببنية حكم العسكر، وأن يقصر مواجهته على عدد قليل من الأشخاص، لا تتجاوز المواجهة معهم حدود ساحة القضاء ـ الذي هو قضاؤهم ـ وربما تقتصر المواجهة على الإعلام فقط ـ وهو إعلامهم ـ ومنطقي جدا أن نرى القضاء (قضاءهم) وقد برأهم، والإعلام (إعلامهم) وقد انتصر لهم، وما كان يمكن لسياق كهذا إلا أن يسفر عن نتيجة كهذه.

لم ينتبه متصدرو المشهد الملتبس في مرحلة احتضار “الحراك الثوري” إلى وجود خمس سلطات تقوم عليها الدولة، منها الثلاث المعروفة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، إضافة إلى سلطتي الإعلام والاقتصاد. وأن منها 3 سلطات ونصف السلطة تكون بطبيعتها “بطيئة البناء بطيئة الهدم” هي القضائية والإعلامية والاقتصادية، والشق الذي يحق له حمل السلاح من السلطة التنفيذية (القوات المسلحة والشرطة). أما التشريعية فهي سلطة “سريعة البناء سريعة الهدم” وكذلك الشق الإداري (النصف الآخر) من السلطة التنفيذية (المحافظون والوزراء، ورئيس الدولة أيضا). ولا قيمة للتحفظ بأن رئيس الدولة هو أيضا “الحكم بين السلطات” إذ إن السلطات، التي لم تقبل التعاون معه، لن ترتضيه حكما بينها. وكان المفترض أن يستخدم الجانب سريع البناء سريع الهدم من السلطات في إعادة تشكيل الجانب بطيء البناء بطيء الهدم، لكن هذا لم يحدث، بل لم يكن في وارد الحدوث، لأن:

  • متصدري المشهد، وبدلا من استخدام أدوات الثورة كما كان ينبغي، تمسكوا بأدوات الدولة (كأن مهمتهم هي الحفاظ على أنقاضها في مواجهة الثورة وليس العمل على إزاحتها) وهكذا ساهموا بقسط واف في التمهيد للثورة المضادة. وليكتمل قوس السخرية فإن “الثورة المضادة” هي التي تعاملت بعد ذلك بمنتهى الاستهانة مع أدوات الدولة، التي يفترض أنها دولتها هي “دولة الجنرال” كلما كان استخدام هذه الأدوات في غير صالحها (راجع هنا تصريح السيسي بالغ الغرابة الذي قال فيه إن “نصوص القوانين الجنائية تكبّل عمل القضاء”! وترجمة هذا التصريح فيما بعد في مسخ كل من القانون والقضاء).
  • تشكيل هذا الجانب (سريع البناء سريع الهدم) تم تحت هيمنة العسكر، الذين حرصوا على إقصاء “الثوار” لصالح نفر من “الموالين” و”المعارضين” اختلفوا فيما بينهم في كل شيء، لكنهم اتفقوا على “الاجتهاد” فى العمل على إعادة إنتاج دولة الجنرال، وسواء أكان هذا على سبيل القصد أو من باب “الغفلة” فإن النتيجة واحدة، وهي إهدار أية فرصة لإزاحة أنقاض دولة العسكر وبناء دولة الثورة، مع حصار “الحراك الثوري” لصالح “الثورة المضادة” التي لا يمكن القول إنها “انطلقت” إذ لم يكن لها عقال لتنطلق منه، وإنما سارت في طريق مفتوح على اتساعه، وممهد أحسن التمهيد، بفضل الموالاة والمعارضة (وأذكركم بأن المعارضة جزء من النظام وليس من الثورة) وقد التزم المعارضون غاية الالتزام بأدوارهم كما أرادها العسكر، حتى في أماكن الاعتصام والتظاهر، فما كان يمكن إخراج مظاهرة “التحرير” في 30 من يونيو/حزيران 2011م على نحو ما خرجت به، إلا بفضل التزام “المعارضة” بالوجود في حدود “رابعة العدوية”! قبل أن يصبح الجميع ضحية “ثورة مضادة” لا يختلف مصير من بدأت بافتراسه عن مصير من أجلته إلى حين، ولا فرق عندها بين موالاة ومعارضة، ذلك أنها جاءت لتعيد إنتاج “سلطة العسكر” حتى ولو لم يكن متاحا لها إلا أنقاض “دولة الجنرال”، وهي سلطة لا ترى في الناس إلا “عبيد إحساناتها”.

ونتيجة انشغال الجميع في خدمة “الثورة المضادة” لم يتح أمام “الشرعية الثورية” المجال ولا الوقت الكافي للنمو. لم ينشغل أحد بالحديث عن “أهداف للثورة” أكثر من محاسبة الفاسدين (في بعض تفاصيلها)، والقصاص للشهداء (كلما تيسر)، وهما مهمتان لا تحتاجان الثورة بكل دفقها، ويكفيهما جهاز قضائي بالحد الأدنى من النزاهة والتجرد، فضلا عن التساؤل: وهل ضحى الشهداء بأرواحهم فداء لثورة لا تهدف إلى أكثر من القصاص لهم؟ لو كان الأمر كذلك لكان الأجدى ألا يضحوا ولا تكون هناك حاجة للقصاص لهم!

إذا لم يكن هناك “الحد الأدنى” من تصور ماهية الثورة، لا من حيث الأهداف، ولا من حيث الولاء، فلا أحد ـ حتى الآن ـ يتحدث عن الانتماء لها، ولا اسم لها تعرف به أكثر من تاريخ انطلاق حراكها، وهو ما يشير إلى الجهل الفادح بماهية هذه الثورة، إذ الاسم ـ وكما يقول الأستاذ “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الثقافة”: “هو أول تعريف للشيء الذي يدخل في نطاق شعورنا، فهو تصديق على وجوده، وهو القوة التي تستخرجه من الفوضى المبهمة فتسجله في عقلنا في صورة محددة. والاسم بهذا الوضع يعد إذن أول درجة من درجات المعرفة، وأول خطوة نخطوها نحو العلم”*.

هكذا إذا: الاسم أولى درجات المعرفة، وخطوات العلم، وغيابه يعنى عدم ارتقاء هذه الدرجة، ولا قطع هذه الخطوة. وبديهي ـ والحال كذلك ـ أن تأتي فكرة “الشرعية” في سياق بالغ الهشاشة والتشويش، يقتصر الحديث عنها فيه على دائرة “الأشخاص” وليس “الأفكار” ولا حتى “المؤسسات”، ثم تضيق الدائرة أكثر لتقتصر على شخص واحد، هو الرئيس “محمد مرسي” بعد أن اكتشف السائرون في هذا السياق أن بقية أركان “الحالة” التي وقف على رأسها لم تكن إلا تجسيدا فاضحا للثورة المضادة، ما يفسر سر الاستمرار في “تقديس الدولة” في المرحلة التي كان من المفترض أنها “حراك” يأتي في افتتاح “ثورة” تستهدف التخلص من أنقاض هذه الدولة نفسها التي تمارس شعائر تقديسها من قبل “مؤيديها” و”معارضيها” على حد سواء، ويُغيب ـ عمدا ـ صوت الثائرين عليها.

لهذا بدا المشهد ـ ومازال ـ في جانبه الأوسع والأكثر وضوحا، أقرب إلى “نزاع على السلطة” منه إلى “صراع ثوري”. فالإخوان المسلمون وحلفاؤهم، لم يرفضوا ـ من حيث المبدأ ـ المشاركة مع الجنرال في إعادة إنتاج دولته، والإسهام في “الملاط” اللازم لترميم أنقاضها المتهالكة، لتستمسك إلى حين، لكنهم يرفضون إقصاءهم، وفي الوقت نفسه يتحفظون ـ طوال الوقت ـ على خوض صراع مفتوح مع دولة الجنرال، برغم أنه لم يبق منها إلا أنقاض، وأنه لا معنى للثورة إلا إذا كانت تستهدف إزالة أنقاضها. وهو تحفظ نراه واضحا في حرصهم ـ وهم يعتصمون في رابعة العدوية ـ على عدم الاصطدام بمعتصمي التحرير، لعلمهم أنهم تحت رعاية الجنرال، وإصدار قيادتهم الأوامر لأنصارهم بعدم المشاركة في الاستيلاء على المراكز الأمنية، التي تم الاستيلاء عليها بعد مجزرتي رابعة والنهضة، وإدارة التظاهرات التي خرجت احتجاجا على المذابح (المنصة، الحرس الجمهوري، رمسيس..الخ) على طريقة “انتهت الفعاليات”، بمعنى وضع سقف زمني يؤمر بعده المتظاهرون بالانصراف من ساحة الاحتجاج، ما أدى إلى تعرض هؤلاء “المنصرفين” في كثير من الأحيان لرصاص العسكر (جيش ـ شرطة ـ بلطجية) أو للاعتقال، ليجدوا أنفسهم مطالبين بسداد فاتورة ثورة لم يتح لهم أن يخوضوا معركتها، كأنهم يعيدون صياغة ما كتبه “كارل ماركس” في عمله بالغ الأهمية “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” لنراهم يجسدون “بروليتاريا باريس”، بينما خصومهم ـ إلى جانب العسكر ـ هم “البرجوازيون” الذين يقول عنهم: “وانتصرت الجمهورية البرجوازية. فإلى جانبها كانت تقف أرستقراطية المال والبرجوازية الصناعية والفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة (الباعة والموظفون) والجيش وحثالة البروليتاريا (البلطجية) المنظمون في حرس متنقل والمثقفون (أدعياء النخبوية) ورجال الأكليروس (المؤسسة الدينية الرسمية) وسكان الأرياف. بينما بروليتاريا باريس لم يكن يقف إلى جانبها أحد سواها”*. ويصور “ماركس” مجزرة مماثلة لما رأيناه، مضى عليها نحو قرنين من الزمان، حيث يقول: “وبعد النصر على هذه البروليتاريا ذبح أكثر من ثلاثة آلاف ثائر ونفي خمسة عشر ألفًا من دون محاكمة”*.

وإذا كان هؤلاء قد سقطوا “على الأقل بشرف جدير بالكفاح التاريخي العالمي العظيم”* فإن المنخرطين في “جبهة الإنقاذ” وغيرهم ممن كانوا غطاء لانقلاب 3 من يوليو/تموز 2013، أدركوا أنهم مجرد “أقليات” لا تملك إلا “التساند” حول “الجنرال” الذي “تضيع” إن غامرت ـ مرة أخرى ـ بمغادرة نطاق جاذبيته، ورأيناهم يخضعون ـ صاغرين ـ للحذاء الثقيل وهو يكسر أنوفهم كلما “طمحت أعينهم” إلى الحصول على أدنى فتات من كعكة السلطة، التي جاهر الجنرال بأنها ملك خالص له، وأنه لن يسمح لأحد بالاقتراب من “أملاكه”، وهو لم يتمكن من هذا بفضل قوته فحسب، ولكن أيضا بفضل خوف هذه الأقليات مما يمكن لانتصار الثورة ـ حين تنتصر ـ  أن يجره عليها من هزيمة في مواجهة الشعب وقد توحد، لهذا نراها تحافظ للجنرال على الأدوات التي يقمعها بها، وتوفر له نفقات هذا القمع، وتتولى ـ بنفسها ـ ترسيخ القوانين التي تستخدم في قمعها ـ قتلها وسجنها وعزلها ومصادرتها ـ ثم يدهشها، بعد ذلك، أنها تعجز في كل مرة عن الحصول على خلاصها الفردي من هذا القمع، بقدر ما تعجز عن العثور على “ما يجعل السلطان شعبيا أو يجعل السجان وديا”*، تعجز عن إقناع الجنرال بأنها “حليف” يُقرب وليس “عدوا” يُضرب، وتعجز أيضا عن سماع الجنرال وهو يؤكد لها أن “العبيد أيضا يُضربون، ولا يملكون برغم هذا إلا الاستمرار في خدمة سادتهم”. وتبدو عبارات “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” وكأنها كتبت خصيصا لوصف حال هذه الأقليات، حيث تقول: “لقد ألّهت السيف، فحكمها السيف. لقد دمرت الصحافة الثورية، فدمرت صحافتها هي. لقد وضعت الاجتماعات الشعبية تحت رقابة الشرطة، فوضعت صالوناتها تحت رقابة الشرطة. لقد سرحت الحرس الوطني الديمقراطي، فسرح حرسها الوطني. لقد فرضت حالة الحصار، ففرضت عليها حالة الحصار. لقد استعاضت عن المحلفين (النظام القضائي) باللجان (المحاكم) العسكرية، فاستعيض عن محلفيها باللجان العسكرية. لقد أخضعت التعليم العام لحكم الكهنة، فأخضع الكهنة تعليمها هي لحكمهم. لقد أبعدت الناس من دون محاكمة، فأُبعدت هي من دون محاكمة. لقد قمعت كل حركة في المجتمع بواسطة سلطة الدولة، فأخمدت سلطة الدولة كل حركة في مجتمعها. لقد ثارت، بدافع الغيرة على حافظة نقودها، ضد ساستها وأدبائها، فكُنس ساستها وأدباؤها جانبًا، ولكن الحافظة تنهب الآن وقد كمم فمها وكسر قلمها”*.

وليس غريبا إذا أن نجد هؤلاء (مع الجنرال) يدا واحدة ضد الثورة، التي تحمل ـ في الواقع ـ خلاصهم جميعا من جحيم “حكم العسكر” الذي يصبح تهالكه عبئا حتى على الجنرال نفسه. ليس غريبا أن تصب أطياف الثورة المضادة نقمتها على “الثوري” حريصة على الخلاص منه، حتى هؤلاء المتذمرون الذين شاركهم الثوري “مشاجراتهم” مع الطغمة الحاكمة من قبل، بل ليس غريبا أن نجدهم حريصين على القضاء على الثورة نفسها، وهو ما رأيناه في مصر بدرجات متفاوتة من فصائل الثورة المضادة، التي عبر كل منها عن تناقضه مع الثورة وكراهيته لها بطريقة ما، وأسوأها الفصيل الذي يطلق على نفسه “الدولجية” في محاولة لتجميل تسمية “السلطوية”، واعترافا بانتمائه للدولة (أي للسلطة) لا للثورة، في تبنٍ لمنهج “المجاهرة” و”كسر القيم” الذي يشيع دائما في نهايات البطريركيات، حين يتحلل المجتمع، وتصبح فكرة الالتزام نفسها محل شك، وهو ما يعبر عنه “غوستاف لوبون” في كتابه “سيكولوجية الجماهير” قائلا: “إن التقليص التدريجي لكل الحريات لدى بعض الشعوب يبدو أنه ناتج عن شيخوختها بقدر ما هو ناتج عن النظام السياسي. نقول ذلك على الرغم من مظاهر التحلل والإباحية التي قد توهم هذه الشعوب بامتلاك الحرية. وهذا التقليص يشكل أحد الأعراض المنذرة بمجيء مرحلة الانحطاط التي لم تستطع أية حضارة في العالم أن تنجو منها حتى الآن”*.

من النمرود ومملكته، إلى الأيام الأخيرة لإمبراطورية روما، إلى جمهوريات الموز ومعسكرات الشرق الأوسط، يتكرر الأمر. وفي مجتمعات كهذه ليس أضيع ممن يقف في المنتصف، فلا هو يعمل على نقض هذا الغزل المهتريء، مفسحا النول لخيوط عفية تنسج مستقبلا جديدا، ولا هو يمارس بوضوح حياة الديدان وحشرات العث التي تسرح في العفن.

وثمة فائدة أخرى يجنيها “الدولجية” من هذه التسمية التي تنفيهم عن فضيلة الثورة، هي تصوير كل من يقف في طريقهم وهم يتسقطون الفتات من مائدة السلطة، على أنه عدو لها (للسلطة) متوقعين أن تنحاز لهم وتقمعه لمصلحتهم، وفي كثير من الأحيان يحدث أن تقمع السلطة هذا “العدو” لكن هذا لا ينفي أنها تواصل طوال الوقت إذلالهم باعتبارهم عبيدها، مجرد عبيد.

وبرغم “تذمر” و”احتجاج” بعض الدولجية أحيانا على تمادي السلطة في إذلالهم، فإن انتماءهم لها يظل راسخا، وتذمرهم ليس أكثر من “خصام الأحبة” الذي يزول سريعا. وفي المقابل يظل عداؤهم للثورة راسخا، وأسمى مكانة من كل روابطهم السياسية والتنظيمية، وادعاءاتهم الفكرية، بل ومن روابطهم العائلية.

إن سلطة الثورة المضادة ـ بالنسبة لهؤلاء ـ ليست في حاجة إلى “المغفرة” ولا “التسامح” فهم لا يرون في شيء مما ترتكبه جرما، وإن وصل الأمر إلى حد القتل والخيانة الوطنية والقمع المطلق والفساد المعلن، ومادامت السلطة هي الفاعل فإنهم لا يبالون بهذا كله من الأصل، فلتطلق النار على الناس في الشوارع، ولتعترف هي نفسها بقتلهم تحت التعذيب، ولتتواطأ مع “الكيان الصهيوني” وبقية الأعداء على حساب أمن المواطن وحياته وأرض الوطن وثرواته، ولتعتقل الآلاف بادعاءات تفتقر إلى الحد الأدنى من التلفيق المتقن، ولتنتهك بنفسها القوانين التي وضعتها بنفسها أيضا، وهي قوانين سيئة السمعة من الأصل، ولتخرق دستورها، المرتجل بمعرفتها وبما يوافق مزاجها، ولتكن الثروة المعلنة التي يستولي عليها أحد أفرادها أكثر مما يملكه سكان مدينة، كل هذا ـ في عرف الدولجية ـ لا يعد جريمة ولا ذنبا، بل لا يستدعي التوقف عنده، وهم مستعدون ـ دائما ـ لتمرير، بل لتبرير، ما هو أسوأ، مادامت السلطة تبعد عنهم خطر الثوري، وخطر الشعب، وخطر الحرية، وتبقي لهم الهيكل المخوخ لـ”شبه الدولة” التي يحافظون عليها حفاظ المؤمن على مقدساته، والتي سيظلون ـ مع هذا ـ يتذمرون منها، كلما وصلت حياتهم في ظلها إلى حد الاستحالة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الثلاثة من رموز الديمقراطية التركية في مواجهة حكم العسكر: أربكان أصبح رئيسا للوزراء ثم أسقطه ما وصف بأنه “انقلاب ما بعد الحداثة”، وأردوغان يواصل طريقه بعد أن نجح في إسقاط حكم العسكر وإحباط محاولة الانقلاب عليه وصعد من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية، وقبلهما كان عدنان مندريس أول رئيس وزراء ديمقراطي في تركيا وبرغم شعبيته الكبيرة نجح العسكر في الانقلاب عليه وإعدامه مع اثنين من وزرائه.
  • من قصيدة “يا صبر أيوب” للشاعر “عبد الرزاق عبدالواحد”.
  • “مستر بيف” هو الاسم الحركي الذي أطلقته “المخابرات الأمريكية على “الملك حسين” منذ انضمامه إلى صفوفها عميلا لها، حسبما كتب الصحفي الأمريكي الشهير “بوب وودوارد” مفجر فضيحة ووترغيت، وصاحب كتب: الحجاب، والحروب السريةللسي آي إيه بين 1981-1987، وحالة إنكار، وحروب أوباما، وغيرها. حيث كتب وودوارد في “ذا واشنطن بوست” في 18 من فبراير 1977 تقريرا عنوانه: “المخابرات المركزية الامريكية دفعت الملايين ولمدة عشرين عاما للملك حسين” في تفاصيله: “علم الرئيس كارتر خلال هذا الأسبوع أن المخابرات الامريكية المركزية كانت تدفع مليون دولار شهريا للملك حسين شخصيا، وأن المبلغ كان يسلم للملك كاش بوساطة مدير مكتب المخابرات المركزية في عمان منذ العام 1957 مقابل معلومات مهمة وخطيرة كان الملك يقدمها. ولم يكن المبلغ جزءا من المساعدات التي تدفع للمملكة الأردنية بشكل رسمي. واعتبرت المخابرات المركزية الأمريكية تجنيد الملك شخصيا عميلا لديها من اهم إنجازات الوكالة. وأمر الرئيس كارتر بوقف دفع المبلغ للملك حسين لأنه اعتبره أمرا معيبا”. وقد أعاد  وودوارد نشر القصة في كتابه الحجاب، كما نشرها الراحل “بن برادلي” الذي رأس تحرير ذا واشنطن بوست في مذكراته التي صدرت تحت عنوان “a good life “.
  • مشكلة الثقافة ـ مالك بن نبي ـ ترجمة عبدالصبور شاهين ـ ص 21 ـ دار الفكر بدمشق ـ 2000م.
  • الثامن عشر من برومير لويس بونابرت ـ كارل ماركس ـ دار الطليعة الجديدة ـ سوريا ـ 2016.
  • المرجع السابق.
  • المرجع السابق.
  • إشارة لما قاله “محمود درويش” في إحدى قصائده.
  • الثامن عشر من برومير لويس بونابرت ـ كارل ماركس ـ دار الطليعة الجديدة ـ سوريا ـ 2016.
  • سيكولوجية الجماهير ـ غوستاف لوبون ـ ترجمة وتقديم هاشم صالح ـ ص 197 ـ دار الساقي ـ لندن وبيروت ـ 1991
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رائع دائما يااستاذ محمد كماخبرتك من اول مقال تقع عينيي عليه بجريدة الشعب الغراءعام 1995لقد اثرت شجوني وكأنك كنت تمشى معنا في مظاهرة ينتهي معها هتافنا علي صوت قادتها الذين غلبونا علي امرنا مع قادة جماعتهم صائحين بالمكريفون انتهت المظاهرة ليتفرق عشرات الالاف المنساحين بالشوارع ليواجهوا فرادى مصىيرا مجهولا على يد اتباع بانجو الذين يقدروا بالعشرات ليكون لسان حالنا ومقالنا اذاعجبتكم كثرتكم فلم تغني عنكم شئا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close