fbpx
ترجمات

كيف يمكن أن يدمر الانقلاب الروابط الأسرية للمصريين

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقالاً للرأي بعنوان: ” كيف يمكن أن يدمر الانقلاب عائلة، وكيف يمكن لهذه العائلة أن تتعافى”. كاتب المقال هو محمد سلطان، وهو ناشط حقوقي أمريكي / مصري كان معتقلاً لفترة في مصر بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي على أول رئيس مصري منتخب. وبالإضافة إلى البعد الشخصي المؤثر لهذا المقال، فهو يلمس نقطة جوهرية في غاية الأهمية، وهي أثر الانقلاب شديد السلبية على العلاقات الاجتماعية بين الشعب المصري، ويطرح العديد من الأسئلة حول كيفية معالجة هذه الآثار وتجاوز تلك المرارات. فقد تفاقمت حالة الانقسام في المجتمع المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو، وعزز ذلك الانقسام الدعاية السياسية التي سوّقها نظام السيسي من أجل إبقاء الناس منقسمين. وتبدو هنا المصالحة الاجتماعية أمراً شديد الأهمية وفي نفس الوقت بالغ التعقيد، وتفرض عدداً من الأسئلة الجوهرية حول ما إذا كانت المصالحة المجتمعية تتعارض مع القصاص للشهداء والجرحى والمظالم الأخرى؟ وهل من الممكن أن يكون من أهداف السيسي لإلغاء بند العدالة الانتقالية من الدستور ابقاء المجتمع منقسماً وفي حالة احتراب ليسهل السيطرة عليه؟

ولأهمية المقال، فقد قام المعهد المصري بترجمته كاملاً على النحو التالي:

يقول محمد سلطان: كرهت خالي عندما تخلي عني وأنا في السجن، لكنني في النهاية استعدت إنسانيتي. ثم يتساءل: هل يمكن لبقية المصريين أن تفعل نفس الشيء؟

لطالما كنت معجباً بخالي أنس، الأخ الأصغر لأمي، وهو جنرال يعمل في الشرطة المصرية وكان له الفضل في غرس مشاعر العدالة والانضباط في نفسي. وبينما كان يتقدم بي العمر، كان يزداد شعوري تجاهه بالاحترام والإعجاب سواء به أو بعمله في مكافحة الأشرار. فطوال حياته المهنية – وعلى عكس العديد من زملائه – لم يعتقد أبداً أنه فوق القانون. ففي بلد يُعتبر الفساد في الواقع هو أسلوب حياة، كان خالي أنس يرفض حتى أن يُظهر شارته الشرطية للإعفاء من دفع أجرة القطار أو لتجنب المضايقات اليومية التي يتعرض لها بقية المواطنين. كان يعتقد بصدق أن وظيفة الشرطة هي الحفاظ على النظام وخدمة الناس.

ثم جاء الانقلاب ليقف حاجزاً بيننا.

بعد أن أطاح جنرالات مصر بالرئيس محمد مرسي في يوليو 2013، بدأت المشاركة في الاعتصام الضخم في القاهرة (رابعة) الذي نظمه المتظاهرون احتجاجاً على عودة الحكم العسكري، بعد 30 شهراً فقط من ثورة المصريين عليه. وفي 14 أغسطس من ذلك العام، طوقت الشرطة والجنود – بما في ذلك الوحدة التي كان يقودها خالي – اعتصام رابعة الضخم. وقُتل ما لا يقل عن 800 شخص (وتشير بعض التقديرات إلى أن العدد يزيد عن 1000 شخص)، وأصيب حوالي 4000 آخرين. وكنت واحداً منهم.

وبينما كانت الشرطة تفض الاعتصام ذلك الصباح، تم إطلاق النار على ذراعي. وبعد بضعة أيام، اقتحمت الشرطة منزل العائلة بحثاً عن والدي الذي عمل في حكومة الرئيس مرسي. وعندما لم يجدوه، قاموا بالقبض علي. وبعد بضعة أسابيع، تم اعتقال والدي أيضاً.

لقد كنت أُعَول على خالي أنس بأن يأتي لإنقاذي. وبينما كان أقبع في الحبس الانفرادي، كانت تتراءى لي كثير من أحلام اليقظة وكنت أحلم بأنه سيأتي ويهدم جدران السجن لإنقاذي، وإنقاذ والدي وجميع السجناء ويخلصنا من التعذيب وسوء المعاملة التي نتعرض لها. لكنه لم يأت.

لماذا تركنا؟

في الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري، انقلبت مصر في الحقيقة على نفسها. فقد قام مؤيدو الإطاحة بالرئيس مرسي، بما في ذلك المحرضون في وسائل الإعلام الرسمية، قاموا بتجريد مجموعة كبيرة من المجتمع المصري من أدنى الحقوق الإنسانية: وهم جماعة الإخوان المسلمين، وأي شخص يُعتقد بأنه متعاطف معهم. كنت أشعر بتصاعد مشاعر التوتر في كل أسرة أو أي تجمع اجتماعي، حيث كانت الخلافات الصغيرة التي تحدث بمثابة شرارة لاندلاع نزاعات كبيرة. ارتدى الخطاب الذي تبناه أعداء الثورة عباءة معاداة الإسلام، وعمت نظريات المؤامرة في كل مكان. وصُوِر الإخوان المسلمون وكأنهم شياطين يقفون ضد أهاليهم.

أنا لست عضواً في جماعة الإخوان المسلمين. أما والدي، وهو يمثل مرجعية محترمة في الفقه الإسلامي، فقد قضى معظم حياته خارج مصر، وكان يتبنى رؤية تقدمية معتدلة للإسلام. والأهم من هذا وذاك، أن كلينا كنا نقف سوياً ضد الانقلاب.

لا يسعني إلا أن أتوقع أن خالي أنس كان يظن أن استقرار مصر يتطلب منه الوقوف إلى جانب حملة القمع التي يشنها النظام، أو أنه كان يخشى من أن يرتبط اسمه بأقاربه المعارضين (للنظام العسكري الذي تولى السلطة بعد الانقلاب). لم يأت خالي أبداً إلى السجن، ولا حتى من أجل الزيارة، على الرغم من أن زيارة واحدة منه كانت كفيلة بأن تخفف من ظروف حبسي.

مع كل إهانة، وفي كل مرة كنت أتعرض فيها للتعذيب، كانت تزداد عندي مشاعر الاستياء تجاه خالي. كيف كان خالي أنس ينام قرير العين في بيته وهو يعلم أن ابن أخته وزوجها كانا يواجهان الكثير من الظلم؟ كنت أنتظر منه أن يكون أفضل من الآخرين.

ومن أجل الحفاظ على سلامة عقلي، قمت بقمع ذكرياتي عن المجزرة التي حدثت للمعتصمين في رابعة وحولت الألم الذي أعانيه في السجن إلى غضب تجاه خالي. لقد كنت أهاجم والدتي خلال زياراتها القصيرة لي في السجن، عندما كانت تلتمس الأعذار له، وتقول لي على سبيل إعذاره بأنه قد يأتي بمجرد أن “تهدأ الأمور قليلاً”. أما أنا فكنت ألقي باللائمة عليه وعلى كل ضابط آخر يعمل مع النظام. كانت الكراهية هي أبسط حل بالنسبة لي في ذلك الوقت.

ساعدني إضرابي عن الطعام لمدة 489 يوماً، وتدشين حملة دولية، وضغط من واشنطن، على استعادة حريتي في 30 مايو 2015. لقد كنت أشعر بأن التعاطف الذي يأتيني من الغرباء والتضامن الذي يُعبرون عنه لي أكثر من تعاطف بعض أقاربي بالدم تجاه ما أتعرض له.

وبعد بضعة أشهر من إطلاق سراحي، أصيب خالي بجروح خطيرة فيما يُشتبه بأنه هجوم إرهابي في سيناء، حيث كان يعمل آنذاك. وعندما ناشدتني أمي كي أتصل به وأعبر عن تعاطفي معه، رفضت الاتصال بالمرة. لقد كنت أشعر فقط بأن هذا نوع من تجلي العدالة.

وبعد مرور عامين على الحادث، كان خالي أنس لا يزال غير قادر على المشي. وكان قد مر عام تقريباً على إجرائه لعملية جراحية في العمود الفقري بعد شرخ أصيب به نتيجة للهجوم الذي تعرض له، ولم تستعد عضلاته حالتها الطبيعية بعد. بل كشفت الفحوصات الطبية عن إصابته بـ تصلب جانبي ضموري، وهو مرض تنكسي خطير.

ما زلت لا أستطيع أن أحمل نفسي على الاتصال بخالي، لكن عندما كنت أنظر إلى أمي وأرى حزنها عليه، بدأت أعيد التفكير في أن أتصل به. لقد أدركت أنه بينما كنت أسعى لتحقيق العدالة، كنت في نفس الوقت أُعرض نفسي ومن أحبهم لنفس الظلم. لقد أعماني شعوري بالاستياء عن أمر في غاية الأهمية: وهو مشاعر الرحمة والإنسانية. لقد نزعت ثوب الإنسانية عن أحد أكثر من أحبهم، تماماً كما جردني هو من إنسانيتي من قبل. كنت غاضباً منه لأنه تخلي عني بينما كنت في السجن، ولكن عندما أصبح أسيراً في جسده، كنت مستعداً أيضاً للتخلي عنه.

في الصيف الماضي، تصالحت مع خالي. كانت أصعب تجربة مررت بها منذ أن غادرت السجن. اتصلت به في اليوم الأول من أيام العيد، واستطعت أن أشعر في صوته بالدهشة الممزوجة بقليل من التأثر عندما تبادلنا التهاني. كان إيقاع حديثه أسرع من المعتاد، كما لو كان يحاول تعويض ما ضاع من الوقت إبان القطيعة. اختفى تماماً عبء الاستياء الذي كنت أحمله له بمجرد تحول المحادثة بينننا إلى السؤال عن الأطفال والزواج والصحة والوليمة الكبيرة التي كانت تعدها خالتي لنا كل عيد. وعندما وضعت حداً لخمس سنوات من القطيعة بيننا، شعرت بنفس الإحساس بالحرية عندما تم إطلاق سراحي من السجن. وبعد فترة وجيزة، أخبرتني أمي أن هذه المكالمة كان لها مفعول السحر في رفع معنوياته وأنه صحبها في زيارة لوالدي، الذي لا يزال حتى الآن في السجن.

عمل والدي في حكومة الرئيس محمد مرسي؛ أما أنا فقد سُجنت بسبب نشاطي؛ وكان عمي ضابط شرطة في ظل أنظمة متعاقبة؛ وكان العديد من أفراد العائلة الآخرين جنرالات في الجيش أو رموز سياسية في فترة حكم الرئيس السابق، حسني مبارك.

هل عائلتي بذلك فريدة من نوعها؟

بصفة عامة، هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. فبنفس الطريقة انقسمت معظم العائلات المصرية نتيجة الانقسامات السياسية التي سادت البلاد.

ومع استشراء العنف الذي تمارسه الحكومة وغياب أي مظهر من مظاهر العدالة، فإن المجتمع المصري تخطى بكثير مرحلة الاستقطاب – لقد نُقضت عراه بالكلية. لقد تخطت مساعي الاستهداف والمعاملة اللاإنسانية الإسلاميين إلى باقي الشعب. حيث يتم الآن شيطنة أي شخص يتجرأ على انتقاد الوضع الذي وصلت إليه البلاد. ولا تزال التوترات تسود العائلات، وتظل الاختلافات السياسية متجذرة بعمق في المجتمع، ولا تزال هناك مقاعد فارغة على مائدة العشاء، ويغيب عن العديد من حفلات الزفاف وأعياد الميلاد والجنازات كثيرون بسبب السجن أو النفي أو التشريد. لقد تجاوز الحقد والغضب والانتقام إلى حد كبير حدود اللياقة الإنسانية.

لا أعرف كيف ستتعافى مصر من ذلك. لكنني أعلم أن ذلك سيبدأ عندما يسعى كل واحد منا لإيجاد القوة التي تسمح للحب والأمل أن يتجاوزا الكراهية والألم. وعلى الرغم من أنني قد لا أتمكن من رؤية خالي الحبيب مرة أخرى – حيث أنني ممنوع من دخول مصر مرة أخرى، ولن يتمكن هو من المجيئ إلى الولايات المتحدة – فقد أثبتت مكالمة هاتفية واحدة أنها يمكن أن تكون بمثابة ترياق قوي للسم الذي تم إرغامنا على تجرعه. لقد استعدتُ أنا وخالي كل مظاهر الإنسانية التي تم تجريدنا منها، بتصرف بسيط نابع من الحب.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close