fbpx
سياسةتقديراتأسيا وافريقيا

ما بعد ترامب: تحولات الموقف المصري في الملف الليبي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

شهد الربع الأخير من العام 2020 والربع الأول من العام 2021 العديد من التحولات في الموقف المصري في الساحة الليبية؛ تحولات تقف خلفها العديد من الدوافع الداخلية الليبية العسكرية والسياسية من جهة، والتحولات في المشهدين الإقليمي والدولي، من جهة ثانية، ويمكن تناول مظاهر هذه التحولات وأسبابها ومسارات الدور المستقبلي للنظام المصري في الملف الليبي ، من خلال المحاور التالية:

أولاً: تحولات الموقف المصري

شهدت الشهور الست الأخيرة (من بداية نوفمبر 2020 إلى منتصف مارس 2021) تحركات سياسية وأمنية وعسكرية للنظام المصري تجاه الملف الليبي مغايرة لما كان عليه الوضع قبل ذلك، تخللها احتضان القاهرة لقاءات بين أطراف النزاع الليبي من أجل التباحث حول ملفات هامة تخص مسار التسوية السياسية، أبرزها الاجتماعات الخاصة باللجنة العسكرية المشتركة 5+5، بالإضافة إلى اللقاءات الخاصة بالتفاهم حول آليات إجراء الاستفتاء الدستوري والانتخابات العامة بشقيها الرئاسي والبرلماني في ديسمبر 2021.

وقد ساهم احتضان مصر لإحدى مسارات التسوية السياسية الليبية في إحداث نقلة نوعية في موقف نظام السيسي من المشهد الليبي من خلال انفتاح القاهرة على جميع الأطراف الليبية، بحيث لم يكن التحرك كالمعتاد تجاه المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها خليفة حفتر فقط، بل جاءت التحركات نحو الشرق والغرب والجنوب أيضاً.

 وهذا ما تبلور من خلال زيارة وفد للحكومة المصرية، يضم مسؤولين من وزارة الخارجية والمخابرات العامة، للغرب الليبي، وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ عام 2014؛ هذه المدة التي شهدت قطيعة بين نظام السيسي وحكومة الوفاق على إثر دعم الأول لخليفة حفتر سياسياً وعسكرياً. وقد أجمع مراقبون على أن الزيارة تحمل دلالات هامة إذ تأتي في ظرفية ترفض فيها القاهرة الدخول في دوامة الحرب تفاديا لتكرار العملية التي أطلقها حفتر في أبريل 2019، وذلك بعد أيام من إطلاقه لتصريحات تلوح بالعودة إلى الحرب. كما تحمل في طياتها تمرير رسائل إيجابية من القاهرة إلى حكومة الوفاق مفادها أن مصر تدعم الخيار السياسي أيضا، وأنها تريد أن تبقى على مسافة واحدة من جميع الأطراف.

وقد ناقش الطرفان بعض الملفات التي تحمل في طياتها دلالات مهمة تهدف إلى تذليل الصعوبات التي تعتريها، وذلك في سبيل عودة مبدئية للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وقد شكلت الملفات السياسية والدبلوماسية والأمنية محور المباحثات بين الوفد المصري وأعضاء من حكومة الوفاق الليبية، كان أبرزها كالتالي[1]:

1ـ تفعيل الاتفاقيات السياسية بين البلدين وعلى رأسها اتفاقية الحريات الأربع المتعلقة بالتملك والإقامة والعمل والتنقل، والتي تم توقيعها في تسعينيات القرن الماضي في غياب تام لتنفيذ مقتضياتها على أرض الواقع،

2ـ دراسة الوضع الأمني لفتح السفارة المصرية في طرابلس،

3ـ تفعيل بعض الاتفاقيات الأمنية والتجارية،

4ـ فتح المجالين الجوي والبحري بين طرابلس والقاهرة،

وقد عقد الوفد المصري جملة من اللقاءات مع عدد من المسؤولين الليبيين في طرابلس، بينهم وزير الداخلية فتحي باشاغا، ووزير الخارجية محمد الطاهر سيالة، ووزير الدفاع صلاح النمروش، فضلا عن نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي أحمد معيتيق.

وكانت أبرز لقاءات الوفد المصري برئاسة نائب رئيس المخابرات العامة مع وزير الداخلية فتحي باشاغا بحضور رئيس جهاز المخابرات الليبية عماد الطرابلسي، حيث ناقش الطرفان التحديات الأمنية التي تواجه البلدين الجارين وسبل تعزيز التعاون الأمني لتجاوز العقبات التي تواجه الأمن القومي الليبي-المصري. كما ناقش الجانبان مخرجات اللجنة العسكرية 5+5 مع تأييدهما للجهود المبذولة في جلسات الحوار السياسي تحت الرعاية الأممية للخروج من الأزمة عبر الطرق السلمية السياسية.

كما التقى الوفد المصري أيضا بوزير الخارجية محمد الطاهر سيالة، إذ استعرض الطرفان آليات تعزيز وتطوير العلاقات المصرية-الليبية في كافة المجالات والدفع بها إلى الأمام بهدف خدمة المصالح المشتركة بين البلدين. وعلى إثر هذا الاجتماع تم الاتفاق على مجموعة من البنود من أبرزها تعهد الطرف المصري بإعادة فتح السفارة المصرية والعودة للعمل من داخل طرابلس في أقرب الآجال، مع تقديم الطرف الليبي لخيارات استئناف خدمات السفارة مرة أخرى من العاصمة.

كما تم الاتفاق على تجاوز كافة المعيقات لضمان خلق الظروف المناسبة لتواصل مواطني الدولتين خاصة فيما يتعلق باستئناف الرحلات الجوية من ليبيا لمطار القاهرة، أضف إلى ذلك برمجة لقاءات واجتماعات بين الخبراء والمختصين من البلدين لتفعيل وتسريع ما هو متفق عليه[2].

وقد أعلنت الخارجية الليبية على إثر هذه الزيارة أن الوفد المصري تعاطى بإيجابية خلال مناقشة الملفات العالقة بين البلدين، وذلك يشكل بداية لإعادة بناء جسور الثقة بين الطرفين بعد سنوات من القطيعة بسبب دعم النظام المصري لخليفة حفتر. كما تم التأكيد من الجانب المصري أن القاهرة تعمل على إعادة الاستقرار للدولة الليبية وعدم السماح لعودتها لدائرة الحرب؛ وبالتوازي أكد الطرف الليبي للوفد المصري أن مصالح مصر ستكون مع مؤسسات الدولة الليبية التي تتمتع بالشرعية وليس مع أشخاص بعينهم.

واستكمالا لنتائج هذه الزيارة بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطرابلس، زار وفد مصري طرابلس من أجل الاتفاق على إعادة افتتاح السفارة المصرية وتشغيل خط طيران منتظم بين طرابلس والقاهرة؛[3] وبشكل فعلي تم افتتاح القنصلية المصرية لتقديم الخدمات القنصلية للجالية المصرية وكخطوة تمهيدية تسبق الافتتاح الرسمي للسفارة المصرية في طرابلس بعد غياب أكثر من ست سنوات. كما تم استئناف الرحلات الجوية الليبية إلى مصر، بعد انقطاع أكثر من عام.

وفي تحول لافت لمجرى العلاقات المصرية-الليبية، قام رئيس الوزراء الليبي للفترة الانتقالية عبد الحميد دبيبة بزيارة إلى القاهرة كأولى جولاته الخارجية، وذلك بعد أسبوعين من إعلان فوز قائمته في ملتقى الحوار الليبي في جنيف، وفي خضم الزيارة أجرى دبيبة مباحثات مع عبد الفتاح السيسي، بحيث أكد الأخير على “دعم ليبيا في مسار المرحلة الانتقالية، وذلك انطلاقا من حرص مصر على الاستمرار في تثبيت دعائم السلام والاستقرار حفظا لمقدرات الليبية. كما أبدى استعداد مصر لتقديم كافة سبل الدعم من خبرات وتجارب لليبيين، كمساهمة في وضع ليبيا على المسار الصحيح”.

وفي نفس السياق، أعلن السيسي عن دعمه الكامل للحكومة الليبية الجديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة على إثر منحها ثقة مجلس النواب وحصولها على تأييد 132 من أصل 133 حضروا التصويت. وقد أكد على “أهمية هذه الخطوة في طريق تسوية الأزمة الليبية، وذلك من خلال قدرة الحكومة الجديدة على إدارة المرحلة الانتقالية وتحقيق المصالحة الشاملة وتوحيد المؤسسات الليبية عن طريق الدفع بمسار التسوية السياسية بما يحد من التدخلات الخارجية، وصولا لانتخابات ديسمبر 2021. كما عبر السيسي عن استعداد مصر لتقديم خبراتها في المجالات التي من شأنها تحقيق الاستقرار السياسي وتحقيق التنمية التي يطمح إليها الشعب الليبي[4].

يظهر من خلال التحركات الدبلوماسية بين القاهرة وطرابلس مدى التغيير الذي لحق موقف نظام عبد الفتاح السيسي من المشهد الليبي بحيث بدأت تظهر ملامحه من خلال انفتاح القاهرة على الغرب الليبي بعد أن كانت منحصرة في الشرق ومحاولة تأسيس خط تواصل مع حكومة طرابلس بحكم الاعتبارات التي فرضتها الظرفية المرحلية التي فرضت على القاهرة الانفتاح على جميع الأطراف الليبية نتيجة التقلبات التي عرفها المشهد الليبي ميدانيا وسياسيا.

ثانياً: دوافع تحول الموقف المصري من المشهد الليبي

1ـ التطورات العسكرية في المشهد الليبي:

كان للعملية التي أطلقتها قوات الوفاق في مواجهة هجوم قوات حفتر على طرابلس دور في قلب موازين القوى  على مستوى المشهد الميداني نتيجة فشل حفتر في كسب رهان السيطرة على المنطقة الغربية وإلحاق الهزيمة بقوات الوفاق والوصول إلى هدف الاستيلاء على كامل التراب الليبي ومن ثم الوصول إلى أعلى هرم السلطة. فعلى الرغم من الدعم اللوجستي العسكري الذي تلقاه حفتر من قوى إقليمية ودولية، إلا أن الواقع الميداني أظهر تفوق قوات الوفاق التي اعتمدت على الدعم التركي بموجب اتفاقية التعاون العسكري المبرمة في نوفمبر 2019، وقد كشفت هذه العملية التي ألحقت خسائر كبيرة بميليشيا حفتر مدى الضعف الذي تعاني منه نتيجة خططها التكتيكية العشوائية على الرغم من الدعم الكبير الذي تلقاه حفتر منذ سنوات، وخصوصا في هجومه على طرابلس 2019، حيث كان الهدف من وراء هذه العملية إنجاح مشروعه (مشروع المحور الإقليمي والدولي الداعم له) عبر الوصول إلى السلطة عن طريق الحسم العسكري.

وانطلاقا من ذلك، وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقها السيسي منذ رد قوات الوفاق على هجوم حفتر على الغرب، والذي هدد من خلالها باحتمالية التدخل ميدانيا حماية وحفاظا على الأمن القومي المصري، إلا أن الواقع الميداني والسياسي فرض نهجا جديدا في التوجه المصري في ليبيا خصوصا أن القاهرة كانت رافضة لحرب طرابلس لأنها أربكت حسابات السيسي في ليبيا، على الرغم أنه في الأخير رضخ لسياسة الأمر الواقع نتيجة الضغوط الإماراتية التي دعمت بشكل كبير حفتر في هذه الحرب. فانقلاب المشهد العسكري من خلال الوصول إلى وقف إطلاق النار بين الغرب والشرق وما تلاها من تقدم في عملية التسوية السياسة، جعل القاهرة تغير استراتيجيتها من خلال الانفتاح على واجهتين؛ عسكريا من خلال الإبقاء على حليفها في المشهد الليبي خليفة حفتر، وسياسيا على مسارات الحوار بين الفرقاء الليبيين المدعومة من المجتمع الدولي. وذلك ما تعزز بلقاءات مع ممثلي البلدين كان آخرها زيارة رئيس الحكومة الليبية الجديدة عبد الحميد دبيبة إلى القاهرة.

كما تعد هذه الزيارة انتصارا لرؤية بعض الجهات داخل النظام المصري التي كانت تعارض التوجه العسكري، وأن تشارك القوات المصرية في العملية العسكرية الميدانية، وتشكيكها في قدرة حفتر على إدارة المعركة، بحيث كانت رؤيتها تتجلى في أن يطبع السلوك المصري تجاه المشهد الليبي توازنا ما بين جميع أطراف النزاع الليبي خدمة لمصالح مصر الاستراتيجية.

ولذلك أصبح نظام عبد الفتاح السيسي على يقين بضرورة تغيير منطلقاته في ليبيا، بحيث أن الرهان على العامل العسكري وحده والاستمرار بدعم حفتر بالسلاح والعتاد منذ 2014، لن يؤدي إلى نجاح مشروع حفتر الذي راهنت عليه قوى إقليمية ودولية بما سيؤدي إلى فقدان التأثير داخل ليبيا بالكامل؛ ومن هذا المنطلق غيرت القاهرة من معادلاتها عبر الاعتماد على الميزان العسكري-السياسي، وذلك انطلاقا من التحولات والتقلبات التي عرفتها الساحة الإقليمية والدولية.

2ـ التطورات السياسية في المشهد الليبي:

يمثل عامل التسوية السياسية في ليبيا أبرز أهم النقاط التي فرضت على القاهرة تغيير معادلاتها في المشهد الليبي، فالتقدم الذي حصل في مسارات هذه العملية عبر ملتقى الحوار السياسي الليبي، التي عُقدت بعض اجتماعاته في مصر، وذلك في ظل استضافة الأخيرة مباحثات لجنة المسار الدستوري الليبي وأيضا اجتماعات اللجنة العسكرية 5+5، فرض تغييرات مهمة في الموقف المصري من الملف الليبي

 فقد أصبحت تصريحات نظام السيسي مغايرة عن سابقاتها، بحيث أصبح يؤكد مؤخرا على دعم مصر الكامل للعملية السياسية التي تشكل بحسب قوله استقراراً ليس لليبيا فحسب بل لجوارها الإقليمي ولمصر على وجه الخصوص لارتباط أمن ليبيا واستقرارها بالأمن القومي المصري. فالقاهرة تريد عبر التغييرات الحاصلة في المشهد السياسي الحفاظ على وجودها كفاعل مؤثر وليس هامشي في المشهد الليبي، في مقابل إحداث توازن في المواقف بين ما هو عسكري وسياسي لضمان موقع لها في حال نجاح أي من المسارات. وأن يأتي الموقف المصري متوافقا مع رؤى أغلبية المواقف الدولية والإقليمية التي ترى في العملية السياسية المسار الوحيد لإنهاء الصراع الدائر منذ سنوات في ليبيا.

فقد أدركت مصر أنه لا يمكن فرض سلطة سياسية في ليبيا عبر الخيار العسكري فحسب. وقد اتضح الأمر بشكل جلي من خلال زيارات وفود مصرية إلى الغرب الليبي وفتح مجال أمام عودة العلاقات الدبلوماسية المنقطعة منذ 6 سنوات، و مع مجيء سلطة تنفيذية جديدة تحظى بقبول إقليمي ودولي، والذي اختار رئيس حكومتُها مصر كأول وجهة خارجية له، فرضت على النظام المصري ضرورة قبول ما أفرزه الواقع الليبي من تغييرات تحظى بقبول من طرف الشرعية والمجتمع الدولي.

ولذلك فإن نظام عبد الفتاح السيسي يهدف من وراء تغيير سياسته في ليبيا على المحور السياسي عبر فتح قنوات الاتصال على جميع الفاعلين في المشهد الليبي ضمان بقائه كطرف في المشهد الليبي؛ وذلك لأنه يتحرك تحت ذريعة حماية الأمن القومي للبلاد، انطلاقا من دوافع تحقيق مصالحه عبر دعم مشروع حفتر بشكل جديد -تحت قناع جديد.. لأن الأخير يشكل مشروع يتناغم مع سياسات مصر السيسي التي لا ترضى بنجاح أي مشروع ديمقراطي بالمنطقة، لأن ذلك يشكل تهديدا مباشرا لنظامه الذي جاء على ظهر عملية انقلابية على مؤسسات الشرعية.

3ـ تطورات المشهد الإقليمي: 

لعب العامل الإقليمي دورا مهما في تقلب الموقف المصري في المسرح الليبي، وذلك عبر مسارين، الأول مرتبط بالحليف الإماراتي، والثاني مرتبط بالغريم التركي.

برز العامل الأول من خلال ما حدث في الآونة الأخيرة من تضارب في المصالح المصرية-الإماراتية ليس في ليبيا فقط بل في المنطقة، خصوصا فيما يتعلق بعلاقة أبوظبي مع أديس أبابا فيما يخص سد النهضة وقضية تيغراي، فضلا عن قيادة موجة التطبيع الجديدة مع إسرائيل بما يسحب البساط من تحت الأقدام المصرية التي احتكرت هذا الملف لسنوات طويلة؛ فالإمارات منذ فترة أصبحت تنصب نفسها على أنها صاحبة القرار في الملفات الإقليمية، ومنها الملف الليبي بحيث تؤكد المقاربة الإماراتية المتمسكة بالحل العسكري، وتراهن على الحسم من خلاله. في حين ترى القاهرة بعد فشل الحسم العسكري لصالح حفتر على ضرورة تغيير الاستراتيجية بحيث أن الخسائر المتكررة لحفتر في المشهد الميداني أثرت بشكل كبير على المصالح المصرية خصوصا أن مصر المرتبطة بليبيا جغرافيا تعتبر  أكثر المتضررين من الوضع الأمني المتردي فيها عكس الإمارات، كما أن التأثيرات لم تكن ميدانية-أمنية فقط، إذ كان لذلك تأثير كبير على العامل الاقتصادي أيضا، بحيث أثر هذا الوضع بشكل كبير على العمالة المصرية، حيث كانت ليبيا من أكثر الأسواق جذبا للعمالة المصرية،  بالإضافة إلى ما تمثله ليبيا من أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة لمصر فيما يخص جانب النفط، بحيث سيسهل الاستقرار السياسي، المتمثل في وجود حكومة ليبية، عملية استيراد القاهرة للنفط الليبي بأسعار تفضيلية.

على الرغم من كل ذلك، فإننا نرى أن ذلك لن يؤثر على تبعية الأخير لمحور أبو ظبي نتيجة ارتباط علاقة الطرفين بملفات يصعب معها فك هذا الارتباط، ومن أبرزها محاربة الإسلام السياسي بشكل خاص والثورات العربية بشكل عام، هذا الملف الذي على أساسه تمت صناعة حلف بن زايد-السيسي-بن سلمان (حلف الثورة المضادة).

أما العامل الإقليمي الآخر فيتمثل في الغريم التركي؛ فمنذ دخول تركيا على المشهد الليبي، وعلى الرغم من التصريحات المتصاعدة إزاء التواجد التركي في ليبيا وصل إلى حد تلويح السيسي بالتدخل العسكري بعد نجاح قوات الوفاق بمساعدة تركية بموجب الاتفاقية المبرمة بين الطرفين في نوفمبر 2019، في حسم العملية العسكرية وإنهاء وجود حفتر وميليشياته في الغرب، الأمر الذي أجبر أطراف النزاع بالجلوس على طاولة المفاوضات، ما أفضى إلى اتفاق وقف إطلاق النار في أغسطس 2020، ومن ثم الشروع في العملية السياسية – هذا المشهد جعل القاهرة تعيد قراءة المشهد الليبي بناء على التغييرات التي فرضها المشهد الميداني والإقليمي والدولي، الأمر الذي أثر حتى على العلاقات المصرية-التركية التي بدأت تشهد خلال الأشهر الماضية تهدئة تخللتها اتصالات بين الطرفين في سبيل التنسيق الأمني-الاستخباراتي فرضته العديد من الاعتبارات على رأسها الملف الليبي وملف التنسيق في شرق المتوسط، على الرغم من أن هذه التفاهمات تتعارض مع الخطط الإماراتية الرافضة لأي تنسيق مع أنقرة في الملف الليبي، و قد تصاعد هذا التنسيق بشكل لافت خلال الأيام القليلة الماضية بما انعكس على الملف الإعلامي بشكل كبير.

4ـ تطورات المشهد الدولي:

فرضت العديد من المتغيرات الدولية وضعا جديدا في المشهد الليبي بصفة عامة وعلى مواقف القوى الدولية والإقليمية ومن ضمنها مصر، كان أبرزها رحيل دونالد ترامب عن البيت الأبيض، هذا الأخير الذي كان يعتبر عبد الفتاح السيسي ديكتاتوره المفضل، كما كان داعما للتحالف الثلاثي (بن زايد-السيسي-بن سلمان) ورؤيتهم بالسيطرة على ليبيا عن طريق الحسم العسكري عبر مشروع حفتر. لكن تغيرت المعادلة مع مجيء جو بايدن، الذي أبدى توجها للضغط عن طريق ملف حقوق الإنسان والديمقراطية-، ولطالما أكد في خطاباته أثناء حملته الانتخابية على ضرورة إنهاء بعض النزاعات الإقليمية ومن ضمنها ليبيا التي تسعى إدارته من خلالها إلى الحد من زيادة النفوذ الروسي فيها. ولكل ذلك فقد أثر صعود بايدن بشكل سريع على داعمي حفتر، وبالأخص عبد الفتاح السيسي الذي استبق أي موقف أمريكي بتغيير نهجه ودوره في ليبيا عبر الانفتاح على العملية السياسية من خلال فتح قنوات الاتصال مع جميع الأطراف الليبية، والإعلان عن دعم السلطة المدنية الجديدة؛ حيث يريد السيسي من وراء هذه الخطوات تقديم نفسه للإدارة الأمريكية على أنه شريك مهم في عملية الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة وصاحب الدور الأهم على الساحة الليبية.

ثالثاً: سيناريوهات الدور المصري في ليبيا:

في إطار التحولات والاعتبارات السابقة، يمكن القول إن المسارات المستقبلية لدور النظام المصري في الملف الليبي، تتمثل في:

1- سيناريو تخلي نظام السيسي عن حفتر:

على الرغم من أن هذا السيناريو يصعب تحقيقه بشكل حاد وكامل، إلا أنه يبقى قائماً نظرا لاعتبارات إقليمية ودولية وتغير التوازنات في المشهد الليبي، ويبقى رهينا بمجموعة من الشروط والمحددات منها:

أ. تحقيق تسوية وتوافق سياسي عن طريق مصالحة وطنية شاملة بين مختلف الفرقاء الليبيين في الغرب والشرق بشرط ألا يكون حفتر جزء من هذه المصالحة، وذلك في ظل وجود توافق داخلي وإقليمي ودولي على عدم بقاءه ضمن المشهد الليبي، بحيث سيضطر السيسي مع هذا الوضع التخلي عن حفتر بما أنه أصبح في عزلة داخلية وخارجية، و التموضع على الحياد وأنه على توافق مع خيارات القوى الدولية من أجل إنهاء الصراع الدائر منذ سنوات في المستنقع الليبي، خصوصا الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن التي أعلنت عن سعيها إلى إنهاء العديد من الصراعات في المنطقة ومن ضمنها النزاع الليبي والحرب في اليمن. كما سيقدم نفسه على أنه كان له دور كبير في حل هذه الأزمة-إذا انتهت دواليبها بشكل دائم-خصوصا في ظل احتضان مصر للعديد من الحوارات التي كان تهم سواء الشق السياسي المتعلق بالاستفتاء الدستوري والانتخابات أو الشق العسكري المتعلق باجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 لتثبيت وقف إطلاق النار، وعلى هذا الأساس، ففي ظل توافق المجتمع الدولي على ضرورة الحسم في الملف الليبي عن طريق الحل السياسي وليس عبر الحل العسكري، سوف يجد نظام السيسي نفسه أمام خيار الانصياع لقرارات وتوجهات المجتمع الدولي.

ب. اشتداد الخلاف الإماراتي-المصري في ظل تضارب المصالح بين الطرفين على ترتيب الأوضاع في المشهد الليبي، وكذا الخلافات البينية في العديد من القضايا الإقليمية الأخرى، هذا الأمر الذي يؤثر على مصالح مصر الإقليمية، إذا ما أدى إلى استمرار تحجيم مكانة مصر الإقليمية ودورها في العديد من الملفات، وذلك ما يظهر من خلال الدور الإماراتي فيما يخص سد النهضة وتطبيع الأخيرة مع كيان الاحتلال في ظل تجاهل القاهرة في هذا الملف، واختيار حفتر التحالف مع أبوظبي على حساب القاهرة، وذلك على ضوء  تزايد الدعم اللوجستي العسكري والتمويلي الذي تقدمه الإمارات لحفتر بشكل مستمر. ويعتبر نظام السيسي نفسه أنه هو الخاسر من هذه المعادلة في ظل تزايد مخاطر وتهديدات المستنقع الليبي نتيجة المجاورة الجغرافية في مقابل أن الأمر لا يضر بأمن الإمارات، البعيدة جغرافيا عن ليبيا، بشكل مباشر.

ج- التغيرات الحاصلة في العلاقات التركية-المصرية عن طريق تهدئة التوتر الحاصل منذ 3 يوليو 2013، وذلك عبر فتح قنوات الحوار والتنسيق المشترك بين الجانبين في عدة ملفات وعلى رأسها الملف الليبي، الذي من الممكن معها تغيير منطق التحالفات، الذي تفرضه مجموعة من التغيرات الإقليمية والدولية. وذلك في ظل حرص الطرفين على عدم الدخول في صراع عسكري مباشر من الممكن أن تكون له انعكاسات خطيرة خصوصا على الجانب المصري المرتبط جغرافيا وأمنيا بليبيا، حيث أن أي تطور ميداني عسكري يمكن أن يُدخل السيسي في أتون حرب هو في غنى عنها في ظل دخول نظامه في أزمات عديدة أشد خطورة كأزمة سد النهضة وغاز شرق المتوسط.

د- تأثير العامل الأمريكي في المشهد الليبي عبر تغيير مساره في ظل إدارة بايدن، ومنطق معادلاته والرهانات القائمة عليه من طرف قوى إقليمية، وبحكم القاهرة امتداد جغرافي لليبيا فإن تفاعلها في الملف الليبي يتأثر بالتغييرات المتلاحقة التي شهدتها الساحة الدولية مع مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تعتبر الملف الليبي من الملفات الشديدة الأهمية والتي تحظى باهتمامها وذلك بفعل الامتداد الروسي فيها والتي تعتبره واشنطن امتداد لمخططات المشروع التوسعي للروس في المنطقة ينطلق من ليبيا، وللحد من هذا التمدد ستسعى واشنطن في التحكم أدوار القوى الإقليمية التي لها تأثير في المشهد الليبي ومن ضمنها مصر المتاخمة جغرافيا لليبيا، بحيث ستسعى إدارة بايدن على تحويل مسار توجهاتها في ليبيا قد يصل بنظام السيسي إلى حد التخلي عن ورقة حفتر تفاديا منه لتكرار سيناريو إدارة أوباما بناء على ما تم في 3 يوليو 2013 وإدارة ترامب في 2018 على إثر التقارب المصري مع كوريا الشمالية وذلك من خلال الضغط عليه بملفات حقوق الإنسان وإيقاف أو تقليص المعونة العسكرية الأمريكية”

هـ. تلقي حفتر المزيد من الخسائر والانتكاسات الميدانية مما يعني معه فشل مشروعه في ليبيا وهذا ما يزيد الضغوط على نظام السيسي في حال استمرار تقديم الدعم لخليفة حفتر، خصوصا أن معركة طرابلس أظهرت مدى ضعف قدرات حفتر العسكرية وبالأخص في ظل الخسارة الميدانية الخاطفة التي تعرض لها عبر العملية العسكرية لقوات الوفاق بمساعدة الحليف التركي، وذلك على الرغم من الدعم الكبير الذي تلقاه من قوى دولية وإقليمية، وهذا ما يعد خسارة كبيرة لنظام السيسي في ظل رفض القاهرة لحرب حفتر على الغرب والتي قادها في أبريل 2019 متجاهلا تحذيرات  القاهرة للسير في هذه الخطوة لما لها من تداعيات خطيرة على الوضع الأمني وعلى حسابات السيسي السياسية والعسكرية، ما وضع الأخير  في موقف صعب وفرض عليه أمر واقع لم يكن ضمن حسابات ومخططات الدور المصري (نظام السيسي) في المشهد الليبي. وبناء على ذلك سيتصاعد احتمال تخلي مصر عن مساندة حفتر في ظل تمسكه بالخيار العسكري، خصوصا أن هذا الخيار أصبح يشكل تهديداً حقيقياً على أمن مصر الحدودي.

2- سيناريو استمرار دعم السيسي لحفتر:

يبقى هذا السيناريو، من وجهة نظرنا، هو الأكثر ترجيحا، لكن تختلف درجة هذا الدعم وكذلك وسائله بين طريقة مباشرة أو غير مباشرة وتبقى الطريقة الأخيرة هي الأقرب إلى أرض الواقع:

أـ الدعم المباشر: يقوم هذا السيناريو في حال فشل التسوية السياسية نتيجة تمسك حفتر بالخيار العسكري مع توسيع نطاق العمليات الميدانية واستمرار الدور الروسي من خلال ميليشيات فاغنر، وتحويل ليبيا إلى أتون حرب طاحنة، بجانب تواصل الدعم الإقليمي من طرف الإمارات، والدولي من طرف روسيا و فرنسا، وذلك باعتباره السبيل الوحيد لبقائه ضمن المشهد الليبي في ظل استبعاده من معادلة التسوية وتضاؤل حظوظ دخوله في المشهد السياسي لما بعد انتخابات ديسمبر 2021؛ ففي ظل هذا الوضع ستقوم رؤية السيسي على تقديم الدعم المباشر لخليفة حفتر والتدخل عسكريا في ليبيا على أساس ذريعة حماية الأمن القومي المصري من الأخطار المحدقة به، لكن في الحقيقة هو يسعى لحماية نظامه من أي اهتزاز ممكن أن يلحق به إذا فشل مشروع حفتر الذي كان يراهن عليه لحسم النزاع في ليبيا لصالحه.

يتصاعد احتمال هذا السيناريو  في حال استمرار تحالف محمد بن زايد مع السيسي و تجاوزه للمشاكل القائمة بينهما، فعلى الرغم من النقط الخلافية بين الطرفين إلا أن هذا الأمر من الممكن ألا يؤثر على طبيعة هذا التحالف خصوصا في ليبيا بحيث أن المصالح التي تحكم العلاقة بين النظامين تجعله بمنأى عن التأثيرات التي تثيرها بعض الخلافات حول بعض الأمور التنسيقية، خصوصا أن بن زايد يفضل الخيار العسكري الذي يراه هو الفيصل لنجاح مشروعه الذي هو محل التطبيق من طرف حفتر في ليبيا، ويرى السيسي أن بقاءه في حلف بن زايد هو تأمين لنظامه من أي تصدعات ممكن أن تلحق به، خصوصا أن بن زايد كان في طليعة الأنظمة الداعمة بقوة لنظام السيسي باعتباره هو أيضا مشروع الإمارات في قيادتها لمشروع الثورات المضادة وباعتبارها الداعم الأكبر لانقلاب 2013.

ب. الدعم غير المباشر: وهو الطريق الأكثر احتمالا أن ينتهجه النظام المصري داخل نفس الإطار الاستراتيجي للتعامل مع الملف الليبي، بحيث أن نظام السيسي لن يرفع يده تماما عن دعم مشروع خليفة حفتر، لكن ضمن مخطط بعيد المدى، من خلال اتباع تكتيك مغاير تحت بند مراقبة الوضع -تكتيك خداعي- انطلاقا مما سوف تفرزه التغيرات السياسية والميدانية والتقلبات الإقليمية والدولية؛ لذلك يمكن أن يسعى السيسي عبر هذه الاستراتيجية إلى ترميم علاقاته مع الغرب الليبي بالأخص في ظل الحكومة المؤقتة الجديدة، وأيضا احتضانه لأبرز ملتقيات منتدى الحوار الليبي-الليبي وذلك ليكون نظامه ضمن الحلقة السياسية والعسكرية ضمانا لاستمراريته كفاعل قوي في المشهد الليبي، وبالتالي فتح المجال لحفتر ليكون ضمن المشهد السياسي لما بعد الانتخابات العامة في ديسمبر 2021، ضامنا مركزا له ضمن أركان أقوى مؤسسات الدولة وهي المؤسسة العسكرية ليُحكم قبضته كأقوى فاعل في المشهد الليبي، وبالتالي تنفيذ مخططات مشروع حفتر بدعم إماراتي-مصري يزكيه الدعم الدولي من طرف أحد أقوى الفاعلين الدوليين ألا وهي روسيا، للوصول في الأخير إلى الهدف الذي رسمته وخططت له هذه القوى وهي وصول حفتر إلى سدة الحكم. فنظام السيسي ما زال يرى في نجاح مشروع حفتر امتدادا لمشروعه الذي رسمه وخطط له بمساعدة الإمارات ليصل به إلى الحكم في العام 2013 بعد أن قاد انقلابا على أول رئيس مدني منتخب لمصر.

ختاماً

من خلال متابعة تطورات الموقف المصري من المشهد الليبي يمكن الخروج بالعديد من الاستنتاجات:

1ـ تغيير النظام المصري استراتيجيته في التعامل مع الملف الليبي من خلال الانفتاح على كافة القوى والأطراف الفاعلة في المشهد الليبي بعد فشل الحسم العسكري لصالح خليفة حفتر وذلك عن طريق ازدواجية العسكري-بالسياسي بهدف عدم فقدان القاهرة لخيوط التأثير في الملف الليبي.

2ـ بالرغم من التغييرات المرحلية الحاصلة في الموقف المصري من ليبيا، إلا أن القاهرة بمعية أبو ظبي على الرغم من الخلافات العالقة بين الحليفين فيما يخص المهام والأدوار، يسعيان إلى بقاء حفتر كجزء من المشهد الليبي وعدم استبعاده بشكل كلي من التسوية السياسية التي تعمل عليها كافة الأطراف الإقليمية والدولية، لأن أي خروج لحفتر من المشهد سيعيد الملف الليبي إلى نقطة الصفر والعودة إلى منطق استمرارية الصراع عن طريق القوة والسلاح. لذلك فإنه من غير المرجح تخلي القاهرة نهائيا عن ورقة حفتر في ظل عدم وجود رؤية واضحة في المشهد السياسي النهائي حتى الآن.

3ـ تطورات المشهد الليبي على المستوى الميداني والسياسي والتحولات الإقليمية والدولية كانت من أبرز العوامل المؤثرة في تغيير نهج وسلوك القاهرة اتجاه الملف الليبي، وذلك من أجل ضمان مكانة مؤثرة لها في المشهد الليبي في حال نجاح سيناريو خيار التسوية السياسية.

4ـ التنسيق الاستخباراتي-الأمني بين تركيا ومصر في الملف الليبي، ربما وصل إلى درجة كبيرة من التقارب أو التفاهم بين البلدين على المستوى السياسي في ذلك الملف، وهو ما سيدعم تفاهما أكبر بين البلدين في غيره من الملفات.


الهامش

[1]– ماذا وراء زيارة الوفد المصري لطرابلس ولقائه مسؤولين بالوفاق؟، عربي 21، بتاريخ 28 ديسمبر 2020، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[2]– زيارة الوفد المصري إلى طرابلس: إعادة ترتيب للعلاقة مع الغرب الليبي، العربي الجديد، بتاريخ 28 ديسمبر 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[3]– الخطوة الأولى لعودة السفارة.. مصر تؤكد افتتاح قنصلية في ليبيا، الحرة، بتاريخ 15 فبراير 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

[4]– دبيبة يزور مصر في أولى جولاته الخارجية.. والسيسي: مستعدون لتقديم خبراتنا كافة إلى ليبيا، عربي بوست، 18 فبراير 2021، متوفر عبر الرابط التالي: الرابط

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close