
مراجعات الثورة: رؤية الإخوان ومذابح الجيش
“خرجت عساكر نابليون وظهر (محمد على) بالوسائل التى هيأها له القدر..كانت البلاد تنتظر أن يأتى أمير عالم بصير؛ فيضم العناصر الحية بعضها إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة منها.. فما الذى صنعه محمد على؟ لم يستطع أن يُحيى ولكن استطاع أن يُميت..فلم يبق فى البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه إلى السودان فهلك فيه”.
الكلمات السابقة كتبها الإمام المُجدد “محمد عبده” (١٨٤٩ ـ ١١يوليو/تموز 1905م)في مقال عنونه بـ”آثار محمد علي” ونشره في مجلة “المنار” في عام 1902م؛ وفيه يصف ما فعله، ” محمد علي” (4 من مارس/أذار 1769 ـ 2 من أغسطس/أب 1849) بالمصريين في فترة حكمه خلال قرابة ثلاثة وأربعين عامًا (1805 ـ 1848م).
جدل المؤرخين والمفكرين:
استعاد الكاتب “فهمي هويدي” طرفًا من رأي الإمام “محمد عبده” في “محمد علي” في مقال نشره في جريدة “الشروق” المصرية الجمعة 7 من أبريل/نيسان الماضي تحت عنوان ” هل انكسر الأهالي؟”. وخلص “هويدي” في مقاله إلى أن “محمد علي” “إلى جانب إصلاحاته الكبرى، فإن بطشه وقهره للناس (كسر عزم الأهالى فضاع منهم معنى الرجولة)، وهى مقولة يتعذر تعميمها بطبيعة الحال، إلا أنها تدعونا إلى التساؤل عن الدور الذى قام به الاستبداد فى إشاعة الوهن والنيل من العزائم فى العالم العربى”.
مقال الإمام “محمد عبده” قارن بين عزيمة المصريين ودأبهم على مكافحة الفرنسيين حتى أجلوهم عن مصر في ثلاث سنوات فحسب، والاحتلال الإنجليزي لمصر الذي استمر من بعيد ثورة “أحمد عرابي” (1882ـ 1952م)، وربما غاب عن ذهن الكاتب أن المصريين أفشلوا “حملة فريزر” الإنجليزية في عام 1807م؛ ومحاولة الهجوم البريطاني عقب معركة “نصيبين” في عام 1840م.
أي أن الإمام المُجدد تبنى رأيًا قائلًا بأن “محمد علي” أمات المُقاومة في عصره؛ فأكمل “هويدي” الرأي بأن هناك أسئلة حول مساهمة الأخير في إماتة عزم (الأهالي) أي المصريين في زمنه وفيما والاه من أجيال؛ بل ولدى العرب بعامة وإن كان بقدر!
ويبدو لنا أن “روح اليأس” التي تلف الموقف أثرت على الكاتب إلى حد كبير، مع الاحترام لرأيه ورأي الإمام المُجدد، لكن للإمام “محمد عبده” مجال مقارنة خاص بسياق عصره يتوجب علينا الإعذار له؛ مع عدم التسليم له في أن الأقدار هيأت لـ”محمد علي” مكانته، دون الأخذ في الاعتبار بالأسباب التي أخذها الأخير للوصول إلى مبتغاه في حكم مصر.
ومن سياق رؤية الإمام المُجدد، رحمه الله، أن احتلال مصر أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الكنانة؛ بخاصة مع الأجواء الخاصة بتفشي الأمية بين الشعب المصري في حياته؛ وإقصاؤه هو نفسه عن بلده لسنوات طويلة ثم عودته بشق الأنفس وبعد وساطة من الأسرة المالكة.
لكن الإمام المُجدد، لم ير الحال بعد جلاء الاحتلال ظاهريًا؛ ولم يلمس عمليًا أن الاحتلال مع صعوبته لم يمنع سنوات من الإهانة وانعدام الكرامة العرببة والإسلامية؛ وأن أيام حكم “محمد علي”، كانت في مجملها أكثر خيرًا وبركة على المصريين من أيام الاحتلال المُستتر عبر “الضباط الأحرار” ومن ثم “عبد الفتاح السيسي”.
يقول المؤرخ الراحل “عبد الرحمن الرافعي” (1306 – 1386هـ = 1889 – 1966م) في كتابه “عصر محمد علي” (طبعة دار المعارف الخامسةـ 1409 ـ 1989م): “إن مفخرة الجيل الذي عاش في عصر (محمد علي) أنه حقق لمصر استقلالها؛ وألف وحدتها القومية بفتح السودان وضمه إلى حظيرة الوطن.. وهذا الاستقلال مع ما اعترضه من قيود لا يزال مفخرة عهد (محمد علي)”.
ويُضيفُ المؤرخ “عبد الرحمن الرافعي”: “ويكفينا تقديرًا لجهاد الجيل أو الجيلين اللذين أدركا ذلك العصر أن انجلترا حاولت خلاله احتلال مصر مرتين؛ فالمرة الأولى سنة 1807م حينما جردت عليها حملتها المعروفة بحملة الجنرال (فريزر) فكان نصيبها الإخفاق والهزيمة في (رشيد) و(الحمّاد) مما اضطرها إلى الجلاء، والمرة الثانية سنة 1840م، عبثًا أنفذت أسطولها إلى ميناء الإسكندرية بقيادة الكومودور (نابييه) فلم يستطع أن يُنزل جنوده إلى أرض الكنانة..”.
وما مدح “عبد الرحمن الرافعي” لجيل “محمد علي” إلا من مدحه لحاكمه؛ والقول بأن الأخير زرع الاستبداد في الجيل الذي حكمه بل الأجيال التالية كلام مردود عليه إذًا، لا بالنفي ولا القبول، بل بالاحتياج إلى المزيد من التدقيق والدراسة التاريخية المُتعمقة التي نتمنى ان تضطلع بها جهة مُدققة يوم ما.
أما ما غاب عن “هويدي” فإن “محمد علي” على استبداده وظلمه حينًا؛ ولسنا في مقام الدفاع عنه ولا التقليل من دوره ولا النقيض أيضًا؛ وإنما نحن في سياق إيراد الأمور مواردها؛ وبيان أن الانسياق لقراءة الأحداث التاريخية وفقًا لمُقومات لحظة مؤلمة إن جاز قرب وفاة الإمام “محمد عبده” في مقاله السالف الذكر؛ فإنه لا يجوز لدى كاتب اليوم (فهمي هويدي) يرى أن الاستبداد أغرق الامة في اليأس؛ وكتابته نفسها لا تخلو من روح اليأس نفسه.
أما تمام ما نفتقده في رؤى احترام الرأي فهو وجود قامة كبرى داخل الجماعة تقول بأن الجيش المصري؛ عقب فبراير/شباط 2011م من المُستحيل أن ينقلب على شعبه كما فعل الجيش السوري لأن الجيش المصري من نسيج المجتمع إخوة وأبناء عمومة وأبناء وآباء؛ والجيش السوري علوي طائفي منفصل عن شعبه؛ وهي الكلمات التي رددها الجميع من أعلى هرم الجماعة إلى أسفله بالإضافة إلى كُتّاب يُحسبون عليها؛ أو حتى ادعت أن بعضهم كذلك!
الحس الإخواني:
لقد غلب على “الحس الإخواني” بعد التسليم بنجاح الثورة المصرية في 11 من فبراير/شباط 2012م أن الجيش، المُختلف عن مثيله السوري، انقلب فصار أحد المُكونات الوطنية لمصر، ويمكن البناء عليه ديقراطيًا؛ وبالتالي توظيفه لحفظ سلامة البلاد والدفاع عنها كما هو المُفترض.
والتخيل أو “الحس الإخواني” آنذاك حيال الجيش كان أقرب إلى اللامعقولية ومخالفة المنطق؛ فالجيش الذي هو أحد مكونات حفظ “نظام مبارك”، الذي كان يتعمد عرقلة “المسار الثوري” صار لدى قادة الإخوان بُعيد يناير/كانون ثاني 2011م “حصانًا جامحًا” يمكن ترويضه للوصول بهم إلى بر السلامة من حكم مصر وتحويلها إلى دولة تطبق شرع الله دون مراعاة للأسس العملية المطلوبة لتحقيق هذا؛ ومُغالبة تحديات نشأة الجيش وتربيته على يد المُحتل؛ والأمر كان جزءًا من صدمة عنيفة لدى الصف الإخواني الذي تقبل عقليًا أن الجيش يمكن ترويضه، ولم يتفهم فيما بعد لماذا انقلب فكرهه..وفي الحالين كانت الأمور تحتاج إلى فهم أدق وأوسع وأرحب.
وهنا يثار سؤال مهم: ما الذي يجمع بين أحداث تاريخية أربعة وقعت في محرم 1811م؛ و9من سبتمبر/أيلول 1881م؛ و28 من فبراير/ شباط 1954؛ و14 من أغسطس/أب 2013م بالإضافة إلى أنها جميعًا وقت في العاصمة المصرية القاهرة؟
وكيف يُمكنُ أن يغيب عن وعي وضمير أكبر الحركات الإصلاحية في مصر والعالم “الإخوان المسلمين”، حينما تختار الاتجاه الثوري أن “مذبحة القلعة” حدث لتثبيتْ عرش مملكة “محمد علي” التي استمرت بعدها قرابة مائة وأربعين عامًا؟ وبعد سبعين عامًا اقتضى استمرار العرش نفسه لدى الخديوي “توفيق” مذبحة جديدة في طول وعرضها هذه المرة، ضد “أحمد عرابي” وأتباعه؛ وكانت المذبحة عبارة عن حروب سالت فيها أنهار الدماء وأدت إلى الاحتلال في صورته المُباشرة (1882 ـ 1952م).
كيف غاب الحدثان السابقان عن الجماعة بالإضافة إلى أنها كانت، بنفسها وقودًا للمجزرة الثالثة، وقد بدأت من ميدان عابدين في 28 من فبراير/شباط 1954م؛ واستمرت آثارها واحدًا وستين عامًا مُثبتة نظامًا ظالمًا آخر..( الضباط الأحرار ومن ثم حكم العسكر عقب انقلاب يوليو/تموز 1952م)، وهي نفس المواجهة التي تكررت في 2013م؛ والأحداث الأربعة حدثتْ بيد “عسكر مصر” وبمساعدة الشرطة حينًا؛ وحتى حينما ثار جزء من مخلصي الجيش بقيادة “عرابي” فإن المُتصدين لهم كانوا من زملاء فاسدين من الجيش نفسه بمعاونة آخرين ليسوا أقل فسادًا منه.
النفعية والتبعية وتكوين الجيش
الأصل أن الجيش المصري تم تجميعه عقب توحيد الملك “نعرمر” لمصر عام 3200 قبل الميلاد، وكانت حدود مصر فسيحة، يومئذ، تمتد مما يُعرف اليوم بتركيا شمالاً حتى الصومال جنوباً، ومن العراق شرقاً إلى ليبيا غرباً، والجيش المصري أقدم جيوش الأرض، فقبل توحده كان موزعاً على مناطقها، كلٌّ بجيش منفصل أي أن امتداده في جوف التاريخ غير معروف، والجيش المصري قائم منذ القدم على “السمع والطاعة”، (لعله القاسم المشترك مع الجماعة إلى حد ما)، تدل على ذلك الرسومات على جدران المعابد وإشارات القائد بالهجوم، فيما الجنود يُنفذون، فيما الجندي القديم على جدران المعابد لا يرتدي إلا ما يستر العورة، بالطبع مع الروح المعروفة في الجيش حتى اليوم من تعليمة “نفذ ثم تظلم”، وهو الأمر الذي عم دولاب مؤسسات الدولة الحالية كلها، ومن مقتضياته “البند 47” من القانون وكلمتي “لمصلحة العمل” التي ما لا يعد من التجاوزات يُرتكب بأسمها كل حين، وإن قيل أن القضاء الإداري ألغاها، مع وجودها الفعلي بصور متعددة.
فإذا أضفنا إلى هذا المُكون التاريخي أن “محمد علي باشا” رغم قسوته ودهائه كان محاولة فاشلة في إنشاء الجيش المصري الحديث، إذ إنه وجد الجيش عبارة عن “عناصر تميل بطبيعتها الى الشغب والفوضى، معظمها من الأكراد والألبان والشراكسة الذين يطلق عليها لفظة (باشبوزق) أى الجنود غير النظاميين .. وتنظيم هذه القوات خاضع للانقلابات السياسية مع جماعات من الأعراب الذين كانوا يهددون الأمن فى بعض الاقاليم، مع عدم وجود نظام عام او تدريب ثابت منسق، وانما كانت اعمالها عبارة عن حرب عصابات وحرم كر وفر”، بحسب موقع الملك فاروق على الشبكة العنكبوتية.
وتسليم الجماعة بالقدرة على إعادة صياغة لتكوين جيش يضم عشرات الآلاف تاريخ نشأته القديم والحديث يميل إلى الغلظة..أمر يحمل بين طيّاته الآلاف من علامات الاستفهام المُلغزة: “كانت أول محاولة لإعداد ضباط نظاميين للجيش في 1815 م، عندما أمر (محمد علي) بتدريب فرقة من الجنود التي اشتركت في حروب الوهابيين، إلا أن أفرادها رفضوا الخضوع للتدريب النظامي وبلغ بهم الأمر حد التآمر علي خلعه، ومن ثم تراجع عن المحاولة” (نقلاً عن موقع تاريخ مصرـ الشبكة العنكبوتية).
“وفي عام 1820 م أعاد (محمد علي) المحاولة مرة أخري (إذ فشلت المحاولة الأولى لتكوين جيش حديث وكادت تؤدي إلى اغتياله)، فقام بفتح مدرسة لهذا الغرض في أسوان بعيداً عن جو المؤامرات في القاهرة، واستقدم للمدرسة ضباطاً ومعلمين ذوي خبرة من الأوربيين وأعتمد علي أحد ضباط الجيش الفرنسي كولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي).
وبمرور السنوات صار الجيش هو أداة مؤسس مصر الحديثة، والوصف أسمى به “محمد علي” نفسه لتحقيق المطامع التي وُضع من أجلها، كما ربط الجيش تبعية المصريين بالحاكم، وإفشال قدرة حركة أو انتفاضة أو حتى ثورة على إخضاع الأخير، وبالتالي إعادة الأمر للمصريين لاختيار القائد المناسب، وهو نفس الإجراء الذي صار عليه كل حاكم طاغية من بعده أن يسلكه، فأضعف “عبد الناصر” الجيش حتى وصل إلى هزيمة يونيو/حزيران 1967، وهو الأمر نفسه الذي جعل الخديوي “إسماعيل”، يُبادر فور توليه الحكم إلى إلغاء التعليم، قائلاً إن الشعب الجاهل يسهل قياده، وهو ما ترجمه “السيسي” بطريقته لما ضرب بعرض الحائط القانون والعرف، وصار يتبجح في وجه المصريين من باب القول: كان ينبغي أن تقولوا لي قبل أن تأتوا بي أنكم ستسألونني عن كل تفصيلة، وقبل سؤالي عما فعلت أسألوا أنفسكم عما فعلتم أو أنجزتم وهلم جراً.
وكما ساعد الغرب “محمد علي” مُمثلاً في فرنسا، ساعد الغرب “عبد الناصر”، وإن ادعى الأخير الخروج عليه، وإن اضطروا إلى تأديبه وكسر شوكته لما زاد عن حده المسموح به في 1967م، ومن نافلة القول أن الأمر مكرر مع “السيسي” لكن مع انبطاح تام.
معلمو المصريين أمور القيادة ومن ثم الجندية، في البداية، إما فرنسيون، أو سافروا للتعليم في فرنسا، ومن بعد رد “إسماعيل” نجل “محمد علي” الجميل لـ”ماتيو ديلسبس” الذي ضغط على الباب العالي في إسطنبول للاتيان به، وفق وصفة “نابليون بونابرت” بعد خروجه بإسناد أمر قناة السويس وحفرها والأمور المعروفة فيما يخصها إلى نجله “فرديناند ديليسبس”.
هذا هو أصل الجيش الذي حاول الإخوان التماهي معه، والاستكانة إلى وزير منه ليكون وزيراً للدفاع، أما دولاب الدولة العميقة فنشأتها كانت كالتالي: بادر “محمد علي” إلى تكبيل المصريين أكثر وفق آلية أخرى، إلى جوار الجيش، وهي إظهار طبقة الموظفين، التي لم يكن الإسلام يعرفها، ولا مصر حتى تلك الفترة، إذ عرف الإسلام الإنسان السائح في عمله، المُتنقل في الأرض ليتاجر أو يزرع، وهلم جراً حتى إن بعضاً الفقهاء الكبار كانوا يعرفون بصنعتهم فمن “أبو رضوان المُخللاتي” نسبة إلى العمل في المخلل، و”عبد العزيز الحلواني” الفقيه الحنفي وهلم جراً.
وهذه الطبقة من الموظفين بمرور الوقت صارت نفعية تُشكل دولة عميقة داخل الدولة التي تحاول التقدم وانصاف مواطنيها، أخذت تلك الطبقة مصر إلى الخلف عنوة، وهي الدولة النفعية التي قيل “عميقة” كبلت الرئيس “مرسي”، وأنهت ناجحات مفترضة خارجية في حكمه لمصر، وكانت أداة العسكري والمستعمر في سيناريو أجاد رسمه “محمد علي” الكبير قبل حكم الرئيس “مرسي” فك الله أسره بأكثر من 200 عام، وهو ما لم ينتبه أو يحسب حسابه الإخوان، كما لم يحسبوا حساب الجيش .. لا فترة حكمهم ولا قبلها.
بين قراءة التاريخ وتقبل النقد
إن قراءة الحقائق الماضية عبر التاريخ الحديث غابت عن قيادات الإخوان؛ فإن الاستماع إلى الآراء المختلفة رافد من الروافد البديلة القوية، على أمل أن تعوض رؤية جديدة بخاصية شبابية يستفزها الواقع فيبحث عن تأصيل وتجذير له لتعويض الأفق الغائب عن الجماعة، والأصل تداول الرأي لدى الإخوان. وهذا يقودنا إلى كيفية أخذ المشورة داخل الجماعة قبل أحداث المجازر التي عصفت بها وثبتت “نظام السيسي” في 2013م؟
في خلال يونيو/حزيران 2013م دُعيتْ مجموعة من الإخوان مرتين؛ الأولى للاستماع إلى مسؤول الشعبة وهو يُخلص ملابسات جلسة عاصفة تمت بين مسئولي شُعب القاهرة الكبرى الإخوانية والمهندس “خيرت الشاطر”، النائب الأول لمُرشد الجماعة والمُرشح المُستبعد من رئاسة مصر في 2012م.
بدا السيد مسئول الشعبة مضطربًا بين الأوراق التي في يمينه ومن المُفترض أن يقرأ منها على عشرات الحضور وبين الأسئلة المُتوقعة منهم، وبين قناعاته من ناحية أخرى؛ وبدأ الرجل بمقدمة قال فيها إن فضيلة نائب المُرشد “شرفه” بصورة شخصية بالسماح له في حضور هذا الاجتماع؛ وصار يُعدد مآثر آراء المهندس “خيرت الشاطر”، حتى قاطعه الشباب الحضور بأن ما يقوله يتعارض مع الواقع السيئ الذي يعيشونه في ظل الاضطرابات التي يواجهونها ورفض الشارع للإخوان من ناحية؛ وتربع القيادات المُسنَة من ناحية أخرى!
وأحمر وجه الرجل؛ وهو يقول إن هذا السؤال تم توجيهه إلى المهندس “الشاطر”؛ وإن إجابته كانت واضحة، فإنما تصدت الجماعة لحكم مصر إعلاءً لراية “لا إله إلا الله”؛ وفي سبيلها تقدم الغالي والنفيس، “والذي لا يقبل بالتضيحة فليفارقنا”؛ وأشار الرجل إلى باب مقر حزب الحرية العدالة في الشعبة.
ثم زاد بحدة أكبر: وقال المهندس إن الانتخابات الخاصة بالتصعيد الإخواني إلى الهياكل العُليا مقبلة و”ليرنا الذين لا يرون صحة سياستنا أنفسهم”؛ ثم إن معنى ما تقولون هو أن “الإعلام” نجح في “غزو الجماعة” وغسيل أذهانها حتى لدى رؤساء الشُّعب!
لم يكن من مجال للمناقشة إذًا في الاجتماع الأول؛ “جاؤا بأمر الله؛ وباقون لرفع راية لا إله إلا الله، والذي لا يرى رأيهم فليغادر مجالسهم، أو فليريهم نفسه في الانتخابات التصعيدية”!
أما اللقاء الثاني فكان في25 من يونيو/حزيران 2013م؛ وأراد الرجل؛ مسئول الشعبة، رفع الهمة فدعا رتبتيّ المُنتظمين مع العاملين من درجات الإخوان؛ وتلا عليهم طرفًا من “آي الذكر الحكيم” عن مواجهات الرسول العظيم للمشركين في معركة “أُحد” (!)؛ فلما تصدى له قائل بأن الخارجين في 30 من يونيو/حزيران ليسوا كُفارًا، وليسوا جميعًا “خونة” بل إن فيهم ومنهم معترضون على سياسات الإخوان الخاطئة انفجر الرجل ليقول إننا دعونا “المُنتظمين” وكنا دعونا اليوم “العاملين” لكنا رأينا تعزيزًا للصف دعوتكم معهم!
ولاحقًا كتب المسئول في توصيف “المُتحدث معه” بعدما خرج الأخير مُجبرًا من مصر تاركًا عمله وبيته وأهله؛ لاحقًا كتب المسئول في توصيف المُتحدث الذي خرج معه في التظاهرات المُعارضة للانقلاب، رغم آرائه المُخالفة للجماعة في نهجها السياسي، كتب المسئول في بيان “التوثيق” اللازم لتعريف الصف في الغربة به: “آخ كثير الشكوى”!
صار المتظاهرون ضد “حكم سياسي للجماعة” مشركين؛ ثم إن الجماعة تواجه “غزوة أُحد” ويجب تعديل سيناريو الغزوة مبكرًا قبل 30 من يونيو/حزيران؛ دون معاقبة الرماة؛ مع فارق التشبيه؛ وبناءً عليه دأبت الشعبة منذ 26 من يونيو/حزيران على الخروج لتجري قرب ميدان رابعة بالخطوة العسكرية صائحة: “عزيمة إيمان .. المرسي وراه إخوان”.
الفهم المُبكر لوجود مذبحة في الطريق، مع الأمل في التغلب عليها، قدم لقائد الانقلاب “المذبحة الرابعة” في تاريخ مصر والتي حفظت عليه نظامه؛ مثلما حفظت مذبحة القلعة في محرم 1811م على “محمد علي” عرشه بالتخلص من 500 من قادة المماليك دفعة واحدة؛ ومثلما حفظت تظاهرات مئات الألوف حول ميدان عابدين وقصره على جمال عبد الناصر والعسكر عرشهم لمدة 61 عامًا.
أسى الشرفاء وضرورة المذابح للظلمة
فيما كانت الجماعة تقصر في تقبل النقد قبل أحداث ميدان رابعة العدوية وتمام المذابح السابقة من الحرس الجمهوري الأولى والثانية ورمسيس وهلم جرًا، مع التقدير لدماء الشهداء والمُصابين ولصبر المُعتقلين، كان تتويج المذابح مطلوبًا لدى النظام الانقلابي مثله مثل الأنظمة التي سبقته لهدفين: ردع المُخالفين له؛ وتقديم “كبش فداء”، من وجهة نظره في سبيل ذلك؛ والناس دائمًا من رؤية الدماء في خوف ووجل؛ ثم كان من أهداف الأنظمة التخلص من المُعارضين أو من أشرس المعارضين وقادتهم.
والمشكلة في المجازر مشكلتان كبيرتان في حدوثها، أولًا فما حدث في القلعة فمعروف ولم تقرأه الجماعة بدقة (مع توقفنا عن الحكم على محمد علي) وربما مرت عليها مرور الكرام؛ ومثلما وقف الراحل “أحمد عرابي” أمام الخديوي “توفيق” في عام 1881م مُبرزًا قوته قامت الجماعة في نفس الميدان بإعادة سطر من التاريخ بالتصدي بنفس الملابسات مع تعديلات لحاكم طاغية آخر؛ هو “جمال عبد الناصر” في 28 من فبراير/شباط 1954م، وكان الأخير يلوذ بقصر عابدين؛ وبعد حصاره ووشيك إطباق المُتظاهرين عليه وعلى أتباعه خرج الشهيد “عبد القادر عودة” ليأمرهم بالإنصراف إذ إن “ناصر” وعده بانتخابات ديمقراطية مقبلة في يونيو/حزيران من نفس العام؛ ولم يقدم الأخير ضمانات بالطبع؛ ووافق “عودة”، ليمضي الناس ثم يتم القبض واعتقالهم وتصفيتهم وإعدام عبد القادر عودة و5 من أتباعه لاحقًا.
مشكلة المجازر إذًا مشكلتان في حدوثها أولًا وعدم تفكير الجماعة لا في 1954م أنها تواجه نفس “سيناريو عرابي” مع تعديلات؛ ثم إن الزمان كأنه توقف بالإخوان لدى عام 1954م؛ وكان المفر في يوليو/تموز 2013م أن تبحث الجماعة عن حل عملي للأمر لكن الجماعة آثرت التجمع مرة أخرى؛ وفرض نهاية أخرى لنفس “مشهد القلعة” و”عرابي” والشهيد “عودة”.. بسيناريو آخر هو البقاء في مكان؛ وعدم الانصراف كما في الحدثين الأوسطين من المجازر؛ والارتكان إلى الإمهال العسكري الذي خالف “مذبحة القلعة”، أما قمة المأساة فإن الجماعة كانت تظن أنها بتجمعها في رابعة العدوية ومن ثم النهضة ستسقط الانقلاب العسكري في 2013م (1).
——————————————
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.