
تُقدر العديد من التقارير والدراسات توسع اقتصاد الجيش لأكثر من 50 بالمئة فيما عرف قبلاً بـ “امبراطورية الضباط” التي تمتلك بها المؤسسة العسكرية أصول واستثمارات معظم الصناعات والمجالات الخدمية المدنية، ومؤخرًا قطاع الانشاءات والتخطيط المدني والمدن الجديدة والكباري والطرق والمدارس والمستشفيات والطرق السريعة، وهي مجالات استفردت بصفقاتها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة إلى جانب صفقات التسليح التي تم تمويلها بالنقد الأجنبي والقروض.
وبينما تشير كثير من الدراسات إلى فقر المردود التنموي والانتاجي لتلك الأنشطة، إذ لم تؤد لزيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر أو فرص العمل أو زيادة الانتاج، بل واصلت نسب البطالة ارتفاعها وازدادت الاحتجاجات على نقص المواد الأساسية، مثل لبن الأطفال والخبز والغذاء بعد انقطاع الدعم الحكومي وتضاعفت التكلفة الاقتصادية لبعض المشروعات التي قامت بها الحكومة بسبب خيارات سياسية كتسريع عمليات حفر قناة السويس وإنهاء أعمال إنشاء “العاصمة الجديدة” وسوء إدارة الموارد المالية المتوفرة، وإذ يتم التركيز غالبًا على أثر التوجهات الحكومية على الموازنة العامة والقطاع الخاص وحرية السوق في مصر، فإنه قليلاً ما تحظي الآثار والعواقب الاجتماعية بعيدة المدى بالاهتمام خاصة فيما يتعلق بتحول الجيش الوطني لمنظومة رأسمالية تهدف إلى الربح وتتمتع بشرعية سياسية على المستوى الدولي بينما تضرب في جذور المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع المصري.
ركائز العقيدة العسكرية:
حتى وقت قريب، مثلت سردية كفاح “أحمد عرابي” و”الضباط الأحرار” ضد الاستعمار الأجنبي والملكية والتخلف الاقتصادي وسعيهم لاسترداد الكرامة الوطنية بعد هزيمة 1948 سببًا لربط الحيش في الوعي الجمعي بتحولات اقتصادية واجتماعية هامة مثل “توزيع الأراضي” و”تأميم” الاقتصاد ومقدرات الوطن، وتعد سردية النصر المزعوم في 1973 واحدة من أبرز ركائز العقيدة الوطنية للجيش والقوات المسلحة والتي تم تشكيلها من خلال مناهج التعليم والإعلام والثقافة العامة باعتبارها نصرًا تاريخيًا لم يسبق مثله ولن يأتي بعده.
كما صُدرت للواجهة الدوافع القيمية للتحولات الاقتصادية الكبري بعد 1952، كالعدالة والكرامة الوطنية، بينما لم تُبحث قط تداعياتها الاقتصادية بشكل موضوعي لعدم إتاحة المعلومات أو لطغيان خطاب الدولة على كافة الأصوات، تم إخفاء كافة المستندات والوثائق الرسمية التي توضح تفاصيل الاشتباك “التاريخي” مع إسرائيل، وبالتالي كان محتوى التعليم الإجباري أهم عناصر بناء منظومة القيم باعتبار الجيش الممثل الحقيقي لصوت الشعب، وأنه مؤسسة وكيان فوقي أعلى وأعظم من أفراده وقياداته، وأنه أصل الدولة المصرية الحديثة وصمام الأمان ضد العدوان “الداخلي” والخارجي، وأنه المؤسسة التي تمتلك المهارات التنظيمية والقدرات التي يفتقدها القادة المدنيون وأن أنشطته تهدف لفائدة الدولة ولا بديل عن تدخله المباشر في السياسة والاقتصاد والدفاع والإنتاج إلى آخره.
الجيش في الثقافة الشعبية
عن أثر تلك الأفكار في صعود القيادة العسكرية لسدة الحكم منذ 2013 نشرت داليا مصطفى كتابًا عن “الجيش المصري في الثقافة الشعبية“، عام 2017، وتناولت فيه أسباب ميل المصريين لانتخاب العسكريين ودور السرديات الثقافية في حفز التأييد المطلق للحكم العسكري، إلا أن إصدار الكتاب أتى مزامنًا لتقرير نشرته منصات دولية عن تغير معطيات تلك الصورة النمطية وانخفاض تأييد الشارع بعد قيام عبد الفتاح السيسي بالتنازل عن/ بيع جزيرتين تابعتين لمصر منذ العهد العثماني وتحتلان موقعً استراتيجيًا هامًا إلى المملكة السعودية.
وبعد القرارات الاقتصادية القاسية برفع الدعم عن السلع الجوهرية تماشيًا مع خطة “الإصلاح” الاقتصادي التي جعلت 80 بالمئة من الشباب عاطلاً عن العمل، إلى جانب تجريف العمل الأهلي والإغاثي بوضع معوقات شديدة على أعمال أكثر من 40 ألف منظمة أهلية، ويبقي بين هذين الإصدارين موضوعًا آخر هو دور التوسع الاقتصادي الكبير للجيش ومنظومة القهر أثناء التجنيد الإجباري في انتشار ظواهر كارثية تضرب جذور منظومة القيم والأعراف الخاصة بالمجتمع، وهي أمور لامسها بشكل كبير فيديو وثائقي يتناول شهادات المجندين عن تجاربهم داخل ثكنات ونقاط التجنيد.
إنتاج القهر وثقافة اللقطة
بحسب مصادر رسمية، يبلغ عدد المجندين بالجيش حوالي نصف مليون من الذكور البالغين بين18-30 عامًا، ويمثل خريجي الكليات والمعاهد والحاصلين على شهادات متوسطة غالبيتهم العظمي، حيث نقلت اليوم السابع عن مدير إدارة التجنيد والتعبئة بالقوات المسلحة على الغالي أن القوات المسلحة تنتقي “أفضل الموارد البشرية وترجي الأعداد الزائدة عن الحاجة من خلال برامج علمية بواسطة الحاسب الآلي، لاختيار أفضل العناصر طبقا للبيانات المسجلة للشبان المتقدمين للتجنيد..”
وأن هذا يتم لـ “استيفاء الشروط والتخصصات الفنية التي تحتاجها القوات المسلحة” وتبدو تلك “الاحتياجات” هي الدافع الأساسي لتجنيد هذا العدد من العمالة رغم قلة عدد المدربين والمشرفين، وانعدام مؤشرات خوض قتال مسلح وعدم تفعيل المجندين لزيادة معدلات الدخول بالتشغيل في مصانع وأعمال القوات العسكرية، بل في الواقع يتم تسخير المجندين للعمل في المشروعات الاقتصادية والخدمية التابعة للجيش أو الشركات والمصانع الخاصة بقياداته وفي هذا الصدد تعد فترة التجنيد عمالة مجانية تستعمل كأداة عقابية أو مكافأة بحسب نوع العمل وموقعه. وبالإضافة للتوظيف القسري، غالبًا ما يستعمل متوسطي التعليم كجنود بالإكراه أو خدم خاص للضباط بوزارة الداخلية، كما تفيد بعض من شهادات المجندين.
وتشير الشهادات الواردة إلى أن أنشطة التجنيد لا تشمل تدريبًا على أعمال عسكرية أو أنشطة دفاعية أو تدريبات نوعية خاصة وأن السلاح المتوفر يعود لحرب 1956، وحتي العمل الاستعراضي يتم توجيهه كممارسة جمالية تستهدف المسؤولين في الدولة، وبالتالي لا تعبر العروض العسكرية عن اللياقة البدنية أو التدريب الحقيقي للمجندين ولا يتعدي التدريب النوعي على الرماية ضرورة “سد الخانات” وجمع “الفوارغ” بينما يتوجه وقت المجندين لأعمال كتنظيف المراحيض ونقل وتسوية الرمال ودهان الجدران والوقوف على ماكينات المصانع أو القيام بأعمال السباكة والنجارة والدهان والزراعة والنقل والضيافة في منازل الضباط ومشروعاتهم الخاصة والعامة.
وأخيرًا يتزامن مع العمالة الجبرية ممارسات القهر الهيكلي التي تُمارس على المجندين باعتبارهم “أقل آدمية” من الضباط وعبيدًا لديهم، وتفيد عديد من الشهادات بأن “مصنع الرجال” يستلزم الإهانة المستمرة والتعدي على أجساد المجندين وانتهاك حقوقهم في الطعام والنوم والإجازات فضلاُ عن الأجور، والتخاذل عن حماية أرواحهم في نقاط التفتيش بالمناطق الحدودية ما افضي لمقتل المئات على يد المتطرفين، أو إطعامهم بقايا طعام الضباط وإلزامهم بخدمتهم شخصيًا والتفنن في التعسيف والعقاب بما يفضي أحيانًا لعاهات مستدامة لدي المجندين ولقتلهم في بعض الأحيان علي يد الضباط، وتنتج تلك الممارسات العديد من الأزمات الاجتماعية والنفسية، خاصة وأن حوالي 10-20 بالمئة من المواطنين يتم تجنيدهم بشكل دوري كل ثلاث سنوات.
فاتورة القهر
1ـ الانتقام من الأضعف:
ليس التجنيد منظومة منفصلة للسلطة والقهر، بل تنتشر من خلاله أنماط العنف النفسي والبدني لكافة فئات المجتمع، ومشهد “فتاة التحرير” التي قام المجندين بتعريتها في الميدان عام 2012 أو المدنيين العزل اللذين حرقتهم قوات الأمن ثم تم تجريفهم بالدبابات في مذبحة ميدان رابعة العدوية والنهضة ليس غريبًا لأناس اعتادوا القمع والإهانة واغتصاب كرامتهم وحقهم في الحياة لمدد تتراوح بين سنة وثلاث سنوات.
تلك السنوات لا يكتسب فيها المجند مناعة أخلاقية ونفسية لمنطق القمع بل تتسرب خلالها ثقافة الجبن والكذب والخوف وتفريغ طاقة الانتقام في أبسط المشاهد اليومية، وحين تتواتر حوادث قتل الأطفال في المنازل على يد ذويهم يكون المسؤول هو نفس مؤسسات الحكم التي تنتج وتعيد انتاج العنف في المجتمع بدلاً من تقنينه، ولا ينحصر هذا على الحالة المصرية فقط، بل تشير دراسة مقارنة عن مؤشرات العنف لدي المجندين في عدد من الدول الأفريقية إلى أن القاسم المشترك هو “نزع الانسانية عن الخصم وتحفيز العنف بالمكاسب المالية أو الجنسية أو المعنوية كوهم الانتصار والمكانة الاجتماعية”.
كما تُفسر دراسة حديثة ل “جينو باوسيلي“ عام 2016 الاعتداء الجنسي الجماعي من قبل المجندين قسريًا على الضحايا الإناث بالمقارنة بين 91 حالة منذ 1980 حتي 2012 بأنه أحد مظاهر “إثبات القوة” بين الأنداد وتنفيس للقمع الممنهج الذي يتعرض له الأفراد خلال التجنيد، كما يعد “شيطنة الخصم” حال كونه “أنثي” أساسًا لدمج المجندين القادمين من خلفيات مختلفة في “هوية جماعية” يكون فيها لإثبات “الذكورة والقوة” ضرورة للبقاء.
وبالتالي تفيد باوسيلي في تفسير ظواهر العنف ضد المرأة بالتنشئة الاجتماعية للمجندين، ومع أن هذا ملمحًا هامًا لأثر التجنيد القسري على المجتمع، إلا أنه يصعب حصر الآثار المتنامية للقمع في مؤشر أو آخر لأنه يزيد قابليات العنف في كل مواقف الصراع وثنائيات السلطة خارج المجال العسكري.
2ـ استفحال الأزمات الأخلاقية:
في أوساط المجندين والتي تنشأ لطول مدة التجنيد والتعسف في منح إجازات آدمية أو الحرمان من الإجازات المقررة من باب “التكدير” ما يؤدي لتغير التوجهات الجنسية في أوساطهم، ورغم أن هذا يرجع بنشأته إلى نشأة الجيش وبعد عامين منذ بدأ محمد علي باشا للتجنيد الإجباري كما يشير خالد فهمي في “كل رجال الباشا“، إلا ان طول فترة التجنيد وانحصاره في أنشطة انتاجية أو في الخدمة الشخصية في غرف الضباط يمثل أحد أسباب انتشار الانماط الشاذة من التوجهات والتي تطول، على المدي البعيد، الفئات الأضعف من المجتمع- الأطفال والنساء.
3ـ تنامي ظاهرة الهروب من التجنيد
بالسعي للهجرة أو النفي الذاتي لأسباب فكرية أو نفسية أو أخلاقية وبالتالي الفشل في الحصول على درجات علمية بالتعليم الجامعي والحرمان من التوظيف واستخراج وثائق السفر وكافة الوثائق الرسمية، خاصة مع انعدام الحد الأدني من حقوق المجندين وارتفاع ضريبة الاحتجاج حتي في حالات الاعتداء بالقتل كما ظهر بعد احتجاجات الاسكندرية 2011 واحتجاجات المجندين 2012 وازدياد حالات التصفية المباشرة للمجندين حال الاحتكاك بالضباط.
4ـ ارتفاع معدلات البطالة
حيث لا توفر المصانع والشركات الحربية سوقًا للتوظيف بل تعتمد على العمالة المجانية وتسهم في نقص عائدات الدولة من الضرائب على الشركات والمصانع التابعة للمؤسسة العسكرية وضرائب الدخول التي كان يمكن تحصيلها لو تم توظيف هذه الأعداد الكبيرة من الشباب بشكل قانوني وبمقابل مادي وفي هذا.
5ـ ارتفاع معدلات الانتحار بين المجندين
الذين يؤدون الخدمة في وزارة الداخلية بسبب سوء المعاملة ورغم بقاء الحوادث في العداد “الفردي” إلا ان تقارير الحالة النفسية للمجندين التي يقدمها مسؤولو الأمن والأطباء بمستشفيات القوات المسلحة ترجع الأسباب لظروف عائلية ونفسية تخص المجنين وقليلاً ما تعترف بأن سوء المعاملة أو المنع من الإجازات أو التعذيب ومنع الطعام والراحة أو الحرمان من الكسب مقابل “خدمة” الضباط تعد بين أسباب دفع المجندين للانتحار. وتتستر الجهات الأمنية على عدد المنتحرين في صفوف التجنيد لكن ارتفاع معدل الانتحار لنحو 1.764 حالة بين 2011 و2017.
وتصريحات التبرير توحي بأن الأرقام إن توفرت لا تخبر بواقع الأمر، والحقيقة أن الأزمة في التجنيد في الأمن العسكري هي التحدي الأخلاقي والنفسي والاجتماعي الذي يواجه مجندين يتم دفعهم لقتل المواطنين وضربهم فقط لأن الأوامر تأتي بذلك بينما تغيب كل الفوارق بين الطرفين من حيث الخلفية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتنتفي مبررات قتل المجند للمتظاهر حال تعبيره عن الرأي أو مطالبته بحقوق طبيعية يُحرم منها المجند وأهله وذويه والمتظاهرين على قدم السواء.
6ـ تجريف منطق الاحتجاج العمالي
والدفاع عن حقوق العمال خاصة لصالح المجندين والمدنيين العاملين في مصانع وشركات القوات المسلحة، إذ البديل ليس عمالة بأجر لائق أو تحصيل للحقوق والإجازات بل العمل بالسخرة أو المحاكمة أمام الجهات العسكرية، وبالتالي تهديد استقرار علاقات الكسب والعمل.
خاتمة
يحقق التجنيد الاجباري سردية “السادة والعبيد” التي ظهرت للمرة الأولي في خطاب المستشار أحمد الزند، سردية يتم بها إلزام المواطنين بالعمل مجانًا لخدمة المصالح الشخصية والاقتصادية والسياسية والمشاريع الاستثمارية والخاصة بالقيادات الأمنية بحجة الوطنية وإلزامهم بضرب وقتل المتظاهرين وتعذيب المواطنين بحجة الضبط والربط وإطاعة الأوامر ثم تكون فاتورة الاعتراض إما القتل أن التعذيب أو المحاكمة العسكرية أو التعسف، بحسب كل حالة، وقد تنتهي بانتحار المجندين، لكن الفاتورة الأكبر يدفعها المجتمع أطفالاً ونساءًا لتسرب ممارسات القمع والتنكيل إلى الحياة اليومية، ويبقي ضحايا ماكينة القمع المؤسسي في ازدياد مع تصاعد حوادث الانحراف والعنف الأهلي التي تضرب أسس الاستقرار القيمي وتنذر بصراعات أهلية دامية في المستقبل القريب، فمتى تحاسب الجهات المسؤولة عن تدوير الإجرام والقمع في مصر؟! [1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.