fbpx
تقديرات

مصر: محافظ البنك المركزي وغياب الحقائق

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تعيش مصر مشكلات اقتصادية معقدة، بعضها ممتد زمنيًا لعقود، وبعضها ازداد سوءًا بعد الممارسات الخاطئة من قبل الإدارة الاقتصادية، التي قام بها متخذو القرار بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، وثمة لغة إعلامية يتبناها مسئولون مصريون في السلطة، أو مديري مؤسسات اقتصادية، كما هو شأن طارق عامر محافظ البنك المركزي، تعكس حالة من التفاؤل لا تستند على حقائق اقتصادية.

والحوار المنشور لطارق عامر مع انتربرايز ” Enterptis ” بتاريخ 8 ديسمبر 2016، يعبر بشكل بواضح عن هذه الممارسات، وهي ممارسات مسبوقة للإدارة الاقتصادية، منذ مجيء حكومة الدكتور أحمد نظيف إبان عصر مبارك في عام 2004، ويعد طارق عامر أحد رموز هذه الفترة.

وتقتضي الفترة التي تعيشها مصر الآن، وما يعتريها من مشكلات اقتصادية ظاهرة للعيان، أن تُوضع الأمور في نصابها، وأن يُقدم من يدير الملفات الاقتصادية برامج عمل، تُبين كيفية التعامل مع الالتزامات المالية والاقتصادية والاجتماعية. وفي ضوء المسئولية الوطنية وجدنا أنه من الواجب أن يقف أبناء مصر على كشف مضار هذه اللغة الإعلامية للمسئولين الاقتصاديين، وكذلك السياسات الاقتصادية المسماة “النيو ليبرالية” والتي قادت المجتمع المصري لثورة 25 يناير.

التناول هنا سيأتي بعيدًا عن الخوض في ممارسات تاريخية لمحافظ البنك المركزي طارق عامر، بل سيركز على الحقائق الاقتصادية المدعومة بالأرقام الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية المصرية، أو الدولية.

 

أولاً: ممارسات منقوصة للتعويم:

قال عامر: “أعتقد أننا الاقتصاد الوحيد بالعالم العربي الذي لديه سعر صرف عائم”. ويلاحظ أن المصرفيين وأجهزة الإعلام تُروج لأن ما تم بمصر في مطلع نوفمبر 2016، بتخفيض قيمة الجنيه في السوق الرسمية بما يزيد عن 50%، هو تعويم للعملة المصرية. ولكن التعويم بمفهومه العلمي، أن يُترك سوق الصرف بلا تدخل من جهات الإدارة، كما أن الممارسة ينبغي أن تكون في اتجاهي البيع والشراء بلا قيود. ولكن ما حدث في مصر، هو أن البنوك وشركات الصرافة تشتري فقط، وعمليات البيع للأشخاص بوجه خاص إما ممنوعة، أو عليهم أن يدبروا احتياجاتهم من السوق السوداء، أو في أفضل الأحوال يتم بيع الدولار من قبل البنوك وفق احترازات كبيرة، بعد التأكد من وجود تأشيرة على جواز السفر، ووجود تذكرة سفر1.

وهو أمر يتنافى مع قواعد حرية سعر الصرف، أو الحديث عن وجود تعويم حقيقي للعملة بمصر. كما تخبر بعض البنوك طلبي الدولار بأنها توفره لعملائها أولًا، وأن لديها طلبات استيراد من قبل عملائها لم تستوف بعد.

إن ما تم بشأن تخفيض قيمة العملة المصرية إنما هو في حقيقته نقل لجزء كبير من تعاملات السوق السوداء إلى صالات البنوك، أما شركات الصرافة فتعاملت في أجواء تتصف بالعلانية، بعد أن كانت تمارس جزءاً كبيراً من تعاملاتها في الخفاء، حيث كانت ولازالت هذه الشركات تُمثل جزءًا كبيرًا من السوق السوداء للعملات الأجنبية. والحقيقة التي لا يستطيع أن يكرها أحد هي: أن السوق السوداء لازالت قائمة ولكن قلت حدة تعاملها في حجم سوق الصرف، ويعود بقاء السوق السوداء للعملة في مصر إلى ممارسات البنوك وشركات الصرافة، حيث يجد فيها المتعاملون ضآلتهم بالحصول على ما يريدون من عملات أجنبية، وإن كان بفارق بسيط عن أسعار البنوك.

 

ثانياً: إجماع لم يحدث:

في إطار إجابة عامر عن سؤال بخصوص كيفية الحصول على الإجماع بشأن خطوة التعويم الكامل، ذكر الآتي “كان هذا هو أكثر الأمور أهمية، وهو كيفية إعداد أصحاب المصلحة والحصول على دعمهم، لأن مثل هذا القرار يؤثر على كل بيت وكل مؤسسة داخل مصر، ويؤثر بالطبع على سمعة الاقتصاد”

والتعليق هنا حول السؤال نفسه بأنه تم الحصول على إجماع بشأن خطوة تعويم الجنيه، وكانت إجابة عامر بأن التحدي بكيفية إعداد أصحاب المصلحة. ولا نري كيف انعقد الإجماع؟ والأمر الثاني من هم أصحاب المصلحة؟ فهل تم استطلاع آراء المواطنين؟ أو حتى عبر مؤسسات المجتمع المدني، أو السلطة التشريعية والرقابية الممثلة في مجلس النواب، لقد فوجئ الشارع المصري في 3 نوفمبر 2016 بالخطوة التي اتخذها البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه، حتى أن مجلس النواب عند مناقشته لموازنة عام 2016/2017 صادر رئيس المجلس حق النواب في مناقشة السياسية النقدية، وهددهم بالإحالة إلى لجنة القيم2.

وأين مصلحة المواطنين من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة في قرار التعويم وهم يعانون من ارتفاع الأسعار، بشكل كبير وفي قطاعات متعددة، حتى أن احصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تُبين وصول معدل التضخم لأسعار المستهلكين إلى 20.2% في نوفمبر 2016 على أساس سنوي3 .

وليس من التجني ذكر أن المواطنين المضارين بشكل مباشر من قرار التعويم تم استبعادهم من الإجماع الذي ذكره عامر، فهو في موضع آخر من حواره ذكر من دعموا قرار التعويم وهم “بعض القطاعات، وصناع السياسة والذين كان يجب مشاركتهم، ومنهم السلطات المحلية، وصندوق النقد الدولي، والسوق، والقطاع المصرفي”.

 

ثالثاً: تكرار الخطأ

ذكر عامر في حواره: “استخدمنا الآن الكثير من الأساليب التي أثبتت نجاحها عام 2013، وهي تصميم برنامج شامل يحتوي على مواعيد محددة للتنفيذ وأهدافًا يمكن قياسها”.

ويُثير هذا التصريح الكثير من المخاوف لدى المعنيين بالشأن الاقتصادي، حيث كانت حكومة أحمد نظيف هي أجرأ الحكومات في الإقدام في تنفيذ برنامج الخصخصة، حيث تم بيع بنك الإسكندرية، ورخصة التليفون المحمول الثالثة، ومعظم شركات الأسمنت، وكذلك بيع 20% من أسهم الشركة المصرية للاتصالات، وغيرها من شركات قطاع الأعمال العام.

والمخاوف لدى الاقتصاديين أن كل ما أُعلن تحت برامج وسياسات الاصلاح الاقتصادي، اقتصر على الجوانب المالية والنقدية، ولم يُحرك ساكنًا في الأنشطة الإنتاجية بقطاعي الزراعة والصناعة، لذلك كانت مصر عُرضة لتقلب المتغيرات الخارجية بشكل كبير، وبقيت مشكلاتها الاقتصادية الرئيسة كما هي، من ارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفقر، وأزمة الإسكان، وتخلف البنية الأساسية، وانخفاض الصادرات، والتزايد المستمر في الواردات.

وفي ضوء ممارسات الحكومة بعد 3 يوليو 2013، نجد أن كافة الحكومات (الببلاوي، محلب، اسماعيل) تستنسخ سياسات عصر مبارك بشكل كبير، مما يعني التفكير في حلول آنية، وعدم تناول المشكلات الاقتصادية والسير في إطار حلول جذرية.

وإذا كان لدى عامر برنامج شامل يحتوي على مواعيد محددة للتنفيذ، لماذا لم يُطلع الرأي العام على بعض تفاصيله، وليس كلها، فمثلًا ماذا يتضمن البرنامج من تقليل تمويل الدين الحكومي، وتوفير التمويل لمشروعات قطاع الأعمال، وبخاصة المشروعات متناهية الصغير؟

المطلوب أن تتوفر بيانات يمكن قياسها كما ذكر عامر، وليس الحديث عن استراتيجيات عامة مُكررة منذ ما يزيد عن ربع قرن. ماذا يحتوي برنامجه عن رفع معدلات الادخار القومي التي تبلغ نسبة 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي؟4 وهي نسبة معوقة لتحقيق أي زيادة في معدل النمو، دون اللجوء لزيادة الدين العام المحلي والخارجي.

 

رابعاً: سعر الصرف ليس هوساً:

حول تذبذب سعر الصرف ذكر عامر “أريد أن أكون واضحًا في هذا الصدد: دعونا نتخلص من هوس سعر الصرف. هذه أيام ولت، دعونا بدلًا من ذلك نُفكر في الاقتصاد الحقيقي”.

إن سعر الصرف مدخل مهم في اتخاذ أي قرار اقتصادي للمستثمرين والمستوردين، بل ولرجال البنوك أنفسهم، إن أحد سياسات صندوق النقد الذي استعان به عامر في قرار التعويم وذكر أنهم أحد الداعمين له، يرى ضمن سياسات الاستقرار الاقتصادي، وجود استقرار في سعر الصرف. فالتذبذب الحالي والذي يراه عامر أزيح عن كاهله، لايزال يُزعج كل من يقترب من دائرة اتخاذ القرار، ويربك حركة الائتمان في البنوك وفي الأسواق، ونحتاج إلى إجابة من عامر حول مديونية العملاء لدى البنوك المقومة بالدولار، كيف سيوفون بها؟ وما هي تكلفتها على مشروعاتهم في الداخل بعد أن انخفضت قيمة الجنيه بأكثر من 50%، وكل تعاملات هؤلاء العملاء في السوق بالجنيه المصري؟ كيف سيتم تعويض الدائنين في السوق التجاري عن خسارتهم في صفقاتهم التي أبرموها بنظام البيع الآجل؟

إن انخفاض قيمة الجنيه بهذه الصورة الصادمة، أدت إلى دولرة جزء لا يستهان به من المعاملات التجارية والاقتصادية الحالية والمستقبلية في السوق المصري.

 

خامساً: التعويم وجلب الاستثمارات الأجنبية

بيَّن عامر أن تعويم الجنيه سوف يُساعد على جلب الاستثمارات الأجنبية حيث قال: “الآن يكافئ السوق مصر على التعويم، على عكس توقعاتنا، مستثمرو المحافظ في سوق الديون جاءوا بعد التعويم تقريبًا. استطاعت البورصة الصعود 35%، منذ 3 نوفمبر، هذا أفضل أداء بين أسواق المال على مستوى العالم خلال شهر”.

المفترض أن محافظ البنك المركزي، الذي لديه معلومات تفصيلية عن التدفقات المالية للأجانب، لا ينبغي أن يقول “جاءوا بعد التعويم تقريبًا” فالواجب أن يقول حجم تدفقات الأموال لهؤلاء المستثمرين، والأمر الثاني أن الصعود الذي شهدته البورصة، هو مجرد أرقام دفترية من خلال القيم السوقية لتعاملات البورصة، فضلًا عن أن التحسن الموجود ربما يعود لانخفاض قيمة الجنيه، وتوفير سيولة لدى المستثمرين المحليين، رأوا أن يضاربوا بها في البورصة بشكل آمن عن المضاربة في العملات الأجنبية.

وأما المفاخرة بأن المستثمرين جاءوا بعد التعويم، تأتي في إطار أن مصر لم تتعلم الدرس بعد ثورة 25 يناير، حيث تسببت الاستثمارات الأجنبية في الديون الحكومية في أزمة كبيرة في الموارد الدولارية، فبيانات ميزان المدفوعات عن العام المالي 2010/2011 تظهر أن صافي استثمارات المحفظة “أي الاستثمارات غير المباشرة، كان بالسالب خلال الربع الثالث من العام (يناير – مارس) 2011 مما أدى إلى خروج 5.5 مليار دولار من مصر، وكذلك في الربع الرابع كان أداء المحفظة سلبيًا بخروج 1.5 مليار دولار من مصر. أي أن هذه الاستثمارات تسببت في خروج 7 مليارات دولار من مصر خلال النصف الأول من عام 20115.

وكانت السياسة الخاطئة للبنك المركزي المصري، أنه أمن خروج هذه الأموال من خلال سياسة حماية سعر الصرف، فحصل هؤلاء المستثمرون على كامل رؤوس أموالهم والعائد عليها، بنفس سعر الصرف في البنوك، ودون تحمل أي مخاطر لانخفاض قيمة الجنيه المصري، وكان الواجب على البنك المركزي أن يتخلى عن حماية سعر الصرف في هذه الفترة ويتركه لآليات العرض والطلب، كما فعل في نوفمبر 2016، ليجبر المستثمرين الأجانب على البقاء في السوق المصري، أو الخروج المتدرج الذي لا يحدث صدمة في الطلب على الدولار.

كان المنتظر أن يتناول محافظ البنك المركزي باقي مفردات إقبال المستثمرين الأجانب على مصر، من خلال مناخ الاستثمار، وهي كلها سالبة، فالمستثمر لا يأتي فقط لمجرد تعويم سعر الصرف، فهناك طاقة يتم تسعيرها بالأسعار الدولية، وهناك سعر فائدة يصل إلى 20%، وهناك صعوبة في توفير الدولار، وهناك حالة ركود في السوق المصري، فلماذا يأتي المستثمر الأجنبي لمصر؟ بل التذبذب الذي ذكره عامر في سعر الصرف يكون أحد عوامل عدم إقدام المستثمر الأجنبي لصعوبة اتخاذ قرار أو عمل خطة اقتصادية في ظل تذبذب سعر الصرف.

أيضًا ذكر عامر في حواره أنه “كي تحقق مزيدًا من النمو، عليك جلب المزيد من التمويل بأكثر من المتاح محليًا”، وتُبين التجربة المصرية أن الاستثمارات غير المباشرة في المحافظ الخاصة بالدين العام، لا تساعد على تحقيق زيادة في معدلات النمو، لأن الحكومة تمول بها موازنتها الاستهلاكية، والنفقات الجارية.

بينما زيادة النمو تتطلب تواجد الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية المباشرة. وللأسف فإن بيانات البنك المركزي تُظهر أن خريطة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في غير صالح القطاعات الإنتاجية، حيث ذكرت المجلة الاقتصادية للبنك عن الربع الأول من عام 2015/2016 أن إجمالي الاستثمارات المباشرة بلغت خلال الفترة 1.38 مليار دولار، منها 53.9% لقطاع البترول، و8% للقطاع الصناعي، و9.3% للقطاع الخدمي، و28.6 غير موزعة6.

وهذا التوزيع لا يخص الربع الأول من عام 2015/2016 فقط، بل هو سمة عامة لسنوات طويلة مضت، ومن هنا نجد أن خريطة الاستثمارات الأجنبية تعاني من مشكلة مزمنة وهي التركيز في الصناعات الاستخراجية وهي النفط، كما أن هذه الاستثمارات لم تُغير من أداء الصادرات المصرية، ولم تسهم بشكل ملحوظ في قيمتها، كما أنها لم توطن تكنولوجيا، أو تؤثر في التخفيف من حدة البطالة بشكل يمكن حسابه لها.

كما ذكر عامر في هذا المضمار “يعمل المنتجون المحليون، المصريون والأجانب، الآن من أجل تحسين المكون المحلي ويسعون للوصول للأسواق الخارجية. هذا تحول كبير نحو الأفضل على المدى الطويل”.

ولكن الماضي الطويل والذي يُعتبر عامر جزءاً منه على الأقل منذ 2004 وحتى بداية 2011، يُبين أن الصادرات المصرية ظلت في أداء لا يزيد عن 50% من الواردات المصرية، وأنها تعتمد بشكل رئيس على استيراد مستلزمات الإنتاج، وكذلك استيراد العدد والآلات، ونسبة محدودة من المكون المحلي، فما هو الجديد الذي سيضيفه التعويم ليغير هذه المعادلة الصعبة.

ويعلم “عامر” هيكل الواردات المصرية، الذي تعكسه بيانات البنك المركزي في التقرير السنوي لعام 2014/2015، حيث بلغت واردات السلع الوسيطة 27.1% من إجمالي الواردات، والسلع الاستثمارية 17%، والوقود 16.8%، والسلع الاستهلاكية 23.6%7. نحن أمام مشكلات هيكلية، فعلما يراهن محافظ البنك المركزي؟

 

سادساً: خصخصة بلا حدود

حينما سُئل عامر عن كيفية أن يساعد برنامج طرح الشركات المملوكة للدولة في تحسين فرص الاستثمار، أجاب “طموحنا أن نطرح معظم هذه الشركات في البورصة، سيدفعنا ذلك إلى إعادة هيكلة الشركات التي تحتاج إلى هيكلة قبل طرحها في البورصة، لتحظى بقبول المستثمرين الدوليين”.

وهنا نقول إن الحسابات الرقمية لبرنامج الخصخصة تظهر أنه تم التفريط في جزء كبير من الأصول الرأسمالية المصرية، دون مقابل مالي أو اقتصادي، فأرقام وزارة المالية تظهر أنه تم بيع 413 مشروع مملوك للدولة خلال الفترة من 1991/1992 – 20199/2010، وذلك بقيمة بلغت 53 مليار دولار، وأن ما تم بيعه خلال السنوات 1991/1992 – 2003/2004 بلغ عدد 197 مشروعًا، بينما ما تم بيعه في الفترة 2004/2005 – 2009/2010 بلغ 216 مشروعًا. ويعد عام 2005/2006 هو الأكبر من حيث بيع المشروعات، حيث تم بيع 65 مشروعًا.

ولكن بعد هذه الحركة الدؤوبة في الخصخصة ماذا جنت مصر؟ لقد تم ممارسة فساد بشكل كبير خلال برنامج مصر الممتد على مدار هذه السنوات، واستبدلت مصر احتكار القطاع الخاص باحتكار القطاع العام، ولم يتم تغير ملموس في أداء الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد المصري.

ويتخوف من أن يكون البرنامج الذي يتحدث عنه عامر بنفس مواصفات ما تم على مدار عقدين من الزمن في عهد مبارك، وبخاصة أن رجال مبارك هم من يسيرون دافة الإدارة الاقتصادية، بل وبنفس أذرعهم الإعلامية، إن الحديث عن الدخول في برنامج جديد للخصخصة، ينبغي أن يتجاوز العموميات، من تنشيط البورصة، وحركة نشطة للاستثمارات الأجنبية، بينما المطلوب في حالة الإقدام على هذه الخطوة أن يعلن عن مستهدفات تخص معدل النمو ومعدلات البطالة والتخفيف من حدة التضخم، وخفض الدين العام، وألا تباع شركة أو مشروع ناجح، وأن تتم الهيكلة بغرض تفعيل هذه المشروعات بشكل أفضل وفق معايير اقتصادية لا أن يتم بيعها لمجرد أنها شركة أو مشروع رابح، ويساعد ذلك على بيعه للأجانب.

 

سابعاً: المراهنة على الديون الخارجية

عول عامر كثيرًا في جلب السيولة على التعامل مع سوق السندات الدولية، أسوة بدول صاعدة أخرى بإمكانها اجتذاب نحو 100 مليار دولار، عبر السندات الدولية والقروض الثنائية والمشتركة، وأن المستثمرين في لندن ونيويورك وواشنطن، أردوا فقط أن يطمئنوا على أن مصر تتبنى برنامجًا جادًا.

يلاحظ أن أحد مظاهر النجاح من وجهة الإدارة المصرية الحالية التسابق عن الإعلان عن تدبير قروض لمصر، أو مساعدات ومنح، باعتبار أن هذا أحد مظاهر قبول الأوضاع الاقتصادية بمصر لدى الجهات المقرضة أو المانحة. في حين أن مشكلة الدين العام في مصر يتم التعامل معها بلا رؤية مستقبلية، لوضع الدين العام في إطار نسبه المتعارف عليها، وبما لا يتجاوز نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يتجاوز الدين العام الآن نسبة 100% من الناتج. ومشكلة مصر في وضع الدين العام الآن أن إيرادات الديون يتم استخدامها في تمويل الموازنة، أو مشروعات طويلة الأمد، وغير إنتاجية، مثل مشروع توسعة قناة السويس أو العاصمة الجديدة، أو مشروع استصلاح المليون فدان.

بيانات البنك المركزي تُظهر أن الدين الخارجي في نهاية 2015/2016 بلغ 55.7 مليار دولار8، ويضاف إليها المليارات الست التي اشترط صندوق النقد الحصول عليها قبل الموافق على اتفاقية القرض في نوفمبر 2016، وبعد أيام على قرار المركزي بتعويم الجنيه، وقد اتاحت موافقة صندوق النقد على اتفاق القرض لمصر، الحصول على الشريحة الأولى بمقدار 2.1 مليار دولار، لتضاف أيضًا إلى حزمة الدين الخارجي. وفي أخر التقديرات للدين العام الخارجي أنه بلغ 71 مليار دولار، وفي طريقة للتزايد.

 

ثامناً: الجهاز المصرفي ودعم الاقتصادي المصري

اشار الحوار إلى ذكر عامر لأن ما تم من إصلاحات مالية وإدارية بالبنك المركزي المصري وباقي الجهاز المصرفي، أدت إلى تشكيل ضمانة رئيسية لأمن الاقتصاد الوطني عقب الأزمة المالية العالمية، وكذلك في مواجهة الأزمات التي مرت بالبلاد منذ عام 2011.

من الإنصاف أن نذكر أن البنك المركزي والجهاز المصرفي شهدا بالفعل تطورًا إداريًا وماليًا بعد عام 2004، ولكن هذه التطورات ظلت حبيسة الجهاز المصرفي، وفي إنتاج البيانات الاقتصادية، ولكنها لم تمتد إلى تطوير الجهاز المصرفي لتمويل التنمية. بل من مآسي البنك المركزي المصري والجهاز المصرفي بشكل عام، تورطهما بشكل كبير في تمويل الدين الحكومي، وتقلص دورهما في تمويل التنمية.

الأمر الثاني أن سلامة الاقتصاد المصري في ظل الأزمة المالية العالمية، لم يكن لمقومات اقتصادية ومصرفية، أو دور للبنك المركزي، ولكن ذلك كان بسبب ضعف اندماج الاقتصاد المصرفي الاقتصاد العالمي. فحسب ما ورد في قاعدة بيانات البنك الدولي فإن الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2008 بلغ 162.8 مليار دولار9، بينما كان اجمالي الناتج العالمي 63.9 تريليون دولار، أي أن الناتج المحلي المصري يمثل نسبة 0.25% من الناتج العالمي.

وحتى بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، نجد أن التصنيف الائتماني لبنوك قطاع الأعمال العام والتي تسيطر على نحو 40% من النشاط المصرفي، قد انخفض من قبل مؤسسة “ستاندرد آند بورز” إلى سالبة بدلًا من مستقرة10، وذلك في مايو 2016. فضلًا عن انكشاف العديد بالمؤشرات المصرفية للبنوك المصرية، فعلى سبيل المثال صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي، حقق نتائج سلبية في أغسطس 2016 بلغ 66.3 مليار جنيه11.

 

تاسعاً: عدم الوفاء باحتياجات أساسية

ذكر عامر ضمن انجازات البنك المركزي والجهاز المصرفي: “رغم أن لدينا تحديات متصاعدة خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية تتعلق بالنقد الأجنبي، فلم يكن هناك نقصًا حادًا في الغذاء أو الطاقة، فالبنك المركزي كما يصفه عامر بمثابة المؤسسة التي تمتص الصدمات بطرق عديدة”.

وللأسف فإن هناك مشكلات حقيقية في تمويل قطاعات اقتصادية مهمة تعتمد على الاستيراد، ولكن ما واجههم بشكل رئيس هو تناقص الغاز الطبيعي، وذلك خلال المدة التي يتحدث عنها عامر، ففي يونيو 2015 شكا المدير التنفيذي لغرفة الصناعات المعدنية12 ، من توقف امدادات الغاز لمصانع الحديد، وأن هناك 3 مصانع للحديد متوقفة عن الإنتاج من فبراير 2015، وتكررت شكوى هذه مشروعات من أنها تلقت خطابات في مايو 2016 من شركة “إيجاس” بعجزها عن توفير الغاز الطبيعي لمصانع الحديد بالكميات اللازمة حتى سبتمبر 2016.

كما تعاني مصر من عجز شديد في العديد من الأدوية المستوردة، وكذلك تعاني شركات الدواء من عجز في استيراد مستلزمات الإنتاج بسبب الدولار، وهو ما عرض المرضى لكثير من المتاعب الصحية13 .

 

خلاصة

لا تُعد المشكلات التي أشرنا إليها في هذه السطور، هي على سبيل الحصر، التي يمكن مناقشتها عبر حوار محافظ البنك المركزي مع انتربرايز ” Enterptis “، ولكن هذه مجرد توضيح حقائق حول بعض مقولات عامر. وبشكل عام فالرجل لا يزال يحتفظ بنفس سمات الرؤية الاقتصادية لاقتصادي عهد مبارك، بأنها قاصرة فقط على مجموعة من الإجراءات النقدية والمالية، رغم تكلفتها العالية ماليًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

إن مشكلات مصر الاقتصادية، أخطرها من وجهة نظر كثير من الاقتصاديين في أنها تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تصدر، وتدخر أقل من متطلبات الاستثمار، وتحت هذه العناوين الثلاثة يمكن وضع مئات من المشكلات الفرعية (14 ).

—————————————–

الهامش

( 1 ) مصر العربية، 3/11/2016، https://goo.gl/N0qATx

( 2 ) الأهرام 23/5/2016، https://goo.gl/Br25g0

( 3 ) الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين، نوفمبر 2016، https://goo.gl/cvUfzk

( 4 ) وزارة المالية المصرية، التقرير المالي الشهري، أكتوبر 2016، ص1.

( 5 ) البنك المركزي المصري، النشرة الاحصائية الشهرية، جدول 21، ص 75، 6http://www.cbe.org.eg/MonthlyStatisticaclBulletinDL/Dec-2011.pdf

( ) البنك المركزي المصري، المجلة الاقتصادية، المجلد السادس والخمسون، العدد الأول 2015/2016، ص 76. https://goo.gl/LSHXSE

( 7 ) البنك المركزي المصري، التقرير السنوي لعام 2014/2015، ص 84، https://goo.gl/krrOMI

(8 ) البنك المركزي المصري، النشرة الاحصائية لشهر أكتوبر 2016، جدول 33، ص 95.

( 9 ) قاعدة بيانات البنك الدولي. الرابط

( 10 ) العربي الجديد، 16/5/2016، https://goo.gl/pK21m7

(11 ) البنك المركزي المصري، النشرة الاحصائية الشهرية، أكتوبر 2016، جدول 1 ص 22، الرابط.

(12 ) المصري اليوم، 22/6/2016، https://goo.gl/sYpiQr

( 13 ) رويترز، 11/2/2016، https://goo.gl/2XkOBW

( 14 ) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close