fbpx
سياسةتقديرات

مصر وخيارات التعامل الحكومي مع جائحة كورونا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مصر وخيارات التعامل الحكومي مع جائحة كورونا

أثناء كتابة هذا التقدير (25 مارس 2020) كانت حالات الإصابة المؤكدة بفيروس COVI-19 قد وصلت إلى 469 ألف حالة، وبلغت الوفيات بسبب الفيروس حوالي 21200 حالة على امتداد 197 منطقة إصابة حول العالم[1]. بدأت القصة في ٣١ ديسمبر ٢٠١٩ عندما أبلغت الصين رسميا المكتب الوطني التابع لمنظمة الصحة العالمية بأن ثمة حالات التهاب رئوي حاد مجهولة السبب تؤدي للوفاة بنسب مرتفعة ظهرت في مدينه ووهان الصينية. في ١١ فبراير ٢٠٢٠ أعلنت المنظمة رسمياً عن اسم الفيروس الجديد: Corona Virus Disease-2019 واختصارا: COVID-19، وهو نسخة جينية جديدة لم تعرفها البشرية من قبل من عائلة الفيروسات التاجية (corona viruses)، التي كان من أبرزها فيروس ميرس (MERS) الذي ظهر في المملكة العربية السعودية، وفيروس سارس (SARS) الذي ظهر في الصين، وفي ١١ مارس ٢٠٢٠ أعلنت المنظمة اعتبار المرض الجديد جائحة عالمية “Pandemic Disease”[2].

أولاً: الخيارات الحكومية ـ عالمياً ـ للتعامل مع الوباء:

حول منهجيات وطرق مواجهة الوباء توجد طريقتان يدور حولهما الجدل داخل المجتمع الطبي والسياسي، تهدف الطريقة الأولى إلى إحباط انتشار المرض ومنع وصول العدوى للناس إلى حين وصول مختبرات وشركات إنتاج الدواء إعداد اللقاح المناسب للفيروس وطرحه تجارياً بكميات كافية، بينما تهدف الطريقة الثانية إلى تقليل الآثار الناجمة عن العدوى عبر تقديم المساعدة الطبية للمصابين مع التسليم بانتشار العدوى إلى الحد الذي تستطيع معه المناعة البشرية الطبيعية التعرف على الشفرة الوراثية للفيروس وإنتاج الأجسام المضادة المناسبة له فيما يعرف باسم مناعة القطيع “Herd immunity”.

يعني ذلك أن تتخذ الدولة وفقاً للمسار الأول بعض الإجراءات الوقائية الصارمة فيما يعرف بالتدخلات غير الدوائية (Non-Pharmaceutical Interventions – NPIs) تشمل إغلاق المدارس والجامعات، عزل الحالات المصابة، الحجر المنزلي الطوعي، والتباعد الاجتماعي. أما في المسار الثاني فتكتفي الدولة بتقديم الرعاية الطبية للمصابين وعدم اتخاذ أي من الإجراءات السابقة، وينتظر هذا المسار أنه خلال ثلاثة أشهر، في المتوسط، أن تتكون مناعة جماعية ضد الفيروس.

في دراسة[3] أعدتها الكلية الإمبراطورية في لندن (Imperial College)، وهي واحدة من أعرق الكليات البحثية في العالم، سعت للمقارنة بين فاعلية كلا الخيارين وكذلك الآثار المترتبة على سلوك أي منهما. طبقاً للدراسة فإن سيناريو الاقتصار على التدخل الطبي فقط للحالات المصابة دون أية إجراءات عزل مجتمعي قد يتسبب -في حالة بريطانيا- في إصابة حوالي 81 % من السكان، ووفاة حوالي 550 ألف، وفي حالة الولايات المتحدة قد يتسبب في وفاة2.2   مليون، فضلاً عن ضغط أقصى على المؤسسات الصحية (الاحتياج لحوالي 250 وحدة عناية مركزة لكل 100 ألف من السكان).

ويتضح من تلك الأرقام مدى فداحة الخسائر البشرية وفقاً لهذا السيناريو لكنه في المقابل سيجعل الوصول لذروة موجة الوباء أكثر سرعة وسيخفض بشكل كبير من الخسائر الاقتصادية المتوقعة في حال توقف الحياة الطبيعية لفترة طويلة.

ومعضلة هذا السيناريو الرئيسة هي استحالة قبوله مجتمعياً، في زمن أصبح حضور المجتمعات فيه قوياً عبر أنماط حياة جديدة ساعدت على سرعة التواصل، وتدفق المعلومات، ومن ثم التأثير على القرارات السياسية، ومن جانب آخر؛ سيكون من المستحيل على المنظومات الصحية التعامل مع عدد الحالات الضخمة المتوقعة دون الوصول لمرحلة الانهيار الكامل.

بينما تتجلى أبرز معضلات سيناريو التدخلات غير الدوائية (NPIs) في عدم القدرة على تقييم المدة الزمنية التي ستحتاجها الدولة لتطبيق تلك الإجراءات، حيث تذهب أغلب التقديرات إلى أن عملية تطوير لقاح مناسب للفيروس ووصوله للمستهلك قد تستغرق وقتاً طويلاً يصل إلى 18 شهراً.

لكن فيما يبدو أنه تحت تأثير الضغوط المجتمعية، واستلهاماً لحالة النجاح المبدئية لتجربة الصين رغم خصوصيتها من حيث توافر الإمكانات التقنية واللوجستية اللازمة لفرض العزل المجتمعي، لجأت أغلب دول العالم خلال الأسابيع الماضية لخوض المجهول وبدء إجراءات حكومية تتعلق بالعزل المجتمعي، وخاصة أنه ليس مؤكداً حتى الآن أن ثمة خطط واضحة لدى أغلبها لمعالجة الآثار الاقتصادية التي قد تنجم عن تلك الإجراءات.

ثانياً: التعامل الحكومي المصري

مصر التي تعيش أوضاعاً استثنائية منذ انقلاب الثالث من يوليو ٢٠١٣، تحمل الأمور فيها تعقيداً إضافياً، حيث يغلب المنطق الأمني على كافة قرارات السلطة التي تعيش عقدة فقدان الشرعية وتنظر للمجتمع دائماً باعتباره مصدر قلق وتهديد لاستقرار النظام (حالة طاقة زائدة على حد تعبير السيسي)، تحاول الدولة منذ الانقلاب العسكري إعادة ترميم قوتها وصورتها الذهنية باعتبارها قادرة على السيطرة غير المحدودة وعلى القمع الأمني للخارجين عن سلطتها دون سقف للقمع، وأن تنفي عن نفسها اتهامات الترهل وضعف القدرة على تقديم الخدمات لمواطنيها.

كان واضحاً في بداية الأزمة عالمياً أن مصر تحاول إدارتها في الخفاء وعدم الإفصاح عن الحالات المصابة، أو للدقة عدم السعي أصلاً لاكتشافها، ثم اضطر النظام لاحقاً تحت ضغط خارجي -بسبب تزايد رصد عدد كبير من دول العالم لحالات مصابة عائدة من مصر- أن يعترف بوجود حالات لمصريين عائدين من الخارج مصابين بالفيروس، ثم تدحرجت كرة الثلج حتى وصل تعداد الإصابات المعلن عنها رسمياً حتى كتابة هذا التقدير 456 مصاباً توفي منهم 21 شخصاً، وتم الإعلان عن تعافي 95 شخصاً.

ويمكن التمييز في مستويات التعامل الحكومي المصري في مواجهة وباء كورونا بين عدة مستويات:

1ـ استراتيجياً: لم تُفصح الدولة عن استراتيجية محددة وواضحة لمواجهة الأزمة، حيث تم تبني إجراءات جزئية بشكل متدرج في اتجاه العزل المجتمعي، بدأت بتعطيل الدراسة ثم وقف حركة الطيران وانتهاء بحظر التجول لمدة 11 ساعة يومياً بدءاً من مساء 24 مارس، إلى جانب إجراءات أخرى تتعلق بمواعيد عمل بعض المرافق الحكومية والخاصة وتقليص عدد الموظفين، إلا أن تلك الإجراءات ليس واضحاً أنها ضمن سياق استراتيجي متدرج، وليست هناك أي شفافية بهذا الصدد سوى الإصرار على مقولات الطمأنة والحديث بمُطلقية عن قوة وجاهزية الدولة (نموذج خطاب السيسي في ٢٢ مارس 2020).

2ـ مؤسسياً: أُوكلت سلطة اتخاذ تدابير مواجهة الوباء لمجلس الوزراء، ولم يتم تشكيل هيئة خاصة بإدارة الأزمة -على الأقل فيما هو معلن- حيث تتم إدارة الأزمة حالياً من خلال مجلس الوزراء نفسه والمؤسسات التابعة له، مثل إدارة الأزمات التابعة لمركز المعلومات برئاسة الوزراء، والتي يرأسها اللواء محمد عبدالمقصود، الذي أوضح([4]) أن الأزمة تُدار على مستويين: الأول، الاستراتيجي، برئاسة رئيس مجلس الوزراء، والجهات المعنية بكل الكوارث والأزمات التي تمر بها الدولة، ودوره توجيه الوزارات المعنية، كل في قطاعه. والثاني، من خلال اللجنة القومية للمتابعة، وهي التي تُنسق مع الجهات السيادية في الدولة، وكل الوزارات والمحافظات أعضاء في هذه اللجنة.

لكن ثمة مؤشرات يمكن الاستدلال منها على أن هناك جهة أخرى تتخذ تلك القرارات بخلاف مجلس الوزراء، أبرزها التصريحات المتضاربة الصادرة عن المجلس ووزرائه، على سبيل المثال، في ١٩ مارس 2020، ظهراً، أعلن مجلس الوزراء في بيان له[5] نفى شائعات حول إلغاء الامتحانات الدراسية وأكد على إجراء الامتحانات في موعدها، ومساء نفس اليوم أعلن وزير التربية والتعليم في مؤتمر صحفي إلغاء كافة امتحانات سنوات النقل واتخاذ إجراءات جديدة توحي بأن تعطيل الدراسة قد يكون مستمراً[6].

3ـ منذ الأيام الأولى للأزمة، ظهر ترهل قطاع الصحة وعدم استعداده للأزمة حينما أعلنت المملكة العربية السعودية اشتراط حصول المصريين الراغبين في السفر إليها على شهادة تحليل تثبت خلوه من فيروس COVID-19. حيث نشرت وسائل إعلام وشبكات تواصل اجتماعي مشاهد لتكدس بشري كبير حول أبواب مبنى المعامل المركزية بوزارة الصحة (المكان الوحيد لتواجد اختبار PCR للكشف عن الفيروس)، ثم لاحقاً أعلنت الوزارة عن إطلاق موقع إلكتروني لحجز التحليل منعاً للتكدس، لكن تبدو الحادثة كاشفة عن سياق ترهل المؤسسة الصحية.

4ـ بلغت نسبة الإنفاق العام على الصحة من إجمالي الإنفاق العام للدولة وفقاً لبيانات الجهار المركزي للتعبئة العامة والإحصاء[7] نسبة 4.3٪ في موازنة عام 2018-2019، وهو ما يمثل انخفاضاً ملحوظاً عن الأعوام السابقة (أقل مستوى منذ عام 2009) وفقاً للمؤشر التالي:

المصدر: مصر في أرقام ٢٠١٩- صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء[8]

هذا بالإضافة للتلاعب الحكومي في تقدير موازنة الإنفاق على الصحة حيث يتم إضافة مخصصات المياه والصرف الصحي إلى ذات البند مما يعني أن الإنفاق الصافي على مرافق الخدمات الصحية يتراوح عند 1.2% تقريباً، فيما يبلغ الإنفاق الحكومي على الصحة في أوروبا، على سبيل المثال، نحو 13% وفقاً لتقدير منظمة الصحة العالمية[9].

5ـ بلغ عدد مستشفيات القطاع الحكومي 691 مستشفى في عام 2018 بطاقة إجمالية 95,683 سرير، بينما بلغ عدد الأطباء العاملين بالقطاع 91,316 بانخفاض شديد عن عام 2017 حيث بلغ عدد الأطباء في القطاع الحكومي وقتها 102,773 طبيب. أما في القطاع الخاص فقد بلغ عدد المستشفيات 1,175 مستشفى في عام 2018 وعدد الأطباء 29,290 طبيب، بطاقة سريرية نحو 35,320 سرير.

وتشير الأرقام إلى عدم جاهزية المرافق الصحية لاستيعاب حالة وباء سريع الانتشار والعدوى إذا أخذنا في الاعتبار أن عدد المترددين على المستشفيات في القطاعين العام والخاص يبلغ سنوياً في الأحوال العادية قرابة مليونين ونصف بطاقة إشغال سريري 49.3% وفق إحصائيات عام 2018. واعتبار انخفاض نسبة الأطباء أيضاً لعدد السكان البالغة 1.2 طبيب لكل 1,000 مواطن، مقارنة بالنسبة العالمية 1.8 طبيب.[10]

6ـ اقتصاديا، يُتوقع أن تكون للجائحة آثار حادة على الوضع الاقتصادي المأزوم أصلاً والذي يعاني من اختلالات هيكلية عميقة. حيث ستتأثر مصادر الدخل القومي الرئيسة المعتمدة بدرجة كبيرة على تحويلات المصريين بالخارج الذين يعيش أغلبهم في دول الخليج ثم أوروبا، والتي ستعاني بدورها من أزمات اقتصادية محتملة جراء الإصابة بالوباء، وكذلك عائدات قناة السويس التي يتوقع تقلصها بسبب حالة الركود العالمي المنتظرة، فضلاً عن التوقف الكامل لقطاع السياحة وخسائر شركات الطيران، وتعثر النشاط الاقتصادي الداخلي بشكل عام، وهو ما سيطال بالضرر قطاعات متعددة من المجتمع لاسيما الطبقات الدنيا ومحدودي الدخل.

واستجابة الدولة لتلك المخاطر المتوقعة بدت متحيزة لطبقة رجال الأعمال وأصحاب رءوس الأموال الكبرى، فأعلنت الدولة في 17 مارس 2020 حزمة مساعدات اقتصادية شملت[11]:

  • تخفيض سعر الغاز الطبيعي للصناعات ذات الجهد الفائق والعالي والمتوسط، وعدم زيادة أسعار الكهرباء لباقي الاستخدامات الصناعية.
  • توفير مليار جنيه للمصدرين خلال شهري مارس وإبريل 2020 لسداد جزء من مستحقاتهم.
  • تأجيل سداد الضريبة العقارية المستحق على المصانع والمنشآت السياحية لمدة 3 أشهر.
  • خفض سعر ضريبة توزيع الأرباح الرأسمالية للشركات المقيدة بالبورصة بنسبة 50% لتصبح 5%، بالإضافة للإعفاء الكامل للعمليات الفورية على الأسهم من ضريبة الدمغة لتنشيط حجم التعامل.

فيما لم تشمل تلك الإجراءات أية مساعدات أو إعفاءات تتعلق بالمواطنين العاديين ومحدودي الدخل، باستثناء إعلان وزارة القوى العاملة عن مساعدة قدرها ٥٠٠ جنيه لعمال اليومية، لكن الواقع أن المتضررين المحتملين يتجاوزون عمال اليومية ليشملوا، على سبيل المثال، العاملين بشركات القطاع الخاص المتوسطة، وأصحاب المشروعات الناشئة الصغيرة، وأغلب أولئك من غير المشمولين بالمظلات التأمينية، وقد تجاهلت الدولة حتى اللحظة إقرار أية حزم مساعدة اقتصادية تشمل تلك الفئات.

خلاصة

في ظل حالة عدم الثقة في بيانات أطراف النظام وتصريحاتهم وفي ظل تعدد المؤشرات عن عدم كفاءة المنظومة الصحية في مصر وعدم استعدادها الكافي، فضلاً عن سيادة المنطق الأمني في رؤية الأزمة والتعاطي معها، لا يُرجَّح أن تستطيع تلك المنظومة إدارة الأزمة بالرشد الكافي لتجاوزها. لكن ثمة ما يمكن فعله، لو توافرت الإرادة لذلك أو كان هناك نظام يضع في أولوياته حسابات صحة المواطنين بدلاً من حسابات الأمن السياسي، واستغلال كل فرصة لمزيد من قمع المعارضين والتعسف مع المعتقلين السياسيين، يمكن تبني عدد من الإجراءات:

1ـ إقرار علاوات استثنائية للكادر الطبي والعاملين بالمؤسسات الصحية لاسيما رفع بدل العدوى.

2ـ وضع كافة المستشفيات الخاصة تحت إدارة الدولة بقرارات استثنائية وتوجيه أولوياتها التشغيلية للاستعداد للتعامل مع حالات الإصابة بالوباء.

3ـ الاستفادة من طلاب السنوات النهائية من كليات المهن الطبية والتمريض للمساعدة في تقديم الخدمات الطبية بمكافآت مالية مناسبة.

4ـ فرض ضريبة استثنائية على كافة رؤوس الأموال التي تتجاوز ٥ مليون جنيه، على سبيل المثال، تبدأ من ١٠% وتتصاعد تدريجياً لمرة واحدة وتُوجه حصيلتها لدعم متضرري الأزمة.

5ـ فرض رقابة قوية عن طريق مكاتب العمل على تصرف شركات القطاع الخاص التي تزيد أرباحها السنوية الصافية عن مليون جنيه خلال آخر ٣ سنوات، ومنعها من فصل أي من موظفيها مهما كانت الظروف، مع تقديم الدعم للشركات التي يقل دخلها عن هذا الحد.

6ـ توجيه أقصى حد ممكن من المصانع المؤهلة، العسكرية والمدنية، لإنتاج أجهزة التنفس الصناعي وتعبئة أسطوانات الأوكسجين وتوريدها للحكومة بمصاريف التشغيل ودون أرباح.


الهامش

[1] الرابط

[2] الرابط

[3] الرابط

[4] الرابط

[5] الرابط

[6] الرابط

[7] الرابط

[8] الرابط

[9] الرابط

[10] الرابط

[11] الرابط

وباء كورونا وبنية النسق الدولي الأبعاد والتداعيات

أقرأ أيضاً: وباء كورونا وبنية النسق الدولي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close