
معركة حلب والسيناريوهات القادمة
مقدمة:
في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا وقوات النظام وحلفائهما سيطرتهم على حلب المحاصرة وفتح ممرات آمنة للمدنيين للخروج من المدينة؛ نجحت قوات المعارضة السورية المسلحة مع بداية أغسطس/آب م2016م، في توجيه ضربة نوعية أطلق عليها اسم غزوة “إبراهيم اليوسف”1 لقوات النظام وحلفائه انتهت بعد نحو سبعة أيام بفك الحصار عن المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات النظام المدعومة في حلب، وقد صاحب ذلك إعلان فصائل المعارضة تدشين عملية لتحرير حلب كاملة.
ليبقي السؤال الذي يحاول هذا التقدير الإجابة عليه: ما هي تداعيات التطورات الأخيرة في حلب على الأوضاع الداخلية في سوريا في ظل المتغيرات الإقليمية؟
أولاً: الأهمية الاستراتيجية لمدينة حلب:
مدينة حلب السورية، لها عدة أوجه من الأهمية بالنسبة لسوريا وأيضا للأطراف الإقليمية، فهي مدينة مصنفة في “اليونسكو” كموقع تراثي عالمي، وهي العاصمة التجارية والصناعية لسوريا، وهي قريبة من الحدود التركية في الشمال. بمعني أنها تشكل امتداداً من ناحية الشمال الشرقي والغربي لتركيا. وهذا يعزز من طمأنة النظام السياسي في تركيا حول الامتداد الجغرافي لها وابتعاد القوات الكردية عن حدودها.
كما تحمل حلب أهمية رمزية كبيرة، فهي ثاني أكبر المدن السورية، وكانت أكبر المراكز الاقتصادية في البلاد قبل أن يتم تدميرها بفعل الحرب. وهي المدينة السياحية الأولى في البلاد، والموقع المفضل للعديد من البعثات الدبلوماسية، بجانب أنها واحدة من أقدم المدن في العالم، وتمت الإشارة إليها في النصوص المصرية القديمة منذ أكثر من 20 قرن قبل الميلاد. وبعيدا عن هذه الأهمية التاريخية والجغرافية، فإن المدينة الآن تقع في قلب الصراع الجيواستراتيجي الدائر في سوريا، حيث تمثل المعركة حول حلب أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة إلى الأطراف المتنازعة.
ثانياً: أوضاع حلب قبل المعركة:
قبل بدء المعركة كانت مدينة حلب منقسمة إلى نصفين، الجزء الشرقي ويسيطر عليه المسلحون، وعلى رأسهم جبهة فتح الشام “النصرة سابقا” والجزء الغربي ويخضع لنفوذ الجيش السوري.
قررت جبهة فتح الشام تفجير الوضع في المدينة حتى لا تجد نفسها منعزلة بفعل الهدنة التي وُقعت باتفاق روسي أمريكي، والتحكم النسبي الذي أحدثه الجيش السوري بمساعدة سلاح الجو الروسي. إلى جانب سعي فتح الشام إلى تعزيز تواجدها الميداني بعد انفصالها عن القاعدة، وكذلك هي خطوة مهمه بعد توحد العديد من فصائل المعارضة السورية تحت قيادة موحدة الى حد كبير.
ثالثاً: المراحل التي مرت بها المعركة:
المرحلة الأولى: بدأت بتفجير عربتين مفخختين من قبل مقاتلي جبهة فتح الشام، تلاها انهيار متسارع في صفوف قوات النظام وسيطرة فصائل المعارضة على المناطق ذات الأهمية الكبيرة. ثم ما لبث المقاتلون أن اقتحموا كتيبة الصواريخ وسط قصف جوي روسي مكثف لترجيح كفة النظام.
المرحلة الثانية: شهدت سيطرة جيش الفتح على نحو عشرة مواقع تابعة لقوات النظام ما بين تلال وتجمعات.
المرحلة الثالثة: فيها دارت معارك عنيفة بين قوات النظام وجيش الفتح بهدف السيطرة على الكلية المدفعية إحدى أهم قلاع النظام في حلب وريفها. ومن أهم النتائج السريعة التي حققتها المعارضة المسلحة اقتحام مدرسة الحكمة، وتهاوي قلاع النظام بالمنطقة إلى جانب تقدم المقاتلين، وفي يوم واحد سقطت عشرة مواقع كانت تخضع لسيطرة النظام بينها تلة مؤتة وتل المحبة والجمعيات والعامرية.
وتمكن الثوار في جيش الفتح من استعادة السيطرة على قرى “برنة وزيتان وخلصه” الاستراتيجية في ريف حلب وبذلك أصبح الثوار على مشارف بلدة الحاضر من الجهة الشمالية بعد أن سيطروا على بلدة العيس الاستراتيجية المجاورة للحاضر، وبذلك قطع الثوار على النظام محاولته المتكررة للسيطرة على طريق “حلب – دمشق” الدولي، منذ تقدمهم في ريف حلب الجنوبي بعد بدء التدخل الروسي. كما ان هذه التطورات جاءت في ظل إعلان روسيا عن هدنة ليومين في حلب، وبالتقدم الجديد للثوار في ريف حلب الجنوبي يثبتون يوماً بعد يوم أنه لولا دعم النظام من الطيران الروسي لما كان تقدم فيه سابقاً.
إضافة إلى أن تقدم المعارضة المسلحة في حلب سوف يعزز من التواصل ما بين مدينة حلب وغازي عينتاب، مما يعزز من نجاح فكرة إنشاء منطقة عازلة ويحظر فيها الطيران.
وقد وصف الرئيس الأسبق للمجلس الوطني السوري برهان غليون ما جرى في حلب بأنه إنجاز سياسي وعسكري بكل معنى الكلمة، وأرجع النصر لثمرة التعاون بين الثوار على الأرض، وارتقائهم إلى مستوى المسؤولية، مشيراً إلى أن مخططات النظام في حلب دفعت فصائل المعارضة إلى التوحد لأن مصيرهم بات مهدداً، كما ساهمت أزمة تركيا مع أميركا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في جعل أنقرة لا تتقيد بالقرارات الأميركية وزادت من دعمها للمعارضة المسلحة حتى لا تخسر هذه المعركة.
رابعاً: السيناريوهات المستقبلية لمدينة حلب:
الحسابات الرسمية لفصائل المعارضة المسلحة تصف المعركة القادمة “ملحمة حلب الكبرى”، و”فتح حلب”، خاصة بعد اعلان جيش الفتح عن بدئه المرحلة الرابعة من معركة “إبراهيم اليوسف” في حلب، والتي تهدف للسيطرة على كامل المدينة. وهو يعد بمثابة قرع لطبول حرب قد تطول مدتها، ويصعب التكهن بفصولها أو توقع مآلاتها، خصوصا أنها معركة سيكون ميدانها أحياء سكنية لم تختبر المعارك منذ بداية الثورة السورية، وفي وسط شعبي لا يمكن البت إلى أي طرف سينحاز، هل للقوات المهاجمة أم للقوات الحاكمة؟
السيناريو الأول: نجاح قوات المعارضة في السيطرة على حلب:
حيث يرى البعض أن الطريق أمام جيش الفتح لدخول أحياء حلب الخاضعة لسيطرة النظام لن يكون صعبا، وذلك يرجع إلى:
1ـ أن الغطاء الجوي الذي تعتمد عليه قوات النظام وحلفاؤها في معاركها سيقتصر على الطائرات المروحية لأغراض تكتيكية وفي المساحات ذات الحساسية التي يكون فيها الاشتباك عن قرب بين الأحياء، وهو ما سيجعل احتمال إسقاطها كبيرا بالأسلحة المضادة التقليدية الرشاشة.
2ـ أن جيش الفتح استطاع كسب حاضنة شعبية كبيرة من خلال سلسلة الانتصارات الكبيرة التي حققها من قبل؛ عندما نجح في السيطرة الكاملة على إدلب وريفها، وأخيرا في فك الحصار عن حلب، وهو ما سيشكل عاملا مساعدا له في حال دخل أحياء حلب الخاضعة لسيطرة النظام، كما أنه لم تسجل أي انتهاكات له ضد المدنيين في إدلب وريفها، وتفرغه التام للجبهات وقدرته على حماية المدنيين.
السيناريو الثاني: بقاء الوضع القائم لفترة زمنية
يرى أنصار هذا السيناريو أن هناك صعوبات ستواجه قوات المعارضة من تحرير باقي حلب؛ سيجعلها عاجزة عن تحرير حلب ليبقي الوضع القائم على ما هو عليه أهمها: إن الدخول في معارك ضمن الأحياء في حلب سيرتب على جيش الفتح ضرورة امتلاك ذخيرة تلائم هذا النوع من الحروب، إذ تتطلب كميات كبيرة من الذخيرة من النوع الناعم (الأسلحة الفردية، والقناصات، والرشاشات).
إضافة إلى أنه ينبغي على جيش الفتح أن يعتمد على مقاتلين يعرفون جغرافيا الأحياء وكيفية التنقل بين مداخلها ومخارجها، وأن يدرك أنه انتقل من المعارك في المساحات المفتوحة والنصر السريع إلى المعارك في الأماكن الضيقة التي يطول أمدها في غالب الأحيان، حيث سيكون الانتقال من بناء إلى بناء، ومن حي إلى حي”. خاصة وأن حرب المدن تكثر فيها عمليات القنص والكمائن واستخدام الأنفاق والتلغيم، والنظام سيلجأ إلى استخدام المدنيين دروعا بشرية في وجه جيش الفتح، مما سيزيد من حساسية الموقف.
السيناريو الثالث: تدمير حلب:
يرى أنصار هذا السيناريو، إن نجاح المعارضة السورية في كسر الحصار الذي فرضته قوات نظام الرئيس بشار الأسد على مدينة حلب، قد يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتطبيق الخطة العسكرية التي نفذها في الشيشان على المدينة، وتحولها لما يشبه العاصمة الشيشانية غروزني، حيث تقوم الخطة العسكرية الروسية على فرض مزيد من الخنق عليها، وإجبار السكان على إخلائها، ليقوم الطيران الروسي لاحقا بتدميرها على رؤوس المسلحين حتى يسلموا أسلحتهم.
الا أن المشكلة التي تواجه روسيا هو أن الشيشان كانت معزولة وقريبة من روسيا، بينما حلب قريبة جدا من الدول السنية التي تقدم لها المساعدة، هذا الى جانب قدرة مسلحي المعارضة على الصمود، وهو ما سيجعل روسيا تجد نفسها أمام مفترق طرق إما زيادة حدة القصف على حلب، وهو ما يعني احتلال المدينة حتى لو تسبب ذلك في وقوع مجزرة بشرية وتدميرها كاملة كما حصل في غروزني؛ أو أن تواصل جهودها السياسية لتحقيق اتفاق مع المحور السني تجاه المعارضة السورية المعتدلة، للتفرغ لمحاربة تنظيم الدولة العدو المشترك للجانبين.
السيناريو الرابع: اعلان هدنة أو وقف إطلاق نار في حلب
يعزز هذا السيناريو دعوة وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري موسكو ودمشق إلى الامتناع عن القيام بعمليات عسكرية نشطة في سوريا. وكذلك دعوة وزير خارجية تركيا مولود تشاوش أوغلو، والذي طالب السلطات السورية بلهجة الإنذار بـ”وقف الهجمات في حلب كافة ومن ضمنها الغارات الجوية فورا“.
وما يعزز ذلك هو رغبة المنظمات الإنسانية الدولية في إيصال المساعدات الإنسانية والخدمات الطبية إلى المدينة، بعد ان تقدمت بطلب رسمي لروسيا في هذا الموضوع. وقد أعلن رئيس قسم إدارة العمليات في هيئة الأركان الروسية الجنرال سيرغي رودسكوي عن التخطيط للتعاون في هذا المجال مع هيئة الأمم المتحدة، “لقد درست وزارة الدفاع الروسية باهتمام المقترح الذي تقدم به مبعوث السكرتير العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، بشأن تحسين العملية الإنسانية في حلب، وتتفق معه تماما”.
السيناريو الخامس: وقف الحرب في سوريا
ويقوم على أن روسيا يمكن أن تغير موقفها إلى حد ما من الرئيس السوري بشار الأسد، مشيرا إلى أن واشنطن مثلا كانت تشترط في السابق رحيله عن السلطة لبدء المرحة الانتقالية لكنها لم تعد كذلك الآن، فالأزمة السورية لا تكمن في شخص الأسد.
كما أن قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، من الممكن ان تؤثر على قضايا المنطقة وفي مقدمتها الملف السوري؛ وذلك من خلال تقديم تنازلات بشأن الملف السوري، فروسيا تدرك أهمية مصالح تركيا، ومخاوفها من وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبر أهم لها من مسألة بقاء الأسد أو رحيله، بحسب اعتقاده.
واعتبر أن تركيا جاهزة الآن لتغيير منهجها إزاء الأزمة السورية، موضحا أن رحيل الأسد كان الأولوية الأولى بالنسبة لتركيا قبل أربع سنوات، أما حاليا فإن ذلك لا يعتبر شرطها الأول، فهي تهتم الآن بأمنها القومي، وما يحصل من تحركات لوحدات حماية الشعب الكردية على حدودها مع سوريا يشكل مصدر إزعاج وقلق كبيرين لأنقرة، وتركيا تريد من روسيا تبديد مخاوفها من وحدات حماية الشعب الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية الذي نفذ عدة هجمات في مدن تركيا من بينها إسطنبول.
خلاصة
إن معركة حلب تمثل تحولاً مهماً في الصراع بسوريا، وعواقبها ستكون كبيرة ليس على سوريا وحسب؛ بل وعلى منطقة الشرق الاوسط. فمعركة حرب لا يمكن النظر اليها في إطار العمل العسكري دون تسليط الضوء على العمل الدبلوماسي النشط سواء من خلال التقارب الروسي التركي الأخير أو المواقف الامريكية والأوروبية مما يجرى في حلب، وربما يكون من تبعاتها التأثير في مسار الثورة السورية إلى حد كبير.
—————————-
الهامش
(1) اسم المعركة يرجع الى النقيب ابراهيم اليوسف أحد ضباط المدفعية في الجيش السوري، وهو من مواليد عام 1950 في قرية تادف من ريف حلب وقد استطاع الأمن السوري قتله بعد اعتقاله لاتصاله بجماعة الاخوان المسلمين في 2 حزيران 1980 في منطقة الميسّر بحلب، واعتمدت تسمية “معركة الشهيد ابراهيم اليوسف”، كنوع من التحدي للنظام في نفس المكان (كلية المدفعية).
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.