
معركة طرابلس: مسار العملية العسكرية ودلالات الهزيمة
مر عام على بدء العملية العسكرية التي أطلقها خليفة حفتر باسم “معركة الكرامة” في أبريل 2019، شن خلالها هجوما عنيفا على الغرب الليبي خلف على إثره دمارا وخسائر مادية وبشرية فادحة، وذلك بهدف الدخول إلى طرابلس التي اعتبرها معركته الكبرى ومن تم إسقاط حكومة الوفاق في سبيل الاستيلاء على السلطة.
وفي المقابل فقد شهد هذا العام، تواتر سلسلة من المبادرات الدبلوماسية لحل الأزمة الليبية كان أبرزها مؤتمر برلين الذي سجل توافق دولي على مخرجاته. لكن كل تلك المبادرات باءت بالفشل نتيجة انتهاكات حفتر المتكررة للمبادرات السلمية وعرقلته لمسار التسوية السياسية بإيعاز خارجي بسبب مناورته العسكرية.
لكن المعادلة على أرض الواقع تغيرت على إثر تحول استراتيجية قوات الوفاق من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، من خلال نهج سياسة ردعية تمنع ميليشيات حفتر من التقدم نحو الأمام، ومن تم تحرير عدة مدن استراتيجية ومحورية كانت تحتلها هذه الميليشيات.
هذا التغير الذي ساهم في تفعيله الدعم اللوجستي العسكري والاستخباراتي القوي الذي قدمته تركيا لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا تنفيذا لبنود مذكرتي التفاهم التي أبرمت في نوفمبر 2019 بين الطرفين، الأولى تخص التعاون الأمني والعسكري، والثانية متعلقة بتحديد مناطق الصلاحيات البحرية مع البلدين والتي تتوافق مع بنود القانون الدولي، وقد شكل ذلك عاملا مساعدا لقوات الوفاق في تحقيق التقدم الميداني وإرجاع ميليشيات حفتر إلى الوراء وإجهاض كل مخططات قوى الدعم الخارجي في تنفيذ أجندتها وأبرزها السيطرة على المؤهلات الطاقية التي تنعم بها ليبيا.
إذن، يستمر النزاع في ظل التطورات الميدانية التي عرفت تقدما استراتيجيا مهما لقوات الوفاق التابعة للحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، في مقابل استمرار اعتداءات ميليشيا حفتر وحلفائه برا وجوا على المدنيين والمناطق السكنية والمنشآت النفطية وغيرها، وذلك لتعويض الخسارات المتصاعدة والمتسلسلة التي تلقاها منذ بداية هجماته على طرابلس والمدن المتاخمة لها.
ومن كل ذلك، فما هو المسار الذي سلكته العملية العسكرية التي قادها خليفة حفتر؟ وما هي مآلاتها في ظل فشله الميداني؟ وما هي أبرز السيناريوهات التي سيشهدها الواقع الليبي في ظل تغير المعادلة العسكرية على أرض الواقع؟
ولذلك سنحاول معالجة التساؤلات المطروحة ضمن المحاور التالية:
أولا: تطورات هجوم ميليشيات حفتر على طرابلس
منذ انطلاق العملية العسكرية لخليفة حفتر في أبريل 2019، والميليشيات والمرتزقة التابعين له يشنون هجوما ذو نطاق واسع على طرابلس والنواحي، بهدف الاستيلاء على المناطق التي هي تحت سيطرة قوات الوفاق والدخول إلى محور طرابلس عبر منافذ مختلفة، وبالتالي إسقاط السلطة المعترف بها من طرف الشرعية الدولية في طرابلس. ولذلك شن حفتر حربا بلا هوادة على مناطق تابعة لحكومة الوفاق برا وجوا، مدعوما عسكريا وتمويليا من قوى خارجية (الإمارات، مصر، السعودية، فرنسا، روسيا)، ارتكب من خلالها مجازر وجرائم لا حصر لها في حق المدنيين الليبيين، وذلك في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن حمايتهم بصفتهم مشمولين بالحماية الدولية وفق أحكام القانون الدولي الإنساني.
وقد حصدت هذه العملية العسكرية المئات من الأرواح والإصابات بحسب المؤشرات الأممية. بحيث فَقد ما لا يقل عن 356 مدني حياتهم بينما أصيب أكثر من 329 آخرون بحسب توثيق البعثة الأممية للدعم في ليبيا منذ أبريل 2019 إلى حدود نهاية مارس 2020[1]، من بينهم 59 طفل ضحية (مقتل 24 وإصابة ما لا يقل عن 35)، بينما شرد أكثر من 150 ألف شخص من بينهم 90 ألف طفل وحرمان ما لا يقل 200 من الالتحاق بمدارسهم بحسب مؤشرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة، وذلك كله جراء الأضرار المادية التي لحقت بالبنية التحتية والمنشآت المدنية منها السكنية والدراسية والصحية وغيرها.
وقد تركزت ضربات ميليشيات حفتر على مناطق وأهداف متعددة من أبرزها:
1ـ المناطق السكنية والمرافق المدنية بطرابلس ونواحيها:
فقد شن سلاح الجو التابع لحفتر المدعوم خارجيا، وكذا الميليشيات والمرتزقة على الأرض بأسلحة ثقيلة هجمات على مناطق متعددة في الغرب الليبي وعلى رأسها طرابلس، بحيث تم استهداف أحياء ومجمعات آهلة بالسكان كما تم ضرب مجموعة من المرافق المدنية منها الدينية بحيث لم تسلم المساجد من اعتداءات ميلشيات حفتر، التي أقدمت على قصف مجموعة منها بطرابلس ومحيطها من أبرزهم مسجد العاصمة ومسجد صلاح الدين وذلك بالقذائف المدفعية بحيث ألحقت أضرارا جسيمة بهم، بالإضافة إلى المدارس ومؤسسات الأعمال ومناطق الإيواء وغيرها في طرابلس ونواحيها. كان أشدها الهجوم الجوي الذي تعرض له مركز إيواء المهاجرين بمدينة تاجوراء شرق طرابلس، بحيث تم ارتكاب مجزرة بحق هذه الفئة المشمولة بحماية القانون الدولي، راح ضحيتها 60 قتيل وأكثر من 130 مصاب[2].
أما مدينة مرزق فكانت أحياءها الأكثر استهدافا من طرف طيران الجو والقوات الميدانية التابعة لخليفة حفتر، وكانت أشد تلك الهجمات في أغسطس 2019 حينما استهدف السلاح الجوي أحياءً سكنية بالمدينة سقط على إثرها أكثر من 41 مدني فيما أصيب وجرح أكثر من 60 شخصا[3]. كما ارتكبت هذه الميليشيات سلسلة من جرائم القتل الجماعي بحق سكان مدينة ترهونة والتي أسفرت على ما يزيد من 50 قتيلا. كما تم ارتكاب جريمة بشعة في حق الطفولة الليبية في ديسمبر 2019 حينما قتل أكثر من 14 طفلا بمدينتي طرابلس ومرزق جراء استهدافهم بغارات لطائرات مسيرة إماراتية داعمة لميليشيات حفتر[4].
كما تم استهداف مدينة مصراتة التي تعد قواتها أكبر الداعمين لحكومة الوفاق على المستوى العسكري في يناير 2020، بحيث تم شن هجوم متسلسل من طرف طائرات مسيرة لقوى أجنبية داعمة لحفتر.
وبعد الهزائم المتتالية لخليفة حفتر على يد قوات حكومة الوفاق، واصل هجماته في أبريل 2020 بحيث تم استهداف وبهجمات عشوائية بواسطة صواريخ غراد والهاون، مناطق مأهولة بالسكان في جنوب العاصمة طرابلس وبالأخص بمحوري عين زارة ومشروع الهضبة[5]. وفي مايو 2020، أسفر قصف عشوائي بصواريخ غراد وقذائف هاون أطلقها مرتزقة تابعين لحفتر على مناطق وأحياء سكنية في العاصمة طرابلس عن قتل 17 مدني وإصابة أكثر من 59 آخرين[6].
وقد أدى تصاعد الهجمات التي تشنها ميلشيات حفتر إلى تشريد حوالي 150 ألف مدني من بيوتهم، بينما يعيش أكثر من 345 ألف في الخطوط والأماكن التي تتعرض للقصف اليومي من طرف حفتر ومرتزقته، بينما يحتاج أكثر من 893 ألف شخص للمساعدات الإنسانية بحسب تقديرات البعثة الأممية للدعم في ليبيا[7].
2ـ مطار معيتيقة الدولي:
تعرض مطار معيتيقة الدولي منذ أبريل 2019 لهجمات متتالية من طرف ميليشيات حفتر، بحيث كان هدفا للعديد من الغارات الجوية والصاروخية. وعلى إثر الاعتداءات المستمرة التي طالت المطار تم تعليق الملاحة الجوية لمرات عديدة جراء الخسائر المادية التي لحقت به، بحيث شكل ذلك تهديدا صارخا لسلامة الحركة الجوية. ومن أبرز الاعتداءات التي تعرض لها، تلك الضربات الجوية الكثيفة والعنيفة في يوليو وأغسطس 2019، والتي كانت سببا في انقطاع الملاحة الجوية لقرابة 3 أشهر[8] .
ورغم عودة الحياة للمطار في ديسمبر 2019 إلا أن الاعتداءات لم تتوقف، بحيث أنه في يناير 2020 تعرض المطار ومحيطه لقصف جوي عنيف بواسطة الطيران الإماراتي المسير الداعم لخليفة حفتر، بالإضافة إلى ضربات بصواريخ غراد أطلقتها الميليشيات التابعة له، الأمر الذي تسبب في حالة من الخوف والهلع وسط المسافرين والعاملين بالمطار[9].
وفي فبراير 2020 تم توقيف الملاحة الجوية بصفة مؤقتة جراء القصف العنيف الذي تعرض له المطار[10]. أما في مارس 2020 فقد أسفر الاعتداء عليه بصواريخ غراد عن إصابة طائرتين مدنيتين تابعتان لشركتي طيران البراق والخطوط الإفريقية[11]. وفي أبريل 2020 واصلت الميليشيات التابعة لحفتر قصف المطار والمناطق السكنية التابعة له بصواريخ غراد مما خلف خسائر مادية كبيرة. أما في مايو 2020 تم شن هجوم على محيط مطار معيتيقة بأكثر من 80 صاروخ الأمر الذي تسبب في اشتعال النيران في خزانات وقود الطيران وألحق أضرار بالغة بطائرتي إيرباص 320 و330[12].
3ـ المستشفيات والمراكز الصحية:
لم تكن المنشآت الصحية والمستشفيات بمنأى عن الاعتداءات التي خاضتها ميلشيات حفتر وداعميها من الخارج منذ بداية الهجوم في أبريل 2019، بحيث تم قصف مجموعة من المرافق الصحية، ولم يتوقف استهدافها حتى في ظل جائحة فيروس كورونا، بحيث أعلنت البعثة الأممية في ليبيا أنه إلى حدود نهاية مارس 2020 تضرر أكثر من 27 مرفقا للرعاية الصحية من منشآت ومستشفيات جراء القصف المتسلسل الذي تعرضت له منذ بداية هجوم حفتر في أبريل 2019، بحيث تم إغلاق ما لا يقل عن 14 منشأة صحية بشكل كامل، بينما هناك أكثر من 23 مركز خاص بالرعاية الصحية معرض للإغلاق، بحيث نفذت ميليشيا حفتر أكثر من 61 اعتداء على هذه المرافق و26 استهداف لسيارات الإسعاف. ومنذ ذلك الحين فقد أدت هذه الهجمات إلى مقتل 13 طبيب ومسعف وإصابة ما لا يقل على 36 آخرين جراء الاستهداف المتكرر على الأطقم الطبية والمستشفيات وسيارات الإسعاف[13].
وقد تحولت هذه المنشآت إلى أهداف مباشرة من طرف ميليشيات حفتر وسلاح الجو المدعوم من طرف جهات خارجية. بحيث تضررت العديد من المنشآت الصحية من أبرزها المستشفى الميداني بحي السواني جنوب غربي طرابلس الذي تعرض ما بين يونيو ويوليو 2019 لغارات جوية متعددة راح ضحيتها العديد من القتلى والجرحى من الأطقم الطبية والمسعفين، بحيث تمت تلك الهجمات بواسطة طيران الحرب التابع لخليفة حفتر المدعوم بطائرات مسيرة إماراتية. أما المستشفى الميداني بالزاوية الذي تعرض إلى هجوم عنيف في يوليو 2019 أسفر عن مقتل أربعة أطباء وإصابة ما لا يقل عن ثمانية من أفراد الطاقم الطبي، كما أدى الاعتداء إلى توقيف نشاط المستشفى وبالتالي حرمان الآلاف من الأشخاص من حقهم في تلقي العلاج الذي هو حق مكفول بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان[14].
كذلك الأمر بالنسبة لمستشفى العزيزية جنوبي طرابلس والذي تم قصفه في أغسطس 2019، الهجوم الذي أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بمقر المستشفى ووقوع العديد من الجرحى[15]. كما أنه ما بين يناير ومارس 2020 تم استهداف مستشفى الصفوة نتيجة القصف بصواريخ غراد الأمر الذي نجم عنه أضرار بشرية ومادية. وكان القصف العنيف الذي تعرض له مستشفى الخضراء العام والذي تم تخصيصه لتقديم الرعاية لمرضى وباء كورونا المعروف بـ كوفيد-19 في أبريل 2020، أحد أخطر الاعتداءات التي تعرضت لها خدمات الرعاية الصحية، بحيث خلف الهجوم أضرار بالمرفق الطبي وأصاب العديد من العاملين به. وبذلك تعتبر هذه الاعتداءات انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني.
4ـ المنشآت النفطية:
كانت المنشآت النفطية إحدى أهم أهداف العملية العسكرية التي قادها خليفة حفتر وذلك بغية الاستيلاء على الموارد النفطية الليبية المتمركزة في الغرب، ونتيجة هذا الهجوم تكبد القطاع النفطي في ليبيا خسائر فادحة نتيجة الاعتداءات التي تعرضت لها حقول والموانئ النفطية مما أدى إلى توقف عمليات الإنتاج لمرات عديدة ومن تم إغلاقها من طرف ميليشيات حفتر .
وقد كان لإغلاق المنشآت النفطية ومن أبرزها منشأة النفط في الزاوية تداعيات وخيمة على الاقتصاد الليبي بحيث تسبب الأمر بخسائر فادحة والتي وصلت إلى حوالي 4.34 مليار دولار الأمر الذي اضطرت معه المؤسسة الوطنية للنفط إلى الزيادة في حجم واردات المحروقات من أجل تلبية احتياجات المواطنين. جراء عدم قدرتها على استخراج وتصدير النفط الخام منذ إقفال موانئ وحقول النفط من طرف ميليشيات حفتر في يناير 2020[16].
ثانيا: دلالة فشل العملية العسكرية لخليفة حفتر
منذ انطلاق حملته العسكرية على طرابلس ونواحيها في أبريل 2019، من أجل الاستيلاء على المناطق التي هي تحت سيطرة حكومة الوفاق المعترف بها، وحسم المعركة الميدانية لصالحه بدعم خارجي من أنظمة الإمارات، مصر، السعودية، فرنسا، بالإضافة إلى روسيا ودورها الغامض. وحفتر يتلقى هزائم تلو الأخرى من خلال فشله الدخول إلى طرابلس وبالتالي إسقاط حكومة الوفاق الوطني.
ومن خلال قراءة الاستراتيجية التي اتبعها حفتر في عمليته العسكرية التي رسمها ونهجها من أجل حسم الصراع، يتضح أن الفشل والإخفاق هي السمات البارزة التي وسمت مسار العملية، بحيث استطاعت القوات التابعة لحكومة الوفاق النجاح في صد الهجومات المتتالية لميليشيا حفتر وبالتالي التفوق على الأرض، وبالخصوص بعد بناء تحالفات عسكرية وسياسية مع قوى إقليمية وعلى رأسها تركيا التي أبرمت معها مذكرتي تعاون تخص إحداهما التعاون الأمني والعسكري.
وبذلك جاء الدعم العسكري التركي بطلب من الحكومة الشرعية ومتوافقا مع متطلبات القانون الدولي، وذلك بعد سكوت المجتمع الدولي والذي يعتبر داعما غير مباشر لحفتر وميليشياته عن الجرائم التي ارتكبها التي تدخل في مصاف جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والتي تستوجب تدخل الشرعية الدولية لإحالة ملف الانتهاكات والاعتداءات التي ارتكبها حفتر وداعميه من الخارج إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وقد حاول حفتر وداعموه العبور إلى طرابلس أكثر من مرة، عبر معارك في محاور عديدة أهمها المحور الشرقي والذي ينطلق من ترهونة، والمحور الغربي الذي ينطلق من صبراتة وصرمان، والمحور الجنوبي والذي ينطلق مساره من غريان. بحيث تلقت هزائم في مناطق الزاوية، السواني، العزيزية، وسط طرابلس، غريان، هذه الأخيرة التي شكلت انتصارا استراتيجيا مهما لقوات الوفاق، وإحدى الأوراق الرابحة التي كانت سببا في بداية انهيار ميليشيات حفتر لكونها المنطقة التي تشكل القاعدة الرئيسية لعملياتها في الخط الأمامي ضد العاصمة بحيث كانت تعتبر معبراً حيوياً لتدفق القوات والآليات العسكرية من الشرق.
ولذلك حاول حفتر التغطية على هذه الهزائم والإخفاقات المتتالية وخساراته لمواقع استراتيجية في المناطق الغربية لليبيا، بشن هجمات ضد الأماكن الآهلة بالسكان والمواقع المدنية، بحيث قامت ميليشياته بقصف مناطق مختلفة في العاصمة طرابلس ونواحيها من أجل إثبات وجودها على أرض الواقع.
الأمر لم يقتصر على الجانب الميداني العسكري، فعلى المستوى السياسي وبعد فشل جل المفاوضات لتسوية الأزمة الليبية، ومحاولة للهروب من واقع الهزيمة على يد قوات الوفاق أعلن خليفة حفتر إيقاف العمل باتفاق الصخيرات الذي أبرم في العام 2015 بالمغرب، ومن تم توليه قيادة البلاد في هذه المرحلة. مدعيا أن الشعب الليبي قام بتفويض “القيادة العامة” لهذه المهمة التاريخية في ظل هذه الظروف الاستثنائية.
وقد جاءت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، من أجل إظهار نوع من التفوق على المستوى السياسي لتعويض هزائمه الكبيرة التي مني بها على يد قوات حكومة الوفاق وخسارته لأماكن حيوية وبالأخص تلك المحاذية للحدود التونسية.
وقد حققت قوات الوفاق في إطار عملية “عاصفة السلام” انتصارات نوعية من خلال تغيير موازين القوى لصالحها، وذلك عبر بسط سيطرتها على المناطق التي هي امتداد للشريط الساحلي الغربي والذي هو حلقة وصل ما بين طرابلس والحدود التونسية ومن أبرزها صرمان، صبراتة، العجيلات، زلطن، رقدالين، الجميل، العسة، ومليتة. وبالتالي تحريرها من قبضة حفتر ومرتزقته. بالإضافة إلى تحقيقها انتصارا خاطفا من خلال استهداف سلاح الجو التابع لقوات الوفاق بغارات مكثفة وآليات عسكرية وعناصر ميليشيات حفتر بقاعدة الوطية الجوية. هذه الأخيرة التي تعد أكبر القواعد العسكرية بالمنطقة. وتعتبر مركز القيادة للعمليات الغربية لميليشيا حفتر، ونقطة الوصل للقوات القادمة من الشرق الليبي وتستخدمها لتنفيذ هجماتها المتواصلة على طرابلس والمناطق المحيطة بها. وبذلك فقد تمكنت قوات حكومة الوفاق من تحقيق تفوق كبير على الأرض من خلال السيطرة على 3 آلاف كلم غرب طرابلس.
ويعتبر تفوق قوات الوفاق وسيطرتها على مناطق حيوية ضربة كبيرة لميليشيات حفتر وحلفائها في الخارج، الذين قدموا كل الدعم اللوجستي والعسكري وتجنيدهم لآلاف المرتزقة لمساندة حفتر خلال العملية العسكرية التي أطلقها في أبريل 2019. بحيث استطاعت العملية الأخيرة لقوات الوفاق عملية “عاصفة السلام” والتي أخذت فيها زمام المبادرة بمساعدة عسكرية وفنية تركية من إفشال جميع المخططات التي كانت تسعى إلى تحقيقها تلك القوى على الأرض الليبية والمتمثلة أساسا في استكمال مآرب الثورة المضادة التخريبية، وكذا تحقيق أطماع استراتيجية أمهما السيطرة على المحاور الغنية بالنفط الليبي. وقد استطاعت قوات الوفاق إلحاق هزيمة ثقيلة لحلفاء حفتر خصوصا الإمارات ومصر، وتمثل ذلك من خلال الاستيلاء على كميات كبيرة من العتاد العسكري.
إذن، فقد أثبتت هذه العملية مدى الضعف الذي تعاني منه ميليشيات حفتر من خلال العشوائية في وضع خطط هجومية ودفاعية، بالإضافة إلى هشاشة منظومة قواتها التي تعتمد على المرتزقة التي تم تجنيدهم من الخارج والذين لا يتمتعون بالخبرة الميدانية وذلك ظهر من خلال فشل هذه القوات في التصدي للعملية العسكرية التي قادتها قوات الوفاق، الضعف لم يطل قوات حفتر فقط بل حتى حلفائه الذين لم تكن لهم القدرة في مجاراة هذه العملية وذلك في ظل التخطيط التكتيكي والمنظم من طرف قوات الوفاق، وكذا التوقيت المناسب لها بحيث جاءت في ظل ظرفية وتحديات صعبة تعيشها قوى الدعم الخارجي وذلك ما بين مطرقة أزمة وباء كورونا من جهة، وسندان انهيار أسواق النفط من جهة أخرى.
وتمثل هذه السيطرة لقوات الوفاق على الغرب الليبي فرصة مناسبة لاستكمال العملية بالاتجاه إلى الجنوب، وبالتالي القضاء على آخر معاقل خليفة حفتر، الأمر الذي سيشكل نقطة تحول مهمة في الملف الليبي، بحيث ستشكل الهزيمة الكاملة لحفتر وحلفائه نهاية للمسار العسكري وبالتالي بداية تأسيس وإرساء المسار السياسي باعتباره السبيل الوحيد لإعادة إحياء الحلول السلمية وبالتالي إنهاء أتون الحرب في ليبيا والتي طال أمدها وبالتالي إٍرساء مقومات الدولة الليبية.
ثالثا: سيناريوهات المشهد الليبي في ظل هزائم حفتر
نتيجة تقلب موازين القوى في المشهد الليبي، جراء الانتصارات المتتالية لقوات الوفاق واسترجاعها لمدن استراتيجية في مقابل تقهقر ميليشيات حفتر وتراجعها وضعف هياكلها، هذا الواقع أفرز عدة سيناريوهات من أبرزها:
1ـ سيناريو إنهاء الصراع عن طريق الحل العسكري:
ويرتكز هذا السيناريو على ضرورة انتصار قوات الوفاق من خلال توسيع عملياتها العسكرية، من أجل تحقيق مزيد من السيطرة على مواقع مهمة كانت في قبضة خليفة حفتر وقواته، في ظل تزايد الدعم التركي للعملية وذلك على خلفية تنفيذ الاتفاقية الأمنية العسكرية التي أبرمها الطرفان في نوفمبر 2019. هذا الدعم الذي استطاع تغيير المعادلة على أرض الواقع، من خلال التنسيق الفعال في الهجوم والاستراتيجية الهادفة مع اختيار الزمن والمكان المناسب بكل دقة من أجل إنجاح العمليات الميدانية التي مكنت لحد الآن قوات الوفاق من التقدم في عدة محاور وجبهات وإرجاع بعد المدن الاستراتيجية التي كانت تحتلها ميليشيات حفتر، مع ضرورة قطع الطريق لتقدم هذه الميليشيات. وكذا الإمدادات الرئيسية العسكرية التي تصلها من الشرق.
وما يساعد على تنفيذ هذا السيناريو الانهيار السريع لميليشيا حفتر وإضعاف قدراتها، وكذا تراجع دعم حلفاء حفتر في ظل انشغالهم بالتحديات والأزمات الداخلية التي تعيشها بلدانهم. وبذلك فيعتبر الكثير من المحللين أن الحل العسكري هو السبيل لإنهاء الأزمة في ظل رفض حفتر وحلفائه سيناريو الحل السياسي.
2ـ سيناريو استمرار الصراع:
لتحقيق هذا السيناريو يجب أن تستعيد ميليشيات حفتر بعض نفوذها من أجل إحقاق توازن استراتيجي في ظل التقدم الذي حققته قوات الوفاق، وبذلك فإن هذا السيناريو يعتمد على مدى إمكانية ترميم ميليشيات حفتر صفوفها الداخلية، والحصول على مزيد من الدعم الخارجي من أجل تقوية حضورها على أرض الواقع، هذا الحضور الذي فقدته بعد تلقيها لسلسلة من الهزائم عبر محاور استراتيجية خصوصا في ظل العملية النوعية التي أطلقتها قوات الوفاق.
بالإضافة إلى أن استمرار الصراع له معنى آخر وهو فشل كل المحاولات السياسية التي تسعى إلى إيجاد حل دائم للأزمة الليبية في ظل إجهاض حفتر وحلفائه جميع المسارات التفاوضية، كان آخرها إعلانه إسقاط اتفاق الصخيرات الذي يعتبر المرتكز الأساسي لحل الأزمة الليبية بفعل أنه يحظى بتأييد الشرعية الدولية والمجتمع الدولي.
3ـ سيناريو إنهاء الصراع عن طريق الحل السياسي:
يرتكز هذا السيناريو على قبول ميليشيا حفتر الجلوس على طاولة المفاوضات بحيث يعتبر ذلك السبيل للتغطية على هزائمها، في ظل صعوبة مهمة العودة العسكرية بفعل انهيار هذه الميليشيات ومنظومتها المعتمدة بشكل كامل على الدعم الخارجي، وكذا تبعثر أوراقها وتقهقر حساباتها على أرض الواقع. في المقابل تشكل العودة إلى القنوات الدبلوماسية انتصارًا لحكومة الوفاق في مقابل تفوقها العسكري، وهذا المسار سيجعلها أكثر نفوذا وأكثر قوة على مستوى المسار السياسي في ظل مزيد من دعم المجتمع الدولي لشرعيتها.
لكن من مجمل هذه السيناريوهات، فإن تحقيق إحدى المسارات يعتمد بالأساس على ضرورة خروج خليفة حفتر من المشهد الليبي، لأن ذلك يعتبر إحدى اللبنات الأساسية لإيجاد حل نهائي للأزمة الليبية، بحيث أن فشل المسار التفاوضي منذ اتفاق الصخيرات إلى مؤتمر برلين، كان نتيجة لسياسات حفتر الرافضة لمنطق المبادرات الدبلوماسية السلمية التي وضعت في سبيل تحقيق تسوية سياسية، وذلك في ظل اعتماده على الإملاءات الخارجية من حلفائه الرئيسيين.
ومن كل ذلك فإن الوصول إلى حل دائم للأزمة الليبية، لا يمكن أن يرتبط بوجود طرف رفعت ضده دعاوى قضائية في الخارج، وذلك في ظل تزايد المطالبات الدولية بمحاسبته نتيجة ارتكابه لجرائم حرب في حق الليبيين وتدميره لمنشآت الدولة الليبية وإلحاقه الضرر بمقوماتها من الطاقة.
الهامش
[1] – بيان البعثة الأممية إلى ليبيا: في الذكرى الأولى لشن المشير حفتر هجوما على العاصمة الليبية طرابلس، أونسميل تكرر أهمية وقف القتال وتوحيد الصف لدحر جائحة كورونا، البعثة الأممية للدعم إلى ليبيا، بتاريخ 4 أبريل 2020، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3biCB5J
[2] – لحظات القصف الأولى على مركز لإيواء المهاجرين في ليبيا، الجزيرة الإخبارية، بتاريخ: 6 يوليو 2019، متوفر على الرابط التالي: https://bit.ly/2xYZwoY
[3]– عشرات القتلى والجرحى بقصف لطيران حفتر على حي سكني جنوبي ليبيا، العربي الجديد، بتاريخ: 5 أغسطس 2019، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3bnPcEr
[4]– عائد عميرة: جرائم متواصلة.. أطفال ليبيا في مرمى النيران الإماراتية، بتاريخ: 02 يوليو 2019، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/2Wpgru1
[5]– بعد خسارتها مدنا إستراتيجية.. قوات حفتر تكثف قصفها لأحياء العاصمة الليبية، الجزيرة نت، بتاريخ 18 أبريل 2020، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3crWwAs
[6]– السراج يبشر بنهاية المشروع الدموي.. الاشتباكات تتجدد بجنوب طرابلس والوفاق تقصف تمركزات حفتر بالمدفعية الثقيلة، الجزيرة نت، بتاريخ 10 يوليو 2020، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3bxK6WA
[7]– في الذكرى الأولى لشن المشير حفتر هجوما على العاصمة الليبية طرابلس، أونسميل تكرر أهمية وقف القتال وتوحيد الصف لدحر جائحة كورونا، البعثة الأممية إلى ليبيا، بيان البعثة الأممية إلى ليبيا، مرجع سابق.
[8]– بعد توقفه لثلاثة أشهر. استئناف حركة الطيران في مطار معيتيقة جزئيا، تقرير لقناة ليبيا الأحرار، بتاريخ 12 ديسمبر 2019، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3ctnxTV
[9] – للمرة الثانية.. تعليق الملاحة بمطار معيتيقة في طرابلس بعد سقوط قذائف، الأناضول، بتاريخ: 03 يناير 2020، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2Wt558G
[10] – مجددا.. قوات حفتر تقصف مطار معيتيقة الدولي وتعليق مؤقت لحركة الملاحة، الجزيرة نت، بتاريخ 27 فبراير 2020، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/2YVr6ys
[11] – ليبيا: إصابة طائرتين مدنيتين بقصف ميليشيات حفتر لمطار معيتيقة، الجزيرة مباشر، بتاريخ 3 مارس 2020، الجزيرة مباشر، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/360iPL5
[12] – وليد عبد الحي: قوات الحكومة الليبية: حفتر قصف مطار معيتيقة وأحياء سكنية بطرابلس، الأناضول، بتاربخ 13 أبريل 2020، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/2Ag0qhs
[13] – بيان من منسق الشؤون الإنسانية، يعقوب الحلو، حول إستهداف مستشفى الخضراء العام في طرابلس، بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بتاريخ 06 أبريل 2020، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/3fKzZks
[14]– مقتل 5 أطباء جراء قصف طيران حفتر لمستشفى بطرابلس، الجزيرة مباشر، بتاريخ 28 يوليو 2019، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/3fEU4IO
وأيضا: ليبيا: مقتل 4 أطباء وإصابة 8 إثر غارة جوية جنوب طرابلس، وكالة أنباء شينخوا، بتاريخ 28 يوليو 2019، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2Z0kBua
[15] – اعتداءات على مرافق الرعاية الصحية ومطارات يستخدمها مدنيون في ليبيا–والبعثة تذكر بأن هذه الأعمال قد ترقى إلى “جريمة حرب”، بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 15 أغسطس 2019، متوفر عبر الرابط: https://bit.ly/3cnqVQl
[16]– النفط الليبية: 4.3 مليار دولار خسائر غلق الحقول والموانئ النفطية، وكالة الأناضول، بتاريخ 30 أبريل 2020، متوفر عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3dCf6pJ
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.