fbpx
تحليلاتأسيا وافريقيا

ملامح السياسة الخارجية السودانية بعد تحولات 2019

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة:

مر نحو عام منذ انطلاق المظاهرات المناهضة لحكم البشير في السودان في 19 ديسمبر 2018، ثم الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي على بعض البنود الأساسية لإدارة المرحلة الانتقالية التي تمتد لثلاث سنوات بحسب الاتفاق السياسي المبرم بين الطرفين في 17 يوليو 2019 والوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، لعل هذه فترة غير كافية لتبلور سياسة خارجية متماسكة، وحركة خارجية منتظمة من قبل القائمين على السلطة لكنها تثير تساؤلات حول ملامحها ودوائرها واتجاهها العام ومدى تكامل الاقتصادي والسياسي فيها وإلى أي مدى تمثل ابتعادا أو انقطاعا عن الاتجاه العام للسياسة الخارجية لنظام ما قبل الثورة؟

عادة ما تنهمك الثورات في المراحل الانتقالية في قضاياها الداخلية مع محاولات شكلية للتواصل مع الخارج سواء بطمأنته والتأكيد على الالتزام بكافة الاتفاقات والالتزامات على عاتق الدولة محل الثورة أو محاولة الترويج للاستقرار كفكرة جاذبة للاستثمار، وقد نشهد محاولات من قبل الأطراف الاقتصادية والمالية في الحكومات الانتقالية لتشكيل السياسة الخارجية وممارسة نموذج تعبئة الموارد لاقتصادات في طور الأزمة، كهدف في مرحلة ما بعد الثورات باعتبار هذه الاقتصادات مرتبطة بقوة بالاقتصاد العالمي وتقلباته وهي بحاجة دائمة للدعم من قبل دوائر التمويل والاستثمار الإقليمية والعالمية وحاجة السودان لمصادر التمويل الدولية كبيرة.

صحيح أنه أصبح على ناصية وزارة الخارجية سيدة متخصصة في العلوم السياسية وهي من ضحايا قانون الفصل للصالح العام في عهد البشير أسماء محمد عبد الله، وهي أول سيدة عربية تتولى هذا المنصب، إلا أن ثمة نقد للسياسة الخارجية باعتبارها امتداد لسياسة البشير من اللعب على كل المحاور من منظور قوى الثورة، وعدم ترجمة ما رفع من شعارات ومطالب تخص السياسة الخارجية السودانية من قبل المتظاهرين سواء من نقد للواقع بشقيه الخاص بالمشاركة في حرب اليمن مع السعودية والإمارات من ناحية، وتلقي مساعدات من المحور القطري التركي، أو من معالم للمأمول من هذه السياسة، وهي سياسة تواجه نقدا من قبل متابعي هذه السياسة من المواطنين العاديين ولعل التعليقات على لقاء وزيرة الخارجية مع قناة بي بي سي عربية مؤشرا على هذا.[1]

تطورات السياسة الخارجية لسودان ما بعد البشير:

تعمل السياسة الخارجية للسودان الجديد بعدة اتجاهات أهمها محاولة تغيير صورة سودان البشير، الرئيس المطلوب دولياً، والممنوع من حضور العديد من الفعاليات خارج المنطقة العربية، وبعض دول القارة الأفريقية، وأمامها تحد كبير وهو إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب التي وضع فيها السودان بسبب سياسات النظام السابق، سواء باستضافة رموز وعناصر تنظيمات تم وصفها بالمتطرفة، أو خطابه الصراعي مع الولايات المتحدة كأحد مصادر شرعيته، والانتقال في النظام الدولي نحو شرعية ثورية تحتاج لتعبئة موارد وتجاوز عقوبات وتغيير تحالفات، وعلى الرغم من أهمية هذه الملفات تبدو الملفات الإقليمية المحيطة بالسودان شديدة الأهمية والتداخل والتعقيد، ويمكن توضيح ذلك مع التركيز على محاور ثلاثة:

1ـ السودان ومحاولات الخروج من التحالف السعودي الإماراتي في اليمن:

سارعت السعودية والإمارات للعب دور أكبر في ترتيبات ما بعد البشير، فالسعودية أعربت عن دعمها للمجلس العسكري الانتقالي السوداني والإجراءات التي أعلنها دون التطرق لمصير البشير، ولم تكتف بهذا الإعلان بل وعدت بتقديم حزمة مساعدات تشمل القمح والمنتجات النفطية للسودان، بل بدا الموقف السعودي مرحبا بتولي منسق العمليات العسكرية السودانية في اليمن عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي. كما تبين المواقف الإماراتية ترحيبا بعزل البشير باعتبار أن هذا إرباك لحركات الإسلام السياسي، وترى أن السخط السياسي في السودان، يأتي في المقام الأول بسبب رفض الشعب حكم جماعة الإخوان المسلمين الطويل.[2]

وحاولت الدولتان التنسيق مع مصر في إطار رئاستها الدورية للاتحاد الأفريقي التأثير على قرارات مجلس السلم والأمن الأفريقي، باتجاه كسب مزيد من الوقت لإضعاف القوة التفاوضية للشارع السوداني وتنظيماته القوية، في مقابل المكون العسكري ممثلا في المجلس العسكري الانتقالي بقيادة البرهان.

وظلت نقطة المشاركة في حرب اليمن محل نقد لسياسات نظام البشير سواء من الناحية الإنسانية أو الأمنية وتحديدا من زاوية تلك التقارير الدولية التي تشير إلى مشاركة آلاف المقاتلين السودانيين من الأطفال دون الثامنة عشرة في الصراع في اليمن، وهو ما يسئ للسودانيين وصورة السودان كبلد مورد لمقاتلين ينظر إليهم البعض ك”مرتزقة”، وهذه النقطة تبدو محل خلاف بين المكون المدني والمكون العسكري للسلطة الانتقالية السودانية، لكن هناك حديث حول تخفيض القوات السودانية المشاركة في اليمن ضمن عمليات ما يعرف بـ “التحالف العربي” في اليمن وهو ما يؤكد انتصار رؤية المكون المدني إذ جرى تخفيض هذه القوات من 15000 جندي إلى 5000 جندي فقط، حيث أعلن عضو مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو الملقب (حميدتي) عن سحب عشرة آلاف عنصر من قوة الدعم السريع دون ابدالهم بآخرين في أكتوبر 2019 [3]

2ـ السودان وعلاقته بمصر:

رغم الارتباط التاريخي بين السودان ومصر إلا أن نظام ما بعد يوليو 2013 تشارك مع نظام مبارك ارتيابا من نظام البشير سواء باعتباره امتداد للإسلام السياسي، أو باعتبار اقتراب مواقفه من مواقف دول المنبع في حوض النيل، وعدم وضوح مواقف نظام البشير، لكن في النهاية كان النظام في مصر أمام تناقض كبير في رؤيته لأحداث السودان فمن ناحية هذا النظام عسكري أكثر منه نظام إسلامي وهو ما يتطلب إبقائه أو الحفاظ على بقاياه وجوهره العسكري، ومن ناحية ثانية هناك رغبة في الخلاص منه كنظام قدم تسهيلات لهجرة بعض الإخوان من مصر ولكن دون الخلاص من الجوهر العسكري لنظامه.

وفي هذا الإطار تأتي محاولات مصر تمديد المهلة التي أعطاها الاتحاد الأفريقي للفرقاء في السودان من خمسة عشر يوما إلى شهرين لكن لم تمهله تطورات الداخل السوداني، حيث كان مجلس السلم والأمن الأفريقي أعطى مهلة للمجلس العسكري الانتقالي لتسليم السلطة لمدنيين خلال 15 يوما وإلا فسيعلق الاتحاد الأفريقي مشاركة السودان في كافة أنشطته، إلى حين عودة النظام الدستوري، وحاولت  مصر تمديد هذه المهلة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد لثلاثة أشهر أخرى مدفوعا بجهود سعودية إماراتية، لكن الاتحاد استقر على مهلة 60 يوما وهو ما يعني فشل السعي المصري جزئيا.

ورغم تعقد العلاقات التاريخية بين مصر والسودان إلا أن نفوذ مصر في السودان لا يزال أثير بقايا كليشيهات الترابط التاريخي والجغرافي دون ما يؤيد هذه العلاقات بجوانب اقتصادية وتجارية ترقى إلى حجم وتعداد شعبي الدولتين، فلا يعقل أن التبادل التجاري بين البلدين لم يتجاوز المليار دولار في أي من السنوات العشر الماضية من 2008-[4]2018، والطرق البرية بين الدولتين لا تزال مغلقة رغم تكرار افتتاحها أكثر من مرة ما بين نهاية عهد مبارك وفي عهد المجلس العسكري مرورا بعهد الدكتور مرسي، وصولا لنظام ما بعد الثالث من يوليو 2013، كذلك فإن مشروع الربط الكهربائي بين البلدين يتم استخدامه كإنجاز لكافة اللقاءات المشتركة دون أن يتحقق في الواقع أو يتم تنفيذه عمليا رغم سهولته.

وربما حاولت القاهرة تجاوز هذه الصورة السلبية عنها في أوساط المحتجين الذين رفعوا شعارات مضادة للرئيس المصري وللتدخلات المصرية قبيل الخلاص من البشير، فكانت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري للخرطوم كأول مسئول يزور السودان، بعد حلف الحكومة الجديدة القسم الدستورية[5]، لكن ثمة ملفات شائكة على رأسها ملف المياه الذي تبدو فيه السودان أقرب للموقف الإثيوبي، وربما لمحاولة استمالة الحكومة الجديدة في ملف تسليم إخوان السودان وضمان تبنيها موقفا أكثر تشددا من الإسلاميين.

ورغم أن القاهرة كانت المحطة الثانية لرئيس الوزراء الجديد عبدالله حمدوك بعد زيارته لجنوب السودان، فقد زار مصر في الثامن عشر من سبتمبر زيارة مكوكية قبيل مغادرتها إلى باريس ومنها لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن العلاقات تبدو متوترة فخلال أقل من أسبوع على الزيارة شهدت العلاقات المصرية السودانية أزمة شعبية إذ ألقت السلطات المصرية في 23 سبتمبر القبض على الطالب السوداني وليد عبد الرحمن المقيم بالقاهرة على خلفية احتجاجات 20 سبتمبر التي دعا إليها المقاول محمد على، وأجبر الشاب السوداني تحت العذيب على الاعتراف بأنه يشترك في التحضير لتظاهرات ومخططات ضد الدولة المصرية، وأنه جاء من السودان خصيصا لهذا الغرض، وقد أثارت قضيته غضبة لدى الشارع السوداني وهو الأمر الذي حول الشارع وتبنى تجمع المهنيين لقضيته إلى وسيلة ضغط على الحكومة السودانية لسرعة التحرك في هذا الملف[6]، حيث استدعت الخارجية السودانية السفير المصري بالسودان وكللت جهودها بالنجاح في الإفراج عنه في 4 أكتوبر 2019، وهو أمر يعني أن حكومة ثورة هنا معنية بضغوط الشارع.

3ـ السودان ودول جواره الأفريقية:

كان للدور الأفريقي في التوصل لاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي الذي شكل بإعلان عزل البشير والطرف المدني المنظم الممثل للشارع السوداني وهو قوى إعلان الحرية والتغيير، وقد أفشلت جهود أثيوبيا المحاولات المصرية السعودية الإماراتية لإطالة المهلة المحددة من قبل مجلس السلم والأمن الأفريقي للمجلس العسكري الانتقالي لتسليم السلطة لمدنيين من 15 يوما وإلا فسيعلق الاتحاد الأفريقي مشاركة السودان في كافة أنشطته إلى حين عودة النظام الدستوري، بتمديد هذه المهلة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد لثلاثة أشهر أخرى، وهو الأمر الذي شكر رئيس المجلس عليه كلا من السعودية ومصر، لكن الاتحاد استقر على مهلة 60 يوما، فيما يبدو أن هناك تنسيقا مصريا سعوديا حول هذه المسألة.[7]

وفي هذا الإطار بدا الدور الذي لعبته إثيوبيا بقيادة أبي أحمد واضحا في تحجيم الدور المصري الإماراتي السعودي برعايته للاتفاق السياسي وزياراته المكوكية وتواصله مع كافة الأطراف ومحاولة تقريب وجهات نظر قوى الحرية والتغيير والمعارضين لها من داخل معسكر الثورة من جهة وبينها وبين المجلس العسكري الانتقالي من جهة أخرى وقد اتضح هذا في رعاية إثيوبيا لوثيقة السلام الموقعة مع الجبهة الثورية الموقعة في أديس أبابا بين قوى الحرية والتغيير وثلاث حركات متمردة سبق أن أبدت تحفظات على الإعلان السياسي الموقع في يوليو 2017.

وفيما يتعلق بليبيا فإن تدخلا غير رسميا سودانيا يساند اللواء متقاعد خليفة حفتر منذ انقلابه على العملية السياسية في منتصف العام 2014، لكن عقب الثورة يبدو أن الشق العسكري في منظومة الحكم الجديد في السودان تزيد من وتيرة هذا التدخل وتحاول تحويله لتدخل شبه رسمي حيث تشير تقارير لصحيفة الجارديان إلى تزايد أعداد المقاتلين السودانيين الملتحقين بكتائب حفتر في عمليته الرابعة والجارية حاليا لمحاولة السيطرة على طرابلس مع إشارة خاصة لدور هؤلاء المقاتلين السودانيين في الاستيلاء على حقول النفط الليبية.[8]

لعل هذا النمو في التدخل غير الرسمي لمليشيات الجنجويد وغيرها له بعض ما يبرره في أزمة الوقود التي تواجهها السودان ودور التهريب من ليبيا ومحاولة المكون العسكري في السلطة الانتقالية السودانية أن يكون وسيطا في حل هذه الأزمة، بمثل تلك الأدوات لتحسين صورة العسكريين وكذلك العدد الكبير نسبيا من العمالة السودانية بليبيا، بالإضافة لعلاقات تاريخية وجيوسياسية بين السودان والجنوب الشرقي الليبي وتداخلها مع حفتر في المسألة التشادية والصراع حول هذا المثلث الحدودي.

لكن هذه التحركات في ليبيا تُشير إلى أن مراكز متعددة تتحكم بالسياسة الخارجية السودانية فالشق العسكري يبدو أنه لا زال بعيداً عن أعين الحكومة الانتقالية وتجمع المهنيين، وأنه تحت التحكم المباشر لحميدتي في مجلس السيادة، وهو الأمر الذي قد يُعرض سياسة السودان لنقد محلي ودولي شديد إذ أن مثل هذه المشاركة بقوات خارج الحدود عادة ما تثير الجدل العام أعقاب الثورات فإذا كان هذا التدخل غير رسمي، فإن الفضول لمعرفة من يقف خلفه يتزايد مع ارتفاع سقف الصحافة الحرة.

وتشير التحركات المكثفة لجنوب السودان وأثيوبيا من أجل رعاية حوار بين مجلس السيادة بشقه العسكري وقوى الحرية والتغيير والجبهة الشعبية لتحرير السودان وبعض الحركات المسلحة الأخرى في إطار المساعي لإحلال السلام كبند رئيسي على أجندة الحكومة في الستة أشهر الأولى لكن تظهر التحركات في هذا الملف سيادة الجانب العسكري على حساب قوى الحرية والتغيير ووزارة الخارجية في ملف السلام وقضاياه المتعددة والبعد العسكري أحدها إضافة إلى قضايا النزوح واللجوء والتنمية العادلة

4ـ السودان الجديد والقوى الكبرى:

من متابعة التحركات الخارجية لمسؤولي السودان الجديد يتبين أن التحدي الأكبر أمام سودان ما بعد البشير هو رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب التي وضع فيها السودان لأكثر من ربع قرن، وقد جاءت العديد من تحركات رئيس الحكومة الجديدة عبد الله حمدوك منذ توليه منصبه في 21 أغسطس 2019، في هذا الاتجاه، فخلال حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر كانت هذه القضية على أجندة لقاءاته المكثفة برؤساء الدول ووزراء الخارجية والمسؤولين الأمميين.

وهذا الطلب السوداني يبدو أنه بدأ يحوز اهتماما ومقبولية دولية فخلال جلسة خاصة حول السودان في الأمم المتحدة، دعا كل من أمين عام المنظمة الدولية، أنطونيو غوتيريش، ورئيس المفوضية الإفريقية، موسى فكي، إلى رفع اسم السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب”.[9]

لكن بين الحين والآخر تبرز تحديات أخرى وهي مرتبطة بالتحدي السابق فمن ناحية ثمة تنامي للنفوذ الروسي في المنطقة سواء من ناحية التعاون العسكري والذي يتمتع فيه الجيش السوداني بتعاون عسكري وثيق مع الروس باعتبار سوء العلاقة مع الولايات المتحدة في عهد البشير، ومن ناحية ثانية هناك ما يشبه التنافس الإقليمي من قبل جنرالات المنطقة على استضافة القواعد العسكرية للروس كوسيلة لتعويض احتمالات التخلي الأمريكي عنهم أو كوسيلة لتوسيع النفوذ خارج حدودهم باتجاه أفريقيا ودول الجوار الأخرى، وباعتبار عرض النظام السابق على روسيا إقامة قاعدة عسكرية على الأراضي السودانية.[10]

لكن هذا الملف يمكن أن يصبح ملفا شائكا وبخاصة أن محاولات التحالف مع الروس والأسلحة الروسية استخدمت بقوة في حروب دارفور والحرب مع الجنوب في ظل العقوبات الأمريكية وهو ما يعني أن حساسية هذا الملف تتزايد ويمكن أن يكون للشارع السوداني رأي آخر بخلاف الآراء الرسمية.

خاتمة وتوصيات

من التحليل السابق يمكن إجمال أهم الملاحظات الختامية وبعض البدائل المتاحة أمام السودان الجديد لسياسة خارجية أكثر ثورية ونفعا للسودانيين في النقاط التالية:

  • ليس في صالح الثورات أن تتحول سياستها الخارجية لسياسة تعبئة موارد تقليدية بحتة، فرغم أهمية تلك الموارد للمراحل الانتقالية إلا أن الإغراق في رؤية الاقتصادات الوطنية كاقتصادات منكوبة قد يقود لاتباع نفس منهاج النظم السابقة وبدلا من الانطلاق من نقاط قوة الحراك واستخدام الشارع كرأسمال تفاوضي يتحول صانعوا السياسة الخارجية ومنفذوها لوكلاء استثمار في ظرف دولي لم تعد الاستثمارات المتدفقة لدول الثورات حلا لمشكلات هذه الثورات بقدر ما تثيره من تناقض بين مصالح الاستثمار الباحث عن الربح السريع ومصالح العمال الساعين لتحقيق مطالب متزايدة ومطردة في سياق ثوري.
  • لا تزال السودان الرسمية في ذات موقعها من مفاوضات سد النهضة حيث تبدو غير مهتمة بما يكفي بتأثيرات السد على السودان ومصر وتتشارك وجهات نظر أقرب للجانب الإثيوبي وتتصرف كما لو كانت دولة منبع في حين أن هناك وعيا جماهيريا سودانيا بالمخاطر الجيولوجية والبيئية والاقتصادية بدأ يتبلور ولم تتكيف معه السياسة الخارجية أو تحاول مغازلته دون تبعية لمصر أو أثيوبيا.
  • وجهت انتقادات سودانية مكثفة لمصر في نهاية عهد البشير باعتبار بعض تحركاتها في جنوب السودان وفي الغرب تعزز الصراع وتطيل أمده ولم يتبلور موقف سوداني جديد في هذا الموضوع سوى بعض محاولات مغازلة الطرف المصري من قبل قوى الحرية والتغيير تارة ومن قبل مناوئيها وعلى رأسهم حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة سواء عبر تصريحات أو ورش وندوات عقدت في القاهرة أو خارجها بحضور مسئولين مصريين.
  • بعد ستة أشهر من الاتفاق بين فرقاء السودان لا تزال عديد القضايا الحيوية الشائكة مثل ديون النظام السابق والقضايا الدولية المرفوعة ضد السودان سواء في محاكم التحكيم الدولي التجارية والاقتصادية أو ضد رموز نظام البشير في المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك قضايا استرداد الأموال المنهوبة غائبة عن خطاب الخارجية السودانية والمؤسسات المعنية بصنع السياسة الخارجية في الدولة السودانية.
  • لدى السودان فرصة قوية حال وجود خطة تحرك دولية محكمة أن يعبئ موارد تعزز عملية تسيير المرحلة الانتقالية سواء عبر استغلال زخم الشارع والاحتجاجات والمحاكمات الدولية لرموز النظام السابق التخلي عن الديون السودانية باعتبارها ديون استبداد كريهة أو مبادلتها وإعادة هيكلتها على أقل تقدير وهو ما يجنب السودان دفع فاتورة دين باهظة يمكن توجيهها لتحسين الخدمات العامة والحياة اليومية للمواطنين بما يعزز الإحساس العام بأن تغييرا ما سيطرأ على حياتهم.
  • كذلك لدي السياسة الخارجية للسودان الجديد مهمة شاقة في التنسيق مع الوزارات المختلفة واستغلال مؤشرات السودان في ملف الفساد وأحكام القضاء في استرداد الأموال المهربة للخارج، وهي ليست بالقضية الهامشية في اقتصاد يئن من تدهور قيمة عملته وتزايد ديونه.
  • على السودان الجديد تغيير خريطة داعميه سواء بالبحث عن مصادر جديدة للطاقة أو للاستثمارات أو أسواق جديدة للعمالة تحقق توازنا مع حالة تركز الشركاء الخليجي الحاصل في مركب الاستثمار والتحويلات والديون، بما يتيح للسودان حرية حركة أكبر في النظامين الإقليمي والدولي.
  • ثمة مؤشرات على محاولة تشكيل سياسة خارجية جديدة لسودان ما بعد البشير قوامها محاولة التوازن في العلاقات الخارجية للسودان، ويبدو أن سحب عدد كبير من القوات السودانية من الحرب في اليمن أحد أهم ملامح هذه السياسة بالإضافة لمحاولة الانعتاق من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكن هذه البوادر ليست كافية وهناك حاجة لمناقشة أوسع لملامح السياسة الخارجية التي يريدها السودانيون سواء عبر بحث الإمكانيات والفرص ودوائر الحركة الممكنة والداعمين والمنافسين في الإقليم وعملية هيكلة الوزارة والمؤسسات المنافسة أو الشريكة لها في عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية[11].

الهامش

[1] لقاء قناة بي بي سي عربي مع وزيرة الخارجية السودانية، ” بلا قيود ” مع أسماء محمد عبد الله وزيرة الخارجية السودانية، بتاريخ 15/9/2019، الرابط

[2] عمر سمير، احتجاجات السودان أي آفاق لتغيير منشود؟، منتدى البدائل العربي للدراسات: بيروت، سلسلة أوراق البدائل، أغسطس 2019 ص7-8، http://bit.ly/2YZHfQL

  [3] ميدل إيست أونلاين، خفض القوات السودانية في اليمن الى خمسة الاف جندي، بتاريخ 8/12/2019، http://bit.ly/2SuSYpI

[4] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مؤشرات التجارة الخارجية: الميزان التجاري مع الدول العربية 2008-2018، http://bit.ly/2spCoxe

[5] جريدة الشروق المصرية، البرهان يستقبل وزير الخارجية في الخرطوم، بتاريخ 9/9/2019، http://bit.ly/36dMhwr

[6] انظر موقع تجمع المهنيين السودانيين، أسرة المعتقل وليد عبدالرحمن، بتاريخ 3/10/2019، http://bit.ly/2MGNq88

[7] يمكن مشاهدة اول لقاء تلفزيوني مع رئيس المجلس العسكري الانتقالي للسودان عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن ٢١ ابريل، على قناة السودان على يوتيوب، الرابط

[8] Jason Burke and Zeinab Mohammed Salih, Mercenaries flock to Libya raising fears of prolonged war: Hundreds of fighters from Sudan joining anti-government Libyan National Army, 24/12/2019, http://bit.ly/2EO6gph

 

[9] عادل عبد الرحيم، قَبُول وسلام وحريات.. ثلاثية تدعم خروج السودان من قائمة الإرهاب (تحليل)، وكالة الأناضول للأنباء، بتاريخ 1/10/2019، http://bit.ly/2QaXk3W

[10] بدر حسن شافعي، أبعاد القاعدة العسكرية الروسية في السودان، المعهد المصري للدراسات، 4/12/2017، http://bit.ly/2u0Ziet

[11] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close