
من المسؤول عن إنقاذ الإخوان؟ وكيف؟
جدد المشهد المؤلم لاعتقال الدكتور محمود عزت، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان، القائم بأعماله، النقاش حول حال الجماعة ومستقبلها. وكما في مناسبات عديدة، بات السؤال الموجه لكل من يتحدث حول هذا الموضوع هو: وماذا تقترح؟ وما هي خطوات الحل؟
أحياناً يوجه السؤال بدافع البحث الحقيقي عن إجابات لأسئلة ملحة، وأحيانا يوجه فقط بهدف إخراس المتحدث وإغلاق النقاش. فإذا كنت عاجزا عن إيجاد حلول للمأزق الراهن فلا تفتح النقاش حوله ولا تنتقد ما هو متاح.
أود هنا مناقشة مسألة من المسؤول عن تقديم الإجابة؟ ثم الإشارة المقتضبة إلى مداخل عامة قد تقدم مساهمة مفيدة في هذا المسعى.
من المسؤول عن الإجابة؟
ليس من مهمة الباحث، أو مجمل المهتمين بشؤون الجماعة من أبنائها ومن خارج أطرها التنظيمية، أو عموم المهتمين بالشأن السياسي المصري، أن يقدموا حلولا جاهزة لمتخذ القرار في الإخوان حول ما يجب فعله. هذه مهمة لا يملك أدواتها إلا متخذ القرار نفسه، وإن تقاعس عنها فليس من المتوقع أن يقدم له شخص ما، مهما بلغت خبراته، حلا جاهزا بديلا.
مُتخذ القرار ليس المقصود به فردا بعينه؛ فاتخاذ القرار المفترض أن ينتج عن “عملية” واسعة، تتضافر فيها جهود متنوعة متكاملة. يمكن الإشارة إلى أهمها كما يلي:
أولا: جهود الحصول على المعلومة
المقصود هنا “الحصول” المخطط له، المبذول فيه موارد، والتي تقوم عليه مؤسسة محترفة، فجماعة الإخوان طرف في صراع بالغ التعقيد وبالغ الخطورة، أطرافه أنظمة حكم لا ترحم في الدفاع عن بقائها، وتُسَّخِر في سبيل هذا مقدرات الدول خاصة أجهزة الأمن والاستخبارات. وبات واضحا أن تبعات الانخراط في صراع من هذا النوع لا تقتصر على مجرد التضييق على معاش أفراد الجماعة أو تعرضهم لمضايقات أمنية بين الحين والآخر.
وبالتالي فإن تبني خيارات أو سياسات، أو وضع خطط استنادا إلى انطباعات، أو أحاديث أشخاص يدعون المعرفة والاطلاع على خفايا الأمور، لا يفضي إلى التحرك في الاتجاه الخاطئ فحسب، بل يجعل الجماعة عرضة للتلاعب السهل من قبل أعدائها، وهو ما يحدث بالفعل بالمعارضة المصرية بشكل عام.
السؤال المعتاد هنا: هل لو امتلكت الجماعة جهازا محترفا للمعلومات سنعلم؟
الإجابة قطعا: نعم!
على الأقل سيظهر أثر هذا النوع من المعرفة على مجمل الأداء.
الواقع الحالي يفيد بأحد احتمالين: إما أنه لا يوجد أصلا، أو أنه يوجد لكن على سبيل الاسم دون أن يتسم بالحد الأدنى من الكفاءة، التي تؤهله لتقديم نقلة نوعية في مستوى تخطيط الجماعة وقدرتها على مباغتة الأطراف الأخرى.
هل تتحمل الجماعة التبعات الأمنية لهذا النوع من العمل؟
الحقيقة أن هذا السؤال بات ساذجاً لدرجة لا يجدي معها مناقشته.
ثانيا: المؤسسة البحثية “خزان التفكير”
ليس المقصود هنا أن تمتلك الجماعة مركزا للأبحاث، وإن كان هذا بالغ الأهمية للمشروع بصورة عامة. لكن المهم أن يكون ضمن عملية اتخاذ القرار مؤسسة محترفة، قادرة على القيام بمهام تحليل المعلومات، وتقدير الموقف، ومن ثم اقتراح البدائل وتقدير تكلفة كل بديل وصولا إلى اقتراح وترجيح السياسات.
لقد بات من فضول القول تكرار أهمية هذا ومقارنة اعتماد الأنظمة والدول والأحزاب الكبيرة على هذا النوع من المؤسسات.
ومن المخجل حقاً أن جماعة بحجم جماعة الإخوان، وبأهمية دورها، لم تمتلك هذا النوع من المؤسسات، واكتفت بجهود محدودة هامشية لفرق صغيرة، ربما يتسم أفرادها بالكفاءة والتأهيل المناسب على المستوى الشخصي، لكنها لا تتمتع أبدا لا بالموارد اللازمة كي تقوم بدورها بشكل تراكمي، كما لم تتحول أبدا طوال تاريخ الجماعة إلى حلقة حقيقية ضمن عملية اتخاذ القرار، لا على مستوى مكتب الإرشاد ولا على مستوى مجلس الشورى العام.
التحدي الأساسي هنا ليس فقط وجود هذه المؤسسة، ولكن أن تتغير ثقافة اتخاذ القرار بحيث لا يُنظر لهذه المؤسسة كمكان هامشي للتنظير، أو للاستشارة، يستوعب قدرات الباحثين والمفكرين، بل شريك أساسي في اتخاذ القرار، ومن ثم له موقع في هيكلة دائرة اتخاذ القرار، ومهام لائحية محددة، ومن ثم يخضع للمحاسبة والمساءلة.
ثالثا: الجهاز السياسي
وهو أمر بعيد تماما عن “اللجنة السياسية” المتعارف عليها في الجماعة. إن فهم السياسة وممارستها ليس أمرا اعتباطيا، ولا هو مجرد “مهمة” يتم تكليف العضو بها كما يتم تكليفه بمهمة في أحد أقسام الجماعة ولجانها الفنية. فالسياسة معقدة، ومرهقة، كما أنها “مهنة” احترافية، كما أشار ماكس فيبر، وليست مجرد عملا عاما تطوعيا. ويتطلب فهم السياسة، قدرا معتبرا من “العلم”. العلم بالتاريخ والقانون والعلاقات الدولية… الخ.
ليس المقصود أن تقتصر ممارسة السياسية على دارسي تخصصات محددة، لكنّ ممارسة السياسية تتطلب مقومات يجب اكتسابها واحترافها. السياسي له رؤية، ومشروع، ومقاربة لتفسير الواقع وتصور للمستقبل، لا يغني عن هذا أن يكون للجماعة مشروع معروف ومقولات عامة يحفظها أعضاؤها ويرددونها، فهذا لا يصنع سياسيا. ولا ينتج عنه فقط وتلقائيا تحول الشخص المفوه أو المتحدث اللبق أو الماهر في التواصل إلى سياسي.
مقومات السياسي تختلف تماما عن مقومات المتحدث الإعلامي، ورجل العمل العام الخيري، وطبعا تختلف عن مقومات الداعية والرمز الديني. الجهاز السياسي يجب أن يقوم أساسا على أشخاص استراتيجيين، يفهمون كيف يُدار العالم من حولهم بناءً على وعي ودراسة، وليس عن عواطف وانطباعات العامة.
وهذا للأسف عملة نادرة جدا فيما يتعلق بواقع الممارسة السياسية للإخوان، حيث اعتمدت اللجان السياسية – مع استثناءات قليلة – على المميزين في الإدارة، والتواصل، والعمل الخيري وربما الإعلام. وهؤلاء ليسوا بالضرورة مؤهلين لإدارة السياسة، أو حتى راغبين في أداء هذا الدور.
أعتقد أن الحل البراغماتي لمعضلة “السياسي – الدعوي” داخل الإخوان – ربما لا يكون هو الأفضل – يتمثل في بناء جهاز سياسي محترف، شريك أساسي في اتخاذ القرار، وليس مجرد لجنة تقوم في أفضل الأحوال بمهام التواصل السياسي والتمثيل الإعلامي، دون أن تمتلك دوراً حقيقياً في عملية اتخاذ القرار السياسي، ليس لأن قيادة الجماعة تهمشها، ولكن لأنه لا مكان لها أصلا في هيكل عملية اتخاذ القرار، إلا الاستشارة والدردشة.
رابعا: القيادة
وهي أيضا ليست فردا محددا. ولكن المفروض أن تحدد لوائح الجماعة جهات القيادة حسب مستوى القرارات التي سيتم اتخاذها. قد تكون القيادة في حالة معينة هي المرشد العام، أو مكتب الإرشاد، أو مجلس الشورى العام، أو قيادة الجهاز السياسي فقط. لكن في كل الأحوال ليس من الوارد أن تتخذ القيادة قرارا أو تتبنى سياسة دون معلومات دقيقة، أو دون دراسة وتقدير للمخاطر والبدائل. كما ليس من المتصور أن تقرر قيادة الجماعة في شأن سياسي دون اكتراث بالجهاز السياسي.
طبعا توجد حلقات أخرى يمكن إضافتها لعملية اتخاذ القرار، مثل المستشارين، والتنسيق مع الجهات الأخرى الحليفة والصديقة، والرأي العام داخل التنظيم، وداخل قاعدة الجماعة الجماهيرية عموما…الخ. لكن أكتفي بهذه الإشارات فقط لتبيان أن الإجابة على سؤال: ما هو الحل؟ لن تأتي من فرد.
والسؤال في هذه الحالة اختزالي جدا. ومن يوجهه إلى شخص بعينه يقع في نفس مشكلة الجماعة الحالية، وهي اختزال عملية اتخاذ القرار في حلقة واحدة، واختزال الحلقة الواحدة في فرد واحد، وبالتالي يفترض أن من يقيّم أداء الجماعة، أو ينتقد هذا الأداء، يجب أن يكون لديه، كفرد، خطة بديلة جاهزة للتطبيق. ما هكذا تورد الإبل!
معالم على طريق الحل
تراوح جماعة الإخوان مكانها منذ الانقلاب العسكري. مازالت الجماعة هي الخصم الرئيسي للنظام الحاكم كما أنها صمدت بصورة لافتة، ربما لم يتوقعها النظام، في مواجهة حملة استئصالية شاملة، إلا أن ثمار هذا الصمود لم يتم تحويلها أبدا إلى نقاط قوة وفرص تخدم مسار فعل سياسي. أولوية الجماعة المقدمة على ما سواها هي “تسكين” الحالة الراهنة، سواء الصراع الخارجي مع حكومات الثورة المضادة، أو الأمور الداخلية الخاصة بالجماعة نفسها؛ هذه الأولوية جعلت الجماعة شديدة الحذر تجاه أي خطوة سياسية خارجية، أو أي تطوير داخلي مهما كان ضروريا ملحا. والنتيجة العامة لهذا باختصار هي فقدان الفاعلية “الطوعي”. أجادل هنا بأنه “طوعي” لأنه ناتج عن خيار الجماعة نفسها، وليس عن عجز مزمن في موارد قوتها الكامنة، أو نتيجة فقط للقمع الأمني غير المسبوق.
لم تفقد الجماعة ميزتها التنظيمية الفريدة. رغم الخلاف الداخلي والقمع الأمني وحالة الإحباط، إلا أن الجماعة مازالت محتفظة بخطوط الاتصال التنظيمية بصورة ناجعة. صحيح أن هذا لا يعني نفس القدرة على التعبئة التنظيمية مقارنة بما قبل الانقلاب، ولكن الفارق ليس ناتجا من انقطاع خطوط الاتصال التنظيمي ولكن من سؤال الجدوى وماهية التحرك المطلوب. بعبارة أخرى، لم تتضرر ماكينة التنظيم المهمة، ولكنها في انتظار خطة ملهمة تدفعها للتحرك.
أيضا، مازالت الجماعة تمثل التيار الأكثر تنظيما والأوسع انتشارا في المجتمع المصري، كما تمثل العمود الفقري للقوى السياسية المنظمة في حال الرهان على أي فعل سياسي ضد النظام. وتتوفر للجماعة، خاصة في الخارج، كوادر ذات خبرات متنوعة، وفي مراحل عمرية متفاوتة. أما الإعلام الموالي لأجندة الجماعة فضائي والكتروني – الموالي وليس المملوك – حتى وإن لم يكن في أفضل حال، إلا أنه بات مؤثرا ويمكن الاستفادة منه في خدمة أجندتها السياسية. وحتى الملف الحقوقي، فقد بات مؤخرا أكثر قدرة على مخاطبة الجهات الدولية وسبب حرجا للنظام.
وبصورة عامة، تتمتع الجماعة بامتداد أوسع بكثير من التنظيم، الذي سيظل في حسابات الصراع الواسع دائرة أساسية لكنها محدودة. مازال مشروع الجماعة الواسع هو الأقرب للتعبير عن الكثيرين الذي عزفوا عنها تنظيميا لكنهم لم ينفضوا أيديهم من مشروعها العام؛ كما أن البعد الإقليمي للصراع الراهن يضيف للجماعة امتدادا جيوسياسيا أعمق بكثير من المعادلة المصرية الضيقة. كافة مكامن القوة، ومسارات الفرص المشار إليها هنا، وغيرها، في حالة تعطل نتيجة خيارات الجماعة نفسها وليس لكونها غير موجودة أو غير ممكنة.
في المقابل، لا يمكن القول إن الجماعة الآن في أفضل حالاتها. لن أكون مبالغا إن قلت صراحة إن وضع الإخوان الحالي كارثي. لا يتطلب الأمر أن تكون خبيرا في الحركات الإسلامية أو محللا عبقريا كي تدرك هذا. نقاط القوة لا تعني أبدا أن عدم وجود نقاط ضعف جوهرية وتهديدات خطيرة. على سبيل المثال:
- عزوف الكتلة الفاعلة من شباب الجماعة عن التواجد الفعال، لأسباب متعددة.
- تراجع فادح لتأثيرها في الشرائح العمرية الأصغر سنا نتيجة غياب النشاط الجامعي وما قبل الجامعي في الداخل.
- لم تتعاف الجماعة بصورة كافية من تداعيات الإخفاق السياسي والانقلاب العسكري، سواء فيما يتعلق بنظرة الآخرين لها خصوصا قاعدتها الجماهيرية المباشرة، أو حتى ثقة الأعضاء داخل الجماعة نفسها.
- غموض أو غياب الأجندة السياسية التي تتبناها الجماعة، وعدم ملائمة خطابها السياسي للواقع، مع عدم كفاية الموارد اللازمة لتلبية احتياجات الجماعة الداخلية المتزايدة، فضلا عن تلبية متطلبات التحرك السياسي والإعلامي والحقوقي المؤثر.
كل هذا يجعل مستقبل الجماعة على المحك بصورة حقيقية بغض النظر عن بقاء التنظيم وهياكله التقليدية.
أولويات مقترحة
لا أسعى هنا للتورط فيما حذرت منه، أي تقديم خطة للحل، لأن هذا يتطلب جهودا أوسع من قدرات أي فرد، كما أنه يتطلب، قبل أي شيء آخر، عملية اتخاذ قرار سليمة ومتكاملة. فقط أشير لمحاور عامة كمقترحات تتطلب نقاشا ودراسة، داخل الجماعة وخارجها بين المهتمين.
1ـ بصورة ملحة، تحتاج الجماعة:
(أ) مقاربة مختلفة تماما في التمكين لشبابها من ممارسة أدوارا قيادية حقيقية في المرحلة المقبلة، وأن تكون الشرائح العمرية الأصغر سنا هي الأولوية في اعتبارات الخطاب السياسي والإعلامي والدعوي.
(ب) العمل على إعادة بناء الثقة الداخلية والخارجية في مشروع الجماعة وهو أمر لن يتحقق إلا بوجود مشروع سياسي واضح يلبي متطلبات المرحلة وتحدياتها.
(ج) في الخارج حيث الفرص متاحة ومتنوعة، تحتاج الجماعة لاستثمار طاقاتها البشرية وتنميتها لضمان بقائها وفاعليتها في المستقبل.
(د) كما بات ضروريا جدا أن يتم إفساح المجال للمبادرات الفردية وتشجيعها، بما يحقق تنويع منصات العمل ويطلق للأفراد مساحات أوسع للابتكار.
2ـ على المستوى الاستراتيجي، تحتاج الجماعة:
(أ) إجراء مراجعة عميقة للوضع الإقليمي وتوازناته، وطبيعة النظام الإقليمي الراهن والنظام الجديد الذي تتشكل ملامحه بالفعل.
(ب) القيام بقراءة عميقة للدولة المصرية الحديثة، على صعيد بنيتها ومراكز قوتها وشبكة علاقاتها الداخلية والخارجية ودورها الإقليمي ووزنها الدولي. كما تتطلب تلك المراجعة فهم ثقافة الدولة المصرية ورؤيتها لنفسها ورؤيتها للمجتمع والإخوان، ومن ثم تقديم رؤية واقعية للتعامل مع هذه الدولة. ولن تكون رؤية التعامل مع الدولة بمعزل عن قراءة الوضع الإقليمي الذي يؤثر بصورة حاسمة على مجمل الوضع الداخلي.
(ج) كما تحتاج الجماعة لإعادة تعريف موقعها ودورها ووظيفتها الحضارية بصورة عامة.
وبعد ..
إن الصراع الممتد منذ نحو قرن على هوية الأمة ومستقبلها، وعلى حرية شعوبها وإرادتها، بلغ ذروته مع الثورات العربية، التي تؤسس للحظة تحول، تتطلب دراسة متطلباتها على صعيد تطوير الرؤى والاستراتيجيات والأولويات والهياكل ومسارات العمل وأدواته.

الإخوان المسلمون وثورة يناير ـ الجزء الأول