fbpx
الشرق الأوسطترجمات

هاس: انسحاب أمريكا من أفغانستان بمحض اختيارها

نشر موقع مؤسسة بروجيكت سينديكيت، وهي مؤسسة صحفية غير هادفة للربح، في 15 أغسطس 2021 مقالاً بعنوان “انسحاب أمريكا من أفغانستان بمحض اختيارها” لريتشارد هاس، رئيس “مجلس العلاقات الخارجية”، الذي شغل من قبل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية (2001-2003). حيث يرى هاس أن السقوط السريع لكابول يُذكّر بالانهيار المخزي لسايغون في عام 1975. ومن وجهة نظره أيضاً أنه بالإضافة إلى العواقب المحلية المحتمل حدوثها في أفغانستان والمترتبة على هذا السقوط، من أعمال انتقامية واسعة النطاق، وقمع شديد للنساء والفتيات، وتدفقات الهائلة للاجئين؛ فإن الفشل الاستراتيجي والأخلاقي لأمريكا في أفغانستان كفيل بأن يعزز الشكوك حول مدى مصداقية الولايات المتحدة، بين الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

وقد جاء مقال ريتشارد هاس على النحو التالي:

لقد فر الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد، وانهارت حكومته تزامناً مع دخول مقاتلي طالبان إلى كابول. وبعيدا عن اجترار ذكريات السقوط المخزي لسايغون عام 1975، فقد اختفى الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان الذي امتد لعقدين من الزمن، في غضون أسابيع فقط.

فكيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟

هناك حروب تحتمها الضرورة، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية وحرب الخليج 1990-1991. حيث تُستخدم في هذه الحروب القوة العسكرية كونها تُعتبر الطريقة الأمثل والوحيدة في كثير من الأحيان، لحماية المصالح الوطنية الحيوية. وهناك أيضاً حروب تشنها الدول بمحض الاختيار، مثل حرب فيتنام وحرب العراق عام 2003، حيث تخوض دولة ما الحرب باختيارها على الرغم من حقيقة أن درجة تعرض مصالحها للخطر أقل من ’حيوية‘ وتوفُّر أدوات غير عسكرية يمكن استخدامها عوضاً عن الحرب.

والآن، هناك أيضاً على ما يبدو انسحابات اختيارية، وهي التي تحدث عندما تسحب الحكومة القوات التي كان من الممكن أن تتركها في مسرح العمليات. ففي هذه الحالة، لا تسحب الدولة قواتها لأن مهمتها قد تم إنجازها، أو أن وجودها قد أصبح غير مقبول، أو أن الحكومة المضيفة لم تعد ترحب بها. في الحقيقة، لم تنطبق أي من هذه الشروط على الوضع الذي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيه في أفغانستان في بداية إدارة الرئيس جو بايدن. لقد كان الانسحاب اختيارياً، وكما هو الحال غالباً في الحروب تُشن بناءً على الاختيار، فإن النتائج المترتبة على ذلك تنذر بأن تكون مأساوية.

لقد ذهبت القوات الأمريكية لأول مرة إلى أفغانستان قبل عشرين عاماً من أجل القتال جنباً إلى جنب مع القبائل الأفغانية التي تسعى للإطاحة بحكومة طالبان التي كانت تؤوي تنظيم القاعدة، وهي الجماعة الإرهابية المسؤولة عن هجمات 11 سبتمبر 2001 والتي أودت بحياة ما يقرب من 3,000 شخص في الولايات المتحدة. وسرعان ما هربت حركة طالبان، وفر كذلك العديد من قادتها إلى باكستان، وهناك استطاعوا مع مرور الوقت أن يعيدوا تشكيل أنفسهم ويستأنفوا القتال من جديد ضد الحكومة الأفغانية.

وعلى مر السنين، ازداد عدد القوات الأمريكية في أفغانستان – حيث وصلت الأعداد في مرحلةٍ ما خلال رئاسة باراك أوباما إلى أكثر من 110,000 جندي – وذلك تزامناً مع توسع طموحات الولايات المتحدة هناك. وكانت الكُلفة هائلة: ما يقدر بنحو 2 تريليون دولار وخسارة حوالي 2,500 من أرواح الجنود الأمريكيين، وأكثر من 1,100 من أرواح جنود شركائها في التحالف، بالإضافة إلى ما يصل إلى 70,000 قتيل من العسكريين الأفغان وحوالي 50,000 قتيل من المدنيين. ورغم كل ذلك، كانت النتائج متواضعة: فبينما كانت هناك حكومة أفغانية منتخبة (وهو شيء فريد من نوعه في تاريخ البلاد) تسيطر على المدن الكبرى، إلا أن قبضتها على السلطة ظلت ضعيفة، حيث تمكنت طالبان من استعادة السيطرة على العديد من المدن والقرى.

لقد كان التدخل الأمريكي في أفغانستان يشبه حالة كلاسيكية من الإفراط في التوسع، حيث تحولت حرب محدودة حتمتها الضرورة والتي كانت قد بدأت في عام 2001 – تحولت على مر السنين إلى حرب باهظة الكُلفة. ولكن بمجيء الوقت الذي تولى فيه بايدن رئاسة الولايات المتحدة، كانت حالة التوسع المفرط (في مهام القوات الأمريكية في أفغانستان) شيئاً من الماضي. حيث انخفض عدد القوات الأمريكية إلى حوالي 3,000؛ واقتصر دورهم إلى حد كبير على تدريب وإرشاد ودعم القوات الأفغانية. ومنذ فبراير 2020، لم يقع أي قتلى بين الأمريكيين المتواجدين في أفغانستان. ولكن الوجود الأمريكي المتواضع كان بمثابة ركيزة لحوالي 8,500 جندي من قوات الدول المتحالفة ودعامة عسكرية ونفسية للحكومة الأفغانية.

ثم تلاشت بعد ذلك قضية أفغانستان داخل الولايات المتحدة إلى حد كبير. فلم تكن أفغانستان في مخيلة الأمريكيين وهم يصوتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020، ولم ينظموا مسيرات في الشوارع احتجاجاً على سياسة الولايات المتحدة هناك. وبعد مرور عشرين عاماً، وصلت الولايات المتحدة إلى مستوى من المشاركة المحدودة في أفغانستان يتناسب مع مستوى المخاطر الممكنة هناك. إن وجودها بهذا الشكل في أفغانستان لم يكن ليؤدي إلى إحراز نصر عسكري أو تحقيق سلام، لكنه كان على الأقل سيحول دون انهيار حكومة كانت، على الرغم من أوجه القصور التي بها، أفضل بكثير من البديل الذي يتولى السلطة الآن. ففي بعض الأحيان، يكون المهم في السياسة الخارجية ليس ما يمكنك تحقيقه ولكن ما يمكنك تجنبه. لقد كان هذا هو الحال في أفغانستان.

لكن ما حدث مؤخراً لم تكن السياسة التي تنتهجها حكومة الولايات المتحدة. حيث كان بايدن يعمل من خلال نص ورثه من إدارة دونالد ترامب، التي وقّعت في فبراير 2020 اتفاقية مع طالبان (استبعدت منها حكومة أفغانستان) حدّدت شهر مايو 2021 كموعد نهائي لانسحاب القوات الأمريكية القتالية. ولم يُلزم هذا الاتفاق حركة طالبان بنزع السلاح أو الالتزام بوقف إطلاق النار، ولكن كان فقط مقابل الموافقة على عدم استضافة الجماعات الإرهابية على الأراضي الأفغانية. لم تكن هذه اتفاقية سلام، بل كانت اتفاقية قدّمت ورقة توت، رغم أنها ورقة رقيقة، للانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

لقد احترمت إدارة بايدن هذه الاتفاقية المعيبة بشدة في كل نقاطها باستثناء نقطة واحدة: حيث تم تمديد الموعد النهائي للانسحاب العسكري الكامل للقوات الأمريكية لما يزيد قليلاً عن ثلاثة أشهر. ورفض بايدن أي سياسة من شأنها أن تربط انسحاب القوات الأمريكية بالظروف الموجودة على الأرض أو حتى الإجراءات الإضافية التي تتخذها طالبان. وبدلاً من ذلك، فخوفاً من وقوع سيناريو تتدهور فيه الظروف الأمنية مما يخلق ضغوطاً لاتخاذ خطوة سياسية غير مدعومة شعبياً بإعادة نشر القوات في أفغانستان، قام بايدن بكل بساطة بسحب جميع القوات الأمريكية من هناك.

وكما كان متوقعا بشكل كبير، فقد تحول الزخم بشكل دراماتيكي إلى حركة طالبان، بعيدا عن الحكومة المحبَطة بعد الرحيل المعلن حينها (والفعلي الآن) للقوات الأمريكية. ومع سيطرة طالبان على كل أفغانستان، أصبحت الأعمال الانتقامية الموسّعة، والقمع الشديد للنساء والفتيات، وتدفق أعداد غفيرة من اللاجئين، أصبح كل ذلك أمراً شبه مؤكد. وسيكون منع عودة الجماعات الإرهابية إلى البلاد أيضاً أكثر صعوبة في ظل عدم وجود لنا داخل البلاد.

هناك خطر آخر يلوح هناك، ويتمثل في أن حركة طالبان قد تسعى إلى بسط سلطتها على جزء كبير من باكستان مع مرور الوقت. وإذا حدث ذلك، فسيكون من الصعب عدم ملاحظة تلك المفارقة؛ حيث توفير باكستان ملاذاً لطالبان على مدى سنوات عديدة هو الذي قد يسمح لها بشن مثل تلك الحرب. وفي هذه الحالة، وفي نسخة محَدَّثة من “فرانكشتاين”[1]، من الممكن أن تصبح أفغانستان ملاذاً قد يترتب على نقل الحرب إلى باكستان – وربما يكون هذا السيناريو، إن وقع، بمثابة كابوس، نظراً لهشاشة باكستان، وارتفاع عدد سكانها، وترسانتها النووية، وتاريخ الحرب بينها وبين الهند.

قد لا يوفر الانسحاب الأمريكي المتسرع وسيئ التخطيط من أفغانستان، الوقت الكافي لإجلاء الأفغان المعرضين للخطر حالياً والذين كانوا قد عملوا مع الحكومتين الأمريكية والأفغانية. وبغض النظر عن العواقب المترتبة على هذا الانسحاب محلياً في أفغانستان، فإن الآثار المروعة لهذا الفشل الاستراتيجي والأخلاقي لأمريكا سيعزز الشكوك حول مصداقية الولايات المتحدة بين الأصدقاء والأعداء على نطاق واسع.

عندما سُئل جو بايدن مؤخراً عما إذا كان يشعر بأي ندم على قراره بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، أجاب بقوله إنه لم يفعل. لكنه كان عليه أن يفعل.


[1] فيكتور فرانكنشتاين هي شخصية وردت في رواية للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي (1797-1851) باسم “فرانكشتاين” أو “إله النار الجديد”، حيث عمل العالِم الشاب فرانكنشتاين على إبداع كائن غريب له قدرة على التفكير، في تجربة علمية غير تقليدية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close