fbpx
الشرق الأوسطترجمات

هيدجز: آلة الانتحار الجماعية وسقوط كابول

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشر موقع شير بوست، وهو موقع إلكتروني أنشأه ويشرف عليه الصحفي الأمريكي روبرت شير، وينشر عليه مقالات رأي له ولمجموعة من أبرز الصحفيين مثل كريس هيدجز وغيرهم، نشر مقالاً بعنوان: “آلة الانتحار الجماعية وسقوط كابول” كتبه الصحفي كريس هيدجز، وهو صحفي أمريكي حائز على جائزة بوليتزر وكان مراسلاً أجنبياً لمدة خمسة عشر عاماً لصالح صحيفة نيويورك تايمز، حيث شغل منصب رئيس مكتب الشرق الأوسط ومدير مكتب البلقان للصحيفة الأمريكية.

وقد نُشر مقال كريس هيدجز على شير بوست في 26 يوليو 2021، أي قبل سقوط كابول بيد مقاتلي حركة طالبان بأحد عشر يوماً، حيث تمكنت حركة طالبان من السيطرة على القصر الرئاسي في العاصمة الأفغانية كابول ومطار المدينة العسكري عصر يوم الأحد الموافق 15 أغسطس 2021، وذلك بعد فرار قوات الأمن ومغادرة الرئيس أشرف غني إلى طاجيكستان. وكما كان مقال هيدجز هذا بمثابة استشراف لسقوط كابول بأيدي طالبان وعودة الحركة الأفغانية للسلطة مرة أخرى، كان  أيضاً سقوط كابول وعودة طالبان للسلطة من وجهة نظره أحد الإرهاصات بقرب نهاية الإمبراطورية الأمريكية، حيث صدّر الكاتب مقاله بقوله: “ستكون عودة طالبان إلى السلطة علامة أخرى على نهاية الإمبراطورية الأمريكية…”. وقد جاء المقال على النحو التالي:

ستكون عودة طالبان إلى السلطة علامة أخرى على نهاية الإمبراطورية الأمريكية – ولن يتم حساب أحد. فالكارثة التي تحدث في أفغانستان، والتي ستنتهي بشكل دراماتيكي إلى فوضى خلال الأسابيع القليلة المقبلة وتضمن عودة طالبان إلى السلطة، هي علامة أخرى على نهاية الإمبراطورية الأمريكية. فقد مر عقدان من الزمن على القتال هناك، وأنفقنا على تلك الحرب تريليون دولار، وتم نشر 100 ألف جندي لإخضاع أفغانستان، بالإضافة إلى الأدوات عالية التقنية، والذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية، وطائرات ريبر المسيّرة المدججة بصواريخ هيلفاير، وقنابل جي بي يو-30، وطائرات جلوبال هوك المزودة بكاميرات عالية الدقة، وقيادة العمليات الخاصة المكونة من نخبة النخبة مثل نخبة الـ “رينجرز” وكوماندوز البحرية الـ “سيلز” والكوماندوز الجوية والمواقع السوداء والتعذيب والمراقبة الإلكترونية والأقمار الصناعية والطائرات الهجومية وجيوش المرتزقة، وضخ ملايين الدولارات لشراء ورشوة النخب المحلية بأفغانستان وتدريب جيش أفغاني قوامه 350 ألف جندي لم يُظهر أبداً إرادة للقتال التدريب وفشل في هزيمة حركة مسلحة غير نظامية قوامها 60.000 فرداً، والتي قامت بتمويل نفسها من خلال إنتاج الأفيون والابتزاز في واحدة من أفقر الدول على وجه الأرض.

ومثلها مثل أي إمبراطورية في وضع انهيارها النهائي، لن يتم تحميل المسؤولية عن هذه الكارثة أو الكوارث الأخرى في العراق أو سوريا أو ليبيا أو الصومال أو اليمن أو أي مكان آخر لأي شخص أو جهة: لن تتم مساءلة الجنرالات، أو السياسيين، أو وكالة المخابرات المركزية ووكالات الاستخبارات الأخرى، أو الدبلوماسيين، أو لجوقة المطبلين في الصحافة الذين امتهنوا الترويج للحرب، أو الأكاديميين والمتخصصين الخانعين، أو لصناعة الدفاع؛ فالإمبراطوريات في النهاية تكون آلات انتحار جماعي. حيث يصبح العسكر في أواخر أيام الإمبراطورية غير خاضعين للتوجيه، وغير خاضعين للمساءلة، ويسعون لضمان الاستمرار إلى ما لا نهاية، بغض النظر عن عدد الأخطاء، والكوارث، والهزائم، التي تتكبدها الأمة بسببهم، أو مقدار الأموال التي ينهبونها، مما يؤدي إلى إفقار المواطنين وتآكل المؤسسات الحاكمة وتدهور البنية التحتية المادية.

أما المأساة الإنسانية – حيث قتل ما لا يقل عن 801 ألف شخص بسبب العنف المرتبط بالحرب المباشرة في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وباكستان ونزوح 37 مليوناً في ومن أفغانستان والعراق وباكستان واليمن والصومال والفلبين وليبيا، وسوريا وفقاً لمعهد واتسون التابع لجامعة براون – فإنه يتم اختزالها إلى مجرد إشارة هامشية مهمَلة.

ما يقارب 70 إمبراطورية خلال الأربعة آلاف سنة الماضية، بما في ذلك الإمبراطوريات اليونانية والرومانية والصينية والعثمانية وإمبراطورية هابسبورغ والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية اليابانية والبريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والسوفيتية، كلها انهارت بسبب نفس العربدة العسكرية الحمقاء. واستمرت الجمهورية الرومانية، في أوجها، لمدة قرنين فقط. ونحن – الإمبراطورية الأمريكية – عازمون على التفكك في نفس الوقت تقريباً. ولهذا السبب، وصف كارل ليبكنخت، في بداية الحرب العالمية الأولى، الجيش الألماني الذي سجنه واغتاله فيما بعد، بأنه “العدو من الداخل”.

وكتب مارك توين، الذي كان معارضاً شرساً لجهود زرع بذور الإمبراطورية في كوبا والفلبين وغوام وهاواي وبورتوريكو، تاريخاً متخيلاً لأمريكا في القرن العشرين حيث دمرت “شهوتها للغزو” “الجمهورية العظيمة … لأن الدوس على الضعفاء في الخارج علّمها، من خلال عملية طبيعية، أن تتحمل بشيء من اللامبالاة ما يشبه ذلك في الداخل؛ فالجموع من الذين صفقوا لسحق حريات الآخرين بالخارج، عاشوا لكي يعانوا مغبة أخطائهم”.

عرف توين أن الاحتلالات الأجنبية، المصمَّمة أصلاً لإثراء النخب الحاكمة، تستخدم السكان المحتلين كفئران تجارب لإحكام تقنيات السيطرة التي سرعان ما تعود بعد ذلك إلى الوطن الأم. لقد أصبحت الممارسات الوحشية للشُرطة الاستعمارية في الفلبين، والتي تضمنت شبكة تجسس واسعة إلى جانب عمليات الضرب والتعذيب والإعدام الممنهجة، أصبحت نموذجاً للشرطة المحلية المركزية وجمع المعلومات الاستخباراتية في الولايات المتحدة. تماماً كما تقوم صناعات الأسلحة والمراقبة والطائرات المسيّرة الإسرائيلية، باختبار منتجاتها على الفلسطينيين.

إنها لإحدى المفارقات المظلمة أن تكون الإمبراطورية الأمريكية، بقيادة زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي لجيمي كارتر، هي التي أحدثت الفوضى في أفغانستان. حيث أشرف بريجنسكي على عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية بمليارات الدولارات لتسليح وتدريب وإعداد طالبان لمحاربة السوفييت.

لقد أدى هذا الجهد السري إلى تهميش المعارضة العلمانية والديمقراطية وعزّز صعود حركة طالبان في أفغانستان، إلى جانب انتشار الإسلام الراديكالي في آسيا الوسطى السوفيتية، بمجرد انسحاب القوات السوفيتية. وسوف تجد الإمبراطورية الأمريكية، بعد سنوات، نفسها وهي تحاول يائسة تدمير ما صنعت يداها. وفي أبريل 2017، في مثال كلاسيكي على هذا النوع من الارتداد العبثي، أسقطت الولايات المتحدة “أم القنابل” – وهي أقوى قنبلة تقليدية في الترسانة الأمريكية – على مجمع كهوف تابع لتنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان كانت وكالة المخابرات المركزية قد أنفقت الملايين على بنائه وتحصينه في السابقً.

لم تكن هجمات 11 سبتمبر 2001 تشكل تهديداً وجودياً للولايات المتحدة. ولم تكن ذات أهمية سياسية. ولم تُخل بتوازن القوى العالمية. ولم تكن عملاً من أعمال الحرب. بل كانت مجرد أعمال إرهاب عدمية.

والطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهابيين هي عزلهم داخل مجتمعاتهم. كنت في الشرق الأوسط كمراسل لصحيفة نيويورك تايمز بعد هجمات سبتمبر. أصيب معظم العالم الإسلامي بالذهول والرفض لتلك الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت باسم الإسلام. إذا كانت لدينا الشجاعة لإدراك أن هذه كانت حرباً استخباراتية، وليست حرباً تقليدية، لكنا أكثر أمناً وأماناً اليوم. هذه الحروب التي تجري في الظل – كما أوضح الإسرائيليون عندما تعقبوا قتلة رياضييهم في الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972 – تستغرق شهوراً، بل حتى سنوات من العمل.

لكن هجمات 11 سبتمبر أعطت النخب الحاكمة المتلهفة للسيطرة على الشرق الأوسط، وخاصة العراق، الذي لا علاقة له بالهجمات، أعطتهم ذريعة لتنفيذ أكبر خطأ استراتيجي فادح في التاريخ الأمريكي – وهو غزو أفغانستان والعراق. لم يكن مهندسو الحرب، بمن فيهم السناتور جو بايدن آنذاك، يعرفون القليل عن الدول التي تم غزوها، ولم يدركوا حدود الحرب الصناعية والتكنوقراطية أو رد الفعل الحتمي والذي من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة مكروهة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. لقد اعتقدوا أن بإمكانهم زرع أنظمة عميلة بالقوة في جميع أنحاء المنطقة، واستخدام عائدات النفط في العراق، لأن الحرب في أفغانستان ستنتهي في غضون أسابيع، لتغطية تكلفة إعادة الإعمار واستعادة الهيمنة الأمريكية العالمية بطريقة سحرية. لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً.

إن غزو ​​العراق وأفغانستان، وإلقاء قنابل عنقودية على القرى والبلدات، وخطف وتعذيب وسجن عشرات الآلاف من الأشخاص، باستخدام طائرات بدون طيار لبث الرعب من السماء، أعاد إحياء الجهاديين الراديكاليين الذين كانوا قد فقدوا مصداقيتهم، وكان أداة تجنيد فعالة من أجل القتال ضد الولايات المتحدة وقوات حلف الناتو. لقد كنا -كأمريكيين- أفضل شيء حدث بالنسبة لطالبان والقاعدة.

كان هناك القليل من الاعتراضات داخل هياكل السلطة على هذه الحروب (غزو العراق وأفغانستان). وكان الكونجرس قد صوّت بواقع 518 نعم مقابل صوت واحد لا، وذلك من أجل تمكين الرئيس جورج دبليو بوش من شن الحرب، حيث كانت النائبة باربرا لي هي عضو الكونجرس الوحيد الذي اعترض على الحرب. أولئك الذين تحدثوا منا اعتراضاً على حماقة إراقة الدماء التي كانت تلوح في الأفق تعرضوا للافتراء، وحُرموا من منصات وسائل الإعلام، وألقوا في البرية، كما هو الحال مع معظمنا. أما أولئك الذين باعونا الحرب فقد احتفظوا بمكبرات الصوت الخاصة بهم (من منصات إعلامية ومواقع)، مكافأة لهم على خدمتهم للإمبراطورية والمجمع الصناعي العسكري، بصرف النظر عن مدى سخريتهم أو حماقتهم.

يسمي المؤرخون نزعات المغامرة العسكرية المدمرة للذات داخل الإمبراطوريات في مراحلها المتأخرة، “العسكرية الصغرى”. فخلال الحرب البيلوبونيسية (431-404 ق. م.) غزا الأثينيون (من أثينا) صقلية، وخسروا 200 سفينة وآلاف الجنود وأثاروا ثورات في جميع أنحاء الإمبراطورية. وهاجمت بريطانيا مصر عام 1956 في نزاع حول تأميم قناة السويس وأُهينت هناك عندما اضطرت إلى سحب قواتها، مما عزز مكانة القوميين العرب مثل جمال عبد الناصر في مصر.

كتب المؤرخ ألفريد ماكوي في كتابه “في ظلال القرن الأمريكي: صعود وانحدار القوة العالمية للولايات المتحدة ” يقول: “في حين أن الإمبراطوريات الصاعدة غالباً ما تكون حكيمة، بل وعقلانية في استخدامها للقوة المسلحة للغزو والسيطرة على الملكيات بالخارج، فإن الإمبراطوريات المتلاشية تميل إلى تقديم عروض القوة غير المدروسة، وتحلم بضربات عسكرية جريئة من شأنها أن تعوض بطريقة ما هيبتها وقوتها المفقودة… وغالباً ما تكون غير عقلانية حتى من وجهة نظر إمبراطورية، ويمكن أن تؤدي هذه العمليات العسكرية الصغيرة إلى نزيف من النفقات أو هزائم مذلة تؤدي فقط إلى تسريع العملية بالفعل (الانهيار)”.

إن الضربة القاضية للإمبراطورية الأمريكية، كما كتب ماكوي، ستكون خسارة الدولار كعملة احتياطية للعالم. وستؤدي هذه الخسارة إلى إغراق الولايات المتحدة في كساد كبير وطويل الأمد. وسيؤدي إلى تقلص هائل في البصمة العسكرية (للولايات المتحدة) على مستوى العالم.

ومع خسارة الدولار كعملة احتياطية، سوف يصبح الوجه القبيح للإمبراطورية مألوفاً في الداخل (في الولايات المتحدة). وسيسرّع المشهد الاقتصادي الكئيب، مع تدهوره واليأس الذي يسببه، ظهور مجموعة من الأمراض العنيفة والمدمرة للذات بما في ذلك إطلاق النار الجماعي، وجرائم الكراهية، والجرعات الزائدة من الأفيون والهيروين، والسمنة المرضية، والانتحار، والمقامرة، وإدمان الكحول. وستستغني الدولة بشكل متزايد عن خيال سيادة القانون بالاعتماد حصرياً على الشرطة العسكرية، وجيوش الاحتلال الداخلية بشكل أساسي، والسجون، التي تضم الآن بالفعل 25 بالمائة من سجناء العالم على الرغم من أن الولايات المتحدة تمثل أقل من 5 بالمائة من سكان العالم.

من المحتمل أن يأتي زوالنا (الإمبراطورية الأمريكية) بسرعة أكبر مما نتخيل. ويشير ماكوي إلى أنه عندما تنكمش الإيرادات أو تنهار، تصبح الإمبراطوريات “هشة”. إن الاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على الإعانات الحكومية الضخمة لإنتاج الأسلحة والذخائر بشكل أساسي، فضلاً عن تمويل المغامرات العسكرية، سوف يدخل في حالة من الانهيار بسبب الانخفاض الكبير في قيمة الدولار، وربما ينخفض ​​إلى ثلث قيمته السابقة. وسترتفع الأسعار بشكل كبير بسبب الزيادة الحادة في تكلفة الواردات. وستنخفض الأجور بالقيمة الحقيقية. إن تخفيض قيمة سندات الخزانة سيجعل دفع عجزنا الهائل مرهقاً، وربما مستحيلاً. وسوف يرتفع مستوى البطالة إلى مستويات عصر الكساد. وسيتم تقليص برامج الإعانات الاجتماعية أو إلغاؤها بشكل حاد، بسبب تقليص الميزانية. هذا الواقع البائس سوف يغذي الغضب والقومية المفرطة التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. سوف يفرز ذلك دولة استبدادية للحفاظ على النظام، وأتوقع أن تكون “فاشية مسيحية”.

وستصبح الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة حالياً للسيطرة على الامتدادات الخارجية للإمبراطورية، والتي هي بالفعل جزء من وجودنا، ستصبح شائعة في كل مكان بالداخل. بما في ذلك المراقبة بالجملة، وإلغاء الحريات المدنية الأساسية، والشرطة العسكرية المخولة باستخدام القوة المميتة العشوائية، واستخدام الطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية لإبقائنا (الأمريكيين) تحت المراقبة والخوف، إلى جانب رقابة الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي الشيء المألوف لدى العراقيين والأفغان، ستكون من سمات أمريكا. إننا لسنا الإمبراطورية الأولى التي تعاني من هذا المصير. إنها نهاية مألوفة. الإمبريالية والعسكرة هي سموم تقضي على الفصل بين السلطات -المصمَّمة أصلاً لمنع الاستبداد- وبالتالي تقضي على الديمقراطية. إذا لم تتم محاسبة أولئك الذين دبروا هذه الجرائم، وهذا يعني تنظيم مقاومة جماهيرية مستمرة، فسوف ندفع الثمن – ثمن غطرستهم وجشعهم – وعسى أن يكون ذلك قريباً.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close