أبعاد القاعدة العسكرية الروسية في السودان
تشهد السياسة الخارجية السودانية تحولات هامة في الآونة الأخيرة لتحقيق مصالحها من خلال نظام مستمر في الحكم منذ 28 عاما، فخريطة التحالفات مع دول الجوار بعد انفصال الجنوب عنها، تشير إلى وجود حالة من التوتر مع بعض الأطراف “مصر، ليبيا حفتر، تشاد” مقابل تحسن ملحوظ مع إثيوبيا، بل ربما لم يكن مفاجئا أن يأتي هذا التحسن على حساب العلاقة التاريخية مع مصر. وفي المقابل وجدنا البشير يتراجع خطوة في علاقاته مع إيران بقطع العلاقات الدبلوماسية معها تضامنا مع الرياض، بل إن الرجل شارك بستة آلاف جندي في عاصفة الحزم باليمن لمواجهة الحوثيين، ورغم تعرض بلاده لخسائر بشرية ” 500 جندي”، فإنه لم يحصل على المليارات التي حصل عليها السيسي الذي رفض المشاركة.
وفي أزمة حصار قطر الأخيرة، وجدناه يقف موقف الحياد رغم ما قد يسببه له ذلك من توتر في العلاقة مع كل من الرياض وأبو ظبي، بل يتردد أنه ربما ينسحب من عاصفة الحزم لعلاقاته الوطيدة بالدوحة التي لعبت دورا هاما في المصالحة السياسية وإعادة الإعمار في دارفور.
أما دوليا، فقد نجح البشير حتى هذه اللحظة في عدم تفعيل قرار توقيفه الصادر من المحكمة الجنائية الدولية عام 2008، بل أكثر من ذلك، قاد الأفارقة مع رئيس كينيا الحالي أوهورو كينياتا عبر الاتحاد الأفريقي إلى رفض الاعتراف بالمحكمة. وفي المقابل فتح البلاد لخصوم ومنافسي الولايات المتحدة التي فرضت على بلاده عقوبات منذ أكثر من عقدين من الزمان، ونقصد بهما الدب الروسي، والتنين الأصفر الصيني، كما قام الرجل إبان إدارة أوباما بالتعاون في ملف الإرهاب وكذلك التهدئة في دارفور، مما جعل أوباما قبيل مغادرته البيت الأبيض أوائل هذا العام يرفع العقوبات عن السودان بصورة جزئية، وهو ما وضع ترمب في مأزق بشأن موعد تجديدها في أكتوبر 2017، ما اضطره في النهاية إلى مسك العصا من المنتصف عبر رفعها باستثناء تلك المرتبطة بتصدير السلاح ودارفور مع الإبقاء على وضع السودان كدولة راعية للإرهاب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن البشير فاجأ الجميع خلال زيارته الأولى لروسيا في نوفمبر 2017 بمطالبته الروس بإقامة قاعدة لهم في أراضيه على البحر الأحمر لحماية بلاده من التهديدات الأمريكية التي أدت إلى تقسيم السودان لـ5 دول.
وهي التصريحات التي حاول وزير خارجيته إبراهيم الغندور توضحيها بعد ذلك، فأشار إلى أن الموضوع قديم، وأنه جاء بسبب الموقف الذي اتخذته بعض الدول الغربية، وليس الولايات المتحدة فحسب، ضد السودان منذ عام 1990، كما أنه يأتي بسبب مواقف روسيا والصين الداعمة لبلاده في مجلس الأمن والتي أجهضت العام الماضي مشروع قرار أمريكي يستهف حظر تصدير بلاده للذهب رغم أنه سلعة التصدير الأولى بعد النفط الذي ذهب للجنوب بعد انفصاله، وإن كان هذا لا يعني من وجهة نظره معاداة الولايات المتحدة، باعتبار أن سياسة الأحلاف قد انتهت في العلاقات الدولية 1.
هذه التبريرات السودانية ربما يكون مردودا عليها، فإذا كانت هناك تهديدات أمريكية وغربية للخرطوم، فلماذا السكوت عليها طيلة هذه الفترة والتي أدت في النهاية إلى انفصال الجنوب. وهل فعلا هناك معلومات جديدة تدفع البشير ووزير خارجيته للتذكير بمخطط تقسيم البلاد لخمسة أقاليم “الشرق حيث البجا، والغرب حيث دارفور، والجنوب، والوسط حيث الخرطوم؟ في حين الشمال يخصص لإقامة دول كوش الجنوبية التي لها امتدادات جنوب مصر”.
وهو ما يدفعنا للتساؤل حول دلالات التوقيت” لماذا الآن”، وما هي دوافع السودان من ذلك؟
أولاً: دلالات التوقيت:
إن فكرة القاعدة العسكرية، كانت مطروحة منذ عام 2012، وكان الروس في حينها أكثر تحمسا لذلك، لاسيما خلال زيارة مساعد الرئيس الدكتور نافع علي نافع، حيث تم طرحها وكذلك كيفية تطوير العلاقات العسكرية وإعادة تأهيل القوات المسلحة السودانية ودعمها بنظم تسليحية حديثة ودعم سلاح الطيران والدفاع الجوي.
ومعروف أن موسكو هي الداعم الأول للسودان في المجال التسليحي في ظل توتر العلاقات مع الولايات المتحدة.. وقد شهدت العلاقات السياسية وكذلك العسكرية بينهما تطورا ملحوظا معظم الوقت خاصة بعد استقلال السودان عام 1956، حيث زار برجينيف الخرطوم 1961.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، اعترف السودان عام 1991 بروسيا كوريثة له، وباتت موسكو المورد الأول للسلاح خلال حرب الجنوب، كما قامت بتدريب قادة وجنود الجيش السوداني حيث فتحت كلياتها العسكرية لالتحاقهم بها، ومنحت السودان رخص لتصنيع السلاح الروسي تحت مسميات سودانية. وفي مجال بيع السلاح كانت المصدر الأول للسلاح، التي أعطاها ميزة نسبية في مواجهة الحركات المسلحة في الداخل وردع القوى الخارجية ومن ذلك المقاتلة ميراج-29 والتي كانت بمثابة حائط صدّ قوي سواءً في منع هجوم جوي علي السودان من قبل بعض الدول، أو في تدمير وقصف أهداف التمرد وترسانته علي الأرض.
وكذلك المقاتلة سوخوي 25 التي لعبت دورا هاما في الوصول الى متمردي دارفور أثناء اختبائهم وسط المدنيين وذلك لدقة عملية الرصد، وكذلك قصف وتدمير التشوين والسلاح الذي كان يصل إليه من دول الجوار إبان ليبيا القذافي وأيام التوتر مع تشاد. وكذلك المقاتلة سوخوي 35 التي تسلم السودان دفعه منها قبل زيارة البشير ليعد أول دولة عربية تحصل عليها، ويقال إنها لن تحمي فقط سماء السودان، وإنما ستفرض منطقة محرمة تشمل نطاق عمل المقاتلة، أي أن أي مكان تحلق فيها، لأنها تفرض درعاً دفاعياً لا يمكن هزيمته بسهولة، بل وتنافس نظيراتها الأمريكية المتطورة من طراز F35 ،F15 ،F18 ،2
لكن وبالرغم من هذا القدم في طرح الموضوع يبقى السؤال عن توقيته الراهن، ودوافع البشير من ذلك؟
هنا نلاحظ أن الإعلان جاء بعد حوالي شهر على رفع أمريكا للعقوبات عن الخرطوم، وكذلك بعد أسبوع من زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان للخرطوم والتي عبّر فيها عن تفاؤله بقرب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، رغم أنه امتنع عن مقابلة البشير واكتفى بالاجتماع مع نائبه الأول بكري حسن صالح. ومعنى هذا أنه كان ما المفترض التريث بعض الوقت، لأن الإعلان عن مثل هذه الخطوة قد يستفز واشنطن التي ربما قد تعيد فرض العقوبات، أو تستمر في وضع السودان على لائحة الإرهاب.
ثانياً: دوافع” أسباب” السودان:
هناك عدة دوافع أو تفسيرات لهذه التصريحات في مثل هذا التوقيت:
1: وجود هواجس لدى البشير من إمكانية قيام ترمب بإعادة فرض هذه العقوبات، خاصة أنها مستمرة بالنسبة لدارفور وكذلك بالنسبة لحظر استيراد السودان للسلاح.
2: أن البشير ربما أراد التلويح لواشنطن بأن إبقاء بلاده على قوائم الإرهاب سيجعلها ترتمي في أحضان موسكو، ومن ثم قد يكون دافعا لها لاحتوائه عبر رفع اسمه من قوائم الإرهاب.
3: ربما تأكدت للبشير معلومات تتعلق بإعادة إحياء موضوع تقسيم السودان لخمسة أقاليم، رغم أنه لم ينفذ منها سوى انفصال الجنوب، أما قضية دارفور فلا تزال تراوح مكانها، اللهم إلا إذا تم إحياؤها من جديد خاصة في ظل وجود حفتر في ليبيا والسيسي في مصر، وكير في جنوب السودان، وكذلك تنامي النزاعات الانفصالية في المنطقة ” كردستان العراق”، أو حتى على مستوى العالم ” كتالونيا”.
4: مكافأة روسيا على مواقفها معه في المحافل الدولية. خاصة وأنها وجهت الدعوة الرسمية له في يوليو الماضي لزيارتها في أغسطس الماضي. وبالتالي فإن هذا الإعلان ليس له علاقة بالعقوبات الأمريكية، وإنما يرتبط بسعي البشير لأن تكون موسكو مظلة له في المحافل الدولية على غرار ما فعلته مع إيران في ملفها النووي، أو حتى ما فعلته مع بشار في الأزمة السورية. وهو ما حدث بالفعل في العديد من المواقف بداية من المحكمة الجنائية الدولية ورفض موسكو القرار الصادر بحق البشير2008، بل انسحابها أواخر العام الماضي من التصديق عليها. وربما هذا ما أتاح له زيارتها دون أية هواجس، وكذلك موقف روسيا من أزمة دارفور وعملية تدويلها، بل كانت أحد الداعمين لخفض عدد قوات اليوناميد” الأممية-الأفريقية المشتركة العاملة هناك عبر المساهمة في صدور قرار من مجلس الأمن بالإجماع في يوليو الماضي بشأن خفض تدريجي لهذه القوات بنسبة 40%، تمهيدا لإحلال القوات السودانية مكانها.
5: ربما يريد الرجل مغازلة كل من مصر والسعودية في آن واحد اللتين تشاركانه الإطلالة على البحر الأحمر، في ظل التوتر الواضح في العلاقات مع كليهما في الآونة الأخيرة بسبب أزمة حصار قطر، والتوتر بشأن حلايب وشلاتين. لذا اختار البحر الأحمر تحديدا ليكون مقرا لهذه القاعدة، ولم يختر منطقة داخلية لإقامتها رغم أن غاية أماني الروس كانت إقامة قواعد عسكرية لهم في أفريقيا سواء في الشمال حيث مصر السد العالي، أو ليبيا القذافي، أو الجزائر بو مدين أو حتى الدول جنوب الصحراء التي كانت تدور في ركابها مثل أنجولا أو الكونغو الديمقراطية.
وربما يُخشى أن تكون هذه الخطوة في إطار التنافس مع القاهرة أيضا والتي سبقت وأن قامت بعقد صفقة ب3.5 مليار دولار مع موسكو لشراء أنظمة دفاعية عام 2014، ثم أعلن مؤخرا أن القاهرة بصدد السماح لموسكو بإقامة قاعدة عسكرية بحلول 2019. وبالتالي يبدو أن الطرفين يراهنان على روسيا ويرغبان في كسب ودها، وإن كان هذا مقبولاً بالنسبة للخرطوم بسبب الخلاف مع واشنطن، فإنه لا يزال يحمل العديد من الاستفهامات بالنسبة للقاهرة لاسيما في ظل علاقاتها الراهنة بإدارة ترمب.
أما الغريب في الأمر، فهو الموقف الروسي الذي لم يبادر بهذا الطلب رغم أنه كان متحمسا لذلك من قبل، بل أعلنت موسكو أنها ستبحث هذا العرض، رغم سعيها الدؤوب لإعادة النفاذ إلى إفريقيا بعد الانسحاب منها عقب سقوط الشيوعية
ثالثاً: تداعيات الإعلان:
لدينا احتمالان في هذا الشأن:
الأول: أن يكون الموضوع في إطار التصريحات التي تستهدف منها السودان إرسال رسائل فقط لكل من واشنطن بتسريع رفع باقي العقوبات، والسعودية “الاستمرار في الاستثمارات”، ومصر “تخفيف حدة التصعيد”
الثاني: أن تكون هذه التصريحات جدية. وهنا ربما تكون لديها مجموعة من التداعيات:
1: إيجاد موطئ قدم لروسيا في البحر الأحمر الذي كان بحيرة عربية في السابق قبل نشأة إسرائيل واستقلال إريتريا، ثم أصبح بحيرة دولية لاسيما مع أزمة القرصنة أوائل هذا القرن. وبالتالي ربما يشكل حالة من الحرب الباردة الجديدة بين موسكو وواشنطن التي تعتبره أحد المناطق الاستراتيجية التقليدية الخاضعة لها.
2: إمكانية قيام تحالف ثلاثي سوداني روسي، فضلا عن إيران، حيث ربما تسعى موسكو لعودة العلاقات بين الخرطوم وطهران، ولا شك أن نجاحها في ذلك، سيكون على حساب علاقات السودان مع دول حصار الخليج “السعودية والإمارات”.
3: أنه يطرح تساؤل آخر حول رد الفعل الأمريكي وهل يمكن لواشنطن أن تعيد العقوبات من جديد. وفي هذه الحالة هل ستستطيع موسكو مساعدة الاقتصاد السوداني لاسيما وأنها رفضت هي والصين من قبل جدولة الديون المستحقة على الخرطوم أو إسقاط بعضها.
4: بالنسبة لأزمة دارفور، فربما يؤدي التواجد والتسليح الروسي الكثيف إلى عدم قدرة المتمردين الذين لم ينضموا لاتفاق السلام على تحقيق نتائج عسكرية ملموسة على الأرض، اللهم إلا إذا قامت السعودية والإمارات بسبب التقارب المحتمل للخرطوم مع طهران، إلى تقديم مزيد من الدعم عبر وكلائها في ليبيا” حفتر”، تشاد” ديبي”، جنوب السودان ” سيلفا كير” (3).