أبعاد زيارة نتنياهو إلى الهند
جرت العادة في إسرائيل، أن يبادر الساسة إلى حرب مع الفلسطينيين أو حملة عسكرية واسعة أو اغتيال شخصية فلسطينية بارزة، كلما تعرضوا لأزمة داخلية أو فضيحة، كي يصرفوا انتباه الجمهور، وليس نتنياهو استثناء من هذه القاعدة، فقد حاول في تسعينيات القرن الماضي اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في شوارع عمان، ما أوشك أن يعرّض اتفاقية السلام مع الأردن برمّتها للانهيار، ولكنّه اليوم في موقف يسرّ أعداء ويغيظ أصدقاءه، إن كان له أصدقاء، بكل تأكيد. فالفضائح تحيط به من كل جانب، ابتداء من مساعديه الذين أصبحوا مشهد استدعائهم إلى مركز الشرطة على خلفية رشى وسوء استخدام للسلطة، أمراً معتاداً، مروراً بزوجته “سارة”، التي اتهمت ببيع زجاجات المشروبات الفارغة والاستيلاء على ثمنها، ثم طلبها رشى على شكل مجوهرات من رجال أعمال، وابنه “يائير” الذي تورط في مشاكل أخلاقية في مرقص عراة، وليس أخيراً به نفسه وهو ما فتأ ينفي وقوعه في وحل صفقة غواصات ألمانية مشبوهة، ما جرّ عليه غضب الساسة المنافسين واتهامهم له باللصوصية وعدم الحياء، ونزول عشرات الآلاف إلى شوارع تل أبيب مطالبين باستقالته ومحاكمته.
هو يعلم أنّه غير قادر على فتح حرب مع غزة ولا توجيه ضربة أخرى للضفة، فماذا يفعل؟ حاول أن يسجِّل نصراً سياسيّاً عن طريق إعادة اختراق القارة الإفريقية وتقديمه لجمهوره على أنّه فتح مبين فأعلن عن عقد مؤتمر الشراكة الإسرائيلية الإفريقية في توغو، فباء بالفشل وتمّ إلغاء المؤتمر واستقال على إثر ذلك وكيل وزارة الخارجية دوري غولد والذي كان من عتاة مؤيديه، ثمّ تبعه غير بعيد، الضابط المسؤول عن استعادة الجنود الأسرى في قطاع غزة بعدما لاحقه أهالي الجنود بتهم عدم الكفاءة واللامبالاة.
ضغط على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق حلم صهيوني قديم بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، فكان ذلك سبباً بإضافة مزيد من اللطخات إلى سجل الرجلين ووقوف العالم بأجمعه ضدهما في الأمم المتحدة فكانت فضيحة كبرى، هذه المرة بتوقيع أممي، وعلى رؤوس الأشهاد. وبما أنّه لا يريد حرباً أخرى مع غزة، ولا أسرى جددٍ يضافون إلى قائمة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين، فهو يتجنب وقوعها بكل السبل الممكنة رغم تصريحاته الجوفاء عن القضاء على الإرهاب والتخلص من أنفاق وصواريخ غزة.
وكعادة نتنياهو وأضرابه ممن اتخذوا العنجهية في الخطاب والسلوك سياسة، لا بد من الهروب إلى الأمام، ولا خير من تحقيق نصر معنوي كبير بزيارة دولة تعد الثانية حجماً في العالم، وتقديم ذلك كفتح كبير في الدبلوماسية الإسرائيلية، رغم تلقيه صفعة مؤلمة منها قبل أيام قلائل حين صوتت ضد قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قبل أيام قلائل، فهرع إلى الهند ليرد الزيارة لصديقه، رئيس الوزراء نارندرا مودي، وما أن أتيحت له فرصة للحديث حتى أخذ يتبجح ويتوعد بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وسحق الإرهاب كما يزعم، رغم أنّه ترك جيشه خلفه لا يدري من أين سيتلقى الصفعة القادمة.
بعد خمس عشرة سنة، منذ أن زار إريئيل شارون الهند عام 2003م، يقوم نتنياهو بزيارة الهند، هذا البلد العملاق، ويقف إلى جانب مودي لينثرا الزهور على قبر المهاتما غاندي، وليتلقط الصور ظانّاً أن لها تأثير مساحيق الغسيل كما تظهر في الإعلانات، على يديه الملطختين بالدماء. تُرى ماذا يمكن لغاندي أن يقول لو قُيّظ له أن يرى هذا المنظر، ونتنياهو الذي ينتمي للحركة الصهيونية التي مات وهو يحذر منها ويستنكر فكرها، يقف رغماً عنه كي يلتقط معه صوراً أقل ما يقال فيها أنّها نموذج كامل للسخرية السوداء.
نتنياهو الذي ترك خلفه شعباً تحت الاحتلال ومئات من الأطفال الفلسطينيين خلف القضبان ومئات غيرهم تم إعدامهم خارج نطاق القانون، قدم إلى الهند مصطحباً معه طفلاً لأحد القتلى اليهود الذين قضوا في هجمات مومباي الإرهابية عام 2008م يستدر به عطف الشعب الهندي، وهو الذي شرّع اغتيال شعب بأكمله بتهجيره من أرضه وإقامة المستوطنات على ترابه، وأطلق الرصاصة الأخيرة على ما يسمى بحل الدولتين، حتى بات موضوع الصحافة الإسرائيلية هل حل الدولة الواحدة ممكن أم لا، متجاهلاً أن الإسرائيليَين الذين أسسا مركز “الضيافة” الذي استهدفته العملية الإرهابية، كانا جنديين سابقين في الجيش الإسرائيلي وغالبية ضيوفهما كانوا من نفس النوع.
ولمزيد من الأنسنة وتبييض الصفحة، تتضمن زيارة نتنياهو توقيع على مذكرة تفاهم بين مستشفى إسرائيلي وآخر هندي، وزيارة إلى عاصمة الأفلام الهندية بوليوود، وتقديم هدية عبارة عن سيارة لتحلية المياه لنظيره الهندي، والمشاركة في افتتاح مزرعة للنخيل، وزيارة لمركز للإبداع التقني، مما يمكن له أن يجمّل الوجه الدموي لإسرائيل والذي انطبعت صورته في ذهن الشعب الهندي لعقود، ولكنّ لبّ الزيارة كما يعرف من لديه أدنى إطلاع، هو صفقات السلاح التي تريد توقيعها إسرائيل مع الحكومة الهندية وخصوصاً صفقة الصواريخ المضادة للدبابات التي تنتجها شركة رافائيل الإسرائيلية والتي تم إلغاؤها مؤخراً نتيجة لضغوط محلية، علماً بأن الهند هي سوق السلاح الإسرائيلي الأول، وإسرائيل هي مزوّد الهند الثاني بالسلاح بعد روسيا.
صحيح أنّ العلاقة الهندية مع إسرائيل لم يبدأها رئيس الوزراء الحالي مودي، وإنّما في عهد رئيس وزراء من حزب المؤتمر الهند وهي نسيما راو، عام 1993م، إلاّ أن ظاهرة عدم التوازن في العلاقة الهندية الفلسطينية تعزّزت بعد وصول حزب الشعب الهندي (BJP) إلى السلطة عام 2014م، وسط تراجع الأداء الرسمي الفلسطيني والعربي، لصالح علاقة أكثر حميميّة مع الكيان الصهيوني، وتمثّل ذلك في زيادة التعاون العسكري بحيث وصل إلى مستويات غير مسبوقة إذ تعدّ المورد السلاح الثاني إلى الهند بعد روسيا كما أسلفنا، كما شاركت الهند لأول مرة في تاريخها في مناورات الراية الزرقاء مع الجيش الإسرائيلي في نوفمبر 2017م غير بعيد عن حدود غزة، فضلاً عن التعاون في مجالات عدة كالتكنولوجيا والزراعة وتحلية المياه، وبعد أن اطمأن رئيس الوزراء الهندي إثر زيارته لأربعة دول خليجية أنّه لن يجد معارضة عربية تذكر، قام بزيارة تعد الأولى لرئيس وزراء هندي إلى الكيان الصهيوني في تموز/يوليو عام 2017م، اتسمت بالحميمية بين الطرفين، وسط معارضة خجولة للزيارة داخل الهند، ورغم أنّ الهند ما زالت عند مواقفها التقليدية داخل أروقة المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، فقد صوّتت لصالح فلسطين في قضايا حق تقرير المصير والاعتراض على قرار ترامب في الأمم المتحدة، إلاّ أنّ الجانب الصهيوني يبدو متفهماً لهذا الموقف.
على الصعيد الشعبي، رغم مرور التأييد الشعبي لفلسطين في الهند بحالة من الانكماش منذ اتفاق أوسلو إلاّ أنّ هناك انتعاشه أعقبت هبة باب الأسباط وقرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي شهد معارضة واسعة داخل الهند تم التعبير عنها بمظاهرات عديدة وآراء ناقدة في الصحافة، خصوصاً بين المسلمين واليسار، وذلك وسط تتزايد صعوبة التعبير عن آراء مخالفة للتوجه الحكومي المؤيد لإسرائيل، والذي يقدّم العلاقة مع إسرائيل كطوق نجاة إجباري في مجالات الاقتصاد والتطوير العسكري والتكنولوجي والزراعي، ما يمكن أن يقود إلى انقسام حاد في المجتمع الهندي بهذا الخصوص، ما يخشى معه أن تفقد الهند أن تفقد هويتها ومعها أصدقاءها من العرب والمسلمين، لتصنف، بعد أن كانت قائدة المعسكر المضاد للاستعمار، إلى دولة إمبريالية أخرى لا تأبه سوى لمصالح أصحاب رؤوس الأموال ودعاة الحروب (1).
——————
الهامش
1 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات