fbpx
قلم وميدان

أحكام المتغلب بين التهويل والتهوين

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بين التهويل والتهوين تضيع الحقيقة في كثير من المسائل التي لها أثر كبير وخطير في حياتنا؛ فنظل نتردد بين القول ونقيضه، مُشَرِّقين ومُغَرِّبين في مساحات ومسافات لا علاقة لها بشيء من الحقيقة، من هذه المسائل مسألة إمامة المتغلب، تلك التي ضاعت فيها الحقيقة في زماننا هذا بين تهويل المتملقين وتهوين المتفيهقين.

فبينما حاول أصحاب الفقه المدخليِّ (المتسلفن!) أن يخلعوا على الطغاة الجاثمين على صدور الشعوب العربية وصف الحاكم المتغلب؛ وجدنا آخرين ممن دفعهم الحنق على أولئك يتهمون الفقه السياسي الإسلاميِّ بأنَّه يُوَطِّن للاستبداد ويُوَطِّد للظلم والفساد، ولا ريب أنَّ كلا الفريقين على باطل وضلال.

ولنبدأ بتقرير الأصل الذي لا يصح أن يتقدم عليه حكم من الأحكام مهما بلغت شهرته، وهو أنَّ الأمَّة صاحبة السلطان ومصدر الشرعية السياسية، وأنَّ اختيارها الحُرُّ لمن يحكمها حقٌّ لها وواجب عليها، وأنَّه لا يجوز لأحد أن يتجاوزها أو يفتئت على إرادتها، وأنَّ الدولة في الإسلام قائمة على علاقة عقدية بين الحاكم والمحكوم، هذا هو الأصل المتقرر بأدلة بلغت من القوة مبلغ ما يفيد العلم الضروريِّ(1 ).

ولقد التزمت الأمَّة الإسلامية بهذا الأصل وأقامته في عهد الخلفاء الراشدين، وهو من سنَّتهم التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”(2 )، فكانت الأمَّة تختار الإمام عبر البيعتين: الخاصة والعامَّة، إمَّا اختياراً محضاً وإمَّا اختياراً مسبوقاً بترشيح من الإمام السابق، فيما عرف في الفقه السياسي الإسلاميِّ – على وجه الاصطلاح – بالاستخلاف، وكلا الطريقين يحقق سلطان الأمَّة ويفرض إرادتها.

وعلى هذا الأصل العريق، وغيره من الأصول المتينة، كالشورى وسيادة الشريعة وغير ذلك؛ أقامت الشريعة بنيان النظرية السياسية ونظام الحكم، ووضعت جملة من الأحكام التفصيلية، كان منها الأحكام التي تولت تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحدَّدت بدقة واستقصاء واجبات وحقوق كل منهما، فمن قصد التشويه أو التزوير انتزع من بين هذه الأحكام الكثيرة الحكم الذي ينص على وجوب السمع والطاعة للحاكم، ثم سلط عليه الضوء، وساق نصوصه المتنوعة بعد انتزاعها من سياقها الذي وردت فيه؛ وكلا الفريقين – من المتملقين والمتفيهقين – وجد في هذا بغيته.

وليت الأمر وقف عند هذا الحدِّ، وإنما تجاوزه إلى إسقاط هذا الحكم بصورته المحرفة تلك على علاقة الشعوب الإسلامية بهؤلاء الطغاة الذين لا يمثلون إلا أعداء الأمَّة، وذلك باستدعاء حكم استثنائيّ صدر اجتهاداً من العلماء في ظروف خاصة على وجه المصلحة الراجحة، وهو حكم الطاعة للحاكم المتغلب؛ فما حقيقة هذا الحكم ؟ وهل يصح تنزيله على أمثال هؤلاء الحكام ؟ وهل قصد به علماء الأمَّة تعبيد الخلق للطواغيت وتألهيه الطواغيت على عباد الله ؟

إنَّ أول ظهور لهذا المصطلح كان على لسان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – وقد كان ممن يرى اعتزال القتال في الفتنة – وذلك على أثر أحداث الْحَرَّة( 3)، فكان ذلك حكماً استثنائياً دعت إليه المصلحة وحتَّمته الضرورة، ولم يكن هو الأصل؛ ولذلك عللوه بمصلحة اجتماع كلمة المسلمين وانتظام شملهم وحقن دمائهم(4 )، ومن يومها ظهر هذا الحكم الاستثنائيّ وتقرر في كتب الفروع وكتب السياسة الشرعية.

ومن هذا السياق يتضح لنا أول خطأ منهجيّ يقع فيه كلا الفريقين، ويتمثل في قلب الاستثناء أصلاً، وتقديمه وإبرازه ليطغى على الأصل؛ إمَّا بغرض اعتماده وبناء فقه الاستكانة عليه وحده، وإمَّا بغرض إظهار الفقه السياسي الإسلاميِّ على أنَّه – على خلاف عمومات القرآن – يكرس للاستبداد؛ تمهيداً لسوق الأمَّة إلى مناهل الفكر التنويريِّ الجديد الذي يعتمد على معطيات العصر الحديث والثقافة الغربية، مكتفيا بما ورد في كتاب الله تعالى من آيات وهدايات عامَّة.

والاستقامة تقتضي أن يبقى الأصل أصلاً والاستثناء استثناءً؛ فيجب السمع والطاعة للإمام العادل الذي استقرت بيعته، فإن نازعه آخر وجب قتاله لا الطاعة له باعتباره متغلباً؛ فإنَّ الخارج على حاكم شرعيِّ جاء باختيار الأمَّة لا يأخذ صفة الحاكم المتغلب الذي قصده العلماء بكلامهم، وإنما هو خارج تجب مواجهته ويحل قتاله، بهذا جاءت النصوص الصحيحة الصريحة التي لا تحتمل ردَّاً ولا تأويلاً، منها ما رواه مسلم عَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»( 5).

ومعنى جميع: مجتمع، وليس المراد الإجماع؛ فإنَّ هذا لا يكون في أيّ زمن، ولم يقل أحد باشتراط الإجماع لتستقر البيعة، وإنما يكونون جميعاً ومجتمعين بمجرد استقرار البيعة بالأغلبية التي قررها الدستور الذي ينظم الدولة؛ حيث تقضي قواعد السياسة في الإسلام – وهي كذلك في الديمقراطية – بأنّ الاختيار إذا استقر بالأغلبية وجب على الأقلية الدخول في الطاعة العامة، وهذا هو المقصود بالاجتماع هنا، ولذلك جاء في الأحاديث النهي عن الخروج على الجماعة مع النهي عن القعود بغير بيعة، وَوُصِف الأمران بأنَّهما جاهلية، أي على سنة الجاهلية التي لم تنظم الدولة على النحو الرشيد الذي جاء به الإسلام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(6 )، وعن ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(7)، فإمَّا أن تبايع إن رضيت وإمَّا أن تدخل في الجماعة إذا استقرت البيعة، أمَّا أن تبيت وفي عنقك بيعة، وتبقى منازعاً للجماعة فهذه هي الفوضى التي كانت في الجاهلية.

ومن النصوص الواردة في وجوب دفع المنقلب على الحاكم الشرعيّ وجواز قتاله وقتله ما رواه مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعاً: ” وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ”( 8)، قال النووي: “فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، ويُنهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقُتلَ كان هدرًا”( 9).

ولأجل هذه النصوص فرق العلماء بين من خرج على حاكم شرعي ومن خرج على حاكم متغلب، فقالوا: “أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحيُّ متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعةٍ أو عهدٍ لم تنعقد إمامة المتغلب عليه”( 10)، وهذا التفريق يدل على وعي السلف لأحكام الشريعة وصيانتهم لها عن التعارض، وعلى فهمهم الصحيح لمراتب الأحكام الشرعية.

فلا يمكن أن يأتي المتغلب في صورة الانقلاب على صاحب البيعة، والصور التي يمكن أن يأتي فيها المتغلب كثيرة، منها أن يموت الحاكم فيتصدى للحكم من تتوافر فيه شروط الحاكم في الشريعة الإسلامية، ويأخذ الحكم بالغلبة دون بيعة ولا عهد، وعللوا ذلك بالمصلحة لا بأحقيته للحكم، يقول القلقشندي: “فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعة من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته؛ لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعا لشرائط الخلافة بأن كان فاسقًا أو جاهلا فوجهان لأصحابنا الشافعية، أصحهما انعقاد إمامته أيضًا؛ لأنَّا لو قلنا لا تنعقد إمامته لم تنعقد أحكامه ويلزم من ذلك الإضرار بالناس”( 11) .

ومن الشروط المجمع عليها أن يقود الأمَّة بكتاب الله، وألا يظهر في حكمه الكفر البواح، فعن عبادة بن الصامت: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ»، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»(12 )، وعَنْ يَحْيَى بْنِ الحُصَيْنِ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ” وهذا الشرط نص عليه العلماء، كقول ابن عابدين:”…. وتجب طاعة الإمام عادلا كان أو جائرا إذا لم يخالف الشرع”(13 ).

ولا ريب أنَّ طاعة المتغلب إذا لم يأت في سياق الانقلاب على الشرعية وتوافرت فيه الشروط السابقة هي ما يقضي به العقل وتفرضه الحكمة؛ فإنَّ ترك الناس ملتطمين لا جامع لهم ولا رابط، أو ترك الأمَّة نهبة للسيف وعرضة لأن يفني بعضها بعضاً، أو ترك أمر المسلمين فوضى بلا نظام؛ مفاسد يجب دفعها ويحرم إقرارها؛ لذلك تسمع الأمة وتطيع حقنا للدماء وجمعا للكلمة ودفعة لفتنة الاقتتال، وهذه الطاعة على أي حال مشروطة بموافقة شرع الله، وبذلك جاءت الأحاديث التي تقيد الطاعة بالمعروف.

وموجز ما ينتهي إليه هذا العرض أنَّ الطاعة للحاكم المتغلب حكم استثنائيٌّ ثبت بالاجتهاد المسترشد بالمقاصد العامة للشريعة وبالقواعد العامَّة في باب السياسة الشرعية؛ ثمرته حقن دماء الأمّة ودفع الفتنة عن كاهلها وحفظ الجماعة من التفرق والاقتتال، وهذا الحكم مشروط بأن يكون هذا الحاكم يقود الامَّة بكتاب الله ولا يظهر في حكمه الكفر البواح، وبألا يأتي تغلبه في سياق الخروج والانقلاب على حاكم شرعيّ ارتقى لمنصبه بطريق من الطرق المحققة لاختيار الامَّة وإرادتها.

فليس مع الغلاة مستند لغلوهم ولا مع الجفاة مسوغ لجفائهم؛ وتبقى أحكام الشريعة وسطاً بين هذه الأقوال التي اشتطت ذات اليمين وذات الشمال، ويبقى شرع الله هو الميزان والمعيار، الذي به يُفَرَّق بين الحق والباطل ويُمَيَّزُ بين الغث والثمين( 14).

———————–

الهامش

(1 ) راجع: للمؤلف النظرية العامَّة لنظام الحكم في الإسلام صـ 144 وما بعدها والأحكام الشرعية للنوازل السياسية صــ 77 وما بعدها ط دار اليسر القاهرة.

(2 ) رواه أحمد (17142) والترمذي (2676) وابن ماجة (42،43) .

( 3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى صــ 23 ، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة صــ 56.

(4 ) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة صــ 55 ،

(5 ) صحيح مسلم (3/ 1480).

(6 ) صحيح مسلم (3/ 1480).

(7 ) متفق عليه البخاري (7053) ومسلم (1849).

(8 ) صحيح مسلم (3/ 1472).

(9 ) شرح النووي لصحيح مسلم 12 / 242.

(10 ) مغني المحتاج للشربيني 5/ 423 ، حواشي الشرواني 9 /78.

(11 ) مآثر الإنافة في معالم الخلافة (1/ 58).

( 12) متفق عليه البخاري (7055) ومسلم (1470).

( 13) حاشية ابن عابدين(ت1252هـ).

(14 ) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close