fbpx
دراساتاوروبا وامريكا

أهمية ومكانة النفط في العلاقات الروسية الأوروبية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

تتصف العلاقات الأوروبية -الروسية بالتعقيد، إذ يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ذلك أن روسيا اليوم تعد أحد الشركاء الأساسيين في القضايا الأمنية الأوروبية، ولا يمكن الحديث عن الأمن الأوروبي من دون التطرق إلى الدور والتأثير الروسيين في المنظومة الأمنية الأوروبية، وهي أيضاً أكبر شريك تجاري وأكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي ومن جهة أخرى، فإن الاتحاد الأوروبي هو أكبر مستهلك للطاقة الروسية، وتربط دول الاتحاد الأوروبي بروسيا علاقات تجارية مهمة، تزامن ذلك مع ما شهدته الألفية الثالثة من متغيرات عدة في سياق السعي إلى قيام نظام عالمي جديد، يكون للاتحاد الأوروبي فيه دوراً جديداً ويتقاطع مع أهداف الدور الروسي في جعله نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، حيث مكّن ظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وسياسية أن يفرض نفسه منافساً قوياً من خلال استكمال مراحل التوسع ومحاولته توحيد السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية، والعمل من أجل دستور أوروبي موحد، الأمر الذي ترك بالغ الأثر في تطور العلاقات بين روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي بعد نهاية الحرب الباردة، التي أخذت منحاً جديداً في ضوء تفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، وولادة روسيا الاتحادية الوريث الشرعي له، بالتزامن مع انبثاق وتبلور شكل الاتحاد الأوروبي بعد معاهدة ماستريخت (Maastricht treaty) عام 1992، وما تخلل هذه الفترة من أحداث رسمت طبيعة العلاقات بين الطرفين وأهم القضايا والعوامل المؤثرة في تلك الفترة، وعلى كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية.

مع تفكُّك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي برزت حقيقة جيوسياسية جديدة تمثّلت بظهور عدّة تكتلات أعيد دمج دولها في خريطة العالم المعاصر خصوصاً تلك التي تقع في وسط آسيا، ما أدى إلى تقلُّص مجال روسيا الحيوي الآسيوي، وجعل ثروات تلك المناطق هدفاً لمصالح القوى الإقليمية والدولية، وتم إنشاء رابطة الدول المستقلة لإظهار دور روسيا البارز ضمن الكيان الجديد، لكنّ هذا الدور قابلته جملة من التحدّيات الإقليمية، أبرزها مشروع توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً وتوسع الحلف الأطلسي على تخوم روسيا ونشر الدرع الصاروخي الأميركي في دول أوروبا الشرقية.

من ناحية ثانية جعل تفكك الاتحاد السوفيتي (قلب الأرض) أوراسيا فراغاً سياسياً، أذ أضحى هذا الجزء بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي بؤرة قوية ومركز تحد فكري عالمي[1]، ومع الجدل التاريخي حول هوية روسيا، هل هي دولة أوربية ام دولة أسيوية ؟، لاسيما والشعار الرسمي لروسيا القيصرية والذي كان يمثل نسرا ذو رأسيين، واحد ينظر باتجاه الشرق (آسيا) والاخر باتجاه الغرب (أوروبا)، تعبيراً عن إعادة انبعاث الهويتين في سياستها الخارجية، وتراوحت السياسة الخارجية الروسية منذ عام 1991 بين توجهين أساسيين:[2] أولهما توجه أوروبي -أطلنطي (EURO -ATLANTIC)، وثانيهما توجه أوراسي جديد (NEW EURASIAN).

بالمقابل ظهر الاتحاد الأوروبي على أنه نظام سياسي وقانوني يتسم ببعض الصفات والخصائص التي لا توجد الا في الدول الفدرالية والكونفدرالية، فلا هو بمنظمة دولية حكومية عامة أو متخصصة، وإن كان نظامه السياسي والقانوني يتسم ببعض السمات والخصائص التي لا توجد إلا في المنظمات الدولية الحكومية، ولا هو منظمة دولية غير حكومية، لأنه كيان دولي حكومي نشأ باتفاق إرادي بين الدول الاعضاء المكونة له[3]، انطلاقاً من هذه الرؤية كان الاتحاد السوفيتي عارض وبشدة الجماعة الاقتصادية الأوروبية منذ بداية تكوينها في الخمسينات، إذ أنه كان يرى فيها سوقاً مغلقة للتجارة، لكن موقفه هذا قد تغير منذ بداية السبعينات إذ بدأت الاتصالات والعلاقات الثنائية وبدأت سلسلة من عمليات التبادل التجاري،[4] تعمقت بعد الحرب الباردة حيث ظهر الاتحاد الأوروبي ليكون كأحد الأطراف الدولية الفاعلة في النظام الدولي، وواحداً من أكبر القوى والتكتلات الاقتصادية العالمية من حيث القدرة الإنتاجية الاستيعابية في التبادل التجاري الدولي، كونه سوقاً عالمية ضخمة لها ما يميزها من خصائص اقتصادية ومساحة جغرافية و وزن جيوبوليتيكي وكثافة سكانية،[5] الأمر الذي أسهم في ولادة نوع جديد من العلاقات الروسية -الأوروبية، يختلف في مداه ووظيفته عما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، وذلك على صعيد العلاقات السياسية، والعلاقات العسكرية، والعلاقات الاقتصادية والتجارية.

المطلب الأول: العلاقات السياسية الروسية ـ الأوربية

جاء عقد التسعينات ليتمخض عن تحولات كبرى غيرت بنية النظام الدولي، وألقت بتأثيرات جوهرية على تطور مسيرة بناء سياسة خارجية وأمنية مشتركة في إطار تجربة التكامل الأوروبية، وكان أول هذه التحولات وأكثرها بروزاً التفكك الكبير للاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي[6]، ليكون إيذاناً بانتهاء الحرب الباردة التي حكمت تفاعلات النظام الدولي طوال ما يقرب من النصف قرن السابقة على هذا التفكك[7].

شهدت حقبة التسعينات للمرة الأولى إمكانية قيام تعاون شامل بين كل دول أوروبا تحت عنوان “الأسرة الأوروبية”، وكانت هذه المحصلة ثمرة تكامل القارة الأوروبية الذي رعاه الاتحاد الأوروبي بعد اختفاء التهديد السوفيتي، واستطاعت وحدة أوروبا الغربية مع نهاية الحرب الباردة أن تجذب معظم دول أوروبا الشرقية إلى فلكها، ويتمثل الدور الذي يلعبه التكامل الأوروبي في كونه قوة جذب تعمل على تركيز السلطة بدلاً من تقسيمها وهو ما كان قد ترجم بمعاهدة ماستريخت عام 1992.[8]

لقد أدى زوال التهديد السوفيتي الفعلي لأوروبا بعد تفككه عام 1991 إلى تبلور اتجاهات أمنية وسياسية خارجية جديدة، بحيث أدركت القوى الأوروبية المؤثرة بقيادة ألمانيا وفرنسا ضرورة تجديد خطط أمنية وآليات ضمان الأمن الأوروبي من خلال التركيز على الانطلاق من البنى الأوروبية المستقلة ومغادرة مرحلة الحماية الأمريكية عبر حلف شمال الأطلسي، بعد تناقص وتلاشي حدة التوتر الدولي بعد الحرب الباردة وما نتج عنه من تناقص حاجة أوروبا للحماية الأطلسية الأمريكية بشكل فسح المجال أمامها للسعي التدريجي لتفعيل دورها المستقل دوليا وبأشكاله المتعددة .[9]

بالمقابل كانت روسيا تنظر إلى أوروبا نظرة تتسم بشيء من الضبابية وعدم الوضوح، فمن جهة هنالك شعور روسي راسخ بالانتماء إلى أوروبا الأمر الذي يدفع إلى التعامل معها وفتح آفاق لترسيخ هذا التعامل ودفعه قدماً، ومن جهة أخرى أصبحت أوروبا كلها، أو قسم كبير منها، أعضاء في حلف شمال الأطلسي، كما إنها تحولت فعلاً إلى قوة اقتصادية هائلة ممثلة بالاتحاد الأوروبي الساعي نحو التوسع ليضم أوروبا كلها، الأمر الذي أصبحت أوروبا الموحدة فيه تمثل مبعث قلق دائم للمخطط الاستراتيجي الروسي.[10]

واجهت دول روسيا وأوروبا الشرقية سلسلة من المشكلات المتباينة ولكنها مترابطة في الوقت نفسه، مشكلة إدارة التحول إلى النظم السياسية والاقتصادية الجديدة، ومشكلة كيفية التعامل مع التحديات المواكبة لعملية بناء الديمقراطية واستمرارها، ومشكلة مواجهة التطورات الناجمة عن التحول إلى مجتمعات مدنية.[11] إذ تقوم السياسة الخارجية الأوروبية على قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أو على أقل تقدير التوظيف البراغماتي للقوة الناعمة Soft power التي تخدم مصالح القوى الفاعلة ضمن الاتحاد الأوروبي، في حين تقوم سياسة موسكو الخارجية على القوة الصلبة Hard power، وهذا لا يتوافق إطلاقاً مع التوجهات الأوروبية، وعلى الرغم من النشوة في العلاقات الروسية الأوروبية واستثمار موسكو لها ببراغماتية، فإن اختلاف القيم والرؤى وحتى المصالح جعل هذه العلاقة تتسم بالغموض وعدم الوضوح والاصطدام أحياناً.

وهذه المشكلات الحيوية أسهمت في الاسراع من التوسع الأوروبي نحو الشرق، فعندما قرر الاتحاد الأوروبي في قمة مدريد 1995 فتح باب العضوية لعدد من دول أوروبا الشرقية، قام قراره على فكرة الالتزام الاخلاقي من جانب الغرب بدعم ومساعدة هذه الدول، وكان على قناعة تامة بأن ثمة مصلحة للاتحاد الأوروبي في تعزيز استقرار هذه الدول ورفاهية شعوبها بحكم الجوار، على الرغم من أن هذه المساعي جوبهت بمعارضة بعض دول الاتحاد الأوروبي التي اقرت بأن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون التزام تلك الدول بمعايير (كوبنهاغن)، فضلاً عن أن الالتزام بتلك المعايير لا يعني تلقائية الأهلية الكاملة لاكتساب العضوية بقدر ما يعنى توافر الأسس الموضوعية للتفاوض حول اكتساب هذه العضوية.

ومن جهة أخرى فإن بروز الدولة الروسية الجديدة كان يعني بالضرورة أيضاً تغيير السياسة المتبعة تجاه دول أوروبا الوسطى والشرقية، فلقد تغيرت السياسة الروسية تجاهها منذ عام 1991، من خلال السعي نحو التخلص من الدبلوماسية السوفيتية باعتبارها تشكل أحد أركان السياسة الخارجية الروسية.[12]

عملت روسيا في تلك الفترة على تحديد مصالحها في أوروبا الشرقية وبصورة تكون أكثر وضوحاً، وبرز ذلك بشكل واضح في محاولة روسيا منع انضمام دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، حتى مع تلميح الرئيس الروسي حينذاك بوريس يلتسين في زيارته إلى وارسو في آب عام 1993 إلى إن روسيا قد تكون مستعدة لقبول عضوية بولندا في حلف الأطلسي، الا أن روسيا قد عارضت بقوة انضمام دول أوروبا الشرقية الأخرى إلى حلف الناتو والتي كانت تهدف من خلال هذا الموقف جعل منطقة أوروبا الشرقية والوسطى منطقة عازلة.[13]

أما بعد الانتخابات التي جرت في آذار من عام 2000، ومجيئ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قمة الهرم السياسي في روسيا، فإن مسار العلاقات الروسية _ الأوروبية قد تغير بشكل ملحوظ، خصوصاً بعد الفوز الذي حققه فيها وبنسبة 53% من الأصوات على أقرب منافسيه وهو غينادي زيوغانوف،[14]إذ جاء في مقدمة اهتماماته إلغاء حالة عدم الاستقرار التي خلفتها حقبة حكم الرئيس بوريس يلتسين التي اجتاحت جميع مجالات الحياة في روسيا، والسعي إلى استعادة جزء من المكانة الدولية لروسيا الاتحادية، ولذلك عمل على إعادة هيبة الدولة، واصلاح الاقتصاد، وقمع الحركات الانفصالية الداخلية، فضلاً عن تطوير قدرات روسيا العسكرية وانتهاج سياسة خارجية فاعلة، وبخاصة تجاه كل من الصين والهند وإيران،[15]وفي إطار السياسة الخارجية، حرص الرئيس بوتين على ان يرسم لروسيا سياسة خارجية مستقلة تقوم على ركيزتين هما: [16]

1- التخلي عن الانجراف الأعمى او التبعية للغرب، مع التركيز في الوقت نفسه على نزع صفه التوسع الاستعماري التي طبعت السلوك الخارجي الروسي إبان حقبة الاتحاد السوفيتي السابق في المسألة الأفغانية، وضمان عدم عودة روسيا إلى أجواء الحرب الباردة التي سادت بين الشرق والغرب.

2- تأكيد المكانة الدولية لروسيا الاتحادية في ضوء قدراتها الوطنية المحددة، ومحاولة الحد من الانفراد الامريكي بالهيمنة على الساحة الدولية بقيادة العالم عبر إيجاد دور مؤثر لروسيا في قضايا الأمن والسلم، والترتيبات الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية.

جرى تضمين هذه التوجهات في المبادئ الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية التي طرحها الرئيس بوتين في تموز عام 2000، إذ اكدت على إعطاء الأولوية لتطوير دور روسيا الاتحادية في عالم متعدد الاقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة، فضلاً عن التركيز في البعد الاسيوي فيما يتعلق بمصالح روسيا الاتحادية في قارة آسيا، ولاسيما توثيق علاقاتها مع الصين وإیران،[17] بموقعها الجغرافي تمثل جسراً يربط وسط آسيا ومشرقها أولاً، وغرب آسيا، وشرق البحر المتوسط ثانياً، ويحدها من الشرق باكستان وأفغانستان، ومن الشمال تركمانستان، وأذربيجان، وأرمينيا، وتركيا، وبحر قزوين، ومن الغرب العراق، ومن الجنوب الغربي الخليج العربي، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومن الجنوب المحيط الهندي.[18]

ولتحقيق ذلك اتجهت روسيا منذ بداية حكم الرئيس بوتين في العام 2000، إلى تثبيت حلفاء استراتيجيين في مواقع مختلفة كمناطق عازلة ضد النفوذ الامريكي في العالم، ووفقاً لهذا التصور تكون الصين في شرق آسيا، والهند في جنوب آسيا، وعلى النسق ذاته تأتي ایران بمكانتها لدى موسكو باعتبارها الشريك الوحيد لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، والخليج، وآسيا الوسطى.[19]

مما تقدم يتضح أن مسيرة العلاقات الروسية -الأوروبية بدأت تأخذ منحاً جديداً يشير إلى الشراكة والتعاون والذي يصب في مصلحة الطرفين، ومؤشرات هذا التعاون على المستوى السياسي يتضح من خلال الرؤيا الأوروبية للدور الروسي والوجود الروسي الجديد في النظام العالمي، خاصة مع دعم الولايات المتحدة الامريكية لهذا التوجه، فإن كلاً من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة يسعيان نحو جعل روسيا قوية في مواجهة المد الاسلامي من جهة الشرق.

أما على الجانب الروسي، فإن روسيا التي اندفعت بقوة باتجاه بناء علاقات متطورة مع الغرب ترتقي إلى مستوى شراكة استراتيجية في عهد الرئيس بوريس يلتسين، والتي لم تتراجع في عهد الرئيس فلاديمير بوتين عن هذه الشراكة، ولكن بوسائل أكثر وضوحا، وبدور روسي أكثر تواجداً،[20] فقد اتجهت روسيا وبشكل واضح نحو الغرب، في الفترة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي السابق بشكل واضح، من خلال سعي الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين ووزير خارجيته السابق اندريه كوزيروف إلى الاندماج في العالم الغربي بغية الحصول على المساعدات الاقتصادية اللازمة لنجاح الإصلاح الاقتصادي في روسيا وتجسد هذا التوجه بشكل رسمي في خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الثاني عام 1992 عندما قال ” أن روسيا سوف تهتدي بالديمقراطية كقيمة عليا، وبحقوق الإنسان والحرية والشرعية، وان القوى الغربية هي من حلفاء روسيا الطبيعيين”[21]، وبناءً على هذه المقولة كانت هناك انطلاقة جديدة للسياسة الروسية تضمنت جملة من المواقف والأحداث التي يمكن ادراجها في جملة الأحداث التي حدثت بين روسيا الاتحادية والاتحاد الاوروبي خلال فترة التسعينات مثل الزيارات وتوقيع معاهدات الصداقة والتعاون وبحث جدولة الديون المترتبة على روسيا، والتي تعطي انطباعاً على قوة الاندماج الروسي مع الاتحاد الاوروبي وخصوصاً مع ألمانيا، فرنسا، بريطانيا باعتبارهم الأعضاء البارزين في الاتحاد.

وقد أدّى وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا عام 2000 إلى إعطاء دفعة قوية في إعادة ترتيب العلاقات بين موسكو وبروكسل ولكن على أسس مغايرة لما كانت عليه إبان حقبة يلتسن، إذ قام مشروع بوتين الإصلاحي على إعادة بناء الاقتصاد الروسي المتهالك، وتعزيز النمو الاقتصادي، واستعادة الدور الداخلي لروسيا، من خلال سيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية وخاصة قطاع الطاقة، ترافق الاستقرار الداخلي في روسيا في عهد بوتين مع إعادة تفعيل سياستها الخارجية، وظهرت لدي موسكو رغبة في الوقوف في وجه الولايات المتحدة في حرب العراق.

لقد اتسم الخطاب الخارجي الروسي تجاه الاتحاد الأوروبي منذ عام 2000 بالمهادنة بديلاً عن التبعية، وكانت تصريحات المسؤولين الروس بأن روسيا هي جزء من أوروبا الحضارية، وقد جاء على لسان بوتين أمام البرلمان الألماني عام 2001 بأن روسيا جزء من أوروبا وتسعى لإقامة شراكة متينة معها، وأضاف أنه لا يمكن لأوروبا وروسيا الاستمرار في ظل النظام القديم، (في إشارة إلى الحقبة السوفياتية)[22].

وفي قمة سان بطرسبورغ عام 2003، قرر الاتحاد الأوروبي وروسيا تعزيز العلاقات بينهما، وتم إنشاء أربع مساحات مشتركة للتعاون هي منطقة اقتصادية، ومنطقة الأمن والعدالة والحرية، ومنطقة الأمن الخارجي، ومنطقة التعليم والبحث،  لذا وضع صانع القرار الروسي المساومة هدفاً تكتيكياً لتوفير شروط أفضل، وتعزيز موقع روسيا في إطار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وقادت سياسة المهادنة إلى نجاح الكرملين في الحصول على مكاسب اقتصادية، وقد ترجمت موسكو التحسينات في ظروفها السياسية والاقتصادية إلى نفوذ أكبر، وتحول في صورة علاقتها مع دول الاتحاد الأوروبي، وأدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى تعزيز قبضة موسكو على احتكار توزيع الغاز لأوروبا، وقد عزز موقف موسكو وموقعها لدى الاتحاد الأوروبي، من حيث هي قوة لا غنى عنها في مجال الطاقة، وترافق ذلك مع استقرار سياسي داخلي في روسيا وتوفير أغلبية برلمانية لبوتين وحزبه “روسيا الموحدة”، وسن بوتين عددا من التشريعات والقوانين التي عززت قبضته على السلطة، ما أدى إلى تشكيك في صدقية روسيا في مواصلة التزامها إصلاحات تتوافق مع القيم الأوروبية ومعاييرها، وبالنتيجة التشكيك في نية موسكو في بناء شراكة استراتيجية مع بروكسل.

بدت روسيا غير راغبة في التكيف مع المعايير الأوروبية في حقلي السياسة والاقتصاد، الأمر الذي قاد إلى انتهاء اتفاقية التعاون والشراكة في كانون الأول 2007، مع أن الاتفاقية يتم تجديدها بصفة تلقائية. لقد أدرك كل من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الفدرالي الروسي أن اتفاق التعاون والشراكة لم يعد كافياً لتنظيم العلاقات الثنائية وقد تم الاتفاق على البدء في مفاوضات تنظم اتفاقاً جديداً، وبناء عليه، بدأ الشروع في مفاوضات بين الجانبين في حزيران 2008 إلا أن هذه المفاوضات توقفت بسبب اندلاع أزمة جورجيا، ومن ثم أزمة أوكرانيا 2014 حيث دعت القمة الطارئة للاتحاد الأوروبي في أيلول 2008 موسكو إلى البدء في مفاوضات حول اتفاق شراكة وتعاون جديد في تلك الفترة *، ولم يكن إبرام اتفاق مشترك للشراكة والتعاون أمراً سهلاً فالاتحاد الأوروبي يريد اتفاقاً مفصلاً ينظم جميع مجالات التعاون الثنائي ووفقاً للمعايير الأوروبية، في حين تفضل موسكو بدلاً من ذلك اتفاق إطار عام وأن تتم مناقشة كل مجال من مجالات التعاون على حِدة. بهذا تتجنب موسكو ربط التعاون مع الاتحاد الأوروبي في مجالات محددة، وأهمها الطاقة، بترتيبات احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى تتجنب موسكو مواءمة تشريعاتها مع تشريعات الجماعة الأوروبية، لذا فإن الاتحاد الأوروبي يدفع في اتجاه معاهدة جديدة واتفاق تعاون بضمانات قوية حول إمكانية الاعتماد على امدادات الطاقة الروسية، وهذا لا يمكن ترجمته إلا من خلال مطالبة روسيا بأن تحرر قطاع الطاقة، ولا سيما كسر احتكار شركة غازبروم عملاق الغاز الروسي صادرات الطاقة، والسماح بقدر أكبر للشركات الأوروبية بالوصول إلى السوق الروسية.[23]

إن النقاط المشتركة التي اتسمت بها مواقف الدول الأوروبية لا يعني عدم وجود تباين في مصالح كل دولة منها على حدة بناء على الخلفيات التاريخية والجغرافية والعرقية ولكن شدة هذا الاختلاف لم يصل إلى درجة التناقض العنيف ولم يمنع من التوصل إلى تفاهم فيما بينها على قواعد وحدود التعامل مع الأزمات ومع أطرافها وعلى وسائل وطرق معالجتها.[24]

المطلب الثاني: العلاقات العسكرية الروسية ـ الأوربية

ارتبط مشروع التوسع الأوروبي شرقاً بضم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد ببعد عسكري بتوسع حلف شمال الأطلسي تجاه الشرق عبر ضم تلك الدول الجديدة إلى عضويته، وبات يعد من أبرز القضايا المثيرة للجدل ليس فقط في العلاقة بين الحلف وروسيا الاتحادية، بل وداخل أعضاء الحلف الأوروبيين أيضاً، كما عملت روسيا الاتحادية جاهدة لوضع شروطها للقبول بتمدد الحلف حتى حدودها الغربية،[25] مقابل حرص معظم الدول الأوروبية الغربية على علاقات الود والتعاون مع الدولة الروسية المترامية الأطراف شرقاً، أما الدول الأوروبية الشرقية فتعيش على المخاوف من عودة الهيمنة الروسية بشكل ما، [26] فقد كانت روسيا تعارض بجد انضمام دول أوروبا الشرقية والدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي إليه، لان هذا يعني بالنسبة لها أن تظل هي وحدها في مواجهة باقي دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما أن بعض النخب الروسية ترى أن مد حدود هذا الحلف لیتاخم حدودها قد ينطوي على تهديد خطير لأمن وسلامة روسيا.

يضاف إلى ما تقدم أن دول أوروبا الشرقية تعاني في الأساس من نقص جوهري في قدراتها وامكاناتها التي تأثرت بشكل سلبي من حالة عدم الاستقرار التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي من جهة، ومن تردي الوضع الاقتصادي الذي تمخض عنه تراجع في الصرف على الميزانية العسكرية الدفاعية ثم من اختراق أمريكي على صعيد القدرة العسكرية الاستراتيجية الروسية بتوقيع الطرفين على اتفاقية تخفيض التهديد الاستراتيجي، كل هذا جعل قدرة القوات المسلحة الروسية للتعامل في الظروف المستجدة أكثر صعوبة الأمر الذي يستدعي تجاوزه إعادة الانفاق وزيادته على القوات المسلحة الروسية بغية تحديثها، وبالتالي تصاعد الإنفاق العسكري نتيجة لارتفاع حالة استعداد القوات الروسية خاصة بعد قرار توسيع حلف الناتو وإدراك روسيا لطبيعة الاهداف الأوروبية وراء هذا التوسع والمتمثلة بعزل روسيا عن أوروبا و إفشال أية محاولة للتكامل الاقتصادي والسياسي والعسكري معها واحتوائها عن طريق زرع قواعد عسكرية على حدودها، وضم وعزل الدول الأوروبية الشرقية التي يمكن أن تشكل بعدا استراتيجياً لها في المستقبل وحرمانها من استقطابها للفلك الروسي.[27]

لقد اتخذ الناتو عقب تفكك الاتحاد السوفيتي سلسلة إجراءات لبناء علاقات جديدة مع الأعضاء السابقين لحلف وارسو وخاصة روسيا التي كانت تنظر بتشكك بالغ لخطط التحالف الغربي للتوسع شرقاً، وفي عام 1994 عرض الناتو على دول حلف وارسو السابق علاقات محدودة على شكل برنامج (الشراكة من أجل السلام)* مما سمح لها بالمشاركة في تبادل المعلومات والتدريبات العسكرية المشتركة وعمليات حفظ السلام، إلا إن هذا أكد مخاوف روسيا من أن الناتو يشكل خطراً متخفياً لأمنها.[28]

إن تفكك القوة العسكرية لحلف وارسو والاتحاد السوفيتي السابق، وقيام روسيا بسحب جميع أسلحتها النووية التكتيكية والمتوسطة المدى من وسط وشرق أوروبا، قد قلص إلى حد كبير من احتمالات اندلاع الحروب النووية الشاملة أو المحدودة في أوروبا، وقد كان ذلك دافعاً قوياً للناتو إلى إجراء تخفيضات على ترسانته النووية سواء بشكلها الاستراتيجي أو التكتيكي، فاستراتيجياً قامت واشنطن بتخفيض عدد صواريخها العابرة القارات إلى الثلث تقريباً استناداً إلى اتفاقية (ستارت 1)، كما كانت تتفاوض مع الاتحاد السوفيتي قبل تفككه عام 1991 للتوقيع على اتفاقية ( ستارت2)، التي من خلال تطبيقها ستنخفض ثلثي الترسانة النووية الاستراتيجية لكلا الطرفين تقريباً.[29]

أدركت روسيا حقيقة ان اهم مصلحة للغرب هي عزل روسيا ومنعها من ممارسة نفوذها الإقليمي بشكل يتعارض مع مصالحهم، مما حرض باتجاه دعوات روسية لإعادة المجد الروسي وبناء روسيا قوية تعاود الظهور كمنافس استراتيجي مرة أخرى، سيما وأن روسيا تنظر بعين الريبة إلى استمرار وجود حلف شمال الأطلسي وكانت تؤكد دائماً أن الهدف الذي تأسس حلف الناتو من أجله قد تلاشى من المسرح السياسي والجغرافي للعالم،[30] وتم التعبير عن ذلك باندفاع الاستراتيجية الروسية لاتخاذ أسلوب جديد في مواجهة الغرب من خلال تعزيز العلاقات مع أوروبا، مدركة أن الاختيار الحقيقي أمام روسيا تقوية العلاقات مع أوروبا، وليس أية أوروبا كانت بل أوروبا غير الأطلسية والتي يجري تشكيلها في تلك الفترة، الناتجة عن توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، والتي من المحتمل أن تظل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأمريكا اذ تنظر روسيا إلى هذه الكتلة الأوروبية، باعتبارها الخيار الذي يمكن أن يمنح روسيا دوراً دولياً واقعياً ويزيد فرصتها في التحول وتطوير ذاتها اجتماعياً وبالتالي سيتحتم على روسيا أن تسعى للانتهاء إليها إذا ما أرادت أن تتجنب العزلة الجيوبوليتيكية الخطيرة،[31] ولهذا نلاحظ أنه بعد عقد التسعينات كانت خلاله التوجهات الاستراتيجية والأمنية الروسية تعيش حال تخبط في عهد الرئيس بوريس يلتسن، وأصبح واضحاً أن إدارة بوتين سلكت طريقاً يمتاز بالتعاون والشراكة، إن لهذا التغيير أسباب عديدة تراوحت ما بين:

1- الضعف التدريجي للدولة والمرتبط بمشكلات روسيا الاقتصادية والاجتماعية، وما بين التدهور النسبي لمكانة روسيا بالمقارنة مع سائر اللاعبين الدوليين الكبار.

 2- التفكير والعمل الغربي الجاد في توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي ليشمل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وهو الأمر الذي زاد من المخاوف والخشية الروسية من العزلة، سيما بعد أن طرأت أحداث أثرت على أحادية المصالح والتواجد الروسي في هذه المنطقة وبالأخص بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتواجد الأمريكي المباشر في أفغانستان.

 3- المصالح الأمريكية المستجدة في نفط بحر قزوين ومصالحها في جيواستراتيجية شبكات نقل النفط والغاز في هذه المنطقة.

 4- تغير القيادات السياسية الحاكمة في الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي ومجيء قيادات جديدة وعن طريق ثورات بيضاء موالين أكثر للغرب.

في ظل هذه المستجدات ابتعدت الوجهة الجديدة للاستراتيجية الروسية عن محاولات عرقلة السياسات الغربية، وبدلاً من ذلك صارت السياسة الروسية تحاول التقارب والتفاهم أكثر مع سياسة فرنسا وألمانيا كونهما الأبرز والأقرب إلى روسيا من بقية اللاعبين الأوروبيين، وعلى ما يبدو، إن سعي روسيا خلال التسعينات لاستعادة موقعها كقوة عظمى والبحث عن دوائر نفوذ جديدة، شهد تراجعاً وحلت مكانه عملية تكيف أكثر واقعية مع السياسات العالمية القائمة، مع هدف رئيسي هو تعزيز موقع روسيا كقوة إقليمية حاسمة ضمن بيئتها الأوراسية المباشرة، كنقطة بداية لانطلاقها العالمي.[32]

إذ يشير واقع الأحداث، إلى أن الموقف الروسي الرسمي من توسعات حلف شمال الأطلسي نحو الشرق تميز بعدم الثبات والقطع، وبالتالي شرعت روسيا تتحدث بلغة أكثر مرونة وتشير إلى أنها لا تستطيع حرمان أية دولة من حق الالتحاق بحلف شمال الأطلسي ولكنها ضد هذه التوسعات لأنها ستؤدي إلى عدم الاستقرار في أوروبا، وبعبارة أكثر دقة، فإن روسيا توافق على ضم أعضاء جدد إلى الحلف وعلى التوسعات في ظل شروط معينة، (وهذا يشير إلى التحفظ)، وتراوحت هذه الشروط بين عدم نشر الأسلحة النووية في الأراضي الجديدة التي سيدخلها الحلف وعدم قبول دول البلطيق في عضويته وحق موسكو في الاعتراض على أية تحركات يقوم بها الحلف تمثل خطراً على الأمن القومي الروسي، وفي 27 أيار 1997 وقعت موسكو مع الحلف (ميثاق باريس)،[33] الذي مكن روسيا من جعل أوروبا تقر في استراتيجيتها المشتركة الخاصة بها بأن مستقبل هذا الشريك الضروري (أي روسيا) يشكل مصلحة استراتيجية لها، مما شكل دفعة للاتفاقية التي تم التوصل إليها مع روسيا غداة 11 ايلول 2001 أصبح لدى أوروبا حواراً سياسياً وأمنياً مع روسيا أكثر تقدماً من الحوار مع أي شريك آخر، رغم استمرار التوتر في مجالات السياسة الأخرى بما في ذلك تلك المتعلقة بالأمن مثل تقييم الصراع في الشيشان.[34]

وعلى الرغم من توسع الحلف نحو الشرق والقبول الروسي به كأمر واقع إلا أنها لا يمكن الموافقة عليه، وإن عدم امتلاك روسيا لوسائل منعه من التوسع لم يمنعها من إعلان قيام خط أحمر عندما أوضحت أن انضمام أوكرانيا ودول البلطيق الثلاث (استونيا، لاتفيا، لتوانيا) سوف يكون مبرراً لإعلان الحرب مما قد يسبب تدهور في العلاقات بين الشرق والغرب.[35]

المطلب الثالث: العلاقات الاقتصادية الروسية ـ الأوربية

تعد العلاقات الاقتصادية من أبرز العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية، وغالبا ما تستخدم الدول الوسائل الاقتصادية للسعي من أجل تحقيق أهدافها، كما أن القدرة الاقتصادية في عالمنا المعاصر هي التي تحدد القوتين السياسية والعسكرية،[36] وإن الاقتصاد والسياسة يتفاعلان وعلى نحو لم يكن مألوفاً في السابق، وهكذا أصبحت الدول تتحرك تبعا لسلامة جسدها الاقتصادي.[37]

شهدت الأوضاع الاقتصادية في روسيا تدهوراً حاداً في أعقاب الحرب الباردة، تلك الأزمة التي ترجع جذورها إلى فترة ما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي السابق منذ أن أطلق الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف عملية البرويسترويكا* للإصلاح وبعد مجيء الرئيس بوريس يلتسين إلى الحكم وفي خطابه أمام البرلمان الروسي عام 1991، صرح ان الطريقة الوحيدة للتغلب على تلك الأوضاع هو التحول وبدفعة واحدة (one shot) إلى الاقتصاد الحر وخصخصة القطاع العام، وإعطاء دور كبير للقطاع الخاص، وكذلك إعطاء أولوية في برنامجه الإصلاحي إلى تخفيض الميزانية، بالإضافة إلى تحرير الأسعار واصلاح النظام الضريبي، وخصخصة الزراعة والصناعة.[38]

حاولت روسيا في بداية التسعينات بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، أن تستعيد مكانتها السابقة التي كانت تمتاز بها خلال حقبة الحرب الباردة ولأجل ذلك كان لابد لها أن تتبنى بعض المستلزمات الواجبة لتلك المكانة منها:[39]

ـ أن تعالج الوضع الاقتصادي المتعب والمثقل بالمشاكل والصعوبات.

ـ أن تضمن حصولها على الموارد والتكنولوجيا المتطورة.

ـ أن تتجنب تصعيد التهديدات التي تواجه مكانتها.

فكانت القارة الأوروبية المكان الملائم وخصوصاً بحكم موقعها الجغرافي المتاخم لروسيا لتطبيق تلك المستلزمات للمساعدة في نجاح عملية الإصلاح الاقتصادي والذي بدأت بتطبيقه منذ عام 1991، فقد حظيت القارة الأوروبية بالمكانة المهمة في السياسة الخارجية الروسية، وكان للأوربيين من جانبهم الرغبة في تطوير علاقاتهم مع روسيا، وسارعوا إلى تقديم المساعدات اللازمة التي تحتاجها روسيا،  وهو يعكس رغبة أوروبية (وربما أمريكية أيضاً) في الحفاظ على روسيا صاحبة اقتصاد قوي بما يكفي لعدم تحولها إلى دولة فاشلة في ظل حجم ضغوط التحول الاقتصادي من اقتصاد اشتراكي على اقتصاد يقوم على آليات السوق الحر، خصوصاً  في ظل نتائج تجربة الإصلاح بالصدمة التي تبناها الرئيس يلتسن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

تجدر الإشارة هنا إلى بروز أهمية التعاون في المجال النفطي حيث سيتضح لنا لاحقاً أنه المجال الأكثر أهمية في مسيرة العلاقات الروسية-الأوروبية والذي يعد ملفاً أساسياً في العلاقات بينها، فروسيا عملاق نفطي يطرح بديلاً مهما لنفط الشرق الأوسط بالنسبة لأوروبا وهي دولة اورو-آسيوية تنتمي إلى المجمع الأوروبي وترتبط بمصالح حيوية واستراتيجية مع الدول الأوروبية، وتسعى روسيا جاهدة إلى توطيد وتدعيم علاقاتها بأوروبا على النحو الذي يحقق مصالح الطرفين ويعتبر التعاون في مجال النفط أحد المحاور الأساسية لذلك، حيث يعد الاتحاد الأوروبي الشريك المفضل بالنسبة لروسيا في الأنشطة الاقتصادية، كما إن روسيا تعتمد عليه أساساً لتصريف منتجاتها، وهذا تطور مهم بعد أن دأب الاتحاد السوفيتي في الماضي على وصف الاتحاد الأوروبي بأنه الركيزة الأوروبية للحلف الأطلسي أي العدو اللدود له،[40] لكن على الرغم من ذلك تبقى روسيا عملاقاً نفطياً ولها دوراً اقتصادياً مهماً على الساحة الأوروبية والذي أدى إلى بروز روسيا قوة اقتصادية كبرى من المنظور النفطي واكتسابها تأثيراً واسع النطاق في سوق النفط وأسعاره العالمية وهذا ما أكده الرئيس الروسي بوتين في تلك الفترة عن استعداد بلاده لأن تحل محل الشرق الأوسط كمصدر رئيسي للنفط لأوروبا، كل هذه العوامل (إلى جانب امتلاك روسيا السلاح النووي) كان لها تأثيرها المباشر في قبول العضوية الكاملة لروسيا في مجموعة  الدول السبع الصناعية الكبرى، وهكذا أصبحت الموارد الطبيعية الروسية أداة تؤثر من خلالها في حلفائها والدول التابعة وتثبيت وجودها مقابل الغرب لاسيما الاتحاد الأوروبي، وبرز ذلك في اتجاهين رئيسين:

1-غلبة المصالح الاقتصادية على السياسة المشتركة

أعقاب استئناف الاتحاد الأوروبي مفاوضاته مع روسيا، علقت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية بينيتا فيريرو فالدنر قائلة: “إن استئناف المفاوضات مع روسيا يخدم المحافظة على مصالح الاتحاد الأوروبي الاقتصادية والسياسية وفي مجال الطاقة تحديداً، فهنالك مصلحة للاتحاد في استمرار النمو الاقتصادي في روسيا، وتشكل الشراكة بين الجانبين أهم التحديات، ولكنها هامة جداً في أوقاتنا هذه”.

 2- التفاوت بين روسيا والاتحاد الأوروبي في المجال الاقتصادي والاجتماعي

شهدت روسيا تحسنا اقتصادياً متنامياً، ارتفع فيه المتوسط السنوي لمعدل النمو الاقتصادي إلى 8 بالمئة للفترة 2000-2010، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي من 200 مليار دولار 1999 بمقدار49 بالمئة وذلك حسب تقديرات البنك المركزي الروسي،[41] ولكن قراءة معطيات الجدولين (5) و (6) نلاحظ الهوة التي تفصل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في العديد من المجالات؛ فبينما تحتل روسيا المرتبة 143 من بين 179 دولة بحسب مؤشر منظمة الشفافية العالمية للفساد، تأتي الدول الأعضاء الاتحاد الأوروبي في قائمة ال 69 دولة الأولى في العالم (22 دولة من 27 تأتي ضمن قائمة الدول الخمسين الأوائل)، وبحسب مؤشر حالة الفساد، التي تم قياسها بسلم من الدرجة صفر (الأكثر فساداً)، إلى الدرجة عشرة (الأقل فساداً)؛ فقد حصلت روسيا على الدرجة 2.3 من 10، أي الأقرب إلى الصفر، بينما حصلت دول الاتحاد الأوروبي على درجات تراوحت بين 3.7 و 9.4، أي أن جميع الدول الأعضاء هي أقل فساداً من روسيا ووصل مؤشر التضخم بحسب تأثيره في الدخل القومي إلى 16.1 بالمئة في روسيا، فيما وصل في دول الاتحاد الأوروبي إلى 2.2، وهذه فارق كبير بين الجانبين وبحسب مؤشر الحرية، تم تصنيف الدول من 1 (الأكثر حرية) إلى 7 (معدومة الحرية)؛ وبينما نجد أن جميع دول الاتحاد الأوروبي جاءت في الدرجتين الأولى والثانية، حصلت روسيا على الدرجة 5٫99، أي أنها ليست حرة، كما تحتل روسيا المرتبة 134 عالمياً في مؤشر الحرية الاقتصادية، وفي الوقت الذي تأتي 20 دولة أوروبية من أعضاء الاتحاد في المراتب الخمسين الأولى عالمياً، وتأتي آخر دولة في الاتحاد وفي المرتبة 83، وهذا يعني مؤشراً كبيراً يفصل بين روسيا وتلك الدول، كما تتخلف روسيا بحسب المؤشر العالمي للصحافة، فتحتل المرتبة 144، فيما تأتي جميع الدول الأعضاء في الاتحاد في المراتب 57 الأولى في العالم، كما نلاحظ أن روسيا تحتل المرتبة 97 بحسب مؤشر التنمية البشرية، بينما تأتي جميع الدول الأعضاء في الاتحاد في المراتب الستين الأولى، وبحسب مؤشر التنافسية الهام لمعرفة مدى قدرة الاقتصاد الوطني على التنافس، تحتل روسيا المرتبة 58، بينما تأتي 20 دولة من الأعضاء وفي الاتحاد في قائمة الخمسين الأوائل.

الجدول رقم (4) مقارنة بعض مؤشرات التقييم الاقتصادي في الاتحادين الروسي والأوروبي لعام 2008

المؤشر

روسيا

الاتحاد الأوروبي

التضخم وتأثيره في الدخل القومي للفرد 2006 (بالمئة)

16.1

2.3

مؤشر مستوى الدخل للفرد 2006 (ألف دولار)

12.74

31.181

مؤشرات النمو العالمي نسبة إلى العالم بحسب الدخل

متوسط أعلى

23 -دخل عالي،40 – متوسط أعلى

مؤشر الحرية الاقتصادية (صفر إلى 400 –الأكثر حرية)

49.9

66.8

مؤشر حالة الفساد (10 إلى الصفر-الأكثر فساداً)

2.2

بين 9.4 و3.7

الحرية بالمؤشرات العالمية (من 7 إلى 1-الأكثر حرية)

5.96

بين 1 و2

مؤشر حرية الصحافة العالمي 2007(صفر-اختفاء الانتهاكات)

56.9

بين 1 و18.58

المصدر: Eurasia Centre, «Russian Foreign Policy, » EU-Russia Centre Review, no. 8 (October 2008) World Bank, World Development Indicators Database, List of Economies (July 2008).

الجدول رقم (5): ترتيب الاتحادين الروسي والأوروبي حسب مؤشرات التقييم الاقتصادي العالمي لعام 2008

المؤشر

روسيا

أعضاء الاتحاد الأوروبي

مؤشر التنمية البشرية (من 177 دولة)

67

بين 1 و60

مؤشر التنافسية العالمية (من 131 دولة)

58

بين 1 و79 (20 منها في قائمة الخمسين الأعلى)

مؤشر حالة التغيير (من 125 دولة)

59

10 من الدول الأعضاء 27، بين 1 و17 (3)

مؤشر تغيير الإدارة (من 125 دولة)

98

10 أعضاء 27، بين المرتبتين 2 و53

مؤشر حالة الفساد (من 179 دولة)

143

بين 1 و69 (22 من بين الدول الخمسين الأولى عالمياً)

مؤشر الحرية الاقتصادية (من 165 دولة)

134

بين 2-83 (20 من بين الدول الخمسين الأولى عالمياً)

مؤشر العالمي لحرية الصحافة (من 169 دولة)

144

بين 1-57 (24 دولة منها في قائمة الدول الخمسين الأولى عالمياً)

Andrew Monaghan, Towards a World Role! Russian Foreign Policy (EU-Russia Centre Review), no. 8 (October 2008).

 خلاصة مما تقدم فأننا يمكن أن نرصد تحديات التفاوت في المؤشرات التي يرتكز إليها سير تطور العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي بالتركيز على السياسة الخارجية الروسية والتحرك الدبلوماسي للسعي من أجل تحقيق اهداف معينة من ضمنها المحافظة على المكانة الروسية ولعب دور مميز في صياغة أمن اوربي مشترك، خصوصاً بعد أن وقعت على الوثيقة التأسيسية عام 1997 والخاصة بتنظيم العلاقات والتعاون والأمن بين روسيا وحلف الاطلسي. وهي الأساس لبناء شراكة جديدة تأخذ في الاعتبار المصالح الأمنية لجميع الدول الموقعة عليه هذا في الجانب العسكري

أما الجانب الاقتصادي فقد تأثر الاقتصاد الروسي بالتركة التي خلفها الاتحاد السوفيتي السابق والمثقلة بالديون، ومحاولة السياسة الروسية انتهاج نموذج غربي (مكسو بالرأسمالية) الذي حاول الرئيس الروسي بوريس يلتسين أن يتحول إليه بخطوة واحدة، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية عام 1998 والتي لم يشفى منها الاقتصاد الروسي إلا بعد مجيء بوتين للحكم، الأمر الذي يعكس نفسه على العلاقات التجارية الروسية الأوروبية.

المطلب الرابع: العلاقات التجارية الروسية ـ الأوربية

تعتبر العلاقات التجارية المرآة التي تعكس عمق العلاقات الاقتصادية خصوصاً ومجمل العلاقات بين أي طرفين عموماً، فضلاً عن كونها المعبر الأكثر جدية لجوهر نظرية الاعتمادية والاعتمادية المتبادلة من حيث الاستمرارية والديمومة وحساسيتها المفرطة للتأثر بمنحى العلاقات المتبادلة على الأقل مقارنة مع العلاقات الاقتصادية في الميادين الأخرى كالاستثمارات الرأسمالية أو حتى العمالة، فمن ناحية أولى يحظى قطاع التجارة الخارجية بأهمية كبيرة في اقتصاد أي بلد كونه يعكس واقعه الاقتصادي ومن ناحية ثانية تعد التجارة الخارجية من القطاعات الحيوية في ربط المجتمعات مع بعضها البعض، و في كلا الحالتين تساهم في توسيع القدرة التنافسية التسويقية عن طريق فتح أسواق جديدة أمام المنتجات الوطنية خصوصاً الأسواق الخارجية و لذلك تعتبر مؤشراً جوهرياً على قدرة الدول الإنتاجية و التنافسية في السوق الدولي نظراً لارتباطها بقدرة الدول على التصدير و الاستيراد و انعكاس ذلك كله على رصيد الدولة من العملات الأجنبية وماله من أثر في الميزان التجاري لأي دولة في معاملاتها الخارجية ، و تكمن أهميتها علاوة على أنها تربط الدول و المجتمعات بعضها ببعضها الآخر فهي منفذاً لتعريف فائض الإنتاج عن حاجة السوق المحلية و بالتالي تحقيق التوازن فيها نتيجة تحقيق التوازن بين كميات العرض والطلب والارتقاء بأذواق المستهلكين و تحقيق المتطلبات و الرغبات واشباع الحاجات الاجتماعية والثقافية من خلال التواصل المستمر، ونقل التكنولوجيا والخبرات التي تفيد في بناء الاقتصادات المتينة وتعزيز عملية التنمية الشاملة من جهة وإقامة العلاقات الودية وعلاقات الصداقة و لتعاون مع الدول الأخرى.

في هذا السياق تتبدى أهمية العلاقات التجارية الروسية الأوروبية حيث تعتبر روسيا الشريك التجاري الثالث للاتحاد الأوروبي، فهي تمتلك سوقاً متصاعدة على أبواب الاتحاد يوفر فرصة لرجال الأعمال الأوروبيين، ويخفف من حدة الأزمة الاقتصادية، حيث تبلغ نسبة الاستثمارات الأوروبية 80 بالمئة من حجم الاستثمارات الأجنبية الإجمالية في روسيا، كما تبلغ حصة الاتحاد الأوروبي من التبادل التجاري لروسيا مع العالم ما يربو على 50 بالمئة. كل هذا دفع فيريرو فالدير إلى القول: “إن مواصلة المفاوضات حول اتفاق الشراكة هو للمحافظة على مصالحنا، والتأكد من أن همومنا مسموعة”.[42]

بدوره، يقول بوتين: “لا يقتصر الأمر على التجارة مع بلدان الاتحاد الأوروبي، إذ يجري التعامل معها أيضا في مختلف المجالات الاقتصادية وبعض الفروع الحيوية فيها مثل صناعة الطاقة”، وأضاف بوتين: “إننا نرحب بمثل هذه الاستثمارات، وقد سمحنا لها بدخول مجال إنتاج المحروقات -والنفط والغاز، ويجب أن نقدر كل التقدير شركائنا الأوروبيين في شبكة أنابيب السيل الشمالي، وخطط بناء خط أنابيب السيل الجنوبي”[43]، كل هذا يشير إلى أن المصالح المتبادلة والفوائد الكبيرة التي يجنيها الطرفان من علاقاتها الاقتصادية تؤدي إلى الاهتمام بمواصلة هذه العلاقات وأهمية التكامل الإقليمي.

ويتضح التوجه الاوروبي نحو روسيا من خلال ازدياد معدلات التبادل التجاري بين الطرفين بعد نهاية الحرب الباردة، وهذا ما يؤكده الجدولان رقم (6) و(7)، حيث يتضح ميل المنحى العام لكل من الصادرات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي ومستورداتها منه، باتجاه المنحى المتصاعد وإن كان متذبذباً من بلد إلى آخر ومن عام إلى آخر.

الجدول رقم (6) الصادرات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي (1992 -1998) بملايين الدولارات

الدول

1992

1993

1994

1995

1996

1997

1998

ألمانيا

5873

5074

5362

6079

6734

6531

5683

فرنسا

1970

1589

1236

1516

1611

1626

1426

بريطانيا

2287

3353

3642

3103

3176

2846

2877

ايطاليا

2951

2629

2739

3292

2808

3564

3208

هولندا

2277

979

2428

3183

2317

4554

3918

بلجيكا

890

1079

1392

1522

1426

859

619

اسبانيا

526

385

172

274

404

630

502

البرتغال

33

43

24

17

26

27

36

ايرلندا

27

605

1217

2552

5833

2500

650

اليونان

236

194

266

147

137

202

365

الدنمارك

281

190

244

455

282

167

27

النمسا

657

1405

751

886

823

735

584

فنلندا

1546

1364

2028

2377

2618

2774

2046

السويد

654

783

811

646

995

985

746

المصدر: (international Monterey fund. Direction of trade statistics year book 1998)

(International Monterey fund. Direction of trade statistics quarterly, Washington dc September.1999)

الجدول رقم (7): الواردات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي (1992 -1998) بملايين الدولارات

الدول

1992

1993

1994

1995

1996

1997

1998

ألمانيا

6725

5142

5682

6537

5158

6640

5364

فرنسا

1286

899

1004

1074

1267

1592

1565

بريطانيا

562

653

896

1100

1121

1481

1202

ايطاليا

3052

1106

1589

1851

2316

2651

1763

هولندا

368

431

1610

1646

1006

1206

898

بلجيكا

306

337

641

904

663

815

659

اسبانيا

420

175

245

241

357

518

604

البرتغال

39

19

40

19

28

30

19

ايرلندا

112

83

150

323

316

459

293

اليونان

32

134

185

257

204

185

124

الدنمارك

185

190

323

483

436

585

502

النمسا

991

855

979

982

664

708

502

فنلندا

1223

724

1628

2041

1666

1873

1326

السويد

490

680

563

697

500

535

690

المصدر: (international Monterey fund. Direction of trade statistics year book 1998)

(International Monterey fund. Direction of trade statistics quarterly, Washington dc- September.1999)

في ضوء معطيات الجدولين السابقين تتبدى أهمية العلاقات التجارية بين الاتحادين الروسي و الأوروبي التي شهدت تحولات أكثر جذرية بعد تولي الرئيس بوتين السلطة في روسيا عام 2000، إذ تبين الأرقام المنشورة على موقع المفوضية الأوروبية إلى أن حجم التبادل التجاري السلعي بين الطرفين بلغ في العام 2012 حوالي 335.9 مليار يورو (468 مليار دولار) منها 213 مليار يورو (297 مليار دولار) واردات أوروبية من روسيا مقابل 123 مليار يورو (171 مليار دولار) واردات روسيا من الاتحاد الأوروبي ، وبذلك يكون الميزان التجاري حقق فائضاً بقرابة 90 مليار يورو (125 مليار دولار) لصالح روسيا بسبب من غلبته النفط و الغاز على الصادرات الروسية بحصة بلغت 84 بالمئة من إجمالي الصادرات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي، بالمقابل تتكون صادرات أوروبا إلى روسيا بشكل رئيسي من الآلات ووسائل النقل والمواد الكيماوية والطبية.

وعلى العكس من التجارة السلعية، فإن ميزان تجارة الخدمات بين الطرفين يميل لصالح الأوروبيين بفائض وقدره حوالي 13 مليار يورو (18 مليار دولار) حيث بلغ اجمالي الميزان التجاري للخدمات بين الطرفين عام 2012 بحدود 44 مليار يورو (61 مليار دولار) حيث صدرت أوروبا إلى روسيا خدمات بمقدار 28 مليار يورو (39 مليار دولار) وتستورد من روسيا خدمات بنحو 15 مليار يورو (21 مليار دولار)، كما بلغ اجمالي الاستثمارات الروسية في أوروبا للعام ذاته حوالي 53 مليار يورو (74 مليار دولار) في حين وصل حجم الاستثمارات الأوروبية في روسيا حوالي 167 مليار يورو (233 مليار دولار) وبذلك يكون الاتحاد الأوروبي قد استثمر ما يزيد عن ثلاث مرات قيمة الاستثمارات الروسية لديه، علماً أن أكثر من 85 بالمئة من الاستثمارات المتبادلة بين الطرفين هي في قطاع النفط والغاز.

في ضوء المعطيات السابقة يبدو للوهلة الأولى أن روسيا حققت فائضاً تجارياً في علاقتها الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي، ولكن مع الأخذ بالاعتبار طبيعة وهيكلة الموازين التجارية والاقتصادية من صادرات ومستوردات نجد أن روسيا لا تمتلك سلعاً ذات قدرة تنافسية في الأسواق الأوروبية سوى السلع الطاقية من النفط و الغاز اللذين يشكلان عماد الصادرات الروسية إلى الأسواق الأوروبية، التي تستورد فيها العتاد والآلات وغيرها من السلع الإنتاجية والرأسمالية وبالتالي فإن السوقين الروسية والأوروبية محكومتان بمحددات معقدة ومتشابكة من الاعتمادية والاعتمادية المتبادلة تجعلهما عرضة لتأثير المحددات غير الاقتصادية المثيرة للنزاعات التجارية خصوصاً و الاقتصادية عموماً.

ففي الوقت الذي يبدو فيه أن لدى الاتحاد الأوروبي فرصة بديلة لتحقيق أمنه الطاقوي من مصادر بديلة عن النفط  و الغاز الروسيين ، ويلوح زعماءه بهذه الورقة بين فترة و أخرى للضغط على روسيا، فإنهم مدركون ضعف جدوى تلك البدائل سواء من إيران أو الخليج العربي أو حتى شمال أفريقيا، بالمقابل يمكن القول أن روسيا لا تقوى على فرض العقوبات الاقتصادية على الاتحاد الأوروبي و الاستمرار فيها و ذلك بسبب تركز جزء كبير من علاقتها التجارية الخارجية على الاتحاد، فروسيا هي الشريك التجاري الثالث للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في حين أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لروسيا، كما أن الروابط الاستثمارية والمصالح الاقتصادية المتبادلة أعمق من ذلك بكثير، فهناك شركات أوروبية عديدة تعمل في السوق الروسية، حيث ينشط فيها على سبيل المثال أكثر من 6 آلاف شركة ألمانية تجعل الوظائف المرتبطة بالعلاقات الروسية الألمانية تزيد عن 400 ألف وظيفة، والأمر نفسه ينسحب على الدول الأوروبية الأخرى، ون بدرجات تأثير متفاوتة، خصوصاً تلك الدول التي ليست بمستوى قوة الاقتصاد الألماني الذي يمكنه التأقلم مع الظروف المستجدة والمحددات غير الاقتصادية، فمن الصعب على دول مثل اليونان و تشيكيا أو حتى بلغاريا رومانيا أن توقف تعاملاتها الاقتصادية مع روسيا إن لم يكن هناك مجالات تعويضية يؤمنها لها الاتحاد الأوروبي وهو الأمر ليس بالسهولة تحقيقه، خصوصاً مع ميل التبادلات التجارية الأوروبية الروسية للارتفاع بمنحى متصاعد، وإن كان متذبذباً إلا أن معدله لا يقل بالمتوسط السنوي عن 8 بالمئة حيث بلغ زيادة حج التبادل التجاري بين الطرفي للعام 2018 حوالي 20 بالمئة عما كان عليه 2012، حيث بلغ حجم الاستثمارات المتراكمة من دول الاتحاد الأوروبي في روسيا حوالي 300 مليارات دولاراً، بما يظهر مدى اهتمام الشركات الأوروبية بالقدوم إلى روسيا واستثمار أموالها في تطوير أعمالها في روسيا، وما لذلك من تأثير مباشر في حجم التبادلات التجارية بين الطرفين التي بلغت في العام 2018 حوالي 311 مليارات دولاراً وفقاً لبيانات الجمارك الروسية، حيث بلغت الصادرات الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي حوالي 205 مليارات دولاراً بزيادة قدرها 28.3 بالمئة عما كانت عليه عام 2012، كما بلغت الواردات الروسية من الاتحاد الأوروبي حوالي 106 مليارات دولاراً وبزيادة قدرها 2.7 بالمئة للفترة نفسها، حيث نمت حصة الاتحاد الأوروبي من إجمالي حجم التجارة الخارجية الروسية بأكثر من 42 بالمئة للفترة نفسها، بما هو انعكاس واضح لعملية انتعاش ظاهرة في التبادلات التجارية بين الطرفين على الرغم من أن حجم التبادل التجاري مع بعض دول الاتحاد كالبرتغال وايرلندا وقبرص والدنمارك ورومانيا تراوح حول مؤشرات العام 2012.


الهامش

[1] زبغنيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيواستراتيجياً، ترجمة: نافع أيوب الليس، مركز الدراسات العسكرية، بيروت، ط2، 1999، ص 45.

[2] محمد السيد سليم، التحولات الكبرى في السياسة الخارجية الروسية، مجلة السياسة الدولية، موقع جريدة الأهرام، تشرين الأول 2007، على الرابط http : / / www. digitalahram. org. eg

[3] حسن نافعة، الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة منه عربياً، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2004، ص 36 .

[4] عبد المنعم سعيد، الجماعة الأوروبية تجربة التكامل والوحدة، سلسلة الثقافة القومية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص 204 – 205. 

[5] مالك عوفي، السياسة الخارجية والأمنية المشتركة آفاق التكامل الأوروبي الجديدة، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، العدد 142، 2000، ص 83.

[6] المرجع السابق ص90

[7] نبيه الأصفهاني، السياسة الخارجية الروسية في مرحلة التحول الديمقراطي، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 116، ص 267.

[8]  أحمد قاسم حسين، العلاقات الأوروبية – الروسية في مجال الطاقة : ضغوط التعاون و صراع المصالح، مجلة  سياسات عربية ، العدد 23 ، 2016، ص 56.

[9] خالد المعيني، الصراع الدولي بعد الحرب الباردة، دار کیوان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2009، ص 365.

[10] لمى محضر الإمارة، الاستراتيجية الروسية بعد الحرب الباردة وانعكاساتها على المنطقة العربية، سلسلة اطروحات الدكتوراه، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2009، ص 120.

[11] ص 2-3.

[12] أف ستيفن لاراكي، أوروبا الوسطى والشرقية، التقييم الاستراتيجي، في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 1997، ص 135 – 136.

[13] المرجع السابق، ص 154.

[14] عبد العزيز حدي الراوي، توجهات السياسة الخارجية الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، مجلة دراسات دولية، مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد، العدد 35، 2008، ص 162.

[15] التقرير الاستراتيجي العربي العام 2004-2005، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2005 ، ص 5.

[16] التسلح الإيراني ومكانة روسيا، على موقع HTTP://WWW.IRAQCP.ORG / MEMBERS 4/0070211 WA2.

[17] أحمد دياب، روسيا واللعبة الكبرى في اسيا الوسطى، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 167، ص 120.

[18] جودة حسنين جودة، جغرافية أوراسيا الإقليمية، مؤسسة المعارف، الاسكندرية، ط3، 2000، ص 670.

[19] مصطفى اللباد، ملامح التسوية السياسية بين واشنطن وطهران، مجلة أوراق الشرق الأوسط، المركز القومي للدراسات الشرق الاوسط، القاهرة، العدد 41، 2008، ص 107.

[20] موقع روسيا اليوم على الانترنت : / HTTP : / / ARABIC. RT. COM / INFO

[21] نورهان الشيخ، صنع القرار في روسيا الاتحادية والعلاقات الروسية – العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، ص77.

[22] Cynthia A. Roberts, Russia and EU: The Sources Limits of Special Relationship (Pennsylvania: Strategic Studies Institute, (007), p. (6

* للاطلاع على بيان القمة الطارئة لمجلس الإتحاد الأوروبي التي عقدت في بروكسل 10، انظر: 2008 / 9 / 1 بتاريخ

Council of the European Union, “Presidency Conclusions. 1/9/2008 accessed on 24/11/2016, at: http://bit.ly/2h49oRi

[23] Riccardo Alcaro and Valerio Birani, “Le realzioni della Russia con la 11 Nato e PUE,”Istituto Affari Internazionali, Roma (2008). pp. 11 – 12.

[24] محمد خليفة، الاسلام والمسلمون في بلاد البلقان، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطا، 1994، ص 397.

[25] عياد الجاد، الجدل حول توسيع الناتو، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الاهرام، القاهرة، 1997، العدد 129، ص 75.

[26] عبد النور بن عنتر وآخرون، حلف شمال الأطلسي في عامه الستين، نظرة استشرافية وموقع العام الاسلامي، مركز الجزيرة للدراسات الاستراتيجية، الدوحة، قطر، 2009 ، ص18.

[27] أشرف كشك، اسرائيل والناتو من التعاون الى الشراكة، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 168، 2007، ص 249

*  هي منظمة تابعة لحلف شمال الأطلسي تهدف إلى خلق الثقة بين الناتو ودول أخرى في أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، تتكون من 22 دولة. وهي مبادرة أمريكية تم تنفيذها بعد اقتراح في اجتماع لوزراء الدفاع لحلف شمال الأطلسي في ألمانيا في 20-21 عام 1993، وأطلقت رسميًا في 10-11 عام 1994 في قمة في بروكسل لمنظمة حلف شمال الأطلسي.

[28] صلاح سالم زرنوقة، الناتو بين مرحلتين، في مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الاهرام، القاهرة، العدد 129، 1997، ص 69.

[29] نزار اسماعيل عبد اللطيف، دور حلف شمال الأطلسي بعد انتهاء الحرب الباردة، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية،  أبو ظبي، 2003، ص 80.

[30] المرجع السابق، ص 70.

[31] زبيغنيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى، مرجع سابق

[32] إيان أنطوني وآخرون، النظام الأطلس اورفي والأمن العالمي، في التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، ترجمة فادي حمود وآخرون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2004، ص 161.

[33] عبد القادر محمد فهمي، المدخل الى دراسة الاستراتيجية،  دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2006، ص 315.

[34] إيان أنطوني واخرون، النظام الأطلس اورفي والأمن العالمي في التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، مصدر سبق ذكره، ص 383

[35] WIN GULLING , RUSSIAN FOREIGN POLICY IN PUTIN PRESIDENCY STRATEGIC DIGEST, SEPTEMBER 2000, P1259 – 1261

[36] سعد حقي توفيق، مبادئ العلاقات الدولية، دار وائل للطباعة والنشر، عمان، 2019، ص 250.

[37] عبد القادر محمد فهمي، النظام السياسي الدولي -دراسة في أصول النظرية والخصائص المعاصرة، دار وائل للطباعة والنشر، عمان، 1997، ص 132-133.

*  وتعني (إعادة الهيكلة) هي برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس للاتحاد السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف وتشير إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفيتي، صاحبت البيريسترويكا سياسة غلاسنوست والتي تعني الشفافية. يطرح البعض أن تلك السياستين أدتا إلي انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه سنة 1991.

[38] وليم نصار، روسيا كقوى كبرى، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد 20، 2008، ص 23.

[39] نبيه الأصفهاني، السياسة الخارجية الروسية في مرحلة التحول الديمقراطي، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 116، ص 228.

[40]  المرجع السابق، ص 172.

[41] أيمن طلال يوسف، “روسيا البوتينية بين الأوتوقراطية الداخلية والأولويات الجيوبوليتيكية الخارجية 2000 –2008″، المستقبل العربي، بيروت، العدد 258،  2008،  ص 78.

[42] Clash Compromise Feature Relations between U.S., Russia, Europe in 2008. http://newsxin (YA) huanet.com English 21/12/2008/content

[43] أصحاب القرار، وروسيا اليوم، ۱۲ <http:/www.rtarabic.com>

مكانة النفط والغاز في الاقتصاد الروسي: المؤشرات والأبعاد

مكانة النفط والغاز في الاقتصاد الروسي: المؤشرات والأبعاد

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close