قلم وميدان

إشكالية الهوية في الجزائر ودور المثقف التوافقي

 

رغم الغربة عن الوطن، لا تكاد تخلو نقاشات المثقفين الجزائريين في المهجر عادة من مواضيع راهنة تعيشها البلاد، ولعّل إشكالية الهوية إحدى أبرز هذه المواضيع. وتبرز أهمية هذا الموضوع بالذات في المهجر حينما يقترن بتعريف الجزائري لذاته أمام الأجانب، عربا وعجما على حدّ سواء. كثيرا ما أشعر شخصيا بوجود شغف فكري وعطش معرفي خاصة من قِبل إخواننا في المشرق العربي حينما يتحدثون عن المغرب، ناذرا ما أصادف شخصا عارفا بالنمط الثقافي للمغرب العربي على وجه سليم، فضلا عمّا يرتبط به من أمور السياسة والإجتماع، مع العلم أنّي أحدثكم عن نخب جامعية من مشاربٍ معرفية مختلفة، ليس في ذلك عيب ولا لوم بقدر ما يقع لومي على أهل تلك البلاد المغاربية في التعريف بذواتهم الجمعية. لهذا السبب ولأسباب أخرى تكثر أسئلة هؤلاء المغرب الكبير، عن ثقافة أهله، ذهنياتهم، نفسياتهم، لهجاتهم، نُظم حكمهم السياسية، تركيباتهم العرقية وألوانهم المذهبية والدينية وما إلى ذلك.

أجد في هذه الأسئلة ما يُبشر بالخير حقا، فكثيرا ما إشتكيتُ فيما أكتب من تلك الفجوة السحيقة بين مشرق هذا العالم ومغربه، قد نعرف عنهم أكثر ممّا يعرفون عنّا في أكثر الأحوال، لأسباب عديدة أهمها الإنتاج السنيمائي المشرقي والإعلامي على وجه عام الذّي يساهم في ترويج ثقافة أهله. فمن شأن هذه الأسئلة أن تنبي جسورا من التواصل بين ضفتي هذا العالم الواسع المتنوع، فلطالما كانت الأسئلة الإشكالية عندي أهم بكثيرا من الأجوبة الجاهزة المرمية على قارعة الطريق، وهذا مربط الفرس في هذا المقال كما يُقال، فردًّا على تلك الأسئلة يُقدّم الجزائريون خصوصا والمغاربة عموما أجوبة متنوعة تصل حدّ التناقض، أغلبها أجوبة جاهزة لا تعكس أدنى حدّ من التفكير النقدي، وسوف أحصر هنا حديثي عمّا يتعلق بالجزائر وحسب.

أكاد أجزم بعدم وجود موضوع راهن أكثر تعقيدا وإلتباسا من موضوع الهوية، فهو موضوع مركب بالأساس لتعدّد مكوناته وعناصره من جهة، ولتعدّد المقاربات النظرية والمنهجية المعالجة له، لاسيما مع الزلزال المنهجي الذّي أحدثه في العقود الأخيرة المنظور المابعد وضعي في العلوم الإنسانية والإجتماعية مع تيارات ما بعد الحداثة ومناهج الأركيولوجيا والتفكيك عند كل من ميشال فوكو وجاك ديريدا على التوالي أو ما يُسمى بالنيتشاويين الجدد في الفلسفة الفرنسية الحديثة والمعاصرة. لذلك سنقدم قبل مناقشة موضوع المقال تعريفا لمفهوم الهوية، سيكون جامعا وتبسيطيا جدّا يحتاج إلى قراءات كثيرة بالطبع، مراعاةً لسياق المقال، وترسيخا في المقابل لقاعدة العقل المنظّم الممنهج في الكتابة والتفكير.

الهوية لغة من الهُو، والهُو هو الأنا، أو الإتحاد بالذات، أمّا إصطلاحا فتشير إلى ما يكون به الشيء هو ذاته، أي من حيث وجوده وتحقّقه وخصائص التّي تميّزه عن غيره، فإذا إنتقلت من الفرد وإرتبطت بجماعة ما صارت معبّرة عن فكرة الإنتماء، سواء كان هذا الإنتماء روحيا، وجوديا، ثقافيا أو حتّى سياسيا، فتصير الهوية وعيا جمعيا بالذات والكينونة.

لذلك فحينما يُعبّر جزائريان أو أكثر في المهجر عن هويتهم بعد سؤالٍ من أجنبي ما عن إنتماءهم للعروبة من عدمه، أو بعد سؤال يطالبهم بتعريف هوية الجزائر المختلفة حقا عن معظم بلدان المشرق والخليج، تتنوّع إجاباتهم بشكل يصل حدّ التناقض والسجال ليتركوا السائل في حيرة دون جواب واضح، معبرّين عن إحدى أبرز المشكلات الفكرية التّي يعيشها أهل هذه البلاد. ولهذا الأمر أسباب مركبة بقدر خاصية التركيب التّي يتميّز بها موضوع الهوية.

يُعرف تاريخيا أنّ الأمازيغ أو البربر (وتعني الرجال الأحرار) هم السكان الأصليين للجزائر وكافة شمال إفريقيا، وقد كان لهم وجود حضاري في المنطقة وشخصيات تاريخية شهيرة على غرار ماسينيسا ويوغرطة وطارق إبن زياد، ومدن رائدة على غرار سيرتا أو نوميديا، التسميتين القديمتين لمدينة قسنطينة شرق البلاد. تاريخيا، عرفت الجزائر قدوم الفينيقيين إلى أرضها، الرومان، البيزنطيين، الوندال، العرب-المسلمين، الأتراك-العثمانيين ثمّ الفرنسيين منذ القرون الأولى للميلاد، بشكل تمازج فيه المجتمع وتلاقحت فيه حضارات متنوعةٌ وأعراق، لذلك تجد أشكالا وألوانا بشرية مختلفة حدّ التناقض بين شمال الجزائر وجنوبها، بين سواحلها وهضابها، بين شرقها وغربها، فضلا عن اللهجات واللغات والطبوع الثقافية المتنوعة والثرية، ليأتي أحدهم ويقدّم أجوبة تبسيطية جدّا، وبعضها أجوبة تعكس عنصريات ما أو إنحيازات سياسية معينة أو ضحالات فكرية وجهالات معرفية، فيقول أنّ الجزائر أمازيغية الهوية أو عربية الهوية بشكل خالص، أو مسلمةً حتّى، ظنّا منه أنّه وجد حلاّ لهذه الأزمة في تعاليم الإسلام، ويُلغي كل حقائق التاريخ والأنثروبولوجيا وسنن الكون.

لا تخفى أيضا علاقة تنكر البعض من كل ما له علاقة بالعرب بالحالة التاريخية-الحضارية المتدهورة الذّي يعيشها العالم العربي منذ حوالي قرن من الزمن، فلم يعد مُشرِّفا أن يكون المرء عربيا هذه الأيام، خاصة وقد إلتصق بالعرب كل ما له علاقة بالتخلف والكسل، بالذُل والمهانة، بالتطرف والإرهاب. هناك دوافع سايكولوجية متقاربة على العموم تدفع هؤلاء إلى إظهار تميّز الفرد الجزائري عن بقية العرب المحسوب عليهم بحكم الجغرافيا والتاريخ، وهناك وهناك..

لهذا السبب وقبل أن أتعامل شخصيا مع تساؤلات كهذه، أوضّح للسائل أولا أنّ الهوية في نظري هي حصيلة لتراكم تاريخي مستمر، مركب ومتعدّد، متفاعل مع ذاته ومع عالمه الخارجي. لذلك فإنّ إدعاءات النقاء العرقي أو الهوياتي الخالص إدعاءات باطلة بحكم التاريخ، يجب أن يُنظر فيما تُخفيه من مصالح، وما يقف خلفها من سلطة، فلطالما إمتجزت المعرفة مع المصلحة والسلطة كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو.

كما أنّ الذّي يدعي أنّ الجزائر عربية محضة أو أمازيغية فإنّه يرسّخ لخطاب أحادي يُعادي سنن الكون القائمة أصلا على التعدّد والإختلاف، فالواحد لم يكن يوما أصلا في المخلوقات وإنّما جوهرا في الخالق وحسب (الواحد، الأحد)، لذلك فإرجاع دولة في حجم قارة كالجزائر إلى أصل واحد ما هو إلاّ تعدّي على طبيعة الخَلق وحكمة الخالق.

من نافلة القول أنّي أذهب دوما إلى تذكير المُحاور أنّي أنحدر من مدينة قسنطينة شرق البلاد، مدينة عريقة في التاريخ شهدت ميلاد أكبر حضارات الأمازيغ تحت إسم نوميديا أو سيرتا، كما أنجبت أكبر علماء الإصلاح في الجزائر العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس صاحب ثلاثية: “الإسلام ديننا، العربية لغتنا والجزائر وطننا”، وصاحب البيت الشعري الأشهر في هذا الصدد: “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب، من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب”. أقول ورغم كوني من هذه المدينة التّي نشأ بين أحضانها “النقيضين” فلم أدّعي يوما أنّي عربي خالص أو أمازيغي خالص، ولا ينبغي لي، ما دامت مدينة العلم والعلماء كانت في التاريخ كريمةً، رحبة الصدر مع الجميع.

نتسائل هنا إذن، لماذا صار حديث الهوية حديثا داخليا صارخا في الجزائر هذه الأيام؟ وكيف نضع هذه الإشكالية المتعلقة بهذا المجتمع في سياقها الكبير؟

أولا، وفي سياق كوني أشمل، نقول أنّ الخطر والتهديد الذّي تشعر به الجماعات الهوياتية والمجتمعات (غير الغربية) من جراء خطاب العولمة الذّي تُهيمن عليه أساسا النزعة المركزية الغربية وما خلقته هذه النزعة من فراغ روحي إنساني بسبب إفراطها في المادية والإستهلاك وما صاحب ذلك من “شيئنة للإنسان وحوسلته” (حوّلته إلى شيء أو إلى مجرد وسيلة وأداة، حسب تعبير كل من مالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري) ، بالإضافة إلى النزعة الإنسانية التدخلية الغربية في العالم (في أنبل صورة لها تخفي مصالح الغرب الإمبريالية الجديدة) كل ذلك خلق ردود فعل عكسية فطرية لدى هذه المجتمعات تجعلها تبحث عن ذاتها المهدّدة بالميوعة والفقدان.

ثانيا، أدّى خطاب الأنسنة الفلسفي والأخلاقي إلى ظهور مفهوم الإنسان الكوسموبوليتاني كأحد تجليات العولمة، خلق ذلك أزمةَ معنى في مجتمعات كثيرة خاصة تلك المركبة بشكل فسيفسائي والقابعة تحت دول هشّة، أزمة معنى جعلت هذا الإنسان يفكر أكثر في حدوده الهوياتية في مواجهة هذا الإنسان الكوسموبوليتاني المشبّع أساسا بخطاب المركزية الغربية الكامن، في نفس الوقت عمّقت هذه العولمة من النزعة الفردية كفلسفة رأسمالية تُعلي من شأن الفرد على حساب المجتمع.

ثالثا، وفي المقابل، برزت النزعة القومية التّي تُعلي من شأن الجماعة السياسية/الدولة على حساب الجماعات الهوياتية الضيقة كرد فعل سياسي من الدولة ككيان، ويبدو ذلك بشكل أوضح لدى تلك الدول التّي تعرف صعودا إقليميا لافتا على غرار تركيا وإيران أين تتعزّز فيها النزعة القومية بالأساس، وهنا تحضرني مقولة للبروفيسور جون ميرشايمر رائد التيار الواقعي الجديد في العلاقات الدولية حينما يردّد دوما “أنّ النزعة القومية ستكون الإيديولوجية الأولى والرائدة في القرن الحادي والعشرين”، فهذا النمط من الدول بحاجة وجودية لأن يُثبت ذاته وتميّزه عن الآخرين، فتتعزّز في خطاباته مقولات “الأنا والآخر”، لذا ستكون العولمة أولى أعداءه طالما تدعو إلى أحادية النمط الكوني.

وبحكم الحجم القاري الجغرافي للجرائر، وزنها التاريخي، ضخامة مواردها وإمكانياتها المادية والبشرية ساد خطاب القوة الإقليمية الصاعدة داخليا ودافع النظام السياسي عن هذه النزعة القومية-الوطنية وروّج لها من دون أن يعمل على تنمية الجزائر لتكون أهلا لها حقا، فتعزَّز شأن الجماعة السياسية الواحدة/ الدولة الجزائرية، مستفزا بعض الجماعات الهوياتية الضيقة، كتلك الحاملة لخيارات الإسلام (ويعني ذلك اللغة العربية تِبعا) ضدّ خيارات القومية والعلمانية أو تلك الجماعات التّي تشعر بظلم النظام لها وتهميشها وإنحيازه ضدّ مطالبها التّي تُشعره برائحة الإنفصال، ونقصد بذلك بعض الجماعات الأمازيغية.

رابعا، لا يجب أن ننسى أيضا تنامي النزعة ما تحت الدولاتية في القرن الحادي والعشرين والتّي تُقدّم الجماعة الهوياتية على الولاء السياسي للدولة لأسباب لا تتعلق بعولمة الكون وحسب. ففشل السياسات التنموية للدولة (النظام السياسي) وللاعدالة في توزيع الثروات أو تقاسم السلطة، يُعلي من شأن الخطابات الهوياتية الضيقة فتصير الجماعة مصدرا للآمان بالنسبة للفرد أكثر من الدولة ومصدرا للأمل أيضا، ليس على الصعيد السياسي وحسب وإنّما من الناحية الروحية، الأخلاقية والوجودية أيضا، فتلجأ هذه الجماعة إلى تتبنى خطاب المظلومية وتركن إلى كل ما يُغذّي فيها هذا الخطاب ضدّ الدولة، قد تكوّن لنفسها مجتمعا خاصة تقف به ضدّ البقية.

خامسا، يصاحب شعور النظم السياسية فقدانها لأسس الشرعية عند المجتمع عادة سياسات ذكية منها تجعلهت تلعب على أوتار الهوية لتحافظ على البقاء. لقد جاء إقرار اللغة الأمازيغية هذا العام مثلا كلغة رسمية وطنية في الدستور الجزائري في هذا الوقت بالذات ليكرس النظام السياسي عبرها سياسة “الهروب نحو الأمام”، كوسيلة من وسائل إلهاء الشعب الجزائري عن المستقبل المظلم الذّي ينتظره -لو استمر الوضع كذلك- عبر خلق أو إحياء نعرات إثنية دفينة بين كثير من أفراد هذا المجتمع ينسلُّ منها النظام بعيدا يشاهد ويتحيّن الفرصة المناسبة ليعزّز بقاءه في السلطة أكثر فأكثر. فقد صارت الأزمات البينية وسيلة من وسائل اكتساب شرعية الوجود لهذا النظام بعد أفول نجم الشرعية الثورية والاختفاء التدريجي لجيل الثورة “تحت ضغوط السنن الربانية في الكون”.

هل تذكرون الطريقة التّي عزّز عبرها النظام وجوده قبل عشرين سنة؟ لقد كان موضوع محاربة الإرهاب وحماية الوطن وسيلته في تلك الحظة بعد شعوره بخطر محدق يمس هدف البقاء.

هل تذكرون كيف كان موضوع السلم والمصالحة الوطنية، إعادة الأمن والتنمية الاقتصادية وسيلة أخرى تكيّف بواسطتها النظام السياسي مع الوضع لقرابة خمسة عشر سنة كاملة؟

هل تتذكرون أحداث غرداية -منطقة في الجزائر شهدت أحداث عنف قُتل فيها 22 شخصًا- والمأساة التي عاشها الجزائريون قبل عام فقط بعدما حامت “ثورات الربيع العربي” في الجوار؟.

لذا فأزمة الشرعية التي يعيشها النظام الجزائري منذ مدّة طويلة لا سيما بعد فشل مشاريع التنمية ودخول البلاد اليوم نفق أزمة اقتصادية مجتمعية مظلمة (تُعزّزها أرقام فظيعة)، لا بصيص لنورِ أملٍ في الأفق فِكاكًا منها تتطلب منه خلق مصادر شرعية جديدة سواء عبر إحياء نعرات بينية يعتقد أنّ له قدرة على التحكم في مساراتها، أو بوسائل أخرى لا نعلمها من شأنها أن تمنحه جرعا إضافية ليبقى متماسكا قدر الإمكان..

نعرف جيّدا أنّ موضوعا كهذا يعالج مسألة الهوية الوطنية، من شأنه أن يثير حساسية الكثير، لذا وحتّى نقطع على البعض سوء النية وجب علينا أن نؤكد أنّ الثقافة الأمازيغية لهي جزء لا يتجزأ من تاريخ المجتمع الجزائري، ولا يُنكر ذلك إلا معادٍ أو مكابر لكن أن تكون مطية لأغراض أخرى أو حصان طروادة تستخدمه بعض الأطراف خدمة لمصالح شخصية خاصة أو أجندات أجنبية (مثلما قد يُستخدم الدين أحيانا) فهذا ما يجب أن يرفضه الجميع وينبّه إليه.

سادسا، الإستقطاب السياسي الذّي تعيشه الأحزاب السياسية أو الأقطاب السياسية داخل البلاد وما تساهم فيه وسائل الإعلام التابعة لهذا الطرف أو ذاك، أدّى إلى إصابة المجتمع “بمرض الأدلجة”، وتعرّض المثقف “لداء الدوغمائية”، فقد صار الأخير يجتهد في تقديم إجابات يدّعي معها تعبيره عن جوهر الحقيقة، بدلا من أن يطرح إشكاليات أنطولوجية ومعرفية بالأساس في هذا الموضوع يساهم من خلالها في تكوين عقل نقدي جمعي لهذا المجتمع بدلا من أن يتركه فريسة لكل خطاب منحاز أو مرجعية تدّعي إمتلاكها لجوهر الحقيقة. وهنا أنتقل لعامل ذي صلة وهو عدم قدرة المجتمع والدولة تاريخيا على إرساء مرجعية فكرية-دينية-وطنية خاصة ممّا أدّى إلى تفكك المرجعيات وتعدّدها بل وإلى مرحلة أخطر بكثير أسميّها شخصيا بمرحلة “صدام المرجعيات الفكرية”.

الخروج من النفق المظلم: أيّ دور للمثقف الجزائري؟

إنّ إدارة مشكلة الهوية في البلاد بأقل الأضرار تنطلق في نظرنا أساس من إدراك المثقفين ذوي العقول النقدية وأصحاب القلم والرأي لعمق موضوع وإشكالية الهوية عموما، فمن شأن ذلك أن يفتح المجال لترويج خطاب تعددّي مركب غير تبسيطي ولا إختزالي، يقدّم من خلاله المثقف الجزائري الواعي بمسؤوليته التاريخية أجوبة أكثر توافقية تضع السائل المحتار أمام صورة مركبة غير منحازة، تحيّد روحه عن التعصب والتطرف وتفتح عقله لقبول التعدّد والإختلاف كواقع مُعطى حتمي لا مفر منه.

على المثقف الجزائري أن يُدرك حاجتنا الماسة في هذا الزمن إلى وعاء جامع للهويات يوّحد الإنتماءات دون إقصاد لأحد، لن يكون ذلك إلاّ بمساهمته الفكرية في مشروع بناء دولة مؤسسات قوية ناجحة تنمويا تُدرك قيمة المنتمي إليها كإنسان قبل كل شيء، تذيب الفروقات وتقضي على الخلافات بالعدل، تشيع ثقافة الإختلاف بدلا من الخلاف عبر إرساء وإشاعة مؤسسات الحوار وتبادل الأفكار، تُعلي من قيمة مجتمعها حينما تُشعره عبر إنجازاتها بالفخر بإنتماءه لترابها، فتتشكل قومية جزائرية مثلا (ليس بمعناها الكلاسيكي المؤدلج)، كما تشكلت قومية تركية وأخرى إيرانية أو يابانية أو ألمانية، أو كما تشكلت قومية أميريكة في مجتمع هجين يصدح فيه الأبيض الأوروبي والأسود الإفريقي والقوقازي الآسوي بأنّه أمريكي وفقط، دولة هجينة الأطياف، ثرية الثقافات، موحدة الإنتماء الروحي قبل القرار السياسي، منتمية إلى الوطن، على الأقل في هذا الزمن المليئ بالفتن، والذّي صار أضعف الإيمان فيه أن نُحافظ على حدود سايكس بيكو، أمّا طموحات الوحدة الإسلامية مثلا فلا تزال بعيدة جدّا على هذا الجيل.

علينا أن نُدرك جميعا أنّ الاختلاف ثراء ومكسب تاريخي وأنّ تعدّد الثقافات في وطن واحد لهو مفخرة لهذا الوطن وأبنائه لا سيما في وطن شاسع بحجم قارة بإمكانه أن يسع قلوب الجميع.

علينا أن نعيَ أيضا تمام الوعي أنّ الوطن على مفترق طرق حاسم، ولا نجاة للكل ما لم تتكاثف جهود العقلاء وتُهمش الأصوات العنصرية والاستئصالية بكل ألوانها السياسية والإيديولوجية (تلك التي تريد السوء للوطن والشعب) من قِبل نخبة هذا المجتمع وأفراده على حد سواء.

أكتب هذا في الوقت الذّي يلتف فيه المجتمع الجزائري حول “قضايا ساخنة” ذات صلة بمسألة الهوية، جاعلا إيّها شغله الشاغل، تتجاذبها أطراف متباينة المرجعيات والغايات والمصالح، في الوقت الذّي تعيش فيه الجزائر مرحلة إنتقالية بأتّم معنى الكلمة، يتّم فيها التحضير لمرحلة ما بعد الرئيس بوتفليقة أو ما بعد المصالحة الوطنية أو لنقل ما بعد الأزمنة الكلاسيكية التّي عرفتها البلاد.

لا نستبعد إطلاقا أنّ هناك من يدفع بالمجتمع للإلتفات إلى قضايا جدلية في هذا الوقت بالضبط (كالقضية الأمازيغية) أو يتعمّد إخراجها للعلن بطرق ما (كقضية مضامين كتاب الجغرافيا) أو يساهم في الترويج لها وحشد الجماهير بإتجهاها (كقضية معلمة مدرسة الإبتدائي) عبر وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، ليُبعد أنظار الشعب عن قضايا أخرى كبرى أكثر أهمية تتعلق بمصير الجزائر أو بمصالح كبرى بين نافذين في البلاد يتّم التجاذب والتوازن بشأنها بعيدا عن أعين الشعب في هذه اللحظة بالذات، في ظرف سياسي سوسيوإقتصادي صعب تمّر به البلاد، فلا حاجة لدوائر صنع القرار أن تُدخل عامل الشعب كعامل ضغط إضافي يشارك في عملية التحضير هذه، لذا تعمل هذه الدوائر على تفريخ الضغط النفسي للجماهير في قضايا أخرى يعتبرها مهمة ويساهم صانع القرار في الترويج لها على أنّها كذلك وأنّها قضايا إشكالية في المجتمع الجزائري على رأسها قضية الهوية وما إرتبط بها كما قلنا. أرجو ألاّ يُفهم كلامي هذا على أنّه تقليل من أهمية ما يطرح للنقاش المجتمعي بقدر ما أحاول بدوري أن أجد سياقا تحليليا مناسبا لما يحدث الآن في هذا الوقت بالضبط.

إنطلاقا ممّا سبق، نؤكد ضرورة أن يعمل المناخ الفكري النخبوي في البلاد على ترسيخ خطاب التعدد والإختلاف في الداخل تلافيا لأيّ صدامات داخلية قد يعيشها المجتمع مستقبلا بسبب تلك المشكلات ويخرج فيها النظام السياسي منتصرا في كلّ مرّة، مُظهرا نفسه على أنّه الطرف الحامي لوحدة البلاد وأمنها، مكتسبا شرعية جديدة هو في حاجة إليها لإستمراره وتكيفه بعد نفاذ كل الشرعيات التّي استند عليها في الماضي.

أدعو بدوري إلى بزوغ المثقف التوافقي كما أسمّيه، والذّي صار في نظري ضرورة حتمية للمجتمع الجزائري ولكل مجتمع متعدّد في هذا الزمان، في الوقت الذّي تتّجه فيه مجتمعاتنا إلى مزيد من الأدلجة والإستقطاب وتحت قيادة نخب ثقافية دوغمائية بإمتياز ذات مصالح فئوية تتخّذ من الراهن حصان طروادة وفرصة ثمينة لتحقيق مكاسب ضيقة أو تصفية حسابات تاريخية وهمية أو نَزَعات عنصرية مقيتة. فالحاجة إذن إلى نموذج مستنير لمثقف توافقي حاجة ملّحة للمحافظة على اللحمة وتجاوز الأزمات.

على كاهل هذا المثقف مهمة إقناع الفرد الجزائري أن يسعى إلى المواطنة كمكسب أرقى بدلا من يتقاتل في كل مناسبة حول حقوق فئوية ضيقة بين الرجل والمرأة تارة، بين العربي والأمازيغي، بين المالكي والإباضي، بين الشرطي، الأستاذ والوظيف العمومي، بين طالب النظام القديم وطالب النظام الجديد تارات أخرى وغيرها من الملهيات عمّا ينبغي أن يطالب به الجزائري ويتحدث. إنّ تحدي التنمية والعدالة الاجتماعية الآن هو الأولى في نظرنا طالما أنّه مطلب إنساني ويخدم الجميع. تذكروا مجدّدا أن الجزائر قارة رحبة تسع بصدرها الجميع .

على كاهل هذا المثقف التوافقي أيضا مهمة كبرى في محاربة الدوغمائية والترسيخ لمفاهيم العقل النقدي والتعدّد وثقافة الإختلاف. على هذا المثقف التوافقي النقدي أن يدفع بالمجتمع إلى التفكير قبل الإيمان بتلك المسلمات التّي نشأ عليها، أن يُساهم في تكوين وعي جمعي نقدي يكون حاميا للمجتمع من أي تلاعب سلطوي أو نخبوي بعالم أفكاره. ومن نافلة القول التذكير بأنّ للدوغمائية رواد في البلاد، صاروا يهيمنون على الساحة الفكرية والثقافية بما تتيح لهم الوسائل الكلاسيكية للإعلام أو بما يتيحه لهم أيضا الإعلام البديل، ولا شك في أنّهم لا يقلون خطورة على مجتمعاتنا من مفاعلات ديمونة النووية الموجهة بأسلحتها إلينا طالما يساهمون في تدمير المجتمع من الداخل عبر العبث في عالم أفكاره وحقنه بالأمراض.

لقد نجح الإعلام البديل في خلق منابر للدوغمائية النخبوية وما يتبعها من أجدلة للجماهير عبر جامعيين لم تكسبهم دراستهم لا عقلا نقديا ولا منهجا قويما ولا منطقا سليما في التحليل والتفكير، إذ يمارس هؤلاء الجامعيين أبشع أنواع الجرائم الفكرية على المجتمع عبر الحشد والاستقطاب والأدلجة وترسيخ المرسخ دون النظر فيه وبث كل أشكال العنف والأحقاد والنعرات البينية بحجج المعارك الأخلاقية في سبيل فكرة سامية يؤمنون بها أو تربوا عليها وصارت لهم معيارا أوحدا في تصنيف الجماهير ومنح صكوك التزكية والغفران. صار العلماني إقصائيا مترفعا وغدى الإسلامي عاطفيا متحمسا ولا يكف كلاهما عن الترويج لخطاب سطحي مشحون يهدم كل جسور التوافق والبناء.

إلى الآن ورغم أزمة دموية طويلة عاشتها البلاد لم نتعلم كيف ندير إختلافاتنا ونحيّد خلافاتنا إذا كانت تضّر بالمصلحة العليا للبلاد، إلى اليوم لا زلنا نؤمن بالخطابات الأحادية وننساق خلفها دون وعي ولا سابقة تفكير، إلى الآن تحكمنا الثنائيات المانوية (نسبة إلى إله الخير والشر الفارسي مانا) بدرجة عالية من الاستقطاب، إلى اليوم لم ننجح في التأسيس لثقافة الاختلاف والتعدّد والتوافق في وقت صارت فيه هذه الثقافة هي المسلّمة الوحيدة لنجاة هذه المجتمعات من الفوضى. إني أدق ناقوس الخطر على جيل بزغت فيه نجومية الأصوات والأقلام الدوغمائية الواهمة بسبب ما يتيحه الإعلام البديل من حرية لم نتربى على مقتضياته بعد .

أختم هنا برسالة إنسانية أخوية لكل جزائري، خاصة من يُقاسمنا هنا همّ المعرفة والوطن والغربة، رسالة عميقة على لسان فيلسوف الحضارات الأستاذ داريوش شايغان، رسالة تضع اللبنات الأولى للتواضع والإنسانية والتعدّد والإنفتاح وتنبذ كل عنصرية، دوغمائية وإختزال، يقول شايغان أجزم: “أنّه لا توجد اليوم إلاّ حضارة واحدة، هي الحضارة الكونية الحديثة، وما يشكّل هوية الأفراد –في الحقيقة- هي ملكة العقل التّي يمتلكها العالم كلّه وتسمح بتحويل مختلف الإنتماءات الثقافية والإثنية والدينية إلى إنتماءات مجردة، والإنسان الحديث يمتلك قدرة على التحليل المنطقي والتفكير العقلاني بإستقلال عن مختلف إنتماءاته.”

جلال خشيب

باحث جزائري مُقيم بتركيا، تهتمُ أعماله بمجال الجيوبوليتيك، نظريات العلاقات الدولية، سياسات القوى الكبرى والإقليمية، من أبرز أعماله كتاب: “أثر التحوّلات الطارئة في بُنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية”، سنة 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى