fbpx
دراساتاوروبا وامريكا

الآفاق المستقبلية للعلاقات النفطية الروسية الأوروبية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تتمحور إستراتيجية الطاقة الروسية الحالية والمستقبلية حول التوظيف الإستراتيجي لتحقيق مزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي تجاه بلدان الاتحاد الأوروبي لاسيما بعد الصراع الكبير حول أنابيب الطاقة (النفط والغاز)، وإن روسيا تعارض أي محاولات أوروبية كانت أم أمريكية في تنويع الإمدادات سواء كانت من آسيا الوسطى والقوقاز او من منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا لابد من معرفة سيناريوهات التعاون والصراع وما يتمخض عنها من فرص وكوابح للعلاقات الاقتصادية عموماً وفي مجال التبادلات التجارية خصوصاً النفط والغاز بين روسيا والاتحاد الأوروبي.

المطلب الأول: سيناريو التعاون (الفرص والكوابح)

 أولا: الفرص

يرى ريتشارد هاس*، أن روسيا هي أكثر ميلاً للتصرف والعمل وفق أسلوب القوى الكبرى، ومازالت تحن لماضيها كقوى عظمى وأحد القطبين الرئيسين مستغلة مصادر الطاقة النفط والغاز (على جانب صناعاتها العسكرية) كدعامة رئيسة في لعب هذا الدور،[1] ونظراً لأن روسيا هي مصدر صاف للنفط والغاز، وقد ارتفعت الكميات المصدرة منها بصورة ملحوظة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد شهدت تحولاً ملموساً لمصلحتها من خلال النظرة المستقبلية للغاز، فتصاعد نصيبها من الاحتياطيات العالمية بشكل غير مسبوق، فضلاً عن دورها في سد حاجة الدول المستهلكة وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي المستهلك الرئيس للنفط والغاز الروسي، فإن الاعتماد المتبادل بين روسيا والاتحاد الأوروبي على الطاقة سيزداد بصورة مستمرة ذلك بتصدير روسيا كميات كبيرة من النفط والغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي المتعطشة.[2]

كما تعتبر روسيا سوقاً هاماً للمنتجات والاستثمارات الأوروبية خصوصاً في البنية التحتية لمواصلة إمدادات النفط والغاز نظراً للتقارب الجغرافي والمصالح المشتركة التي أصبحت ضرورة أساس في تحقيق مزيد من التعاون في المجالات كافة وعلى رأسها النفط والغاز، ففي ظل العولمة والتطور التكنولوجي السريع والمخاطر الأمنية، أصبح الزاماً على الدول في الدخول في ترتيبات أمنية مشتركة لحماية المصالح الإستراتيجية للطرفين. [3]

إن الأولوية القصوى أمام روسيا هي أن تتدمج اندماجاً حقيقياً في أوروبا فهو خيار رئيس في طبيعة التفاعلات الدولية، وكذلك حاجة الطرفين بعضهم البعض فبقدر تعطش الاتحاد الأوروبي للطاقة الروسية، فأن روسيا هي أيضا متعطشة للتدفقات النقدية من جراء تصديرها للنفط والغاز.

إن من ضرورات التعاون بين روسيا والاتحاد الأوروبي أن روسيا وفي ظل التهديدات المستمرة أصبحت تواجه تحديات في حماية أمنها أو المحافظة على الاستقرار في منطقة أوراسيا، ولن تتمكن من تحقيق ذلك إلا إذا أضحت جزءاً من منظومة أمنية دولية أو اقليمية، ومن غير المتوقع أن تتولى في هذه المنظومة دور الهيمنة التقليدية، أما محاولة بناء منظومة أمنية أو اقتصادية تتولى روسيا قيادتها فهي محكومة بالفشل، وبغض النظر عن الخلافات القائمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي على مسائل أمنية فإن هناك ترتيبات اقتصادية وسياسية تحاول روسيا من خلالها الدخول في المزيد من الشراكة الإستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي في ظل الدعوات الأوروبية لاستقلال القرار السياسي والاقتصادي والعسكري عن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن جهة أخرى وعلى التوازي فإن روسيا تتعاون مع حلف الناتو والولايات المتحدة فيما يتعلق بقضايا الأمن الدولي وعدم انتشار الأسلحة النووية والحرب على الإرهاب.

من خلال ذلك تحاول روسيا أن تؤكد للعالم حقيقتين تتمثلان في تأكيد مكانة روسيا بوصفها احدى القوى الكبرى في الساحة الدولية، وضمان ادارة الشؤون العالمية من قوى عدة تقف على قدم المساواة فيما بينها، وعلى الرغم من تعهد موسكو بالالتزام بالبراغماتية السياسية في علاقاتها مع المنظومة الدولية فإنها تحقق مزيداً من التقدم في الهيمنة على مصادر الطاقة (للنفط والغاز) في تحقيق مصالحها الإستراتيجية وفقاً لمبدأ احتكار أهم مصادر للطاقة واستخدامها أداة في تحقيق النفوذ والدور العالمي، إلا أن هذا لا يمنع من إقامة نظام مشترك مع المستهلكين الرئيسين للطاقة الروسية تتعهد روسيا بموجبه توفير إمدادات الطاقة بصورة مستمرة، ووفق رؤية تشاركية لطبيعة التهديدات والتحديات التي يمكن أن تعيق التقدم في توافر أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي.

ثانيا: الكوابح

مرت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا منذ مطلع القرن بفترات صعود وهبوط وأزمات حادة. أثرت في الشراكة بينهما مما طرح في معظم الأحيان الولايات المتحدة الأمريكية كشريك إستراتيجي قوي للاتحاد الأوروبي.

لقد شكلت الأزمة الأوكرانية أهم كابح لتطور العلاقات الروسية – الأوروبية، منذ 2014 نتيجة للمواقف التي اتخذتها موسكو اتجاه أوكرانيا، ولاسيما بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، فإن الدفع التدريجي الذي تقوم به الولايات المتحدة للاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا قد وضع حدا لتطور الشراكة الإستراتيجية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهذا ما انعكس على طبيعة الإستراتيجية الأوروبية في تحديد مستقبل الطاقة فالسعي نحو تنويع مصادر الإمدادات أصبح ضرورياً في ظل الأزمات،[4] ولهذا تهدف الدول الأوروبية إلى تعزيز علاقات الطاقة مع بلدان شمال أفريقيا وتسعى روسيا أيضاً لتوثيق التعاون في مجال الطاقة بينها وبين هذه البلدان، ويتزايد قلق الدول الأوروبية على إمدادات طاقتها الخارجية ومن ثم تسعى إلى تنويعها بعيداً عن النفط والغاز الروسي، ويتزايد قلق روسيا الرئيس على أمن الطلب، على مبيعات طاقتها فقد حاولت إيجاد ترتيبات تعاونية مع دول شمال افريقيا كبدائل،[5] كما تجدر الإشارة إلى أن شركة غازبروم الروسية أبرمت اتفاقاً عام 2014 مع الشركات الصينية، مدة العقد تصل إلى 30 سنة، و كمية الغاز الطبيعي التي ستصدر إلى الصين بموجبه تقدر بنحو 38 مليار متر مكعب سنوياً،[6] وذلك تعبيراً عن استهداف روسيا تقوية وجودها على المستوى الأسيوي من أجل تفادي أي سياسات أوروبية في ما يخص حصة روسيا في السوق الطاقوية الأوروبية، التي قد لا تخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، فالشراكة الروسية الصينية حتما ستكون عصب الطاقة (الغاز الطبيعي) في آسيا ما يفتح آفاقاً لمواجهة تداعيات الضغط الأوروبي خاصة في أوقات واسعة للغاز الروسي على المستوى الدولي ويخفف الأزمات.

يبرز لنا الرسم البياني الآتي كيف أن التبعية المتبادلة لكلا الطرفين سواء الروسي أو الأوروبي للطاقة (الغاز الطبيعي) له تأثير على مدى التجاوب والتعاون الذي قد ينشأ من جراء هذه التبعية، بحيث قد يتولد إدراك لدى الطرفين بضرورة التقارب أكثر من التصادم، لأن كل فاعل هو في حاجة إلى الآخر، فروسيا اقتصادها مرهون بهذه السوق ولو أن لديها فرصاً أخرى في آسيا وبدرجة أقل في أمريكا، في المقابل أوروبا في حاجة إلى هذه المادة الحيوية لأنها ضمن الأمن الطاقوي للقارة.

شكل الإنتاج الداخلي للغاز الطبيعي في روسيا والاتحاد الأوروبي (1990-2020)

الآفاق المستقبلية للعلاقات النفطية الروسية الأوروبية-1

المصدر: Club Nice

توضح معطيات الرسم البياني بأن هناك مستقبلين متعاكسين لإنتاج الغاز الطبيعي، بحيث نلاحظ التطور المستمر لإنتاج روسيا للغاز الطبيعي للفترة 2000 و2020، ما يؤكد بان للنظام الروسي رؤية واضحة لمستقبل الغاز الطبيعي و أهميته في الاقتصاد و السياسة الروسية، عكس ما كان عليه في عهد بوريس يتلسن في فترة التسعينيات أي مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث يتبنى الرئيس بوتين إستراتيجية طاقوية تقوم على تطوير قدرات إنتاج الغاز الطبيعي، وفي الوقت ذاته تطوير إنتاج الطاقات الأخرى، خاصة النفط الذي ارتفعت نسبة إنتاجه للفترة ذاتها، إضافة إلى الطاقة النووية والطاقات المتجددة، فهي تعرف ارتفاعاً ملحوظاً في الإنتاج منذ عام 2000، بعدما كانت في تناقص فترة التسعينيات.

أما في الجهة المقابلة، فدول الاتحاد الأوروبي لم يتطور إنتاجها للطاقة بالشكل الذي حققته روسيا، بحيث أن الغاز الطبيعي والنفط عرفا تناقصاً منذ سنة 2000 وهذا قد يتواصل بعد عام 2020، بعدما كان هناك ازدهاراً في الإنتاج فترة التسعينيات.

وبالتالي فإن تزايد الإنتاج في مختلف مصادر الطاقة في روسيا وتناقصه في أوروبا، سيكون له دوراً في مسار العلاقات بين الطرفين، فروسيا مدركة بأن السوق الأوروبية هي أهم الأسواق العالمية للغاز الطبيعي، ومنه فهي تغذي الاقتصاد الروسي من خلال عائداتها، كما أن الرئيس بوتين له تصور حول أهمية هذه السوق إستراتيجياً، فهي تمنحه قدرة أكبر على المساومة في الملفات التي تمس أمن المنطقة.[7]

أما أوروبا فهي تعاني من تعمق التبعية من خلال تناقص إنتاجها للغاز الطبيعي، بحيث ستصبح أكثر ارتباطاً بما تعرضه روسيا من غازها، رغم أن أوروبا تعمل على تنويع الدول المزودة لها بالغاز الطبيعي، لكن في المقابل قد تستفيد من هذه العلاقة كون أنها تضمن بأن جارتها روسيا لن تقدم على أي خطوة من دون أن تحسب لمستقبل غازها في أوروبا، أي أن الاتحاد الأوروبي مهما تعقدت علاقته بروسيا فإن هذه الأخيرة لن تلجأ (افتراضاً) إلى استعمال القوة أو حرب مباشرة مع أوروبا لإدراكها بان اقتصادها سيتضرر مباشرة، هذا ما سيفتح قنوات للاتصال والحوار بين الجانبين والتي قد تجعل العلاقات بينهما أكثر استقراراً و عقلانية خاصة في ما يتعلق بقضايا الغاز الطبيعي قبل وفي إثناء وقوع أزمات مع إحدى الدول سواء المستهلكة أو التي تعتبر نقاط عبور للغاز الروسي نحو دول أوروبية.

رغم ذلك فكل طرف يعمل على إيجاد منافذ وآليات أخرى قد تمكنه من التحرر ولو نسبياً من ضغوط الطرف الآخر، لهذا نجد مثلاً روسيا تدعم مبادرات متعلقة بالطاقة قصد خلق كتلة يتقاطع أطرافها في المبادئ و الأهداف، وفي السياق ذاته نجد بأن هناك من يطرح احتمالين حول مستقبل الغاز الروسي في الأسواق العالمية، و هذا حتى مطلع 2050، بحيث قد يمكننا من التعرف على مستقبل العلاقات الروسية الأوروبية انطلاقا من دراستنا لنسب تواجد الغاز الروسي في السوق الأوروبية للطاقة، يؤكّد الرسم البياني الآتي لنا فحوى الفرضيتين، و ما مدى صحة كل واحدة أو عدمها.[8]

شكل وجهات الغاز الطبيعي الروسي ما بين 2010-2050

الآفاق المستقبلية للعلاقات النفطية الروسية الأوروبية-2

المصدر: Mit Center Energy Environmental Policy Research

من خلال الشكل رقم (15) يتضح بأن هناك احتمالين قويين، ولكل فرضية معطيات تقوي صحتها،  فلو أخذنا بما هو مفترض في الرسم (a)، فإننا سنجد بأن أوروبا هي الوجهة الأولى للغاز الروسي حتى سنة 2050، أي أن روسيا ودول الاتحاد الأوروبي مجبرتان على التعاون في المجال الطاقوي، كون أن الجانبين لا يحتملان الدخول في صدام، بل الحوار هو مصير العلاقات، فروسيا تحتاج إلى سوق الطاقة الأوروبية، وأوروبا تحتاج إلى الغاز الروسي الذي يعتبر مادة أساسية للقارة، ومن ثم وفقاً لهذه الفرضية فإن الطرفين سيكونان أمام حتمية التوافق أكثر من الصدام والنزاع، لأن هناك إدراكاً مزدوجاً حول مصير المصالح الإستراتيجية في المنطقة، فأي صدام مباشر الكل سيتضرر ولو بنسب متفاوتة.

أما لو سلمنا بأن الرسم (b)، هو الأقرب إلى التجسيد، فإن هذا يعني بأن روسيا ستجد بديلاً للسوق الأوروبية من خلال فتح منافذ في آسيا، خاصة إن أحكمت قبضتها على السوق الصينية التي تعتبر من أكبر الأسواق وأهمها، فقد وقعت روسيا والصين عام 2014 على اتفاق بشأن التزويد بالغاز الطبيعي بقيمة 400 مليار دولار.

بالتالي تبحث روسيا عن بدائل من أجل التحرر من المساومات التي تفرضها أوروبا في حالة وقوع أزمات، والدليل هو الملف الأوكراني منذ العام 2014، فتوقيع روسيا لهذه الاتفاقية الطاقوية مع الصين، رسالة إلى أوروبا بأن الغاز الروسي له أسواق غير السوق الأوروبية.

لكن في المقابل ستخسر أوروبا على صعيدين، أولاً على المستوى الاقتصادي بحيث ستكون مرغمة على إيجاد بديل عن الغاز الروسي وبأسعار أنسب للاقتصاد الأوروبي، ثانياً على الصعيد السياسي، فأوروبا ستفقد قوة ضغطها على روسيا في عدة قضايا خاصة في تطورات مراحل الأزمة الأوكرانية، بحيث ستكون روسيا أكثر تحرراً وفي موضع قوة في أثناء مراحل التفاوض.

فالرسمان (a) و (b) يبرزان بأن الرهان في أسواق الطاقة هو إما في آسيا أو أوروبا، وروسيا تعمل على التحكم في السوقين، ليس فقط من أجل حسابات اقتصادية، ولكن لتحقيق مكاسب سياسية على المستوى الإقليمي خاصة فهو الدافع الأهم في هذه المعادلة، فيفتح الصين المجال للغاز الروسي على المدى البعيد، فإن روسيا عززت مواقفها إقليمياً خاصة في الملف السوري والليبي وملف غاز شرق المتوسط وهذا لأن الصين و روسيا هي من الدول المالكة لحق الفيتو في مجلس الأمن[9]، فأي قرار لا يخدم مصالح أحدهما قد يخلق مساندة بينهما.

ومن ثم فالحوار الروسي الأوروبي هو في مواجهة دائمة لعدة تحديات، لهذا وصول الطرفين إلى مرحلة متقدمة من التعاون في المجال الطاقوي ليس بالأمر السهل بتواجد عدة قضايا إقليمية غير متفق عليها و التي لها أبعاد طاقوية، فالأمن الطاقوي الأوروبي سيكون دائماً رهاناً لروسيا من أجل جعله عنصراً مهما في المساومات حول القضايا الإقليمية، وبالتالي فإن مسار التعاون و الحوار بين روسيا وأوروبا ليس واضحاً، رغم أن الجانبين مدركان أهمية كل طرف بالنسبة للآخر، لهذا لم تشهد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أي مواجهة مباشرة بين الطرفين، لإدراك كل طرف بمدى أهمية الخسائر التي قد يتكبدها أي جانب واحد أو الجانبين معا في حالة صدام مباشر.

لذلك يستخدم كل طرف الأزمات الإقليمية من أجل إدارة مصالحه بالمنطقة، خاصة إن ذكرنا أوكرانيا وسورية، فكلتا الدولتان تعتبران نقاط حيوية لروسيا في مجال الطاقة، فمثلاً في عام 2013، عملت روسيا على توقيع اتفاق للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في السواحل السورية بالبحر المتوسط،[10] هذا مؤشر على أن تغير النظام في سوريا هو تهديد لمصالح روسيا بالإقليم، وعليه فالعلاقات الروسية الأوروبية ليست بمنأى عن هذه الحسابات السياسية الإقليمية، فأي تغير في موازين القوى بالمنطقة يعني أن الحوار المفترض أن يكون بين الجانبين تتضاءل فعاليته، لهذا قد يكون باب الحوار والتوافق بين الجانبين مفتوحاً إلى حد بعيد، وهذا لتوفر العديد من المؤشرات التي توضح أهمية الحوار أكثر من الصدام.

في ضوء ما سبق يمكن القول إن العلاقات الروسية-الأوروبية تبقى مرتبطة بالواقع في ظل الأحداث المتسارعة وتقلب موازين القوى، وقد تتوتر العلاقات بين الطرفين مما سيؤثر على الشراكة الإستراتيجية في مجال الطاقة لعدد من الأسباب وهي: [11]

1-الانغماس الشديد لكلا الطرفين في الأزمة الأوكرانية الأزمة السورية والليبية وتغذية الصراع الداخلي فيها وما سينعكس على طبيعة التفاعلات بين الطرفين فضلاً عن الدور الأمريكي الدافع في تغذية الصراعات على الحدود الروسية في آسيا الوسطى لتحجيم دورها العالمي الجديد.

 2-توسيع نطاق حدود حلف شمال الأطلسي والتطلعات المستقبلية نحو ضم جورجيا وأوكرانيا للحلف مما سيؤثر على طبيعة التفاعلات بين الطرفين.

 3-الصراعات المستمرة في الشرق الأوسط، لاسيما في سورية وليبيا التي أصبحت مراكز صراع اقليمي ودولي، والدور الروسي في سورية قد يعكس النظرة المستقبلية اتجاه التطلعات الروسية وما سيلحق من تبعات اتجاه تنامي الدور الروسي على حساب الدور الأوروبي والأمريكي.

4-التنافس الكبير حول إمدادات الطاقة في آسيا الوسطى والقوقاز ففي ظل الإستراتيجية الأوروبية تجاه تنويع إمداداتها من آسيا الوسطى والقوقاز قد ينعكس على إمدادات الطلب على الطاقة الروسية، فالولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى الدول التي كانت تدور في الفلك السوفيتي السابق كمركز طاقة حيوي وإستراتيجية فالسيطرة عليها تعد انتكاسة للتطلعات الروسية في الهيمنة على الطاقة.

لهذا فإن روسيا تحاول أن تدخل في عدد من التحالفات الإستراتيجية مع الدول المعارضة للتفرد الأمريكي، التي ستنعكس على طبيعة الشراكة الإستراتيجية الروسية -الأوروبية في مجال الطاقة، وتعد منظمة البريکس)*  من أهم التحالفات الدولية التي صاغت روسيا تطلعاتها المستقبلية. [12]

المطلب الثاني: سيناريو الصراع (الفرص والكوابح)

 أولاً: الفرص

شكلت الطاقة ولعدد من العقود بؤرة الصراع العالمي فهي المحرك الأساس للإستراتيجيات الدولية، ففي ظل الأزمة الأوكرانية ارتفعت مدركات القوى الكبرى حول أمن الطاقة العالمي، فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية فإنها قد تفرض مزيدا من العداء بين روسيا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن وقوعها على مفترق طرق أوروبا فيما يخص واردات الغاز الروسي لذا فإن مستقبلها ينعكس على طبيعة العلاقات الروسية -الأوروبية ومستقبل الطاقة بين البلدين.

وشكلت الأزمة الأوكرانية تهديداً مستمراً لمنظومة الأمن الأوروبي والروسي على حد سواء، لذا فإن الصراع الدائر في الداخل بين شرق أوكرانيا وغربها سوف ينعكس على إمدادات الطاقة في المستقبل، على الرغم من الخطة التي وضعتها روسيا لتنويع أماكن صادراتها بعيدة عن دول العبور أوكرانيا وبيلاروسيا، إلا أن فرص الصراع تتفاقم حول أمن الإمدادات.[13]

وتسعى الولايات المتحدة بفرض مزيد من التدخل في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، والجوار الروسي الحرج، الذي يعد من دوائر الأمن القومي الروسي، من أجل المضي بإنشاء خطوط نقل الطاقة (باکو -تیلبسي – جيهان) لنقل النفط، ومشروع (نابوكو) لنقل الغاز، وهو مسعى أمريكي – أوروبي لتطويق روسيا في ظل اعتقاد صناع القرار في الولايات المتحدة أنه لابد من احتواء روسيا اعتماداً على ما أطلق عليه برجنسكي بالتعددية الجغرافية، ففي ظل التوترات السياسية بين القوى المستهلكة للطاقة التي تحاول بسط سيطرتها على الاقليم تبقى فرص الصراع قائمة في المستقبل لاسيما أن دول آسيا الوسطى والقوقاز تشوبها نقاط ضعف داخلي متمثلة في الاختلافات العرقية والدينية، ومن الممكن أن تنتقل صراعات الشرق الأوسط الفوضوية إلى الاقليم.[14]

يدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل كبير البلدان التي تمتلك نصيب من الطاقة في آسيا الوسطى والقوقاز، وهذا ما أثار غضب روسيا الاتحادية في التدخل في دوائر أمنها القومي والعمل على تطويقها لتحجيم دورها العالمي، وتعمل الولايات المتحدة على صبغ المنطقة بالأنموذج الأمريكي سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ودمجها بالكامل ضمن الأطر السياسية والاقتصادية والثقافة الأمريكية، حتى يسهل انقيادها في عباءة التبعية الأمريكية.[15]

يرى البعض أن عدم توافر الغاز الآسيوي لخط نابوكو سيتم تعويضه بالغاز المتوسطي في ظل مؤشرات تروج إلى أن الحوض المتوسطي هو من أغنى المناطق في العالم بالغاز وأن سورية ستكون الدولة المحورية بمواردها وعقدة طرق الأنابيب[16]. وعلى الرغم من أن مصادر الطاقة (النفط والغاز) ضئيلة جدا في سورية إلا أنها قد تكون مركز عبور إمدادات الطاقة المستقبلي سواء كانت من دول الخليج أو من إیران، فضلاً عن الاكتشافات الجديدة في الساحل السوري. [17]

سيناريو الكوابح

لا يمكن ان تكون أوجه الصراع شديدة التأثير في طبيعة التفاعلات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، نظراً للاعتماد المتبادل، فبقدر اعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية بشكل كبير فإن روسيا تعتمد على الطلب الأوروبي للنفط والغاز لكونه أحد أكبر المستهلكين له، ولهذا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية تدفع بشكل مستمر التوجهات الأوروبية في تأمين إمداداتها من مصادر متعددة وهذا لا يعني أن الصراع قد يشكل أحد أوجه التفاعل بين الطرفين.[18]

إن إستراتيجية الطاقة التي وضعها بوتين بشأن الاعتماد المتبادل بين روسيا وأوروبا هي عبارة عن جزء من البرنامج الأوروبي (الغاز مقابل الأنابيب)، وهذه الإستراتيجية العالمية والجيوسياسية والاقتصادية أصبحت الأنموذج الذي تقتدي به شركة غازبروم في أعمالها، ومن جانب أخر تتضح أهمية دور ألمانيا الدولة القائدة في الاتحاد الأوروبي والأقوى اقتصادياً من بين دول الاتحاد، في تحقيق إستراتيجية الطاقة الروسية من خلال حقيقة واحدة وهي أن ألمانيا كانت أول مشتري للغاز الروسي في أوروبا الغربية.[19]

خلاصة القول، لقد أثرت المتغيرات الدولية في سياق إستراتيجية الطاقة الروسية تجاه الاتحاد الأوروبي وهو ما يعزز التعاون والصراع بين الطرفين تبقى وفق المتغيرات التي تحرك أوجه هذه العلاقة، إلا أن المصالح المشتركة بين الطرفين تبقى هي الغالبة فإن التعاون ضرورة أساس بين الطرفين ذلك للاعتماد المتزايد على الطاقة لاسيما الغاز الذي يعد مصدراً نظيفاً ومقبولاً دولياً وفقاً لبرتوكول كيوتو الذي دعا إلى التقليل من الانبعاثات السامة في غلاف الجو التي يسببها النفط والفحم.

استخلاصات واستنتاجات

أولاً: في ضوء ما سبق يمكن وضع قراءة مستقبلية للحوار الروسي الأوروبي، على أنه حوار ضيق لا يمس بشكل دقيق لب العلاقة بينهما، بحيث أن مختلف الأزمات الناشئة بين الطرفين إما سببها الأول الطاقة ( النفط والغاز الطبيعي بالدرجة الأولى)، أو هناك أسباباً سياسية تدفع الطرفين للدخول في أزمة، و يتم بعدها إدارة هذه الأزمة من خلال تفعيل المسائل الطاقوية، كمواضيع متعلقة بمرور أنابيب الغاز الطبيعي أو استغلال حقول الغاز أو حتى تحديد تسعيرة جديدة، كل هذا من أجل كسب جزء من المسألة الأساسية التي دخل بسببها الطرفان هذه الأزمة. وما يلاحظ بأن المسائل الطاقوية لا يتم حلها بشكل نهائي، بحيث دائما تترك نقاط من الملف عالقة أو غامضة، فيتم إثارتها في مناسبات أخرى، بقصد ربح المزيد من الأسبقية في المساومات، وهذا ما نلاحظه في تعامل روسيا مع طريقة دفع أوكرانيا لحصتها من الغاز الطبيعي الآتي من الأراضي الروسية، ففي كل مرة يتم إثارة قضية الديون المستحقة على أوكرانيا، وكذا التسعيرة التي تضغط روسيا من فترة لأخرى على النظام الأوكراني من أجل رفعها.

ثانياً: تتسم العلاقات الأوروبية – الروسية بالتعقيد والتشابك في مجالات عديدة سياسية واقتصادية وأمنية، فكلأهما قوة صاعدة في النظام الدولي تسعى إلى تعظيم مصالحها والبحث عن دور أشد تأثيراً وفاعلية في السياسات الدولية والحصول على مصادر آمنة وثابتة للطاقة من جهة، وتنويع مصادرهما أو تطوير استخراجها من جهة أخرى، وبناء عليه، فإن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه الاستغناء عن روسيا بصفتها مصدرا قريبا لتوريد الطاقة، كما أن روسيا لا تستطيع التخلي عن السوق الأوروبية الآمنة والنهمة لتصريف مواردها من الطاقة إضافة إلى التكنولوجيا الأوروبية لتطوير آليات استخراجها، وهذا الأمر يفرض على الطرفين نوعا من الاعتمادية القسرية في مجال الطاقة، على ما بينهما من الاختلاف في التوجهات والقيم.

ثالثاً: شكل عام 2000 علامة فارقة في تاريخ روسيا الحديث، فإعادة دور روسيا العالمي جاء بمجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة، الذي سعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية الطاقة الروسية، ومن هنا فإن لدور الطاقة أثراً فعالاً في صياغة إستراتيجية الدولة فروسيا حققت أهدافها الإستراتيجية من خلال اعتمادها المباشر على تصدير النفط والغاز إلى الاتحاد الأوروبي، فحققت غايات اقتصادية وسياسية وعسكرية -أمنية، وعلى المستوى الاقتصادي حققت روسيا من خلال توظيفها للطاقة نمواً اقتصادياً كبيراً حتى أصبحت تحتل المرتبة الثامنة عالمية، وهذا ما انعكس على ارتفاع الدخل القومي للدولة وخفض الدين الخارجي الذي عانت منه روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وعلى المستوى السياسي حققت الطاقة تأثيراً وضغطاً عالمياً اتجاه البلدان المستهلكة الرئيسة الاتحاد الأوروبي والصين والهند، ولعبت شركات الطاقة الروسية دورا كبيرا في تحقيق أهداف السياسة الخارجية من خلال تأثيرها في سياسات الدول، وانعكس التوظيف الروسي للطاقة على التطلعات العسكرية فالصناعات العسكرية تطورت بشكل سريع بفضل العائدات المالية التي سخرت لتحديث هذا القطاع.

رابعاً: أثرت المتغيرات الدولية في طبيعة الإستراتيجية الروسية اتجاه الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من أهمية أوكرانيا لكلا الطرفين والصراع الدائر لاحتوائها إلا أن التعاون في مجال الطاقة لم يتأثر إلى حد ما نتيجة للاعتماد المتبادل فيما بينهم، وبقدر احتياج الاتحاد الأوروبي للطاقة الروسية فإن روسيا تعتمد على زيادة الطلب من قبل دول الاتحاد، ومن هنا فإن التوجه الطاقوي الروسي تجاه الاتحاد الأوروبي قد حقق أهداف التعاون بين الطرفين نتيجة للاعتماد المتبادل في ظل الشراكة الإستراتيجية، ونظراً للتطور الكبير في البيئة الاقليمية والدولية وما يعيشه النظام الدولي وأسواق الطاقة العالمية من حالة عدم الاستقرار بسبب الأزمات التي أصبحت سمة العصر، فإن التعاون وتحقيق المصالح بين روسيا والاتحاد الأوروبي هي السمة السائدة في طبيعة العلاقة، وعلى الرغم من معارضة الولايات المتحدة الأمريكية للتقارب الروسي الأوروبي.

خامساً: أوضحت الأزمة الأوكرانية عبر أشواطها الثلاث (2006 و2009 و 2014) كيف أن هذه الدولة هي ميدان التصادم لمصالح روسيا وأوروبا، وتسويتها يعني ربح طرف على حساب طرف آخر وذلك على سبيل المثال للأزمات السياسية، لكن إن : اعتبرنا بأن الغاز الطبيعي هو متغير أساسي في الأزمات التي تقع في المنطقة، فهو في الوقت ذاته أداة لإدارة هذه الأزمات، فكما وجدنا سابقاً فإن هناك عدة أساليب تلجأ إليها روسيا من أجل خلق أزمة ثم إدارتها لتحقيق أهداف معينة، فمثلاً إثارة مشكل تسعيرة الغاز الطبيعي بالنسبة للغاز الروسي الذي تستفيد منه أوكرانيا يهدف أساساً إلى افتعال أزمة، ثم الخروج منها باتفاق الطرفين – الروسي و الأوكراني- على تسعيرة موحدة لكن مع تحقيق مكاسب سياسية كتوطيد العلاقة أكثر مع النظام الأوكراني و إبعاده عن الأحضان الأوروبية. لهذا فالغاز الطبيعي هو أهم الأسباب لوقوع أزمات بين روسيا وأوروبا، في حين قد نجده عاملاً مهماً في إدارة الأزمات.

سادساً: بالمقابل فإن التحليل المغاير يتعلق بأن هذا المتغير هو أيضا عامل للتبعية، سواء بإلصاق صفة التابع على أوروبا، من خلال تبعيتها الطاقوية لروسيا، والذي له أبعاد سياسية وحتى أمنية، أو بوضع روسيا في خانة التابعين لأوروبا، لتأثر اقتصادها بشكل مباشر بتقلبات سوق الطاقة الأوروبية.

لو تم تبني الاحتمال الأول، بمعنى أن دول أوروبا ستعاني على المدى المتوسط والبعيد من تبعية طاقوية قد تهدد أمنها في هذا المجال، فروسيا تعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً من خلال هذه التبعية الطاقوية، بحيث قد تنهك الاقتصاد الأوروبي برفعها لسعر الغاز الطبيعي من فترة الأخرى، وخاصة إن تزأمن هذا والأزمة الاقتصادية، أي وضع الاقتصاد الأوروبي رهينة هذه السياسة الروسية. في حين ستسعى روسيا بتوظيفها للغاز الطبيعي إلى تحقيق مكاسب سياسية في أوراسيا، هذا ما سيضيق الخناق على التحركات الأوروبية من أجل استمالة دول شرق أوروبا إليها، لأن بوتين في أغلب القضايا التي تهم الطرفين يطرح الغاز الطبيعي كمتغير في الملف، وبأن هذا قد يمس بأمن روسيا، لهذا تتعقد تسوية هذه الملفات (كالمسألة الأوكرانية)، ويعطي لروسيا الأفضلية في وضع شروط تناسب تصوراتها ولا تتلاءم مع تصورات أوروبا في حل هذه المسائل الإقليمية.

وفي حال جعل الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الواقع، أي أن روسيا تابعة لأوروبا بسبب أهمية سوق الطاقة الأوروبي بالنسبة لاقتصاد روسيا، فهنا نكون بصدد علاقة عكسية، بحيث أن روسيا ستكون رهينة تقلبات أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا، وهذا راجع إلى سمة الاقتصاد الروسي القائم على عائدات صادراته من مصادر الطاقة وباعتباره اقتصاداً ريعياً، فأي تقلب في أوضاع سوق الطاقة سينعكس مباشرة على وضعية الاقتصاد الروسي، وعليه فالنمو الاقتصادي في هذه الدولة متعلق بدرجة كبيرة بعائدات السوق الطاقوية بأوروبا.

فطلب أوروبا المتزايد على الغاز الطبيعي الروسي إن اعتبرناه بأنه بمثابة علاقة تبعية لصالح روسيا، فهو في الوقت نفسه يخلق علاقة تبعية عكسية، أي أن روسيا سيتعلق وضع اقتصادها أكثر بهذه السوق، لهذا يبدو بأن هناك علاقة تبعية متبادلة في كلا الجانبين، فأوروبا تعمل على ضمان أمنها الطاقوي، وروسيا تسعى إلى تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي.

سابعاً: الغاز الطبيعي كمتغير في العلاقات الروسية الأوروبية هو فاعل مهم في الأزمات الروسية والأوروبية، وعامل للتبعية المتبادلة لكلا الطرفين، و عليه فهو محدد أساسي لطبيعة العلاقات الروسية في الأوروبية و لمستقبلها في ظل التطورات الدولية الراهنة، وهو ما يساعد في استشراف مستقبل العلاقات بين روسيا و أوروبا، فالسيناريو الصراعي، وفق المعطيات الراهنة هو ممكن، لكن ليس ضد الاتحاد الأوروبي، و لكن بين روسيا و إحدى الدول الأوروبية، لأن دخول الكل في صراع، يعني خسارة الكل، لهذا لم نشهد صداماً مباشراً و عنيفاً بين روسيا و الاتحاد الأوروبي رغم تعدد الأزمات و التوترات بين الجانبين، بحيث لم يتلق كل طرف ضربة مباشرة من الطرف الآخر، و هذا لإدراك كل واحد منهما بأن المواجهة المباشرة هي مغامرة غير محسوبة النتائج، فقد يتضرر الكل و على جميع المستويات (بشرياً ومادياً)، و بالتالي إن كانت فعلا هناك مواجهات عسكرية فقد تحدث بين روسيا و دولة أوروبية أغلب الظن لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي – كأوكرانيا مثلاً، فهي دولة أوروبية لكن لم تنضم بعد إلى الاتحاد الأوروبي.

لهذا هناك من يطرح بأن التوجه التوافقي هو الأقرب إلى التجسيد خاصة مع وجود بوادر لهذا التصور، فكما رأينا سابقا كانت هناك عدة مبادرات و أغلبها من الجانب الأوروبي، التي ترمي إلى خلق فضاء أوسع للعلاقات الروسية الأوروبية في مجال الطاقة، خاصة في جانب التأطير القانوني، الهادف إلى وضع خطوط أنابيب الغاز الطبيعي بعيدا عن كل النزاعات و الأزمات التي قد تنشأ بين روسيا ودولة مستهلكة أو دولة تعتبر نقطة عبور لهذه الخطوط، رغم ذلك فهناك دائما عراقيل تحول دون تحقق توافق كبير أو حوار يقلل من حدة التوترات بين الجانبين، فأوروبا تعمل على مذ خطوط الأنابيب الغاز الطبيعي من دون المرور على الأراضي الروسية و بالتالي تعمل على تقييد تسويق الغاز الروسي من جهة و تنويع التزويد بهذه المادة، في حين تعمل روسيا على تنويع أسواقها الطاقوية خاصة بالاتجاه نحو آسيا، كما أن بوتين يحاول جعل منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي كتلة فاعلة في العلاقات الدولية من خلال جعل السياسات الطاقوية للدول المنتمية له أكثر تقارباً، و بالتالي حتما ستكون هناك سياسات مضادة لما تطمح إليه أوروبا في منطقة أوراسيا وفي كيفية تحقيق أمنها الطاقوي، لهذا فالتقارب والحوار الذي قد ينادي به البعض في العلاقات الروسية الأوروبية قد يصطدم بهذه الحسابات الاقتصادية والسياسية، وأهداف كل طرف في المنطقة، بالتالي هناك معوقات تواجه هذه المساعي، فالسياق الإقليمي وحتى الدولي هو من يحدد مسار العلاقة بينهما، أي لكل مرحلة اتجاه محدد للعلاقة، إما صراعي أو توافقي، لهذا هناك من يعتقد بأن منطق الاعتماد المتبادل قد يكون الحل الأكثر فعالية في العلاقات بين الطرفين، لأن كل طرف قد يحتاج الآخر في جانب معين، إما على المستوى الاقتصادي أو على المستوى السياسي.

ثامناً: في الأخير يمكن القول بأن دور متغير الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية الأوروبية خاصة مع وصول بوتين إلى السلطة، أصبح عاملاً مؤثراً في طبيعة هذه العلاقات، فكما رأينا في الفصول الثلاثة لبحثنا، هذا المتغير يحدد مسار العلاقات إما في الاتجاه الصراعي أو في المنحى التوافقي وفقا لمعطيات إقليمية ودولية ومن خلال ما تقدم فإن الدراسة توصلت إلى عدد من الاستنتاجات وهي:

  • أن أمن الطاقة العالمي عامل هام من عوامل نجاح الإستراتيجيات الشاملة للقوى الكبرى لأهميته في تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وعسكرية.
  • ان وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000 أسهم بشكل فاعل في تعاظم الدور العالمي لروسيا الاتحادية، وإن حجم التأثير الروسي في الإستراتيجيات الدولية في زيادة مستمرة، نتيجة للتوظيف الإستراتيجي للطاقة الذي انعكس على تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وعسكرية – أمنية.
  • إن إستراتيجية الطاقة الروسية سارت عير مسارين: المسار الأول هو منع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من استغلال ثروات آسيا الوسطى والقوقاز والوقوف بوجه المشاريع الأمريكية الأوروبية في المنطقة. أما المسار الثاني: جعل دول الاتحاد الأوروبي تنظر إلى روسيا كشريك إستراتيجي في مجال الطاقة لا يمكن الاستغناء عنه.
  • استطاعت روسيا توظيف الازمات بدءاً من الشيشان وجورجيا وصولاً إلى الأزمة السورية والأوكرانية، فروسيا تنظر إلى أن أي تهديد لأمن الطاقة هو تهديد للأمن القومي الروسي، وأن فاعلية الدور الروسي العالمي ارتبط بشكل مباشر بالتوظيف الإستراتيجي لموارد الطاقة التي أصبحت أداة هامة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية.
  • على الرغم من حجم الخلاف بين روسيا والاتحاد الأوروبي حول عدد من المسائل كان أبرزها التوسع في حلف الناتو ونشر الدرع الصاروخي والأزمة السورية والأوكرانية الا ان حجم التعاون والاعتماد المتبادل فيما يخص موارد الطاقة النفط والغاز الطبيعي في زيادة مستمرة.
  • تمتلك روسيا قدرات طاقوية هائلة، خاصة مادة الغاز الطبيعي، ولهذا فهي تعمل على تكثيف عمليات الاستخراج والنقل.
  • عرفت الإستراتيجية الطاقوية الروسية ابتداء من سنة 2000 تركيزاً كبيراً على مادة الغاز الطبيعي، لإدراك النظام الروسي بأن هذه المادة هي الضامن لقوة الاقتصاد الوطني.
  • تفعيل “بوتين” لمتغير الغاز الطبيعي أكثر من المواد الأولية الأخرى كالنفط والفحم، على أساس أن هذه المادة هي حيوية بالنسبة لأوروبا، فهذه الأخيرة تعتبر السوق الأولى للغاز الروسي.
  • الغاز الطبيعي هو سبب الأزمات وفي الوقت ذاته هو آلية لإدارة الأزمات التي قد تقع بين الطرفين، بالتالي هناك توظيف إستراتيجي لهذا العامل، هذا ما نلاحظه في الأزمات الأوكرانية التي أشرنا إليها في بحثنا.
  • الصدام المباشر بين روسيا ودول من الاتحاد الأوروبي، هو احتمال بعيد الوقوع، وهذا لأن كلا الطرفين لهما تصور لنتائج هذا الصدام وانعكاساته على الأمن الإقليمي.
  • أن التبعية هي أيضا ميزة هذه العلاقات، فأوروبا هي تابعة لروسيا في الجانب الطاقوي، وروسيا تابعة لأوروبا من حيث ارتباطها القوي بالسوق الطاقوية بهذه القارة.
  • تتسم العلاقات الروسية الأوروبية بالاعتماد المتبادل في مراحل عديدة، لأن الجانب الروسي يدرك بأن اقتصاده مرهون بعائدات المواد الطاقوية خاصة الغاز الطبيعي، و دول الاتحاد الأوروبي هي أهم الأسواق العالمية له، في حين يرى الطرف الأخر -أوروبا- بأن الغاز الروسي هو مادة حيوية خاصة في الأشهر الأكثر برودة من السنة.
  • تفعيل الحوار الروسي الأوروبي القائم على أساس ضمان مكاسب لكل طرف، هو مسعى صعب التجسيد، كون أن هناك حسابات سياسية تحول دون ذلك، فلو وصل الطرفان إلى نقطة تفاهم، فهذا يعني بأن منطق إدارة الأزمات يصبح أكثر انحساراً، خاصة بالنسبة لروسيا، لأن هذه الأخيرة تضغط باستعمال ملفات لها علاقة بالطاقة، ومن ثمة ترك الوضع غير مستقر يخدم روسيا أكثر من المصالح الأوروبية بالمنطقة.
  • فالعلاقات الروسية الأوروبية ابتداء من سنة 2000، أخذت فيها الطاقة (الغاز الطبيعي) نصيباً كبيراً، وهذا لأن تصور روسيا لا ينحصر فقط في المكاسب الاقتصادية، بل التفكير الجدي في تقوية السياسة الروسية إقليمياً ودولياً من خلال جعل الغاز الطبيعي آلية في حصد مكاسب في المفاوضات، التي هي أصلا مبنية على أساس استرجاع ما ضاع مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بالسيطرة على الدول التي كانت تحت لوائه، وكذا خلق ثقل موازي للاتحاد الأوروبي، ووضع حد للتدخلات الأمريكية في الشؤون الإقليمية.
  • للغاز الطبيعي تأثير بالغ الأهمية في العلاقات الروسية الأوروبية، فهو يمس الجوانب الاقتصادية، السياسية والأمنية لها، ويجعل من الطرفين رهينتين للحسابات الجيوستراتيجية، بالتالي هي علاقة تتسم بالظرفية أي متعلقة بإفرازات ما يحدث على المستوى الإقليمي، فالقول بأنها علاقات صراعية أو توافقية أو أنها قائمة على التبعية أو حتى على الاعتماد المتبادل، هو على أساس تصور كل طرف لحدود مصالحه وكذا موطن التهديد.

الهامش

  *  دبلوماسي أمريكي كان يشغل منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية منذ يوليو 2003، وقبل ذلك كان يشغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية للولايات المتحدة.

[1] ريتشارد هاس، عصير اللا قطبية : ماذا سيعقب الهيئة الأمريكية، ترجمة: فضيلة محجوب، مجلة قراءات استراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة – العدد11، 2008، ص 11

[2] – جمال سند السويدي، آفاق العصر الأمريكي : السيادة والنقود في النظام العالمي الجديد، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2014، ص 357- 373.

[3] مروان إسکندر، الدب ينقلب نمرا: روسيا الولادة الجديدة، مرجع سبق ذكره، 2011، ص 335.

[4] محمد الكوخي، الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب : جذور المسالة ومآلاتها، المركز العربي للأبحاث والدراسات، الدوحة، 2015، ص 99.

[5] ديريك لوتر بیك وجورجي انغلبریخت، الغرب وروسيا في البحر الأبيض المتوسط نحو تنافس متجدد، مصدر سبق ذكره، ص 11

[6] Gaz : le contrat avec la Chine ouvrira à la Russie la voie vers l’Asie (expert), >>: www.fr.ria.ru/business/20140520/201263611.html (21:50 – 21/05/2014).

[7] ص رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية ( مارس 2000 – مارس 2014)، مذكرة مقدمة لنيل الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2014، ص138

[8] Sergey Paltsev, Russia’s natural gas export potential up to 2050, Environmental Policy Research Mit Center for Energy. Cambridge, July 2011, P.27.

[9] arine Sigot, Energy Security and the EU: between independency priorities, strategic vulnerabilities and sustainability needs, Master Thesis, Stockholm University, 2013.p 24.

[10] سايمون هندرسون، “اتفاق الغاز البحري بين روسيا وسوريا يضيف علمجديدة في محادثات السلام”

www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/russia-syria-offshore-gas-deal-injects-new-factor-intopeace-talks (22:15 – 21/05/2014).

[11] ياسر عبد الحسين، منطقة الفراغ في العلاقات الدولية : الرهان الأمريكي الروسي في عالم متغير، مركز بلادي للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بغداد، 2016، ص119۔

*  هو مختصر للحروف الأولى باللغة اللاتينية BRICS المكونة الأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم وهي البرازيل، وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا،، إذ تضمنت الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية، وعقدت أول لقاء على المستوى الأعلى لزعماء دول بركس في تموز عام 2008، وذلك في جزيرة هوكايدو اليابانية اذ اجتمعت آنذاك قصة الثمانية الكبرى، للمزيد ينظر : https : / / ar . wikipedia . org

[12] باسكال ريغو، البريكس البرازيل روسيا الهند الصين جنوب أفريقيا، ترجمة : طوني سعادة . مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2015، ص133

[13] محمد الكوخي، الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب: جذور المسالة ومآلاتها، المركز العربي للأبحاث والدراسات، الدوحة، 2015، 173.

[14] زيغنو برجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى، مصدر سبق ذكره، ص 199.

[15] لطفي السيد الشيخ، الصراع الأمريكي الروسي في آسيا الوسطى، دار الأحمدي للنشر،  القاهرة، 2006،ص 58-59.

[16] سامي إبراهيم، حقيقة الصراع في سوريا، متوفر على الرابط

[17] ديفيد باقر، إشعال الصراع : حرب النفط والغاز في سوريا و مرکز کارنبغي الدراسة سياسات الشرق الأدنى متوفر على الرابط

[18] ياسر عبد الحسين، منطقة الفراغ في العلاقات الدولية، الرهان الأمريكي الروسي في عالم متغير، مصدر سبق ذكره، ص165

[19] ناتاليا غریب، إمبراطور الغاز، ترجمة: عمار قط، مكتبة مدبولي، القاهرة،2011، ص138

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close