الإخوان المسلمون والدولة في مصر
ملخص
مثّل الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، وما تلاه من أحداث دموية أهمها فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة ذروة الصدام بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهو الصدام الذي امتد لنحو سبع عقود بوتيرة متباينة.
تبحث هذه الورقة في الأسباب الأيديولوجية لهذه العلاقة المضطربة بين جماعة الإخوان المسلمين والدولة المصرية، ما بعد عهد الجمهورية على وجه الخصوص، ولماذا اعتبرت الأخيرة هذه الجماعة خصما يجب أن تخوض ضده معركة صفرية، في حين اتسمت رؤية الجماعة وموقفها إزاء الدولة المصرية بالتناقض وعدم الوضوح، وإن غلب عليها الرؤية الإصلاحية التي تعترف بشرعية هذه الدولة، والعمل عبر المسارات الدستورية والقانونية ما أمكن.
عبر تاريخ الجمهورية في مصر والممتد لسبعة عقود، كانت العلاقة الملتبسة بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين إحدى العوامل الهامة المؤثرة في طبيعة النظام السياسي المصري وتطوره، إذ خيم التوتر على هذه العلاقة تقريبا طوال هذه المدة باستثناءات بسيطة، هذا التوتر الذي وصل إلى مداه في عدة “محنٍ” متوالية،[1] كان آخرها الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، والذي أطاح بالرئيس محمد مرسي، وما تلاه من أحداث دموية أهمها فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة، أعلنت بعدها الجماعة تنظيما إرهابيا، وتم حل حزبها: حزب الحرية والعدالة، ورافق ذلك استهداف قادتها وأعضائها ومناصريها بالاعتقال والمحاكمات، بل والقتل خارج القانون في أحيانٍ عدة، كما تم استهداف شركاتها وجمعياتها الخيرية ومؤسساتها الخدمية والتعليمية، علاوة على الممتلكات الشخصية للعديد من القيادات بالتصفية والمصادرة.[2]
هذه العلاقة المتوترة بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين هي نتيجة لتداخل عدة عوامل، بعضها فكري، وبعضها سياساتي؛ بعضها محليّ مرتبط بتاريخ الصراع وغياب الثقة بين الطرفين، وبعضها مرتبط بعلاقاتهما مع أطراف إقليمية ودولية متنازعة. لكن هذه الورقة تكتفي بالبحث في جانب من الأسس الأيديولوجية لهذا التوتر، والمتمثل في رؤية كل طرف منهما للآخر، وما هي العوامل التي شكلت هذه الرؤية، لتختتم في النهاية بمناقشة أثر هذه العلاقة المتوترة على مستقبل التحول الديمقراطي في مصر، واحتمالية حدوث تحول قريب في هذه الرؤى.
رؤية الدولة المصرية لجماعة الإخوان المسلمين
غنيٌّ عن القول إن رؤية الدولة المصرية لجماعة الإخوان المسلمين اتسمت بالسلبية خلال الأغلب الأعم من تاريخها، إذ أنه منذ بدء الجمهورية في مصر بعد حركة الضباط الأحرار عام 1952، تراوحت سياسة الدولة إزاء جماعة الإخوان المسلمين بين الإقصاء التام من المجال السياسي كما حدث في الحقبة الناصرية، وهو ما صحبه حظر الجماعة قانونيا، وتأميم ممتلكاتها، واعتقال ومحاكمة قياداتها وناشطيها، أو الاحتواء الجزئي/الإقصاء الجزئي خلال فترتي حكم الرئيسين أنور السادات ومحمد حسني مبارك، والتي اتسمت بالقبول بنشاط غير رسمي للجماعة، والسماح بتواجد ملحوظ لها في المجالين السياسي والدعوي، مع استهدافها بالقمع والتضييق بشكل متكرر لتحجيم قدراتها، والضغط السياسي عليها باستمرار، ثم بعد فترة قصيرة من الاحتواء الرسمي خلال المرحلية الانتقالية التي تلت ثورة يناير 2011، تمت العودة إلى سياسة الإقصاء التام منذ العام 2013.
لكن – لكي يكون التحليل أكثر وضوحا – يجب أولا تحديد المقصود بمصطلح “الدولة” في هذا السياق إذ تتعدد تعريفات هذا المصطلح الإشكالي بشكل كبير، وللتبسيط يمكن اعتبار الدولة أنها “مجموعة من المؤسسات والممارسات التي تجمع بين السلطات الإدارية والقضائية وسلطات وضع القواعد والسلطات القسرية”،[3]لكن، بالنظر إلى طبيعة الجمهورية التي تأسست في مصر في أعقاب حركة الضباط الأحرار عام 1952، فإن الدولة المصرية يمكن تعريفها كـ “دولة بريتوريةPraetorian State “، أي الدولة “التي أصبح فيها الجيش جزءًا من الدولة البيروقراطية وقوة جوهرية في خلق الطبقة الوسطى”،[4] أو أنها دولة يحكمها وأحيانا “يسودها ولا يحكمها” العسكريون.[5] وبالتالي، فإنه في الحالة المصرية، تخضع المؤسسات والممارسات التي تشكّل الدولة للهيمنة المباشرة أو غير المباشرة للمؤسسة العسكرية.
وهذه الدولة، كما وصفها نزيه الأيوبي، تعد “دولة مفترِسة”، بمعنى أنها “على درجة من التضاد مع المجتمع بحيث إنها لا تستطيع أن تتعامل معه إلا من خلال القسر واستخدام القوة السافرة، ومن هنا جاءت تسميات: الدولة البوليسية، والدولة الأمنية، ودولة المخابرات”.[6] لذلك فإن الصدام بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين يمكن تصويره على أنه صدام بين بيروقراطية الدولة على رأسها القوات المسلحة التي تعد أكثر مؤسسات هذه البيروقراطية تنظيماً في مواجهة المجتمع وعلى رأسه القوى المجتمعية الأكثر تنظيماً – وهي جماعة الإخوان – بهدف الإخضاع أو التفكيك.[7]
وقد أوضح ديريك هوبوود أنه في مصر ما بعد الاستقلال، يمكن تمييز ثلاثة أنواع رئيسية من التعبيرات المجتمعية للإسلام في المجال العام: الإسلام الرسمي الذي تمثله مؤسسة الأزهر والمؤسسات العُلمائية، والإسلام الشعبي المتجذر في المجتمع بسمات صوفية مهيمنة، والإسلام السياسي الذي تتبناه وتدعو له جماعة الإخوان المسلمين، والذي يعد أكثر جذرية وشمولية. لذلك، كانت إستراتيجية الدولة منذ عبد الناصر هي العمل بشكل منهجي للسيطرة على النمطين الأولين مع السعي الحثيث للتخلص من الثالث.[8]
ومن هذا المنظور، يمكن أن نتوقع لماذا كانت المؤسسة العسكرية خلال الفترة الانتقالية قلقة للغاية بشأن الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن الاستقلال المتزايد لمشيخة الأزهر. ففي لقاء استضافه المجلس العسكري في يونيو 2011، يروي الدكتور خالد أبو الفضل كيف خاطب بعض القيادات العسكرية الأكاديميين والمثقفين الحاضرين: “أنتم لا تعرفون مدى خطورة منطقتنا … أنتم لا تفهمون المخاطر التي تشكلها الجماعات الإسلامية المتشددة … أنتم لا تفهمون المخاطر التي يشكلها الأزهر المستقل”.[9]
هذه الطبيعة الاستبدادية والاحتكارية للدولة المصرية هو ما يفسر لماذا ظلت جماعة الإخوان المسلمين طوال العقود السبع للجمهورية في مصر ملفا أمنيا، وليس سياسيا، حتى إنه في فترة الاحتواء القصيرة (مارس 2011 – يوليو 2013) التي تلت ثورة يناير، والتي منحت خلالها الجماعة وحزبها الصفة القانونية، وسمح لها للمرة الأولى منذ تأسيسها بأن تتولى مناصبا تنفيذية عليا، كان ذلك تفسيره – وفق إحدى القيادات الأمنية – أنه تكتيكٌ اضطراري لجأ إليه المجلس العسكري للقوات المسلحة من أجل ضبط “فوضى الثورة”، كما تجري العادة عند حدوث اضطرابات أمنية مشابهة![10]
هل للإخوان المسلمين رؤية واضحة إزاء الدولة المصرية؟
في مقابل الرؤية الإقصائية الواضحة للدولة المصرية إزاء جماعة الإخوان المسلمين، يمكن الزعم أن رؤية الإخوان المسلمين إزاء الدولة المصرية خلال هذه العقود السبع كانت غير متماسكة، إذ تراوحت هذه الرؤية بين المزاج المحافظ الذي يلتزم بالأطر القانونية، ويعترف بشرعية المنظومة القائمة، ويقتصر برنامجه على إدخال بعض الإصلاحات على سياسات هذه الدولة سواء فيما يتعلق بنظام الحكم، أو السياسات الاقتصادية، أو العلاقات الدولية، وبين المزاج الراديكالي، الذي يقدم نفسه كبديل للنظام القائم، ويسعى إلى تحقيق تغييرات جذرية على مستوى طبيعة الدولة، ووظائفها، وفلسفة الحكم ذاتها، ناهيك عن سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وعلاقاتها الدولية. صحيحٌ أنه قد غلب على الجماعة في معظم الأوقات المزاج الأول، إلا أنه نتيجة عدم حسم خياراتها الإستراتيجية ظلت مقولاتها الأيديولوجية متضاربة بين الوطنية والنزعة العابرة للقطرية؛ والالتزام بالإصلاح عبر الأطر القانونية أو السعي للتغيير “فوق الدستوري”؛ وبين احترام المنظومة الدولية، والتمرد عليها؛ والأهم، بين الإصلاح المتدرج الجزئي والتغيير الشامل الجذري.أهم
تمثل الإشكالية الأولى في رؤية الإخوان المسلمين للدولة المصرية الإشكالية التقليدية المتعلقة بمدى اعتراف الإخوان المسلمين بشرعية هذه الدولة في ظل تبنيهم إعادة “دولة الخلافة” كغاية نهائية. فمنذ كتابات حسن البنا الأولى التي أوضح فيها قبوله بالفكرة الوطنية والقومية، أعاد البنا تعريف هذه القيم والمفاهيم بصيغة تتوافق مع أولوية الولاء للهوية الإسلامية، فهو يجعل هذه الانتماءات جزءا من هذه الهوية وليست بديلا عنها، فالعقيدة – كما يقول البنا – هي التي ترسم حدود الوطن والوطنية وليست التخوم الأرضية أو الحدود الجغرافية، وأن العقيدة الإسلامية تعتبر الأرض كلها وطنا واحدا.[11] وهذه الرؤية – بطبيعة الحال – لا تتوافق مع الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، والتي تسعى – وفق المنظور العلماني – لتعظيم الهوية القطرية والقومية، على حساب الهويات الدينية والمذهبية، وتسعى لإخضاع السياسي لما هو ديني، وليس العكس.
من جهة أخرى، فإن الإخوان المسلمين عبر عدد من الوثائق التي أصدروها خلال العقود المتتالية، آخرها – على سبيل المثال – مبادرة المرشد العام حول المبادئ العامة للإصلاح في مصر الصادرة عام 2004،[12] وبرنامج حزب الحرية والعدالة المعلن عام 2011،[13] أكدوا على التزامهم بالعمل في إطار الدولة المصرية، ووفق قواعدها. لكن، وللمفارقة، فإن اللوائح الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين، كاللائحة العالمية للإخوان المسلمين الصادرة عام 1994، أظهرت أن البعد الأممي مازال ماثلا في إستراتيجيات عمل الجماعة، فالمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر هو المرشد العام لمكتب الإرشاد العالمي ولمجلس الشورى العام العالمي، الذي يتم تكوينه من الأقطار المختلفة، كما تتحدث هذه اللائحة عن الإخوان في الأقطار كافة كوحدة واحدة، وأن المرشد العام له أن يدعو المراقب العام لأي من الأقطار الأخرى للاجتماع وقتما اقتضت الحاجة.[14]
هذا البعد الأممي المتجاوز للقطرية يتضح بشكل جلي كذلك في المادة التي تضمنها برنامج حزب الحرية والعدالة والتي تنص على أن:
“الأمن القومي المصري يبدأ دائما في محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي، ولا يبدأ عند حدودها فقط. ونرى كذلك أن الوحدة العربية والإسلامية من شروط الأمن القومي، ومن أهم الأدوار الريادية التاريخية لمصر، ويجب السعي إليها بطريقة مدروسة متدرجة وفقا للإرادة الحرة للشعوب.”[15]
هذه المادة تؤشر على أن القبول بالأطر الوطنية للدولة المصرية من قبل الجماعة هو قبول مؤقت، ومرحلي، وأن الهدف الإستراتيجي لها كان – ولازال – إقامة “أممية إسلامية”، وإن ربطت ذلك بضرورات الأمن القومي المصري! وبالإرادة الحرة للشعوب، وهو ما يتعارض بشكل واضح مع منطق الدولة المصرية، ومع مصالح حلفائها سواء في الإقليم أو الحكومات الغربية.
المشكلة الثانية هي المتعلقة إستراتيجية التغيير التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين، وتكمن المشكلة في أن الجماعة تتبنى رؤى تغييرية جذرية وشاملة، وفي نفس الوقت تتعهد بتحقيقها بالوسائل المتدرجة والدستورية، وذلك في ظل نظام قمعي وغير ديمقراطي، وفي ظل سياق إقليمي ودولي غير مُواتٍ! هذه الشروط الثلاث يبدو الجمع بينها غير منطقي، فمشاريع التغيير الجذرية التي تصطدم بواقع سياسي قمعي، لا توجد فيه مساحات للعمل السياسي والاجتماعي السلميين سيكون مصيرها إما الإجهاض أو التحول الراديكالي إلى الوسائل العنيفة. وهذا التناقض هو ما أشار إليه المستشار طارق البشري في تعقيبه على فكر الإمام البنا قائلا: “لم يحسم أبداً في دعوته ما إذا كان يقصد الإصلاح أم الثورة، وإذا كانت الثورة فتنة فكيف يمكن إجراء التغيرات الجذرية في الحكم؟”[16]
هذا التردد نلحظه بشكل واضح في كتابات البنا، مثل قوله في رسالة المؤتمر الخامس:
“وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح.”[17]
لكنه، في ذات الموضع، يشير إلى احتمالية أن يقوم الإخوان المسلمون أنفسهم بالعمل الثوري، إذ يقول:
“إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.”[18]
هذه الرؤية غير المحددة كان لها أثرها في ارتباك رؤية الإخوان المسلمين للدولة المصرية، فالجماعة لم تحدد موقفا واضحا من هذا المركّب البيروقراطي العسكري المجسد للدولة المصرية إذا ما كانت تستهدف تفكيكه، وهو ما يستلزم عملا ثوريا، ومواجهة عنيفة، أم تسعى للتعايش معه، في إطار صيغة من التفاهم المتبادل، والعمل الإصلاحي التدريجي، ربما في انتظار فرصة ما تسنح للسيطرة عليه. ومن ثم، اتسمت بنية الجماعة وإستراتيجياتها بخليط من الرؤيتين؛ فمن جهة، احتفظت الجماعة – في الأغلب الأعم من الأحيان – بسمات التنظيم السري، الذي لا يكترث بالشرعية القانونية، بل ولا يحبذ العمل في ظلها (إذ يعتبرها قيدا عليه)، ويعتمد نظام التجنيد في ضم أعضائه الجدد، ويقوم على تنشئتهم بتلقين أيديولوجي منضبط، وجندية وفق بيعة خاصة، ويحتفظ بسرية اللوائح الداخلية المنظِّمة لأنشطته، ويعطى صفات قدم الانتماء والثقة في الولاء أولوية على الكفاءة في الاختيار للمناصب.[19]
لكن، وعلى الجانب الآخر، فإن هذا التنظيم بتلك السمات والذي من المفترض أن يسعى لتحقيق مشروعه عن طريق التغيير العنيف المفاجئ (ثوري أو انقلابي)، كان – للمفارقة – يتبع إستراتيجيات إصلاحية سواء بالعمل الاجتماعي، أو النشاط شبه الحزبي، متوقِّعا أن يتمكن بتراكم هذه الجهود من إحداث تغيرات جذرية في بنية الدولة المصرية، وأن تسمح له النخبة العسكرية المهيمنة وحلفاؤها الإقليميون والدوليون أن ينجز برنامجه الإصلاحي هذا دون مقاومة!
خاتمة
حاولت هذه الورقة بشكل موجز أن تناقش إشكالية العلاقة بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، وأوضحت أن جزءا من المشكلة يتمثل في الرؤى السلبية والمتناقضة التي يحملها كل طرف للآخر، إذ نتيجةً للطبيعة السلطوية للدولة المصرية، وهيمنة النخبة العسكرية على إدارتها، ومنطقها الإخضاعي في التعامل مع المجتمع وقواه الفاعلة، والوصائي على المجال الديني وتعبيراته المجتمعية، كان موقف الدولة المصرية من جماعة الإخوان المسلمين عبر تاريخها سلبيا وإقصائيا بدرجات متباينة.
على الجانب الآخر، اتسمت رؤية الجماعة للدولة المصرية بشيء من الغموض والتناقض، خصوصا في رؤيتها للانتماء الوطني في مقابل النزعة العابرة للقطرية، والإيمان بفكرة الأممية الإسلامية، وكذلك في إستراتيجيتها في التعامل مع هذه الدولة، بين النزعة الإصلاحية المحافظة، والتوجه الراديكالي.
هذه العلاقة المتوترة قد تأثرت سلبا بالعامل الخارجي الإقليمي والدولي، وهو ما اتضح – على سبيل المثال – خلال الإعداد لانقلاب 2013 وما تلاه، إذ كانت المؤسسة العسكرية تتصرف كفاعل مستقل عن المؤسسات المنتخبة، أي الرئيس والبرلمان، وهما المؤسستان اللتان كانت تهمين عليهما جماعة الإخوان المسلمين، وكانت لها اتصالاتها المباشرة مع قوى إقليمية ودولية لضمان دعمها، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، علاوة على الدعم الضمني من الأردن والكويت وإسرائيل وإدارة أوباما. وهي القوى التي رأت أنه في صعود الإخوان المسلمين في مصر تهديدا لشرعيتها ولاستقرارها السياسي ولمصالحها الإستراتيجية في الإقليم.[20]
كما تجدر الإشارة كذلك إلى عامل آخر، وهو عامل الثقافة المؤسسية، إذ ترجع “سارة تونسي” الخلافات التي جعلت جماعة الإخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية في مصر خصمين عبر تاريخ البلاد إلى أوجه التشابه في طبيعة المؤسستين، مثل التسلسل الهرمي، وثقافة الجندية والطاعة، والسرية، والغيرية، ونحوها.[21]
هذه السمات تركت أثرها على مقاربة كلا المؤسستين للسياسة، وعلى سلوكهما السياسي بما حفّز تحول الخلافات بين الطرفين إلى صراع إقصائي.
وبالمحصلة، يبدو أن إمكانية حدوث تطور إيجابي في رؤية الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين لبعضهما البعض مرتبط بتحولات جذرية، سواء على مستوى طبيعة الدولة المصرية، أهمها تراجع الهيمنة العسكرية على الدولة ومقدراتها، وبناء شرعية سياسية مستقرة، قائمة على الدستورية والمشروعية الانتخابية، بما يعزز من استقلالية القرار الوطني، ويحجم مساحة التدخل الخارجي، وبتحولات على مستوى الجماعة كذلك، سواء بإعادة هيكليتها، والتزامها بالمؤسسية والشفافية والانفتاح، وبحسمها لخياراتها الإستراتيجية فيما يتعلق بوظائفها وطبيعة التغيير الذي تسعى له وآلياته، وهي التحولات التي لا تبدو احتمالية حدوثها قريبة في المدى المنظور.
الهامش
[1] Victor J Willi, The Fourth Ordeal: A History of the Muslim Brotherhood in Egypt, 1968–2018 (Cambridge; New York, Cambridge University Press: 2021), 7-9.
[2] عباس قباري، “أموال الإخوان المسلمين بين التحفظ والاستيلاء”، المعهد المصري للدراسات، فبراير 2021، ص:1.
[3] Roger Owen, State, Power and Politics in the Making of the Modern Middle East (London; New York: Routledge, 2004), 1.
[4] Amos Perlmutter, Egypt: The Praetorian State (New Brunswick; New Jersey: Transactions Book, 1974), 4.
[5] Steven A. Cook, Ruling But Not Governing: The Military and Political Development in Egypt, Algeria, and Turkey (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 2007)
[6] نزيه الأيوبي، ترجمة أمجد حسين، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص: 881.
[7] Omar Ashour, “Collusion to Crackdown: Islamist-Military Relations in Egypt”, Brookings Doha Center Analysis Paper 14 (2015): 1
[8] Derek Hopwood, Egypt: Politics and Society 1945-1990 (New York: Routledge, 1993), 95.
[9] Khaled Abou El Fadl, “Failure of a Revolution: The Military, Secular Intelligentsia and Religion in Egypt’s Pseudo-Secular State” in Routledge Handbook of the Arab Spring: Rethinking Democratization, ed. Larbi Sadiki, 260-261 (Oxon; New York: Routledge, 2015).
[10] Alison Pargeter, Return to the Shadows: The Muslim Brotherhood and An-Nahda Since the Arab Spring (London: Saqi Books, 2016): 25.
[11] إبراهيم البيومي غانم، الفكر السياسي للإمام حسن البنا، مدارات للأبحاث، القاهرة، 2013، ص: 273-274.
[12] حول المبادئ العامة للإصلاح في مصر https://bit.ly/33XGNtJ (تم التصفح في 26 يناير 2022)
[13] برنامج حزب الحرية والعدالة https://bit.ly/34jp2VS (تم التصفح في 26 يناير 2022).
[14] سمير عبد العزيز الوسيمي، “الحوكمة الإدارية في جماعة الإخوان المسلمين في مصر”، مجموعة التحفيز السياسي، https://bit.ly/3u3F015 (تم التصفح في 26 يناير 2022).
[15] برنامج حزب الحرية والعدالة https://bit.ly/34jp2VS (تم التصفح في 26 يناير 2022).
[16] سامح نجيب، الإخوان المسلمين: رؤية اشتراكية، مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، 2006، ص: 21.
[17] رسالة المؤتمر الخامس https://bit.ly/3GcwDm1 (تم التصفح في 27 يناير 2022).
[18] المصدر السابق.
[19] راجع: عبد الله النفيسي، الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، مكتبة آفاق، الكويت، 2013، ص: 162-168.
[20] Azzam Tamimi, “From Democracy to Military Dictatorship: Egypt 2013 = Chile 1973”, Insight Turkey 16 (1), 2014: 45.
[21] إطلاق كتاب: الجيش المصري والإخوان المسلمين، تأليف سارة تونسي، الرابط (تم تصفحه 24 يناير 2022)