دراساتمجتمع

الإلحاد والملحدون في مصر (1): الجذور والتحولات

مقدمة:

في عام 1972م نشر كولين كامبل، المحاضر بجامعة يورك، كتابًا بعنوان (نحو سوسيولوجيا اللادينية)، ووصفه بأنه “أول دراسة جادة لظاهرة نبذ الدين الاجتماعية”، وذكر فيه أن علماء الاجتماع “تجاهلوا اللادينية تمامًا”[1]. ورغم الحيوية الشديد لدراسة كامبل ونجاعتها في تقديم حقل أكاديمي جديد للباحثين إلا أنها مثلت حالة متأخرة جدًا لدراسة اللادينية في المجتمعات الغربية حيث أن الإلحاد قد سبق الدراسة منذ حوالي قرنين من الزمان.

وبالقياس إلى السياق المصري فإننا نجد أن قضية الإلحاد قد صارت من القضايا التي رسخت وجودها في النسيج الاجتماعي المصري مؤخرًا وتجاوزت كل المحاولات لتجنبها أو غض الطرف عنها. استطاعت ظاهرة الإلحاد فرض نفسها على مختلف الساحات الإعلامية والسياسية والدينية، وأصبح من النادر أن يكون ثمة شاب مصري لم يسمع عن ملحد هنا أو هناك، من دوائره الاجتماعية المقربة، حتى تمادى البعض إلى القول بأن “كل بيت مصري موجود فيه ملحد مستخبي”[2]، وهو تصريح خطابي غير حقيقي بالطبع لكنه يوضح الانتشار الأفقي للظاهرة ومدى تغلغلها وسط الشباب المصري.

وفي هذا السياق الجديد لم تظهر دراسات تتناول ظاهرة الإلحاد في مصر تاريخيًا وميدانيًا، وحتى الدراسة التي أجرتها مؤسسة Friedrich Ebert Stiftung عام 2016م لاستطلاع رأي أكثر من 9,000 شاب في العديد من الدول العربية بعد الانقلابات التي شهدها الربيع العربي، وهي الدراسة الأضخم في موضوعها حسب اطلاعنا، فإن الدراسة لم تتناول قضية الإلحاد لا في مصر ولا في غيرها من الدول من قريب أو من بعيد مما نعده سلبية كبيرة في ثنايا الدراسة المذكورة[3].

كما ذكرت دراسة موقع الباروميتر العربي بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، المعدة بين أكتوبر 2018م وأبريل 2019م، أن عدد من يصفون أنفسهم بـ”غير متدين” في مصر ارتفع من 3% عام 2013م إلى 10% عام 2019م، لكن دون أن تحدد الدراسة هل هؤلاء كانوا مؤمنين اعتقادًا وغير متدينين سلوكًا، أم أنهم قد تخلوا عن إيمانهم بالكلية ليصبحوا لادينيين[4] أو ملحدين[5].

ونظرًا لغياب التحليل الموضوعي لظاهرة الإلحاد في مصر أصبح الإلحاد بمثابة عدو يهاجمه خصمه الأعمى بدون أن يحدد الخصم موقع العدو وطبيعته، ومثل ذلك ما قاله أبو حامد الغزالي: “إن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه هو رميٌ في عماية”[6]. ونتيجة ذلك هي أن غالب الخطابات الإعلامية والدينية -الرسمية وغير الرسمية- صُدمت بقدر التهديد الذي تمثله هذه الظاهرة تجاه الخطابات الدينية في المجمل، فجاءت ردود الفعل ضد الظاهرة عنيفة وتتسم بالتهور والتسرع تحت تأثير رد الفعل الانفعالي بلا دراسة موضوعية أو قراءة متأنية للحالة الإلحادية تفصل بين الأصول والفروع، وبين الأمراض والأعراض، وبين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. بل أننا لاحظنا أن ثمة تكرار في آليات مواجهة الظاهرة يصل إلى حد التطابق دون ابتكار أية وسائل جديدة تناسب التحولات التي تصيب الظاهرة مرحلة بعد مرحلة.

تواجه هذه الدراسة إذن تحديًا جادًا وهو عدم وجود سابقة لدراسة ظاهرة اللادينية في مصر، ومع غياب المعلومات والوثائق والمصادر الموثقة، بالإضافة إلى صعوبة التصريح بالإلحاد في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، يكون البحث إذن أكثر صعوبة وتصبح الأسئلة البحثية أكثر إشكالًا.

تدور الدراسة، سوى الفصل الأول منها الذي يتناول تاريخ الإلحاد في مصر ما قبل عام 2000م، حول محور ما يسمى بحركة الإلحاد الجديد، وتقتفي الدراسة آثار هذه الحركة في مصر وأهم الدعاة إليها ومدى تأثيرهم في المشهد المصري. وحركة الإلحاد الجديد New Athesim هي حركة جماهيرية غربية معاصرة تدعو إلى الإلحاد وتتسم بقدر كبير من الحماسة والوثوقية ويمكن تأريخها بداية من نشر سام هاريس لكتابه (نهاية الإيمان) في 2004م، والذي تلاه بعد ذلك كتاب دانيال دانيت (كسر التعويذة: الدين كظاهرة اجتماعية) وكتاب ريتشارد دوكنز (وهم الإله)، كما أتبعهما سام هاريس بكتابه (رسالة إلى الأمة المسيحية) وكلهم صدروا في 2006م، ثم ختمهم كريستوفر هيتشنز في 2007م بكتابه (الله ليس كبيرًا: كيف يسمم الدين كل شيء).

أسس هؤلاء (الذين صاروا يُعرفون لاحقاً بالفرسان الأربعة Four Musketeers) ما صار يعرف بظاهرة (الإلحاد الجديد) أو (ميليشيا الإلحاد Militant Atheism) وفقاً لبعض الأدبيات الأكاديمية، وكان أول من سك مصطلح (الإلحاد الجديد) هو الصحفي جيري وولف في مقالته “كنيسة غير المؤمنين” المنشورة عام 2006م، وقصد وولف بهذا المصطلح أن حركة الإلحاد التي يقصدها تمثل نسقاً محددًا من الأفكار التي تتسم بمجموعة من الصفات التي تميزها عن الأنماط السابقة للإلحاد في التاريخ الإنساني.

في هذا السياق يرى الباحث عبدالله العجيري أن الإلحاد الجديد يتميز بثلاثة خصائص رئيسية: أولها هو الحرص الشديد على الدعوة للإلحاد عبر استخدام مخنلف المنابر ووسائل التواصل المتاحة، بالإضافة إلى عدائيته المركزية ضد الدين الإسلامي على وجه الخصوص ومحاربته للإسلام بكل الأدوات الممكنة، كما أنه يعمل بشكل مستمر على شيطنة الدين في مقابل تصوير العلم في صورة ملائكية تعد البشر بالخلاص من سموم الأديان والتمتع في جنان الحضارة[7].

من رحم هذه الحركة الناشئة وُلدت ظاهرة الإلحاد في مصر وتصاعد خطابها وبرز مجموعة من الرموز لهذه الحركة عبر عدة مراحل، ومن ثم فإن هذه الدراسة تحاول سبر أغوار ظاهرة الإلحاد في مصر هاته وفهمها وتحليلها كظاهرة اجتماعية متصلة بحركة الإلحاد الجديد.

وينبغي أن نشير إلى أننا خلال بحثنا نعرّف الظاهرة الاجتماعية كما عرّفها عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم، بأنها “كل ضرب من السلوك ثابتًا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعًا من القهر الخارجي على الأفراد وتفرض نفسها عليه .. أو كل سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي تتشكل بها الحالات الفردية”[8].

تبدأ الدراسة في الفصل الأول باستعراض تاريخ الإلحاد والملحدين في مصر في القرن العشرين، حيث بدأت حركة الإلحاد بمجموعة من الحالات الفردية الخاصة في فترة ما قبل الستينات، ثم حدث التحول الكبير حينما تولى الشيوعيون توجيه الرأي العام المصري في الستينات فصارت حركة الإلحاد أقرب ما تكون بالظاهرة الاجتماعية على الأقل في فئة الانتلجنسيا أي النخبة المثقفة والمفكرين والطلاب الجامعيين، ثم انحسرت موجة الإلحاد في أواخر السبعينات حتى نهاية الألفية لتعود مرة أخرى إلى الحالات الفردية الضيقة.

ثم نتناول في الفصل الثاني ظاهرة المدونات Blogs التي انتشرت في مصر مع دخول الألفية الجديدة، ما بين 2004-2010م، حيث نرصد بدايات اشتباك بعض الشباب المصريين مع حركة الإلحاد الجديد في الغرب وتبنيهم للمرتكزات الفكرية لتلك الحركة، ونشرهم لها بداخل النسيج الاجتماعي المصري، حسب ما توفر من معلومات ووثائق.

وفي الفصل الثالث تهتم الدراسة برصد تطور ظاهرة الإلحاد في مصر بتطور هامش الحرية مع حالة الانفتاح وتمدد الآفاق السياسية والمساحات المتاحة للحركة بعد ثورة 25 يناير إلى نهاية عام 2013م، واستكشاف طبيعة ودور وسائل التواصل الاجتماعي في اتصال الملحدين والدعوة إلى مذهبهم، بالإضافة إلى ما سببته هذه الفترة من توليد لنزعة للتمرد عند كثير من الشباب الذين ألحدوا لاحقاً، مع رصد أهم الشخصيات التي أعلنت إلحادها وساهمت في نشره عبر منابر وسائل التواصل الاجتماعي أو الفضائيات المصرية المختلفة ممن تبنوا خطابًا مشابهًا لخطاب الإلحاد الجديد.

وأخيرًا نركز في الفصل الرابع والأخير على فترة ما أسميناه إلحاد ما بعد رابعة 2014-2020م، وهي الفترة التي اجتمعت فيها جملة من العوامل الغير مسبوقة في المجتمع المصري، الأمر الذي أدى إلى نمو ظاهرة الإلحاد في مصر بشكل صاروخي غير معهود في العالمين العربي والإسلامي على الإطلاق، مع تحليل دوافع الإلحاد الرئيسية في هذه الحقبة.

كما اعتمدنا في الفصلين الثالث والرابع على أكثر من عشرين مقابلة ميدانية مع عدد من الملحدين واللاأدريين في الفضاء المصري تعزز ما جمعناه من بيانات وتكمل ما استنقص من الصورة لرسم حقيقة المشهد الإلحادي الحالي في مصر.

وفي ختام هذه المقدمة نؤكد مرة أخرى أن هذه الدراسة، عدا الفصل الأول التاريخي، تتناول ظاهرة الإلحاد في المجتمع المصري من حيث هي امتداد لحركة الإلحاد الجديد، أي أننا سنركز على الخطابات والشبكات الإلحادية المصرية التي تشتبك مع مفردات ومرتكزات حركة الإلحاد الجديد فحسب، بما أن هذه الحركة تمثل في تقديرنا التيار الرئيسي Mainstream للإلحاد في مصر والعالم، ومن ثم فإن الشبكات الاجتماعية الإلحادية التي لا تتوافق مع هذه الحركة ليست محل موضوع البحث، مثل الشبكات الماركسية أو الشبكات اللاكتراثية/ اللاأدرية. ولا يعني هذا عدم أهمية هذه الشبكات أو عدم تأثيرها في المشهد المحلي المصري، وإنما نعني أنها غير متعلقة بموضوع البحث لا أكثر.

لا تزعم هذه الدراسة تغطية المشهد اللاديني في مصر برمته وإنما هي دراسة تقدم المادة الأولية وتفتح الطريق لمزيد من التحليل والاستكشاف لظاهرة اللادينية عمومًا والإلحاد خصوصًا في مصر عبر عدة مقاربات، وتحاول الدراسة تقديم نبذة عن شبكة العلاقات الاجتماعية التي تجمع الملحدين في “شلل”، التي نؤمن أنه مازال هناك الكثير أمام الباحثين والناشطين لاستكشاف طبيعة هذه الشبكات والعقد المؤثرة فيها بالمال والنفوذ والتوجيه والأفكار والدعم.

الفصل الأول: الإلحاد في مصر في القرن العشرين

المبحث الأول: إسماعيل أدهم

في عام 1936 ألقى الأديب المصري أحمد زكي أبو شادي محاضرة لأعضاء ندوة الثقافة بالقاهرة بعنوان (عقيدة الألوهية: مذهبي)، نالت المحاضرة قدرًا كبيرًا من الإعجاب والانتشار وتلقاها الكاتب إسماعيل أدهم وعلى الفور قام بردّ جريء وفريد من نوعه في مصر والعالم الإسلامي بأسره، فقد قام أدهم بكتابة مقال ينقد فيه هذه المحاضرة بعنوان (لماذا أنا ملحد). أعلن أدهم في هذه الرسالة إلحاده وكان أول مصري –وربما عربي- يعلن إلحاده بهذه الصراحة في القرن العشرين بل وينظّر لإلحاده وينافح عنه ويدعو الناس إلى اعتناقه. تحول مقال أدهم لاحقاً إلى كتاب مطبوع يُباع عبر منافذ مختلفة دون دار نشر محددة.

وُلد أدهم عام 1911م بالإسكندرية لأب مسلم “متعصب” وأم مسيحية “ذات ميل لحرية الفكر والتعبير”، وكتب مقاله المشهور عام 1937م الذي تم نشره فيما بعد على هيئة كتيب مستقل. حكى أدهم في رسالته هاته ظروفه الأسرية المأساوية التي دفعت به إلى التأرجح بين الإسلام وبين المسيحية، فخلال سنوات طفولته كان أدهم يتلقى تعليمًا إسلاميًا ثم يذهب مع أهله إلى الكنيسة في الوقت ذاته، وفي أحيان أخرى كان يُلقن الترانيم المسيحية ثم يذهب إلى الصلاة في المسجد في نفس اليوم. وبسبب هذه الازدواجية الدينية نشأ أدهم على حيرة وتيه شديدين لم يجعلا للاستقرار مكانًا في قلبه فاختار في نهاية المطاف “أن يخرج عن الأديان، وأن يتخلى عن كل المعتقدات، وأن يؤمن بالعلم وحده، وبالمنطق العلمي فقط”.

وجد أدهم إذن في نجم العلم التجريبي الصاعد في أوروبا ضالته المنشودة واعتبره طريق الخلاص من شكه وحيرته، لذا فقد كان متحمسًا بشدة في الدعوة إلى الإلحاد كما يتضح في كتابه الممتلئ بالنظريات العلمية، كما يذكر على سبيل المثال: “فإن قانون الصدفة الشامل أعتبره أكبر ضربة للذين يؤمنون بوجود الله”[9].

ومنذ أول يوم لنشر رسالته بدأت الردود تتوالى على رسالة أدهم، كان من أبرزها رد أحمد أبو شادي نفسه برسالة عنوانها (لماذا أنا مؤمن؟)، كما رد عليه الكاتب محمد فريد وجدي برسالة أخرى عنوانها (لماذا هو ملحد؟). نالت هاتان الرسالتان احتفاءً من قبل المتدينين، لكن الرد الأقوى والاحتفاء المكثف جاء فيما كتبه الشيخ مصطفى صبري -آخر من تولى منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية- في كتابه الضخم (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) الذي طُبع في أربعة مجلدات، ولم يفرد صفحات الكتاب كله للرد على أدهم فقط بل كان الرد شاملًا تجاه التيار الحداثي والتنويري المصري برمته.

لم تتوالَ الردود على إلحاد أدهم بسبب حساسية الموضوع فقط في الساحة المصرية حينذاك بل لشهرة أدهم الأدبية كذلك، فقد كان أدهم كاتبًا جيدًا بالفعل مشهودًا له بالذكاء والنباهة من قبل العديد من الأدباء والمفكرين[10]، ونشر مقالاته في العديد من المجلات مثل (المقتطف) و(الرسالة) و(الإمام)، وقد جمع أحمد الهواري مؤلفات أدهم الثلاثين بالإضافة إلى مقالاته المتفرقة فوصلت إلى ثلاثة مجلدات كبيرة، كما دارت بين أدهم وبين بعض الأدباء سجالات أدبية ساخنة في مواضيع أدبية وفكرية مختلفة.

لكن ثمة جانب مظلم من حياة أدهم قلما يتطرق إليه الباحثون والمتابعون، فقد ادّعى أدهم أنه حصل على شهادة دكتوراه من روسيا، كما زعم أنه كان صديقًا لعدة مستشرقين وأكاديميين ألمان وروس، بالإضافة إلى تأليفه للعديد من الكتب باللغتين الروسية والتركية. صارت هذه السيرة الكتابية مشهورة عن أدهم ولا يزال يتم الترويج لها بواسطة بعض المثقفين والكتّاب إلى يومنا هذا، كما فعل الكاتب بلال فضل –مثلًا- في حلقته ببرنامج (عصير الكتب) مع الناقد شعبان يوسف عام 2011م[11].

لكن مصطفى صبري ذكر في معرض رده على أدهم أن أدهم كان ضعيف الدراية باللغة التركية، وبعكس ما يزعم أدهم من مكثه في تركيا لمدة أربع سنوات ثم رحيله بعدهم إلى روسيا لمدة ثلاث سنوات أخرى[12]، فإن صبري يؤكد أن أدهم لم يلبث في تركيا إلا ستة أشهر فقط ثم عاد بعدهم إلى مصر ولم يمرّ على روسيا أصلًا، ورغم ذلك فإن صبري يتعجب من الاحتفاء الشديد الذي قوبل به أدهم، وذكر أن أدهم فور عودته إلى مصر “استغله ملاحدة مصر وجعلوا منه فيلسوفًا في أحدث الطرازات حامل الشهادات من روسيا وألمانيا، واستقبلته الصحافة المصرية بفضل إلحاده كأحد النوابغ المفكرين .. [مع أنه] ليس يمكنه في مدة وجوده القصيرة في تركيا إلا أن يلقى فيها بعض ملاحدة الروس أو الألمان وربما الترك أيضًا”[13].

لم يكن مصطفى صبري هو الوحيد الذي شك في قدرات إسماعيل أدهم وفي الشهادات التي ادعى أنه حصل عليها، فقد قام بعض الباحثين بتتبع كل ما نسبه إسماعيل أدهم إلى نفسه، واستنتجوا أنه محض كذب وتلفيق ليس له أي أساس من الحقيقة، ومن ضمن هؤلاء الذين تفحصوا تاريخ أدهم: الصحفي البريطاني براين ويتاكر، الذي أوضح في كتابه (عرب بلا رب Arabs Without God) سبب كذب أدهم وادعائه الزائف بحصوله على الشهادات الجامعية ومنح التفوق، فذكر ويتاكر أن إسماعيل أدهم “خاف ألا تؤخذ أعماله على محمل الجد دون مؤهلات جامعية عالية، فجمع قائمة متخيلة من المؤهلات المثيرة للإعجاب، كما ادعى أيضًا أنه كتب سيرة ذاتية للنبيّ صلى الله عليه وسلم باللغة الألمانية، وثلاثة مجلدات في التاريخ الإسلامي باللغة التركية، ومجلدين في الرياضيات والفيزياء باللغتين الألمانية والروسية، وثلاثة مجلداتٍّ عن النظرية النسبية أيضًا باللغتين الألمانية والروسية، ثم اتضح لاحقًا زيف كل هذه الادعاءات”[14].

ويتفق المستشرق جاوتييه يونبول G.H.A. Juynboll مع ويتاكر حيث نشر يونبول في مجلة الأدب العربي Journal of Arabic Literature بحثًا ذكر فيه أن الخلفية الأكاديمية لإسماعيل أدهم “كانت مزورة بالكامل”، وبدأ يونبول مقدمة بحثه قائلًا: “لقد كانت المزاعم التي نسبها أدهم إلى نفسه في أول 25 سنة من حياته بعيدة جدًا عن الواقع لدرجة أنها يمكن وصفها بأحلام كاذب مريض لا هدف له في الحياة سوى صنع سمعة لنفسه لم يكن يستطيع أن يصنعها بالوسائل التقليدية”[15].

لم يكن لأدهم رسائل أخرى دافع فيها عن الإلحاد أو رد فيها على خصومه، وظل مستمرًا في كتابته الأدبية فقط، زاعمًا بأنه مستريح إلى إلحاده ومطمئن بمعتقده، كما أوضح ذلك في رسالته قائلًا: “أنا ملحد، ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه، فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه .. وما أعظمَ ما كانت عليه دهشتي وعَجَبي أّنّني وجدت نفسي أسعدَ حالاً وأكثر اطمئناناً من حالتي حين كنت أغالبُ النفسَ للاحتفاظ بعقيدتي”[16].

لكن المفارقة هي أن أدهم وُجد في عام 1940م، أي بعد ثلاث سنوات فقط من كتابته لرسالته، غريقاً وجثته تطفو على مياه شاطئ جليم بالإسكندرية، ولم يكن قد أكمل حينئذٍ ثلاثين عامًا بعد، وبعدما تم استخراج جثته وُجد في جيب معطفه رسالة بخط يده تقول أنه انتحر وهو في ريعان شبابه بسبب كرهه للحياة وعبثيتها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقابر المسلمين ويطلب إحراقها[17]. ويرى يونبول أن الدافع الرئيسي لانتحار أدهم هو “خوفه من اكتشاف الناس لاحتياله، وهي الفكرة التي كانت تمثل كابوسًا بالنسبة له”[18].

المبحث الثاني: إسماعيل مظهر

بينما ركز أدهم في خطابه على تثبيت دعائم الإلحاد بالأدلة العلمية وامتلأ كتابه بالنظريات الفيزيائية والافتراضات الرياضية، فإنه على ناحية مقابلة ظهرت على الساحة المصرية حركة أخرى تدعو إلى الإلحاد نقلت الجدال الإلحادي من ساحة العلم إلى عالم الأدب، ففي عام 1927م تم إصدار مجلة “العصور” التي رأس تحريرها إسماعيل مظهر لتدعو إلى التنوير وتحرير العقل من الجمود والتبعية، وقد وصف إسماعيل أدهم هذه المجلة بأنها كانت “تمثل حركة معتدلة في نشر حرية الفكر والتفكير والدعوة للإلحاد”[19].

اعتمدت المجلة على الشعر التشكيكي والناقد للأديان في دعوتها للإلحاد، وكان من ضمن الشعراء الملاحدة الذين كانوا ينشرون في المجلة: عبد اللطيف ثابت الذي كان يشكك في الأديان في شعره، والشاعر جميل صدقي الزهاوي الذي كان يعد “عميد الشعراء المشككين في عصره”[20]، وقد وصفه إسماعيل أدهم قائلًا: “كان الزهاوي حتى العشرين ورعًا يؤمن بالدين، غير أنه كان يكمن في نفسه الشك منذ صغره، وتقطعت أوصال عقليته التقليدية تحت محراث العلم والثقافة الغربية فآمن بالعلم وحده”[21].

لم تكن دعوة المجلة إلى الإلحاد صريحة، بل كانت تلتحف برداء التنوير والعقل وحرية الفكر، فبجانب الأشعار المشككة في الأديان، فإنها كانت تترجم -بشكل مستمر- مقالات الفلاسفة الغربيين حول تعارض الدين والعلم وحول نظرية النشوء والارتقاء (التطور)، وكان رئيس تحريرها إسماعيل مظهر الذي كان يُتهم دومًا بالإلحاد قبل أن يصبح مدافعًا عن الإسلام في أواخر عمره[22]. وقد وصف الباحث الألماني يورجن فازلا Jürgen Wasella إسماعيل مظهر قائلًا: “كان إسماعيل مظهر في ذلك الوقت [أي وقت رئاسته لتحرير المجلة] مشهورًا كممثل للفلسفة الوضعية وكمترجم لمؤلفات تشارلز دارون”[23].

واجهة العدد الأول من مجلة (العصور) الصادر في يناير 1928م التي رأس تحريرها إسماعيل مظهر، ويُكتب في غلافها: “حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة، حتى لا تجد صعوبة في رفض رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك وسكن إليه عقلك، إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه”.

استمرت المجلة في الصدور لمدة ثلاث سنوات، ثم توقف صدورها عام 1930م[24]. وجدير بالذكر أنه في عام 1999م تم إصدار مجلة “العصور الجديدة” التي قال رئيس تحريرها مهدي مصطفى أنه سماها كذلك استلهامًا من مجلة العصور القديمة لإسماعيل مظهر، لتحقيق نفس الأهداف بنفس المضمون[25].

وبعدما تم إغلاق مجلة (العصور) اتجه إسماعيل مظهر إلى جريدة (الكتلة) وإلى مجلة (المقتطف) ليستمر في دعوته “التنويرية”. وقام مظهر بنشر العديد من المقالات التي تؤيد فكر الملحد السعودي عبدالله القصيمي وكان مما قاله فيها: “إنني أتحزب لهذا الكاتب لأنني أرى فيه موقفاً فكريًا قويًا ومتينًا”[26]، وهو الأمر الذي أثار الأستاذ سيد قطب لكتابة مقاله (من مفارقات التفكير: الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال) والذي هاجم فيه مظهر هجومًا شديدًا بسبب تأييده لأفكار القصيمي الإلحادية[27].

وعلى هامش الحديث عن ساحة الأدب، يزعم بعض الملاحدة أن مسرحية (الإيمان)، المستمدة من النسخة المترجمة لرواية الأديب الفرنسي إيوجين بريو التي تحمل نفس الاسم، والتي شارك الممثل جورج أبيض أفندي في التمثيل فيها عام 1914م، قد دعت ضمنيًا إلى الإلحاد[28]، إلا أنها كانت عكس ذلك تمامًا حيث كانت الفكرة المركزية للرواية هي فطرية الإيمان بالله عند كل البشر في جميع الأزمنة، وإيمان الإنسان منذ القدم بوجود قوة كبرى تسيطر على حياته وتدبر أمره وقدرتها فوق كل إرادة ومشيئتها نافذة[29].

المبحث الثالث: عبدالله القصيمي

يمثل عبدالله القصيمي حالة غريبة في تاريخ ظاهرة الإلحاد في العالم العربي سواء قديمًا أو حديثًا تستحق الوقوف عندها وتأملها بعناية. وُلد القصيمي عام 1907م في نجد بالمملكة السعودية في ظروف أسرية قاسية، وانفصل أبواه وهو في الرابعة من عمره فتولى جده رعايته فلم يستطع الإنفاق عليه، فما لبث إلا أن تركه يعمل على هواه في سوق المواشي وفي الزراعة، ثم ارتحل القصيمي بحثاً عن والده وتعرض لظروف معيشية قارسة أثناء رحلته، وبعدما وجد أباه وهو في العاشرة من عمره لم يتلق الحنان الذي انتظره وإنما كان كل ما لاقاه هو القسوة والغلظة والمعاملة الجافة، وبسبب هذه النشأة الصعبة كان القصيمي يحتقر بيئته وظروفه الأسرية ويكره ذكرهما دائمًا بازدراء وتقبيح شديدين في كتبه[30].

لم يتلق القصيمي تعليمًا منهجيًا منذ صغره سوى بعض سور القرآن والأحاديث النبوية والقراءة والكتابة، لكن مع وفاة والده عام 1922م وهب نفسه كاملًا للدراسة بتركيز غير عادي “كتعويض عن التجارب المريرة التي مر بها في حياته السابقة”[31]. بدأ القصيمي رحلة طلب العلم الشرعي على يد مجموعة من المشايخ في نجد والشارقة والعراق وسوريا والهند، ثم التحق بالدراسة بالأزهر عام 1927م.

توقع القصيمي تعليمًا منهجيًا صارمًا في الأزهر ولكنه فوجئ بالمستوى الضعيف للمشايخ هناك بالإضافة إلى انتشار التصوف بين أروقته وهو الأمر الذي يرى السلفيون النجديون أنه مخالفة حادة لروح التوحيد الإسلامي. وتوالت صدمات القصيمي الواحدة تلو الأخرى حتى قرر إعلان مواقفه بالإصلاح والتغيير والرد على بعض مشايخه فسرعان ما تم فصله من الأزهر عام 1931م على إثر تأليفه لكتاب (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية) ردًا على مقالة الشيخ الأزهري يوسف الدجوي المعنونة بـ (التوسل وجهلة الوهابيين).

مضى القصيمي بعد فصله من الأزهر-وطوال النصف الأول من حياته- سلفيًا محضًا يؤلف الكتب التي تنافح عن الدعوة الوهابية مثل (شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام) و (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) و (الصراع بين الإسلام والوثنية)، كما أنه أصدر في عام 1936م كتابه (الثورة الوهابية) للدعوة إلى تأييد الدولة السعودية الفتية جنبًا إلى جنب مع تحسين صورة الشيخ محمد عبد الوهاب أمام الرأي العام المصري[32].

لم يكن القصيمي في ذلك الوقت شيخاً عاديًا، بل ظهر فيه علامات النبوغ والتفوق والاجتهاد في التحصيل، حتى تنبأ له الكثيرون بمستقبل ربما لو كان حققه لكان بمنزلة العالم السعودي الشهير ابن باز، فقد وصلت شعبية القصيمي في الأوساط الإسلامية -وهو في ذلك العمر الصغير- إلى الحد الذي دفع الشيخ محمد رشيد رضا إلى الوقوف بجانبه خلال مراجعته لكتاب (البروق النجدية)، حيث ذكر رضا أن القصيمي “اكتسح العلماء بمعرفته الواسعة وأخجلهم، هذه المعركة التي خاضها القصيمي مع علماء الأزهر أكسبته شعبية واسعة في أوساط حركات التجديد الإسلامية”[33]. وبلغت سعة القصيمي العلمية وثقة الرأي السلفي العام فيه إلى الحد الذي جعل الشيخ أبو إسحق الحويني يصفه قائلًا: “أننا كنا نعده ابن تيمية العصر”[34].

وفي خضم بروز نجم القصيمي كمنافح عن السلفية ومجدد للتيار الوهابي، تحولت عقلية القصيمي فجأة بدون مقدمات وصارت كتاباته تكشف عن عقلية متشككة وناقدة للموروثات وتحاول التفلت من الثوابت الإسلامية والالتفاف حول النصوص الشرعية. وعند التحقيق فإننا نجد هذا التحول لم يحدث بين عشية وضحاها وإنما كان نتاج رحلة طويلة من الشك خاضها القصيمي قرر بعدها أن يخرج هذه الشكوك إلى النور، كما يحكي الأستاذ عبدالله بن يابس، وهو أحد أصحاب القصيمي في سفره ودراسته، قائلًا: “كان القصيمي منذ أكثر من خمسة عشر عامًا تقريبًا يجادل في البدهيات الدينية، حتى اشتهر بكثرة جدله في العلوم الضرورية .. وكان يجادلني في الله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكنت أجيء لزيارتهم فأجده يقرأ في صحيح مسلم مع بعض الإخوة، فترجع نفسي قائلة: لعلها وساوس لديه وليست عقائد”[35].

يمكننا إذن أن نعتبر هذه المرحلة من حياة القصيمي مرحلة وسيطة بين مرحلة الإيمان ومرحلة الإلحاد، ولم تقف الشكوك عند حد الوساوس الشخصية الداخلية فحسب، بل أصدر القصيمي أولى كتبه التي أعلن فيها هذا الفكر الشكّي الجديد ألا وهو كتاب (كيف ذل المسلمون) الذي صدر عام 1940م ثم نشر كتابه الأشهر (هذه هي الأغلال) الذي صُدر عام 1946م والذي اقترب فيه من المواقف العلمانية وتحول من نقد خصوم الإسلام إلى نقد الإسلام نفسه. ورغم أن القصيمي حاول التمسك ببعض الثوابت الدينية السلفية بل وأهدى الكتاب إلى ملك السعودية حينذاك عبد العزيز آل سعود، الذي كان يصرف راتبًا شهريًا ثابتًا للقصيمي حتى وفاته، إلا أن هذا لم يمنع مشايخ السعودية في ذلك الوقت بوصفه رغم ذلك بالمتمرد على السلفية نظرًا للمخالفات الشرعية الضخمة التي امتلأ بها الكتاب.

أحدث كتاب (هذه هي الأغلال) ضجة هائلة في الأوساط العامة، وصدرت عشرات المقالات والكتب في الرد عليه، كان من أشرها رد الشيخ عبدالرحمن السعدي، المفسر السعودي ذائع الصيت، في كتابه: (تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله). كما رد عليه الأستاذ سيد قطب في مجموعة من المقالات ذكر فيها أن كتاب القصيمي الأشهر (هذه هي الأغلال) يتعلق فيه القصيمي “بالتافه من خرافات العوام، ومن الأضاليل الخرافية التي حاربها الزمن في البيئة الإسلامية وانتهى من حربها منذ حمسين عامًا أو تزيد، تمامًا كما يطعن (دون كيشوت) في الهواء يحسب طواحين الهواء فرسانًا”[36].

لم يلتفت القصيمي إلى الردود ولم يهتم كثيرًا بالانشغال بمعارك التكفير والتفسيق، بل على النقيض تمامًا فقد مدّ القصيمي خط شكوكه على استقامته، فبدأ منذ أواخر الأربعينات بإظهار إلحاده بصورة صريحة في مجالسه الخاصة، ويذكر عبدالله بن يابس، صديق القصيمي ورفيقه، أن القصيمي “استشرى في مجالسه في هذه المرحلة بالطعن على الله وعلى دينه، وللأستاذ سيد قطب الفضل الأكبر في فضح الرجل وبيان انحرافه”[37]. ثم أعلن القصيمي إلحاده جليًا في سائر ما كتبه لاحقًا.

ظل القصيمي مصرحًا بإلحاده إلى دوائره الخاصة فحسب دون كتابة ذلك في كتاب خاص، وفي عام 1954م قررت السلطة المصرية نفي القصيمي من مصر بسبب تحريضه لطلاب البعثة اليمنية المجاورين لمنزله في حلوان على الثورة ضد نظام الإمامة اليمني، فخرج منها إلى لبنان عام 1954م وهناك بدأ دعوته الإلحادية للجماهير حيث نشر عدة كتب مثل (الكون يحاكم الإله) و(أيها العار إن المجد لك) و(كيف ضل المسلمون)، وأحدث حركة فكرية كبيرة في الوسط الثقافي اللبناني، لكنه عاد إلى مصر بشكل نهائي مرة أخرى عام 1956 بعد حادثة اغتيال مدبرة من السلطة اللبنانية لإبعاده عن بيروت، وكانت الحكومة المصرية قد ألغت أمر إبعاده من مصر، بتوصية من العاهل السعودي حتى يتم إسكاته عن طريق احتوائه تحت رقابة النظام المصري[38].

وبعد عودته إلى القاهرة انسحب القصيمي من الساحة الثقافية اللبنانية تدريجيًا، واستمر بعد ذلك في تأليف الكتب التي تهاجم الإسلام هجومًا صريحًا مثل (العالم ليس عقلًا) عام 1963م، والذي لم يلق سوى صدى ضعيف جدًا في الأوساط الثقفافية اللبنانية[39]، وكتاب (هذا الكون ما ضميره) عام 1966م، و(كبرياء التاريخ في مأزق) في ذات العام، ثم تلتهم (فرعون يكتب سفر الخروج) و(الإنسان يعصي، لهذا يصنع الحضارة) و(يا كل العالم لماذا أتيت؟)، لكن جميع هذه الكتب ظلت في مساحة التساؤلات التائهة دون أن تحدث أي ضجة إعلامية أو شعبية حتى وفاته.

وعلى قدر الردود الكثيرة التي كُتبت في الرد على كتاب (هذه هي الأغلال)، إلا أن الكتب التالية للقصيمي لم يكن لها ذات الصدى على الساحة المصرية وفي فترة الستينات والسبعينات، حيث أنه انسحب تمامًا من الحياة العامة وتفادي الرأي العام السياسي والأدبي في الوطن الذي يقيم فيه، حتى لا يلقى مشاكل في حياته الخاصة[40]. أي أننا يمكننا القول إنه منذ 1960م فصاعدًا فقد مات القصيمي أدبيًا وفكريًا في مصر.

عاش القصيمي بعد ذلك منغلقاً على دوائره الخاصة حتى توفي بأحد مستشفيات القاهرة عام 1996م، وعقب وفاته أصدرت مجلة (إبداع) الصادرة من الهيئة العامة للكتاب ملفاً عن القصيمي تضمن 3 مقالات عنه، كان أولها للكاتب سيد القمني بعنوان (عبدالله القصيمي صوت صارخ في البرية)، كتب فيه احتفاءً شديدًا بالقصيمي وأفكاره[41]، وجدير بالذكر أن هذا هو التوجه الإلحادي الذي استمر القمني عليه منذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذه السطور، كما سنرى في الفصل الثالث من البحث، لا سيما وأن سيد القمني قد أقر في إحدى لقاءته بأنه قد حضر بضعة جلسات خاصة مع عبدالله القصيمي بالفعل قبل وفاته[42].

يمكن القول إن كتابات القصيمي كانت متبعثرة مثلما كانت أفكاره وشخصيته، فقد اتصفت أفكاره التي بثها في ثنايا كتبه بالعشوائية والاضطراب، وغاب عنها أي خيط ناظم يجمع شتاتها، وقد وصف الشاعر السوري أدونيس عقلية القصيمي قائلًا: “عبد الله القصيمي لا تستطيع أن تمسك به، فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئاً، يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدًا”[43].

كما اتصف القصيمي بالنرجسية المبالغ فيها، والتقدير الشديد لذاته ولأفكاره، ومن ذلك ما رواه الشيخ عبد العزيز بن بشر أن القصيمي عندما قرأ ديوان المتنبي كتب على طريقته:

كفى أحمدًا أني نظرت كتابه *** لأن يدعي أن الإله مخاطبه

ولو شـامني أني قـرأت كتابه *** لقال إلـه الكون إني خالقه

كما أثنى على نفسه ذات مرة قائلًا:

ولو أن ما عندي من العلم والفضل *** يقسـم في الآفاق أغنى عن الرسل[44]

ونحن نرجح أن هذه النزعة النرجسية الواضحة جنبًا إلى جنب مع نزعة التشكيك التي صاحبت القصيمي، بالإضافة إلى حالة الانهزام الحضاري التي يبثها في جميع كتبه، هي ما دفعت القصيمي إلى الإلحاد، رغم أن بعض الناقدين له يقولون أنه في تلك الفترة عمل لصالح جهات أجنبية، لكنها دعوى لم نجد عليها دليلًا.

كما أثيرت حوله عدة آراء حول تراجعه عن أفكاره الإلحادية في آخر عمره، وهو ما لم نستطع التأكد منه كذلك سوى من صديقه المقرب إبراهيم عبدالرحمن الذي قال إن القصيمي “في أواخر أيام حياته وبعد اشتداد المرض عليه، لم يكن يتحدث مع أحد وظل يقرأ القرآن حتى لفظ أنفاسه الأخيرة”[45].

المبحث الرابع: الإلحاد الماركسي في عهد عبد الناصر

يتسم الإلحاد عند الماركسيين في مصر بمعضلة متكررة عند الماركسيين في العالم العربي وربما في العالم الإسلامي بأسره، فمن ناحية يؤمن هؤلاء الماركسيون العرب بالفلسفة المادية والرؤية الكونية القائمة على أساس أن المادة تسبق الوجود وبأن المادة هي التفسير الوحيد الشامل لكل شيء، ومن ناحية أخرى يعيش هؤلاء الماركسيين في مجتمعات مسلمة محافظة تعتبر الدين وتراثه وأركان إيمانه من المقدسات التي لا ينبغي أن تمس.

وعليه فإن مسألة الإلحاد كانت من المحرمات التي تصادم مقدسات الشعب المصري، وهو ما يؤكده الباحث علي دسوقي في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ (أصول الفكر الاشتراكي في مصر) حيث ذكر فيها أن الاشتراكيين في مصر منذ تبنيهم لأفكار ماركس لم يكونوا يعلنون إلحادهم على الملأ، خوفاً من رد الفعل السلبي والهجومي تجاههم[46].

وحكى دسوقي مثلًا عن موقف شخصي له مع اليساري المصري مصطفى حسين المنصوري، صاحب كتاب (تاريخ المذاهب الاشتراكية) الصادر عام 1915م، قائلًا في مقابلة شخصية معه إن المنصوري “كان ملحدًا منكرًا للدين وللبعث بعد الموت، وقد أخبرني أنه كان أحياناً يصلي تحت ضغط من زوجته، ولكنه يترك الصلاة في منتصفها وهو يسخر من عبثيتها”[47]. ورغم ذلك، لم يجرؤ المنصوري على إعلان إلحاده أمام الجماهير أو وسائل الإعلام، وظل إلحاده خفيًا أمام نفسه فقط طوال حياته.

كان هذا ديدن كثير من الماركسيين في مصر تلك الفترة: اعتقاد الإلحاد سرًا واعتناق الماركسية علنًا مخافةً من غضب الجماهير، وهو الأمر الذي يؤكده الصحفي محمد الباز قائلًا: “إن الماركسيين في عهد عبد الناصر لم يكونوا يعلنون معتقداتهم على نحو صريح لانشغالهم بفكرة العمل الجماهيري، وبالتالي فإنهم كانوا ينحون جانب الدين حتى لا ينفّروا من يستهدفونهم للتجنيد في التنظميات التي كانت سرية في وقتها”[48].

في هذا السياق، وعلى الصعيد السلطوي، لم يكن عبد الناصر عدوًا للإسلام من حيث هو دين وإنما كان عدوًا للإسلام من حيث هو برنامج إصلاح أو أيدولوجيا سياسية، لذلك سعى إلى السيطرة على المجال الديني في مصر واحتكار أي خطاب ديني داخل الدولة كما عمل على التخلص من خصومه الدينيين ومن كل حيز ديني خارج عن إطار نظامه، وقام أيضًا بتجريف التيار الإسلامي وتجفيف منابع التدين وتأميم الأزهر ومصادرة الأوقاف وإلغاء المحاكم الشرعية، واستدعى الدين لخدمة مواقفه السياسية ودعم توجهاته اليسارية وتكريس صورة الزعيم الملهم أمام الجماهير، وصار عبد الناصر هو الشخص الوحيد المتحكم في المجال الديني في مصر برمته.

وفي المقابل، بدأ عبد الناصر في ضم الشيوعيين إلى المراكز العليا في الدولة إرضاءً لهم بعد سلسلة من الخلافات بينه وبينهم بعد إعدام العاملين خميس وبقري عام 1952م، وبعد توجيه ضربة أمنية لهم بعد أزمة مارس 1954م، أفرج عبد الناصر عنهم وبدأوا في التقارب معه بسبب إبرامه لصفقة الأسلحة التشيكية مع السوفيت 1955م وتأميمه لقناة السويس عام 1955م، وبعد إعلان الوحدة مع سوريا عام 1958م، وانتهى المشهد إلى مصالحة ثم وفاق ثم اندماج مع الشيوعيين حتى أصبح الشيوعيون هم الأداة المحركة الحقيقية للمشهد السياسي في مصر منذ الستينات وحتى وفاة عبد الناصر عام 1970م[49].

يروي الضابط بالمخابرات العامة إبراهيم البغدادي، أن عبد الناصر قام بتعيين الشيوعيين في مراكز مرموقة في الصحف والإذاعة بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتي تعويضًا لهم عن تهميشهم وقمعهم في أوائل فترة حكم عبد الناصر، وقد بلغ نفوذ الشيوعيين في مصر إلى درجة أن صار لهم “اليد العليا في توجيه الرأي العام المصري”. كما يذكر الصحفي محسن محمد أنه “بعد افتتاح السد العالي انتشر الشيوعيون في مصر خصوصًا في جهاز الإعلام بصورة غير مألوفة”[50].

زعيم السوفيت نيكيتا خروتشوف مع جمال عبد الناصر أثناء افتتاح السد العالي عام 1964م، الزيارة التي سبقتها وتلتها مجموعة من الاتفاقات فيما يخص ملف الشيوعيين في مصر.

مهد الشيوعيون إذن، لا سيما مع سيطرتهم على المنابر الثقافية والإعلامية في مصر، الطريق أمام الملحدين للإعلان عن إلحادهم وسط صفوف الشعب، ومع بداية الستينات صار الإعلان عن الإلحاد أمرًا عاديًا لا خطورة فيه بعدما تشرب الشعب العقائد والأفكار المادية أو على الأقل صار متصالحًا معها، كما توضح مُراسلة أسوشيتد بريس ضياء حديد: “في الستينيات والسبعينيات، كانت السيادة السياسية في صالح اليسار العلماني. لذا، لم يمثل الإعلان عن الكفر بوجود الله واللاأدرية مشكلة”[51].

في هذا السياق يروي لي إبراهيم، وهو أحد القيادات الطلابية التي عايشت فترة الستينات والسبعينات في الجامعات المصرية، شهادته عن الإلحاد في صفوف الحركة الطلابية في ذلك الوقت فيقول: “عندما كنت في جامعة المنيا، لم يكن هناك وجود لمسجد بالكلية التي أدرس فيها، ولم يكن هناك سوى طالبة واحدة محجبة فقط في الجامعة كلها تنالها سهام السخرية من كافة الطلبة الشيوعيين، وعندما بدأت شخصيًا في العمل الجامعي الإسلامي، كان الطلاب الماركسيون دائمًا ما يلمزونني ويقولون لي عبارات من شاكلة: (يبقى خدنا تحت جناحك في الجنة يا شيخ)، وأحياناً كانت تبلغ بهم الوقاحة إلى أن يقولوا لنا: (لو ربنا بتاعكم موجود خليه يشل إيدي) في قلب ساحة الجامعة”[52].

ويعزز هذه الشهادة شهادة أخرى من محمود، وهو أحد الإسلاميين الذين عايشوا فترة عبد الناصر أيضًا، فيروي لنا تجربته عندما كان طالبًا جامعيًا قائلًا: “كنت في جامعة القاهرة أجد دائمًا مشهدًا متكررًا: بعض الطلاب الماركسيين يجمعون الطلاب ثم يقفون على مكان عالٍ في وسط الجامعة وعندما يلمح بصرهم أحد الطلاب الإسلاميين يبدأون فورًا في سب الذات الإلهية بأعلى صوتهم والسخرية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم طوال حركته في الجامعة يعلن استحقاره للدين الإسلامي ويهاجمه هجومًا عنيفاً بكافة الشتائم والسباب القذرة، كل هذا بدون أن يحرك الطلاب أي ساكن تجاهه، فقد كان من المعتاد أن يتكرر هذا الأمر بصورة شبه يومية”.

ويستكمل محمود: “ولم تتوقف هذه الفئة من الطلاب عن إعلان إلحادهم بصورة صريحة ولم يكن أحدٌ يردعهم ولا يستطيع أن يردعهم، حتى صعدت الجماعة الإسلامية الطلابية في منتصف السبعينات وقويت شوكتها وازداد مناصروها وأعضاؤها، فاشتعلت المعارك بينها وبين الطلاب الماركسيين، إلى أن استطاعت الجماعة الإسلامية السيطرة على أوساط المجتمع الطلابي خصوصًا في صعيد مصر، وتوقفت ظاهرة الإلحاد في الجامعات منذئذٍ في أواخر السبعينات”[53].

اللافت ما يُروى أن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر نفسه كانت تطاله بعض الاتهامات بكونه ملحدًا لا يؤمن بالله ولا بالإسلام، وتأتي شهادة الكاتب أنيس منصور على رأس هذه الاتهامات حيث يحكي موقفاً حدث له مع عبد الناصر أثناء فريضة الحج فيقول: “كنت أطوف بالكعبة مع عبد الناصر، وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي زار فيها جمال عبد الناصر الكعبة المشرفة، سنة 1954، ولم يكررها ثانية، وفجأة إلتفت إلي عبد الناصر وقال لي ” إيه الهبل اللى بنعمله هنا ده يا أنيس!”.

ويستدرك أنيس: “والله على ما أقول شهيد: فقد كنا نقف في ملابس الإحرام حول الكعبة، رئيس مجلس أمة سابق ورئيس وزراء سابق وأمير مكة ومذيع سابق، عندما تقدمنا الوزير المحافظ عضو مجلس الشورى حمدي عاشور ووضع ذراعه العارية على الكعبة يوم غسيلها قائلاً: ورب هذا البيت لقد سمعت الرئيس عبد الناصر يصف الحج بأنه كلام فارغ، وسمعت أحد مستشاريه يقول ذلك أيضًا، ثم رفض المستشار أن يُكمل الطواف حول الكعبة”[54].

ويعزز اللواء طه زكي، مدير مكتب الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وأحد أبرز الأشخاص في المطبخ الرئاسي طوال فترة السادات وأحد رجال جهاز المباحث العامة، شهادة منصور خلال حوار في برنامج «90 دقيقة»، قال فيه أن “جمال عبد الناصر لم يكن يعرف القرآن، وفي مكالمة سجلناها لعبد الناصر مع هيكل سأل هيكل عبدالناصر: أنت صايم يا ريس؟ فرد عبد الناصر قائلًأ: في حاجة اسمها صيام يا محمد؟ أنا بس قدام الولاد مابكلش ولا باشرب”. ثم وجه زكي كلامه إلى المذيعة قائلًا: “يمكنك أن تسألي [محمد حسنين] هيكل عن هذه التسجيلات”[55].

أما هيكل نفسه فهو يؤكد قبسًا من هذه الاتهامات في كتابه (الطريق إلى رمضان) حيث ذكر أنه دار حوار بينه وبين عبد الناصر قبل وفاته بثلاثة أيام فقط، وضح فيه أن عبد الناصر فاجأه بسؤال: (هل أنت مؤمن؟) فأجاب هيكل: (أجل، بالقطع أنا مؤمن)، فسأله: (إذن قل لي، ماذا بعد الموت؟)، فأجابه هيكل: (هذا سؤال بالغ الصعوبة، أعتقد أن الجنة والنار هما هنا فوق الأرض وربما كان القصد من ذكرهما الرمز للخير والشر، وبإمكاننا أن نجعل من حياتنا جنة أو نار لكن بعد الموت فربما كانت النهاية). سأله عبد الناصر: (أتعني أن من يفعل خيرًا على هذه الأرض لا يدخل الجنة؟)، فأجابه هيكل: (لا أدري، وإنما أظن الجنة والنار رموز)، قال عبد الناصر: (هذا يعني أننا بعد الموت ننتهي.. وهذا كل شئ؟)، أجاب هيكل: (نعم هذا كل شئ)، فقال عبد الناصر: (هذا ليس مطمئناً)”[56].

ونختم هذه الجزئية بشهادة حسن التهامي، المقرب من عبد الناصر وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، التي تضيف مزيدًا من المصداقية نحو هذه الشهادة ويدلي بدلوه عندما روى قائلًا: “في عام 1970م وقبل وفاة عبد الناصر كنت معه في المنزل فطلبت منه طلبًا وقلت له: (نريد أن نفعل شيئًا للإسلام والمسلمين) فقال لي بالنص: (للإسلام لأ، لكن المسلمين الفقراء نعمل لهم حاجة) .. وقال لي (إنت عامل نفسك زي اللي بتقولي عليه معرفش إيه من لا ينسى)، فلم أصدق ما سمعت وقلت (أستغفر الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. أنت تقصد الحق جل جلاله، جل من لا يسهو) فأعاد قوله: (أنا عارف بتاعكم اللي بتقولوا عليه معرفش إيه من لا يسهو، ومن لا يخطئ، وإنت عامل نفسك زيّه)[57].

على أي حال، وبغض النظر عن صحة هذه الاتهامات من عدمها، إلا أن المتفق عليه أن الإلحاد كان ذائعًا في بعض الدوائر المثقفة والحركات الطلابية طوال فترة الستينات والسبعينات، لكن انقلب الحال عقب الفترة الناصرية عندما تولي السادات الحكم وانتهج استراتيجية (الرئيس المؤمن) وأطلق يد الجماعات الإسلامية حتى يعادلوا الوجود الماركسي في المجتمع، فعادت العقيدة الإسلامية إلى المشهد المحلي المصري وانحسرت موجة الإلحاد في مصر مع انحسار الماركسية، وكما يحلل الباحث عبد الله العجيري: “فإن الإلحاد حتى وقت قريب كان حالة اقترنت بالحالة الشيوعية. أي أنه في الوقت الذي تمددت فيه الظاهرة الشيوعية تمددت الظاهرة الإلحادية، وعندما تقلصت الأولى تقلصت الثانية، ومن الإنصاف أن نقول أن الدول التي تحلحلت عنها القبضة الشيوعية شهدت فعلًا ظاهرة العودة للتدين أو إعلان التدين كما يظهر ذلك في العديد من الإحصائيات”[58].

المبحث الخامس: علاء حامد

مع تولي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك الحكم عام 1981م، ظلت فترة الثمانينات بلا حالات إلحادية معلنة ولم تكن ثمة مشكلة إلحادية حقيقية مطروحة في أدبيات الدعاة الإسلاميين بعد انحسار موجة الإلحاد ذلك الوقت، اللهم إلا صيحات التحذير من المد الشيوعي الإلحادي التي لم يخلُ منها كتاب أو منشور لداعية إسلامي واحد في العالم الإسلامي كله.

وفي إبريل عام 1988م برزت أولى الحالات الإلحادية بشكل علني عندما صدرت رواية (مسافة في عقل الرجل) لكاتبها علاء حامد بدون دار نشر على غلافها. لم يكن علاء حامد معروفاً حينئذٍ، ولم تحقق الرواية انتشارًا يُذكر، حتى أن الصحفي أحمد بهجت كان أول من انتقد الرواية في عموده الشهير بجريدة الأهرام (صندوق الدنيا) وكان ذلك في 3 مارس 1990م، أي بعد سنتين كاملتين من صدور الرواية، وهو ما يوضح المجهولية الكبيرة لصاحب الرواية، لذا فقد ذكر بهجت في مقاله أن حامد “هو مجرد موظف سابق بمصلحة الضرائب المصرية”[59] لا أكثر ولا أقل، كما وصفه الكاتب أحمد أبو زيد بأنه كاتب “مغمور”، وأن روايته هذه لم يحس بها أحد لا من القراء ولا من النقاد، وكان من الممكن أن يظل مغمورًا لولا إشارة الصحفي أحمد بهجت إليه[60].

تضمنت الرواية هجومًا مباشرًا على الدين، واستحقارًا شديدًا للعلماء، وصرّح الراوي بأنه يعتقد أن الأديان من تأليف البشر، وسخر من خرافات الرسل والرسالات السماوية، وتهكم من الأساطير الدينية، كما أنه كتب كذلك أن الجنة ليست إلا مستنقع للرذيلة والمسكرات يمني بها المؤمنون أنفسهم من أجل التخلص من عذاب الدنيا لا أكثر.

غلاف الرواية

عقب صدور الرواية، تمت إحالة المؤلف إلى النيابة الإدارية، وصدر حكم بسجنه لمدة ثمان سنوات لم يقضِ منهم سوى ستة أشهر ثم تم الإفراج عنه. ومن ناحيته قام مجمع البحوث الإسلامية بتكليف من شيخ الأزهر حينئذٍ جاد الحق بدراسة الرواية، وخلص المجمع إلى أن الكاتب “ينكر الأديان بصفة عامة، ثم ينكر العقائد الدينية، وينكر الإله، ويكذب بالرسل ويزدريهم، وينكر الكتب السماوية، ويكذب بالإيمان بالقدر وبالبعث والحساب وبالجنة والنار”، وبعد إصدار الحكم تم التوسط لصالح الكاتب عند مبارك، لكن مبارك رفض إصدار عفو عنه[61].

وبالبحث عن صدى هذه الرواية وردود فعل المفكرين نحوها، فإننا لم نجد صدى لها يذكر في المجتمع المصري، فقد خرجت 6 ردود فقط على الكتاب، كلهم عبارة عن مقالات صحفية قصيرة، كان أبرزهم رد بهجت الذي أوردناه آنفًا، بالإضافة إلى رد الصحفي محمد جلال كشك في مقال منشور بجريدة الأخبار بتاريخ 10 يناير 1992م تحت عنوان (تسب الدين تأكل ملبن) ذكر فيه أن مؤلف الرواية “لا يجيد الكتابة، لا يقرأه أحد، يطبع كتبه على حسابه .. وباع كتابه خلال سنتين مائة نسخة فقط، ولكنه أخيرًا اكتشف الطريق للمجد والشهرة والفلوس وأكل الملبن”[62]. وعنى كشك بذلك أن إعلان الإلحاد هو مجرد تذكرة رخيصة للشهرة الفورية.

خاتمة: ظاهرة الإلحاد في مصر في القرن العشرين

عبر استقراء الحالات الإلحادية في مصر في القرن العشرين، يمكننا الخلوص إلى نتيجتين رئيسيتين:

أولًا: أن نزوع أغلب الحالات الشخصية نحو الإلحاد لا يمكن تفسيره بالاقتناع العقلي أو اتباع البرهان والدليل فقط وإنما ينبغي اعتبار العوامل النفسية والاجتماعية بشكل مركزي في اتخاذ قرار الإلحاد عند هؤلاء. فإسماعيل أدهم متردد منذ صغره بين الإسلام والمسيحية ولا يستقر في قلبه إيمان بأي منهما، وعبدالله القصيمي عانى من طفولة بائسة شُرد فيها وطُرد من بيته وهام على وجهه حقبة من الزمن بلا دليل ولا مرشد ثم ظل شاكًا مضطربًا لسنوات قبل أن يعلن إلحاده، أما علاء حامد فهو مجرد باحث عن الشهرة بأي ثمن وينطبق عليه ما ذكره محمد عبدالله السمان في موقف مشابه حين قال: “ذات يوم أهدى إليّ أستاذ جامعي كتاباً ألّفه حديثًا، وقال لي بالحرف الواحد: (أريدك أن تكتب عن كتابي ولو تتهمني بالإلحاد!)”[63].

ثانيًا: أن قضية الإلحاد طوال القرن العشرين لم تكن ظاهرة اجتماعية بحال من الأحوال، بل كانت مجموعة من الحالات الفردية، وعلى أقصى مراحلها تطورًا فقد تم تداول قضية الإلحاد في هذه الفترة بين فئة قليلة جدًا من النخب الأدبية والفكرية، ولم يكن لها صدى يُذكر عند الشعب المصري، اللهم إلا في حقبة الستينات حيث اقترن الإلحاد بالشيوعية، ودعمت السلطة نشر الإلحاد بشكل أو بآخر أو على الأقل تصالحت معه، وكانت فترة الستينات والسبعينات هي الفترة الوحيدة التي صار الإلحاد فيها ظاهرة اجتماعية بحق.

وليس أدلّ على ذلك من أن أكبر حركة إسلامية في ذلك الوقت، أي حركة الشيخ حسن البنا وتنظيمه جماعة الإخوان المسلمين، منذ تأسيسها عام 1928م، لم تتعرض لقضية الإلحاد وتفنده أو تنقده علميًا أو فلسفيًا على الإطلاق، لا في مجالسها الخاصة –حسب ما نعرف- ولا في رسائل الشيخ حسن البنا نفسه خلال خطبه ودروسه، ولا في أي خطاب عام وجّهه رمز إخواني إلى العوام، بعكس ما خصصته الدعوة مثلًا لنقد الفكر اليساري، مما يدل على هامشية قضية الإلحاد عند الشعب وعدم ورودها كظاهرة تستحق التنبه إليها، اللهم إلا عندما يُذكر الإلحاد كمرادف للشيوعية[64] أو كمرادف للإباحية[65]، الأمر الذي ذكرنا سابقاً أنه كان ديدن أغلب الدعاة الإسلاميين في العالم الإسلامي في القرن المنصرم.

رابعًا: يظهر عند تولي الشيوعيين لمقاليد الإعلام وأدوات توجيه الرأي العام وانتشار الإلحاد على إثر ذلك، مدى الدور المحوري لجهاز الدولة البيروقراطي في مصر في تمدد أو انحسار ظاهرة الإلحاد منذ صارت للدولة الحديثة موضع قدم في المشهد المحلي المصري، مما يعني أن الإلحاد ظاهرة لا ترتبط عضويًا بالشعب المصري وتكوينه، وإنما هي قضية لا تظهر إلا عندما تتبناها الدولة ترويجًا أو حماية أو دعاية لها، وسنرى في الفصول القادمة أنه في اللحظة التي يتخلى فيها النظام الحاكم عن دعم الاتجاه الإلحادي فإن ظاهرة الإلحاد تنحسر بقوة، مما يجعل الظاهرة رأسية تنزل من أعلى السلطة إلى الأسفل والجماهير، وليس العكس[66].


الهامش

[1] Colin Campbell, Toward a Sociology of Irreligion, (New York: Heider and Heider, 1972).

[2]تصريح للناشط الملحد المصري مايكل نبيل سند في 2010م.

[3] انظر: يورك جيرتل ورالف هيكسل، مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، (القاهرة: دار الساقي، 2018م).

[4] تشمل اللادينية ثلاثة اتجاهات رئيسية: الربوبية وهي الإيمان بوجود الله دون الإيمان بدين معين أو بتدخل الإله في الكون، واللاأدرية أو اللاكتراثية وهي عدم تحديد موقف من وجود الله من عدمه، والإلحاد وهو إنكار وجود الله.

[5] https://www.bbc.com/news/world-middle-east-48703377

[6] أبو حامد الغزالي، مجموع رسائل الإمام الغزالي، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 7/34.

[7] انظر: عبدالله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، (لندن: مركز تكوين، 2014م).

[8] إميل دوركهايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة: محمود قاسم والسيد بدوي، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1988م)، ص/ 50 – 65.

[9] إسماعيل أدهم، لماذا أنا ملحد؟، مقالة متوفرة الكترونيًا، تاريخ الدخول 5 سبتمبر 2018م،

[10] انظر: هاني علي نسيرة، الحنين إلى السماء: دراسة في التحول نحو الاتجاه الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010م)، ص/ 126-127.

[11] في برنامج بلال فضل (عصير الكتب) بتاريخ 17/7/2011م، https://www.youtube.com/watch?v=vrcJHnXNPXU

[12] إسماعيل أدهم، لماذا أنا ملحد.

[13] مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1981م)، 2/402.

[14] بريان ويتاكر، عرب بلا رب: الإلحاد وحرية المعتقد في الشرق الأوسط، نسخة مترجمة متوفرة الكترونيًا، ص/ 48. متوفرة على الرابط

[15] G.H.A. Juynboll, Ismail Ahmad Adham (1911-1940), the Atheist, Journal of Arabic Literature. 3: 1972, pp 54-71.

[16] إسماعيل أدهم، لماذا أنا ملحد؟

[17] سليمان بن صالح الخراشي، انتحار إسماعيل أدهم: تفاصيل المعركة الفكرية، نسخة بدون تاريخ أو مكان للنشر، ص/ 41.

[18] G.H.A. Juynboll, : “Ismail Ahmad Adham (1911-1940), the Atheist.” Journal of Arabic Literature. 3: 1972, pp 63.

[19] إسماعيل أدهم، لماذا أنا ملحد.

[20] مانع بن حماد الجهني، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، (الرياض: دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1420هـ)، ص/ 804.

[21] أحمد إبراهيم الهواري، المؤلفات الكاملة للدكتور إسماعيل أدهم، (القاهرة: دار المعارف، 1984م)، 2/97.

[22] لسيرته كاملة، انظر: أيوب عيسى أبو دية، إسماعيل مظهر من الاشتراكية إلى الإسلام، (حلب: دار نون، 2008م).

[23] يورغن فازلا، القصيمي بين الأصولية والانشقاق، ترجمة: محمود كبيبو، (بيروت: دار الكنوز الأدبية، 2001م)، ، ص/ 108.

[24] بسبب مجموعة مع الأحداث السياسية. للاطلاع على أرشيف أعداد المجلة: الرابط

[25] مهدي مصطفى، عن الخمسين الأولى أتكلم، الأهرام العربي: 15/11/2014، http://pw.ahram.org.eg/News/1724954.aspx

[26] إسماعيل مظهر، هذه هي الأغلال، في: المقتطف، نوفمبر 1946م، ص/ 169. وسيأتي ذكر القصيمي بعد قليل.

[27] سيد قطب، من مفارقات التفكير، مجلة الرسالة، السنة 14، المجلد الثاني، العدد 700.

[28] انظر من هؤلاء مثلًا: https://www.il7ad.org/vb/showthread.php?t=3616

[29] الإيمان: رواية تاريخية مصرية، تعريب: صالح جودت، (القاهرة: مطبعة المعارف، 1914م).

[30] يورجن فازلا، القصيمي بين الأصولية والانشقاق، ص/ 26-28.

[31] المرجع السابق، ص/ 28.

[32] سليمان بن صالح الخراشي، عبدالله القصيمي: وجهة نظر أخرى، (بيروت: روافد للباعة والنشر والتوزيع، 2008م)، ص/ 35.

[33] المرجع السابق، ص/ 35.

[34] https://www.youtube.com/watch?v=MyMg3JfBDUw

[35] سليمان الخراشي، القصيمي، مرجع سابق، ص/ 44.

[36] سيد قطب، مفارقات في التفكير، مرجع سابق.

[37] سليمان الخراشي، القصيمي، مرجع سابق، ص/ 252.

[38] يورغن فازلا، القصيمي بين الأصولية والانشقاق، مرجع سابق، ص/ 128.

[39] المرجع السابق، ص/ 138.

[40] المرجع السابق، ص/ 182.

[41] يمكن الاطلاع على المقال من هنا

[42] https://www.youtube.com/watch?v=v2xOQPHYbLw

[43] أدونيس، الخرافة الغباء الطغيا، مجلة لسان الحال، سنة 65.

[44] سليمان الخراشي، عبدالله القصيمي، مرجع سابق، ص/ 45.

[45] الرابط

[46] Ali E.H. Dessouki, The Origins of the Socialist Thought in Egypt, 1882-1922, (Montreal, McGill University, 1972), P. 169.

[47] Ibid, P. 191.

[48] https://www.elfagr.com/214684

[49] انظر: عزمي بشارة، ثورة مصر (الجزء الأول): من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016م).

[50] https://www.youtube.com/watch?v=00d-RE3umgQ

[51] الرابط

[52] مصدر خاص.

[53] مصدر خاص.

[54] أنيس منصور، عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا ، (القاهرة: نهضة مصر)، ص/ 171-172.

[55] https://www.youtube.com/watch?v=CxIKnmRGLXA

[56] محمد حسنين هيكل، الطريق إلى رمضان، ترجمة: يوسف الصائغ، (بيروت: دار النهار للنشر، 1975م)، ص/ 112.

[57] محمد الطويل، لعبة الأمم وعبد الناصر، (القاهرة: المكتب المصري الحديث)، ص/ 370-372.

[58] عبدالله العجيري، ميليشيا الإلحاد: مدخل إلى فهم الإلحاد الجديد، (لندن: مركز تكوين، 2014م)، ص/ 12.

[59] https://www.almasryalyoum.com/news/details/1155898

[60] أحمد أبو زيد، محاكمة سلمان رشدي المصري: علاء حامد، (القاهرة: دار الفضيلة)، ص/7.

[61] أحمد أبو زيد، محاكمة سلمان رشدي المصري، ص/ 69.

[62] المرجع السابق، ص/ 76.

[63] المرجع السابق، ص/7.

[64] وهي عادة لازمت أغلب –إن لم يكن كل- الناقدين للشيوعية في تلك الفترة.

[65] كما فعل الشيخ حسن البنا في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية).

[66] كل الأوراق المنشورة، تعبر عن رأي أصحابها ومحرريها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المعهد المصري للدراسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى