الانتخابات الأوروبية ٢٠١٩ مؤشرات واستنتاجات
أكّدت نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي أجريت في مايو 2019 أنّ الوسط السياسي التقليدي في أوروبا يتآكل بصفة مضطردة، بينما تصعد الأحزاب التي كانت واقعة حتى سنوات خلت على أطراف الساحة السياسية؛ مثل أقصى اليمين وأحزاب الخضر والليبراليين.
وثمّة اتجاه ظاهر نحو السيولة السياسية من خلال فرص واعدة تحوزها حركات غير نمطية أو غير مؤطّرة حزبياً؛ وكذلك حالات إعادة إنتاج بعض الأحزاب التقليدية في قوالب وقيادات وشعارات جديدة. تكتسب هذه الانتخابات أهمية إضافية عن سابقاتها تبعاً لحالة الحراك السياسي في القارة في الألوان الحزبية وعبر أجيال السياسيين أيضاً، وصعود اليمين الشعبوي في دول عدّة، وتراجع بريق الوحدة الأوروبية في عيون مواطني الدول الأعضاء.
لكن هذه الانتخابات لا تعبِّر بصفة دقيقة عن السلوك التصويتي في الانتخابات المحلية والوطنية في الدول الأعضاء؛ حتى أنّ بعض الناخبين يتّخذونها محطة للتصويت الاحتجاجي، مع ضعف واضح في حضور الأولويات الأوروبية قياساً بالشواغل الوطنية، بما يشير إلى معضلة مزمنة تتعلّق بمدى الوعي بالانتماء إلى مشروع الوحدة لدى مواطنيه.
فيما يلي مؤشرات وملاحظات من واقع نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، مع التفصيل في نتائج بعض الدول الأعضاء على سبيل المثال:
١/ أكّدت هذه الجولة الانتخابية أنّ الأحزاب التقليدية في أوروبا تواجه مأزقاً مزمناً ومتعاظماً وأنها معنية بإعادة إنتاج حضورها وخطابها لضمان البقاء في مركز المشهد السياسي. تتزايد فرص الأحزاب الجديدة والحركات الجماهيرية والشعبوية وخيارات الحشد عبر الشبكات، وهو ما يشير إلى حالة إحلال نسبية تشهدها الطبقة السياسية في أوروبا.
٢/ ارتفعت معدّلات التصويت بشكل ملحوظ في بعض الدول قياساً بجولات سابقة، وهو ما يُعزَى أساساً إلى سخونة سياسية على المستوى الوطني وتزايد جهود الحشد في الحملات الانتخابية. لكنّ القضايا الوطنية زاحمت بقوة الشواغل الأوروبية في هذه الجولة أيضا. كما يستخدم بعض الناخبين الانتخابات الأوروبية – كالعادة – فرصة لمعاقبة أحزاب الحكم في دولهم ويغتنمونها للتصويت الاحتجاجي.
٣/ كما كان متوقّعاً؛ تراجعت حظوظ أكبر كتلتين نيابيتين في البرلمان الأوروبي، كتلة المحافظين في يمين الوسط (حزب الشعب الأوروبي) وكتلة الديمقراطيين الاجتماعيين (اشتراكيو يسار الوسط)، فخسرت الكتلتان معاً قرابة ٧٥ مقعداً في البرلمان الأوروبي وفقدت الكتلتان مجتمعتين، بالتالي، امتياز الأغلبية في البرلمان، بما سيمنح وزناً أكبر لأطراف ثالثة في مجريات التصويت داخل البرلمان مثل الليبراليين والخضر وأقصى اليمين.
٤/ ضمن أبرز الرابحين على المستوى الأوروبي تأتي أحزاب الخضر/ أحزاب البيئة، التي حققت نتائج متقدمة في دول عدّة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيرلندا والنمسا. يمكن الاستنتاج بأنّ الخضر استفادوا بشكل خاص من تذمّر الناخبين من الأحزاب الكبرى التقليدية وسعي المواطنين إلى البحث عن بدائل يبدو الخضر عنواناً من عناوينها. ويُعزى التقدّم الذي أحرزه الخضر والليبراليون في دول عدة إلى الأصوات الشبابية أساساً والتي تبدو أكثر قناعة بالوحدة الأوروبية أيضاً قياساً بأجيال تتقدّمها.
٥/ تفاوتت حظوظ أقصى اليمين الشعبوي بوضوح بين بلد أوروبي وآخر، فمثلاً حققت هذه الأحزاب والتيارات نتائج متقدمة في بلدان منها فرنسا وإيطاليا والسويد بينما تراجعت حظوظها نسبياً في الدانمرك وألمانيا والنمسا على سبيل المثال.
٦/ من الاختبارات التي تواجه أقصى اليمين الأوروبي بعد الانتخابات؛ القدرة على الاصطفاف الفعّال في البرلمان الأوروبي لتشكيل كتلة أو كتلتين بوزن مؤثِّر في التحالفات التصويتية. واضح أنّ هذه الأحزاب ما عادت تراهن على تقويض الاتحاد الأوروبي، كما أنّ مطالب الخروج منه كبحها مأزق بريطانيا مع تطبيق “البريكست”. سيحاول أقصى اليمين الأوروبي التأثير في عمل مؤسسات الاتحاد وتخفيف سلطاته على الدول الأعضاء مع إثارة الانتباه ببعض المواقف الاستعراضية ربما.
٧/ عاقب الناخبون الفرنسيون في الانتخابات الأوروبية الرئيس إيمانويل ماكرون مجدداً، فصعد “التجمّع الوطني” بزعامة مارين لوبن بقوّة إلى الصدارة، وهو مؤشِّر على استمرار التذمّر من سياساته. حلّ ائتلاف ماكرون ثانياً بعد أقصى اليمين لكن بفارق طفيف، وصعد الخضر كقوة ثالثة.
٨/ لم تأتِ نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي مريحة للائتلاف الحكومي الألماني سواء بالنسبة للاتحاد المسيحي (محافظون) الذي سجّل تراجعاً أو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار وسط) الذي حلّ ثالثاً بعد الخضر الذين صعدوا بقوّة. أمّا حزب البديل الواقع في أقصى اليمين فانكمش إلى عشرة في المائة من الأصوات ليأتي في المرتبة الرابعة. تشير هذه النتائج إلى حظوظ متزايدة للخضر في الجولات الانتخابية الألمانية المقبلة بمستوييها الاتحادي والمناطقي (الولايات).
٩/ في بريطانيا جاءت انتخابات البرلمان الأوروبي في خضمّ الانشغال بمتاهة “البريكست” التي انعكست بوضوح على النتائج التي قضمت بقوّة من رصيد الحزبين التقليديين المحافظين والعمّال. أظهرت النتائج انهيار حظوظ حزب المحافظين إلى الحضيض من جانب، ومزيداً من السيولة السياسية من جانب آخر كما جسّدتها حالة “حزب البريكست” بزعامة السياسي الشعبوي نايجل فاراج الذي انتزع نحو ثلث مقاعد بريطانيا في البرلمان الأوروبي، لكنّ أحزاباً مؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي مثل الليبراليين والخضر حققوا أداءً جيداً نسبياً. وما كان لهذه الانتخابات أن تُجرَى في بريطانيا أساساً لولا منح مهلة إضافية لتطبيق “البريكست” عن الأمد الأقصى المحدّد لخروجها من الاتحاد الذي كان مقرّراً في نهاية مارس/ آذار الماضي، ثم وقع تمديده في اللحظة الأخيرة ستة شهور إضافية.
١٠/ فضيحة حزب الحرية النمساوي (أقصى اليمين) قبل أسبوعين من الانتخابات الأوروبية كبحت تقدّمه الذي كان متوقعاً فيها سابقاً؛ لكنّ نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أظهرت أنّ الحزب لم يتضعضع وما زال محتفظاً بكتلته التصويتية المتماسكة معه بنحو ١٨ في المائة من الأصوات بدل ٢٢ – ٢٧ في المائة كان يُفترض أن يحصل عليها بالتقديرات التي سبقت الفضيحة. عملياً استفاد من الفضيحة شريكه – السابق – في الائتلاف الحكومي حزب الشعب بزعامة المستشار النمساوي الشاب سيباستيان كورتس؛ الذي ربح ثلث أصوات الناخبين بما عزّز موقعه في صدارة المشهد السياسي النمساوي قبيل الانتخابات البرلمانية المبكرة؛ المتوقعة بعد الصيف. يُشار إلى أنّ كورتس أعاد إنتاج حزب الشعب المحافظ شكلاً وقيادات ومضامين، وهو ما يشير إلى خيار قد تنتهجه أحزاب تقليدية أخرى في أوروبا خاصة يمين الوسط المحافظ في ألمانيا بعد عهد المستشارة أنغيلا ميركل. لكنّ المستشار النمساوي كورتس تلقّى ضربة موجعة عصر الاثنين ٢٧ مايو/ أيار بعد فوزه الانتخابي في الاقتراع الأوروبي، بنجاح حجب الثقة عنه في البرلمان النمساوي ونهاية حكومته، في سابقة تأزيم لم تشهدها الجمهورية النمساوية من قبل وإن كان مسارها منضبطاً بموجب الدستور، بتشكيل حكومة تكنوقراط بتكليف من رئيس الجمهورية إلى حين إجراء الانتخابات المبكرة.
١١/ عزّزت نتائج إيطاليا في انتخابات البرلمان الأوروبي مكانة جناحيْ الائتلاف اليميني الشعبوي ممثّلين بحزب الرابطة الواقع في أقصى اليمين وحركة خمس نجوم الشعبوية، مع حضور هامشي للمشهد الحزبي التقليدي، فالحزب الديمقراطي تدهور بقوة إلى ٢٢ في المائة الأصوات بما يعادل خسارة نصف رصيده في الانتخابات الأوروبية السابقة. صار ماتيو سالفيني زعيم حزب “الرابطة” رجل السياسة الأقوى في إيطاليا بانتزاع حزبه أكثر من ثلث الأصوات في فوز قياسي. وكان سالفيني قد خاض سجالات مع شركاء الاتحاد الأوروبي، خاصة الرئيس الفرنسي ماكرون، وتمسّك بسياسة متشددة أغلقت سواحل البلاد في وجه طالبي اللجوء بإحكام.
١٢/ رسّخ حزب “ديمقراطيي السويد” المعبِّر عن أقصى اليمين حضوره وبرز في هيئة أبرز الرابحين نسبياً من الأحزاب السويدية في الانتخابات الأوروبية. بالتقدّم الذي أحرزه بما يقارب ست نقاط عن الجولة الأوروبية الماضية ليرسو عند أكثر من ١٥ في المائة من الأصوات، وهو ما يقارب نتيجته في الانتخابات الوطنية الأخيرة. يأتي هذا الصعود النسبي قياساً بالنتيجة السابقة في الانتخابات الأوروبية رغم فضيحة الاتهام بالتحرّش التي ثارت قبل أيام من الانتخابات حول المرشّح الأول على قائمة حزب “ديمقراطيي السويد” بحق زميلة له في القائمة ذاتها وما تبع ذلك من جدل وتنازع. وحافظت الأحزاب التقليدية السويدية في يمين الوسط ويسار الوسط على مواقعها تقريبا في هذه الانتخابات.
١٣/ حملت النتائج في إسبانيا تراجعاً إضافياً للحزب الشعبي (يمين الوسط) الذي انحسر إلى ٢٠ في المائة من الأصوات بعد أن تصدّر الانتخابات الأوروبية الماضية، بينما أحرز الاشتراكيون (يسار الوسط) تقدّماً كببراً قفزوا معه إلى المرتبة الأولى وحصدوا ثلث الأصوات.
١٤/ جاءت هذه الجولة الانتخابية ساخنة في المجر في ظل التجاذب بين الاتحاد الأوروبي وقيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان المعبِّر عن اليمين القومي والنزعة الشعبوية والمتهم بالسلطوية. ارتفعت نسبة التصويت في المجر بشكل ملحوظ في هذه الانتخابات من ٢٩ في المائة في الجولة السابقة إلى ٤٣ في المائة في هذه الجولة. واكتسح حزب “فيديج” الحاكم بزعامة أوربان نتائج الانتخابات بواقع ٥٢ في المائة معززاً هيمنته، لكنّ الائتلاف الديقراطي من حول الديمقراطيين الاجتماعيين (يسار الوسط) نجح في إبراز ذاته قطباً متماسكاً في مواجهة أوربان وهو ما سيشكِّل فرصة أوفر للمعارضة في الجولات الانتخابية الوطنية المقبلة في هذا البلد الذي يتوسط القارة الأوروبية[1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.