الانسحاب الروسي ومستقبل الثورة السورية
يكاد يجمع المراقبون على أن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسحب الجزء الأكبر من قوات بلاده في سوريا، كان بمثابة المفاجأة، ليس فقط لكل القوى الدولية والإقليمية الضالعة في الأزمة السورية، ولكن حتى للرئيس السوري نفسه. ولذلك يؤكدون على أن هناك أمراً جللاً دفع الرئيس الروسي لاتخاذ هذا القرار بشكل مفاجئ وتنفيذه بشكل عاجل، خاصة وأن المتعارف عليه أن تأخذ عملية تنفيذ قرار انسحاب قوات تشارك في حرب، أسابيع إن لم يكن أشهر.
وما يزيد الأمر غرابة عند هؤلاء أن القرار يأتي بعد أن استطاعت روسيا بالفعل تغيير موازين القوى في الشهور الماضية، وفرض واقع جديد على الأرض أضعف موقف الثوار وموقف الدول الداعمة للثورة، خاصة تركيا والسعودية، بشكل كبير. وهو ما جعل روسيا اللاعب الأساسي في الأزمة السورية، حتى أنها باتت تتحكم فيمن يحضر مفاوضات السلام في جنيف ومن لا يحضر. وكان متوقعاً استمرار تلك الهيمنة الروسية على مفاعيل الأزمة السورية حتى نهايتها، حرباً أو سلماً.
أولاً: مضمون القرار:
لكن إذا كان قرار الانسحاب الروسي مفاجئاً للمراقبين الذين لا يحيطون بكافة تفاصيل الأزمة وعلاقات الفاعلين الدوليين والإقليميين، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الفاعلين؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نبدأ بمناقشة مضمون القرار الذي يشير إلى سحب جزء فقط من الطائرات المقاتلة الروسية، مع بقاء باقي القوات والأسلحة في القاعدتين الجوية والبحرية. وقد أكد ذلك الرئيس بوتين، حينما أشار إلى أن القوات الروسية في القاعدة الجوية بحميميم والقاعدة البحرية بطرطوس، ستواصل العمل كما في السابق. وهو ما يعني إمكانية معاودة تلك القوات للمشاركة في الهجمات الجوية ضد قوات الثورة السورية.
وهذا ما أشار إليه موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي، الذي أضاف أن الانسحاب الروسي جاء بعد قيام روسيا بتزويد الجيش السوري بأسلحة متقدمة عبر قطار جوي وبحري ضخم أطلقه الجيش الروسي إلى سوريا منتصف فبراير الماضي، ستساعده على الاعتماد على نفسه في مواجهة قوات الثورة.
ثانياً: دوافع القرار:
إذاً مضمون القرار لا يعني الانسحاب الكامل، بل الانسحاب الجزئي وبقاء قوات وأسلحة في القواعد العسكرية يمكن استخدامها حين الحاجة، فضلاً عن استباق الانسحاب بتزويد الجيش السوري بأسلحة ومعدات حديثة تجعله قادراً على الحفاظ على الأراضي التي سيطر عليها بفضل الدعم الجوي الروسي.
هنا يمكن أن نستنبط بعض الدوافع لقرار الانسحاب الروسي، والتي تدور حول وجود مخطط دولي يقوم على تهيئة الظروف من أجل تقسيم سوريا بما يحقق مصالح روسيا والغرب، وفي مقدمة هذه الدوافع:
1ـ الخلافات بين موسكو وطهران:
تشير مصادر متعددة إلى أن هناك خلافات نشبت مؤخراً بين موسكو وطهران حول مستقبل الحرب في سوريا، خاصة منذ زيارة وزير الدفاع الإيراني لموسكو في 19 فبراير 2016، حيث كان يحمل طلباً للرئيس الروسي يتمثل في ضرورة عدم المشاركة في الخطوة الأمريكية-الروسية للتوصل إلى هدنة في سوريا.
وربما يجب أن نشير هنا إلى أن الخلافات بين روسيا وإيران ليست وليدة اللحظة، بل بدأت مع التدخل العسكري الروسي في الأزمة، حيث كانت إيران تريد دوراً محدوداً ومحدداً لروسيا يمنعها من أن تكون صاحبة النفوذ الأول في سوريا حتى لا يؤثر ذلك على النفوذ الإيراني. لكن إيران لم تراع أن روسيا دولة كبرى، ولذلك أصبحت روسيا هي المحدد الأساسي لمسارات الأزمة وفقاً لمصالحها، بعد أن استطاعت تغيير معطيات الواقع.
من هنا يمكن تفهم أسباب الترحيب الإيراني بالانسحاب الروسي، والذي تزامن مع حديث مصادر مختلفة عن استعداد إيران لإرسال الآلاف من ميلشيات الحرس الثوري إلى سوريا لسد الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الروسي ومنع قوات الثورة من استغلال الفرصة واستعادة الأراضي التي فقدتها إبان الوجود العسكري الروسي. وهو السبب نفسه الذي دفع حزب الله إلى إصدار بيان ينفي فيه انسحابه من سوريا، مؤكداً استمراره في القتال إلى جانب النظام السوري. وذلك بالرغم من الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها داخلياً وخارجياً، خاصة بعد تصنيفه من جانب الخليج وجامعة الدول العربية كمنظمة إرهابية، وبدء دول الخليج في اتخاذ إجراءات أكثر قوة ضده، تتمثل في تجميد أصوله المالية، ومنع ممثليه في الحكومة اللبنانية من حضور المؤتمرات العربية، وصولاً إلى طرد كل من يدعمه سياسياً ومالياً من الخليج.
2ـ الخلاف الروسي السوري:
رغم الدور الكبير الذي لعبته روسيا في إنقاذ النظام السوري من السقوط، إلا أن ذلك لم يمنع بشار الأسد من مخالفة التصورات الروسية لحل الأزمة، جاءت التصريحات الصادرة عن رأس النظام ورموزه لتؤكد على أن بقاء بشار خطاً أحمر، وأن أقصى ما يمكن أن يقدمونه من تنازلات هو تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم بعض عناصر المعارضة التي يرضى عنها النظام وتكون لها سلطات واسعة في مقابل استمرار بشار كمرشد للدولة، فيما يشبه نظام ولاية الفقيه في إيران.
وبطبيعة الحال، كانت روسيا تدرك أن المعارضة الثورية سترفض هذا الطرح وهو ما يعني استمرار الحرب. فجاء إعلان الانسحاب ليزيد الضغوط على النظام السوري والإيرانيين ويدفعهم للتفكير جدياً بالمسار الذي تطرحه موسكو، وإلا فالبديل هو خسارة كل ما تم تحقيقه في الشهور الماضية، وعودة قوات الثورة للسيطرة على الأراضي التي خسرتها، وربما الزحف إلى العاصمة والسيطرة عليها وإسقاط النظام.
3ـ صفقة مع السعودية:
هناك من يتحدث عن صفقة بين روسيا والمملكة العربية السعودية، التي تعارض التدخل العسكري الروسي وتسعى لإسقاط النظام السوري عبر تقديم الدعم المادي والعسكري لقوات الثورة، على اعتبار أن نظام بشار الأسد يمثل امتداداً للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية، واستمراره يعني استمرار هذا النفوذ وتمدده، خاصة مع وصول النفوذ الإيراني إلى اليمن جنوب المملكة مما يعني محاصرة إيران لها من الشمال والجنوب مع سيطرة طهران على العراق أيضاً.
الصفقة الروسية السعودية التي يتحدث عنها البعض تشير إلى موافقة روسيا والسعودية على تجميد الإنتاج النفطي خلال شهر إبريل القادم، مقابل انسحاب روسي من سوريا ووقف الدعم الغير محدود للنظام.
ويجد الحديث عن هذه الصفقة مصداقية إلى حد ما، بعد التوافق الروسي السعودي الذي شهدته مفاوضات الدوحة الأخيرة. يضاف إلى ذلك المعاناة الاقتصادية لروسيا بسبب اعتماد اقتصادها على مبيعات النفط كمصدر أساسي للدخل، وهو ما جعلها تقوم بخفض الميزانية العسكرية بنسبة 5% خلال العام الجاري، وهو أول تخفيض في الإنفاق الدفاعي الروسي منذ تولّي بوتين الحكم عام 2000.
وقد أراد بوتين بهذه الصفقة التي ستشمل رفع أسعار النفط، تقليص الخسائر الاقتصادية لبلاده، وفي نفس الوقت الحصول على خروج مشرف من الحرب، بعد أن حقق جزء كبير من الأهداف المعلنة وغير المعلنة. فقد حصل على حق استغلال الثروات النفطية السورية في شرق المتوسط، كما حصل على قواعد عسكرية في المياه الدافئة تتيح لروسيا أن تكون لاعباً دائماً وقوياً في الشرق الأوسط. كما امتلك ورقة جديدة يستطيع بها مواجهة الغرب في أوكرانيا.
أما السعودية فكانت تريد من الصفقة إخراج القوة العسكرية الروسية من حلبة الصراع من أجل إعطاء الفرصة لقوات الثورة لتغيير المعادلة على الأرض.
4ـ خطط التقسيم:
هناك من يتحدث عن صفقة أيضاً، لكن هذه المرة مع الغرب، تقوم على أساس انسحاب روسي من سوريا مقابل إطلاق يدها في القرم وأوكرانيا. لكن هذا الكلام ربما يكون مجافياً للواقع الذي يشير إلى أن التدخل العسكري الروسي في سوريا حمى نظام بشار الأسد من السقوط، وهو ما كانت تريده إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة والغرب. حيث لا يريدون لهذا النظام السقوط قبل معرفة البديل الذي سيخلفه، ومدى تعاونه مع إسرائيل، ومدى قدرته على ضبط الحدود معها كما كان يفعل نظام الأسد طوال العقود الماضية.
وفي إطار هذه الاعتبارات يمكن القول إن الانسحاب الروسي جاء بعد أن أنجز التدخل العسكري خطة غير معلنه تقوم على حماية النظام من السقوط لحين تهيئة الظروف لرسم خطوط التقسيم بين القوى العسكرية القائمة على الأرض، مع تقليص المساحة التي تسيطر عليها قوات الثورة، وتوسيع المساحة التي تسيطر عليها القوات الكردية وقوات النظام.
ومن هنا يمكن أن نفهم أسباب مسارعة الأكراد لإعلان النظام الفيدرالي في شمال سوريا، بعد الانسحاب الروسي مباشرة. وكانت قوات الاتحاد الديمقراطي الكردية قد سيطرت على مناطق الشمال بسبب الدعم الجوي الروسي الكبير الذي استغل الصراع مع تركيا بعد إسقاطها مقاتلة روسية، لتقديم دعم عسكري ولوجيستي غير مسبوق للأكراد، الذين يحصلون أيضاً على الدعم من الولايات المتحدة، التي رفضت المطالب التركية المتكررة باعتبار الحزب منظمة إرهابية.
وكان من الغريب إصرار كل من روسيا وأمريكا على تقديم الدعم وبشكل مكثف للأكراد خلال الفترة الماضية. لكن الآن يبدو أن الأمور أصبحت واضحة. حيث مخطط التقسيم بدأ من الشمال الكردي وسيصل إلى باقي مناطق سوريا. وحينها لن تكون هناك حاجة لإسقاط النظام لأنه لن تكون هناك دولة من الأصل، بل دويلات متطاحنة وهو ما تريده إسرائيل حتى تظل في مأمن من نشوء دولة قوية ومستقرة على حدودها الشمالية.
خاتمة:
إن التدخل العسكري الروسي تم بتوافق دولي والانسحاب أيضاً تم بتوافق دولي، بعد أن حقق التدخل أهدافه. فقد استمر النظام السوري حتى الوصول إلى اللحظة المناسبة لتنفيذ مخطط تقسيم سوريا، بعد أن يئست إسرائيل والغرب من إيجاد البديل المناسب للنظام الذي يحقق مصالحهم. وقد بدأ التقسيم بإعلان الأكراد حكمهم الذاتي تحت عنوان الفيدرالية. وهكذا تحققت مصالح إسرائيل والغرب. أما روسيا فقد حصلت على ثروات سوريا النفطية وقواعد عسكرية في المياه الدافئة، ونفوذاً كبيراً في الشرق الأوسط، وأوراقاً جديدة تواجه بها الغرب في أوكرانيا والقرم.