fbpx
قلم وميدان

الانقلاب التركي : هل نراجع السلمية ؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

لم يعد يوم الجمعة 15 يوليو 2016 تاريخاً جديداً يضاف إلى تاريخ الدولة التركية فحسب بل أصبح محط أنظار ناشطي الربيع العربي كله وأصبح الوعي العربي بما يدور حوله مميزا وازدادت  مساحة المشاركة وإضفاء الآراء والتعليق على الأحداث بشكل واسع مما يدل على ارتفاع مميز في الوعي وهو الظاهرة الملحوظة بعد موجات الربيع العربي الأولى ومن أبرز التعليقات التي ظهرت بعد فشل الإنقلاب التركي أن السبب في إفشاله كان مساحة القوة  الموجودة في مواجهته، للدرجة التي ذهب معها البعض إلى القول أن فشل الانقلاب التركي هو بمثابة شهادة وفاة لمقولة “سلميتنا أقوى من الرصاص”.

وتسعي هذه المقالة إلى النظر في عملية إفشال الإنقلاب على مستويين: مستوى دور السلطة الحاكمة المنتخبة في إفشال الإنقلاب ومستوى دور المواطنين أو الشعب في مساعدة السلطة في ذلك.

لقد ظل النظام الديموقراطي الحاكم للدولة في تركيا مستمراً منذ تسعينيات القرن العشرين، مما رسَّخ هيكل مستقر للدولة وأدواتها بوجود برلمان وانتخابات برلمانية قوية عززت من مشاركة المواطنين في الحياة السياسية واستقرار الهيكل المرسوم للدولة إلى حد كبير، وعلى عكس الحالة المصرية بعد 25 يناير كان على الدولة المصرية أن تبني نفسها وأدواتها من البداية بمحاولة هيكلة السلطات مرة أخرى بدستور جديد وبرلمان ومجلس تشريعي بانتخابات جديدة وإنتخابات رئاسية إضافة إلى محاولة رسم وإعادة هيكلة باقي مؤسسات الدولة من قضاء وشرطة وجيش وإعادة تعريف وصياغه أدوار كل مؤسسة منها،  تلك الأمور التي تُعد محسومة في تركيا، فالدستور التركي معمول به منذ عام 1982 وحتى الآن والانتخابات البرلمانية مستمرة لأكثر من دورة بمشاركة المواطنين ولم تعان حالات التزوير كما هو الحال في مصر وظلت مساحات تداخل الجيش وإنقلابه على السلطات الشرعية هي العائق في كل مرة من إنطلاق المؤسسات المنتخبة بعكس الحالة المصرية التي اتسمت بالتزوير الصريح.

أي أن الوضع السياسي التركي قائم ومستقر، أو بمعني أدق تُوجد دولة ولها قيادة سياسية منتخبة تتحكم في أدوات هذه الدولة شرعيا وأن هذه العملية الديموقراطية لها إحترمها من الأوساط السياسية بشكل عام وعند حدوث الإنقلاب لاستلاب هذه الأدوات والسيطرة على كيان الدولة كان على السلطة المنتخبة اتخاذ الإجراءات اللازمة لإستعادة زمام الأمور وكان تصريح هاكان فدان رئيس المخابرات لجنوده بالإشتباك حتى الموت هو أمر منطقي ومفهوم وذلك لأنه يمثل السلطة المنتخبة فاستخدام أدوات الدولة العنيفة من قبل السلطة المنتخبة سواء من المخابرات أو الشرطة السرية أو قوات العمليات الخاصة ضد الجيش المنقلب له مبرره باعتبار الفئة المنقلبة معتدية على سيادة السلطة المنتخبة على أدوات الدولة، ببساطة كانت السلطة المنتخبة تُحارب معتدي عليها من داخلها لأخذ أدوات الحكم منها، وأصبح العنف حقاً مشروعاً لها للدفاع عن هذه الأدوات في هذه الحالة.

وبالنظر إلى دور الشعب فإن الأدوات العنيفة المتوفرة في يد السلطة المنتخبة وحدها لم تكن كافية لإفشال الانقلاب بل كانت تحتاج إلى ظهير شعبي تستند عليه للتأكيد على شرعيتها، في هذه المعادلة فإن سلمية الشعب كانت بمثابة العصا التي استندت عليها السلطة التركية لاستعادة وقوفها من الانقلاب العسكري حيث تحققت عدة نقاط هامة أدت إلى نجاح الدعم الشعبي المقدم للدولة:

أولاً: وحدة الشعب بطوائف وقطاعات كبيرة منه أو على الأقل لم تكن هناك تنازعات قوية أو بارزة أو مؤثرة في الشارع التركي بين طرفين متعارضين (على الأقل لم يكن هناك مظاهرات لتأييد الانقلاب في مواجهة المظاهرات المؤيدة للسلطة المنتخبة كما حدث في 30 يونيو 2013 في مصر) إضافة إلى عدم تكوين الانقلابيين في تركيا لظهير شعبي منظم يعتمدون عليه، حيث أعلنت المعارضة السياسية الرسمية فى الساعات الأولى أنها تقف إلى جانب شرعية السلطة المنتخبة المتمثلة في الرئيس أردوغان وحكومته، وشارك في المظاهرات قطاعات متنوعة من الشعب شملت فئات العمرية مختلفة ومشاركة الجنسين أيضا مما خلق حالة شعبية عريضة يمكن تسويقها بأنها “الشعب التركي”، خلف راية واحدة، هي العلم التركي، وليس أنصار الرئيس أو اتباع حزب العدالة والتنمية فقط. على عكس الحالة المصرية التي اتسمت منذ بدايتها بانقلاب يوليو 2013 أنها من أنصار الرئيس محمد مرسي أو هكذا استطاع الإعلام المصري تصويرها مما جعل الفئة المتظاهرة وكأنها لا تُعبر عن الشعب بل تعبر عن مصالحها الخاصة وفقط.

ثانياً، كان هناك عامل مهم لدى المتظاهرين، وهو وضوح الهدف حيث كانت مواجهة الانقلاب حتى إفشاله واستعادة النظام الشرعي مرة أخرى أمراً اتفق عليه الجميع وهدفا واضحا لدى المتظاهرين بتنوع أطيافهم، ولم ترفع شعارات مختلفة، ولم يصدر خطاب بأهداف مختلفة من أي فصيل معارض.

ثالثاً: كان عامل الوقت مهماً في إنهاء الانقلاب في أقل من 24 ساعة، الأمر الذي لم يسمح بظهور مساحات الخلاف أو إنشاء أرض للصراع بين المتظاهرين لكن المعركة لم تنتهي بعد وما زال الجميع متوجسا القيام بمحاولة أخرى للانقلاب.

رابعاً: اتبع المتظاهرون السلميون أسلوب خطاب سلمي مع الجنود المشاركين في الانقلاب أدى إلى تراجع قطاع كبير منهم عن القيام بأعمال متهورة أو فتح النار على المتظاهرين، وهو ما كشف عن أن تنفيذ ذلك الإنقلاب، لم يكن بناءً على عقيدة راسخة أو أيديولوجية فكرية تسعى للسيطرة على الدولة وإنهاء حكم العدالة والتنمية، وإنما بناءً على أوامر قيادية فقط ممن القيادات التي وقفت خلف الانقلاب، وظهر ذلك جلياً في عدد من المناطق في مدينة إسطنبول بشكل كبير، حيث سلم عدد كبير من جنود الجيش أنفسهم إلى أفراد الشرطة الذين كانوا يشاركون المتظاهرين في تظاهراتهم، وكنت شاهداً على تسليم عدد منهم لأنفسهم بعد نقاش مطول بين المتظاهرين وبين الجنود، ذلك النقاش الذي اختلفت حدته ولهجته بالطبع، لكنه بشكل عام اتسم بالسلمية، حتى أولئك الإنقلابيين الذين كانوا يحتلون جسر “البوغازتشي”، والتي دامت المواجهات المسلحة بينهم وبين أفراد الشرطة لأكثر من 9 ساعات، ولكن هذه المواجهات لم تُسفر عن أي نتيجة حيث كان تسليح الجيش يفوق الشرطة بمراحل كبيرة، وسلموا أنفسهم بعد يقينهم بفشل الإنقلاب وليس تحت ضغط السلاح فقط.

وهذه النظرية في الحرب السلمية تسمى نظريه “السحب” حيث يتم تفريغ الأعمدة المستند عليها النظام الإنقلابي من الأساس، بدلاً من الهجوم عليها فيبدأ سحب الجنود ومحاولة إقناعهم بعصيان الأوامر بطريقة سلمية، بدلاً من إجبارهم باستخدام السلاح فيؤدي ذلك إلى تماسكهم أكثر لإحساسهم بالخطر.

ويقول البعض أن مواجهة الانقلابيين في تركيا شهدت إستخدام بعض المواطنين السلاح الخفيف، وهذا لو ثبتت صحته فإنه لم يكن ذو انتشار واسع يجعل الحراك الشعبي مسلحاً في الأساس وإنما كان التسليح مع أفراد الشرطة بشكل أساسي أثناء مشاركتهم المواطنين في مسيراتهم.

خامساً: كان الغطاء المسلح من السلطة المنتخبة مع الحراك الشعبي الداعم لهذه السلطة كفيلا بإفشال محاولة الانقلاب وإعادة الأمور إلى نصابها، لأن المشهد كان عبارة عن سُلطة منتخبة، تملك عدد من الأدوات العنيفة داخل الدولة وما زالت رموزها ورؤوسها قائمة، ضد متمردين تابعين للجيش يريدون استلاب هذه الأدوات للسيطرة على الدولة فاستعانت السلطة المنتخبة بالشعب، ووفرت لهم غطاء الحماية المسلحة وتبادلت المسؤولية بين السلطة المنتخبة والشعب في إفشال الانقلاب، حيث احتاج الشعب لهذا الغطاء للحماية أولاً، ولضمان امتلاك السلطة أدوات قوة ثانيا، واحتاجت السلطة المنتخبة الشعب للتأكيد على شرعيتها.

أمام هذه الاعتبارات التي شهدتها الخبرة التركية في 15 يوليو 2016، يبرز السؤال: هل من حق المواطنين المدافعين عن السلطة الشرعية المنتخبة في مصر في خلق غطاء مسلح يدافع عنهم كما حدث في تركيا؟

وللإجابة على هذا التساؤل، تبرز عدة ملاحظات أساسية:

أولاً: تتشابه الأحداث في تركيا ومصر في حدوث انقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة، قامت السلطة المنتخبة في تركيا باستخدام بعض الأدوات العنيفة التي كانت تحت سيطرتها من الدولة، أو خلق أدوات عنف تدافع بها عن نفسها، وفي مصر كان من حق السلطة الشرعية استخدام أدوات العنف أيضا التي تحت سيطرتها من الدولة، أو خلق أدوات تدافع بها عن نفسها، لكن لم يكن للسلطة المنتخبة في مصر أدوات تملكها بالأساس، لكن ذلك لا يعني أنه في ذلك الوقت لم يكن لها الحق الأخلاقي من ناحية المبدأ في استخدام أدوات العنف أو خلقها.

ثانياً: تتشابه أيضا الأحداث بين الانقلابين في تحرك جانب من المواطنين المدافعين عن السلطة المنتخبة، هذه التحركات ظلت مدعومة بغطاء قوى من السلطة المنتخبة في تركيا، بينما ظل المتظاهرون في مصر يدافعون عن السلطة المنتخبة لكن بدون ذلك الغطاء من البداية.

ثالثاً: هناك اختلاف جوهري بين التجربتين، هو طول المدة الزمنية في انقلاب مصر فبعد مرور ثلاث سنوات من الانقلاب، تم تفريغ السلطة الشرعية المنتخبة من أدواتها وممثليها، فلم يعد هناك رئاسة أو حكومة أو برلمان، ولم تعد هذه السلطة المنتخبة تستطيع أن تتحكم في أي أداة من أدوات الدولة، سواء كانت عنيفة (جيش أو شرطة الخ) أو إدارية وتشريعية كالحكومة والبرلمان، فحدث تجريد كامل لأدوات الدولة من السلطة المنتخبة، وتم القضاء على رموزها وممثليها الشرعيين سواء بالاعتقال أو النفي أو القتل وبالتالي تحول المشهد من مواطنين يدافعون عن السلطة المنتخبة إلى محتجين يريدون إسقاط النظام. قضاء الانقلاب المصري على هذه السلطة المنتخبة سلب الحق من المتظاهرين من خلق غطاء دفاعي شرعي، وجعله إذا تم تكوينه، يتم تصويره بأنه ميليشيات مسلحة تواجه أدوات الدولة القائمة بالفعل.

هذا التحول الجوهري في المشهد من أفراد وجماعات كانت في السلطة تدافع عنها وعن شرعيتها، إلى أفراد يتم تصويرهم على أنهم يريدون إسقاط السلطة الحالية، ينبغي أن يستوعبه القائمون على الحراك الشعبي في مصر وعلى إدارته، أنهم ليسوا في السلطة ويريدون العودة إليها، وأنهم يسعون إلى إسقاط السلطة الحالية لاستعادة حرية الشعب مرة أخرى، وبالتالي فإن عدم استخدام العنف في إسقاط هذا النظام باستراتيجياته وأدواته وقبلها بتوحد الأطياف المختلفة، يمثل الاختيار الأنجح بناءً على التجارب التاريخية السابقة لحركات المقاومة الغير مسلحة.

رابعاً: على الحراك الثوري في مصر عدم محاربة النظام القائم في مصر، ليس فقط لأنه انقلاب على السلطة، بل لأنه نظام قمعي فاسد. فالانقلاب يفشل في حالة توافر عاملين مؤثرين كما في المثال التركي (غطاء مسلح من السلطة الحاكمة وحراك شعبي سلمي قوي)، لكن مقاومة نظام قمعي لإسقاطه له استراتيجيات وأدوات مختلفة تعتمد على عامل واحد من المثال التركي وهو الحراك الشعبي السلمي القوي.

هذا الحراك الذي يجب ان تتوفر فيه قيادة واضحة وأهداف محددة مع تنوع في الأطياف المشاركة فيه، والتزامه أسس وأدوات الحرب السلمية، كسبيل لإنهاء النظام المصري القمعي (1).

———————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close