fbpx
مختارات

الثورة بين “الشرارة الفكرية” و”أنثي الثور”!!

 

مدونات الجزيرة

من أهم الظواهر في الثورات العظيمة التي غيرت وجه التاريخ البشري تلك الشرارة الفكرية الممهِّدة للثورة، والمصاحبة لها في مسارها. فلا تكون ثورةٌ ذاتُ شأن من غير شرارة فكرية تشعلها في البداية، ثم تكون دليلَها في مسارها، وأفقَها إلى المستقبل.

أولا: الثورة والشرارة الفكرية:

كانت أفكار الفيلسوف السياسي الإنكليزي جون لوك (1632-1704) هي الشرارة الفكرية للثورة الإنكليزية عام 1688. وحينما قرر لوك أن يقتحم أرضية جديدة في القيم السياسية، وأن يقدِّم لبني وطنه مسارا لخروج من أزمتهم السياسية التي أنتجت حربا أهلية طاحنة لأكثر من أربعة عقود (1642-1688) بدأ عمله بتجريد الاستبداد من الشرعية الدينية والتاريخية، ثم صاغ القيم السياسية التي تحقق العدل والحرية .

جعل لوك الرسالة الأولى من رسالتيه العظيمتين بعنوان: “في بعض المبادئ الفاسدة في الحكم” فرد فيها رداًّ مُفحما على معاصره روبرت فيلمر (1589-1653) في قوله بنظرية التفويض الإلهي، التي تجعل شرعية الملوك مستمدة من الخالق لا من الخلق .

وبعد أن مهَّد لوك الأرض في رسالته الأولى بهدم الأساس الأخلاقي للاستبداد في ثقافة قومه، قدَّم فكرة العقد الاجتماعي المبني على الحقوق الطبيعية، في رسالته الثانية التي جعل عنوانها: “في نشأة الحكم المدني الصحيح ومداه وغايته.” وبرهن على أن التعاقد والتراضي الاجتماعي هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية .

وفي فرنسا شهدت العقود الأربعة السابقة على الثورة ظهور كتابات تأسيسية لنظرية العقد الاجتماعي وحكم القانون صاغها فلاسفة فرنسيون. منها كتاب “روح الشرائع” لمونتسكيو الصادر عام 1748، وكتاب “روح الأمم” لفولتير الصادر عام 1757، وكتاب “في العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو الصادر عام 1762 .

وقد لاحظ مؤرخ الثورة الفرنسية ألبير سوبول أن “جميع المؤلفات الكبرى في القرن الثامن عشر مخصصة لمشاكل الحرية، وكانت المظاهر الأساسية لنشاط الفلاسفة -وبالأخص فولتير- الحرب في سبيل التسامح وحرية العبادة، وكانت معضلة المساواة أكثر الأمور أخذا وردا” (ألبير سوبول، تاريخ الثورة الفرنسية، 59). وهذه هي الخميرة الفكرية التي ولدت منها الثورة الفرنسية .

ومن غير خميرة فكرية وأخلاقية ناضجة لا تنجح الثورة أصلا، بل تتحول إلى حرب عدمية، وإن هي نجحت في معركة الهدم، فإنها تفشل في معركة البناء، فتضيع تضحيات الشعوب هدراً. ولعل تعثُّر الثورة الفرنسية، والآلام الطويلة التي مرت بها فرنسا بعد الثورة لمدة ثمانية عقود (1789-1870) قبل أن تستقر دولةً ديمقراطية على مبادئ ثورتها، إنما يرجع إلى عدم نضج الخميرة الفكرية التي انبنت عليها الثورة الفرنسية .

فقد امتلك الفرنسيون من الشرارة الفكرية والأخلاقية ما يكفي لإشعال الثورة، لكنهم لم يمتلكوا منها ما يكفي دليلا للثورة في مسارها، وعاصما لها من الانزلاق إلى استنزاف الذات والحرب الأهلية العدمية.

وقد لاحظ الفليسوف الجزائري مالك بن نبي -وهو يتأمل عبرة الثورة الفرنسية ويستخلص دروسها لحرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي- أن الثورة الفرنسية امتلكت شيئا من الزاد الفكري “في صورة مقدمات وجدَتْها في أفكار جان جاك روسو والعلماء الموسوعيين .

فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز (يوليو) عام 1789. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل… ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها.. قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.” (مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، 14) .

ولو أننا قارنا ذلك بالثورة الأميركية لوجدنا الفرق هائلا، فما لم يتحقق في فرنسا إلا في ثمانين عاما، تحقق في أميركا خلال ثمانية أعوام فقط من عمر الثورة الأميركية (1776-1884). والسبب هو أن قادة الثورة الأميركية كانوا أنضج فكريا وأخلاقيا من قادة الثورة الفرنسية، وأنهم حولوا الخميرة الفكرية التي ورثوها من فلاسفة السياسة الأوربيين، ومن عبرة تاريخ الجمهوريات اليونانية والرومانية، إلى مبادئ عملية، وصيغ إجرائية، تجلَّت في وثيقة “إعلان الاستقلال” وفي “الدستور الأميركي “.

والمتأمل في “الأوراق الفيدرالية”، وهي 85 مقالا كتبها ثلاثة من قادة الثورة الأميركيين (جيمس ماديسون، وألكساندر هاملتون، وجونْ جَيْ) ما بين العامين 1787-1788 لإقناع الجمهور الأميركي بمسودة أول دستور أميركي، يجد عمقا في الطرح، وقدرة على ترجمة عبرة التاريخ اليوناني والروماني، وأفكار الأنوار الأوربية، إلى مؤسسات سياسية في دولة ديمقراطية حديثة. وقد تحولت هذه الأوراق إلى نصوص تأسيسية في الفلسفة السياسية بكثير من الجامعات اليوم، بفضل ما اشتملت عليه من عمق الفكرة ونفاذ البصيرة .

إن انبلاج فجر ثورات الربيع العربي في ختام العام 2010 لم يصحبه بناء أفق نظري يكون زاداً للشعوب في ملحمتها، وضامناً لعدم وأْد جهدها وجهادها السياسي. ويستلزم بناء هذا الأفق النظري تأملاً عميقا في تاريخ الثورات ومآلاتها، وفهم المنطق الداخلي وقوانين الاجتماع المتحكمة فيها، واستيعاب العبرة التي توفرها التجربة التاريخية، وهضم الحصاد الفكري الذي أبدعته العقول الإنسانية في هذا المضمار .

والمؤسف أنه لا يوجد في تراثنا فكرٌ لصناعة الثورات، وإنما فقهٌ للتحذير من الفتن. ولذلك يتعين على أهل الرأي والقلم اليوم أن يسدُّوا هذه الثغرة، وينيروا الدرب للسائرين على درب العدل والحرية .

ثانياً: الثورة ليست أُنثى الثور !

لا يسعفنا الوضْع اللغوي العربي أحيانا في توضيح معنى “الثورة” كما نفهمه اليوم. فقد ورد استعمال لفظ “الثورة” بمعنى مؤنَّث “الثور” أي: البقرة! قال الجوهري: “والثور: الذَّكَر من البقر، والأنثى ثَوْرة.. مثل عَوْد وعَوْدة” (الجوهري، الصحاح، 2/606). وقال أبو هلال العسكري: “والذكر من البقر يُفرَد بالثور، وربما قيل للأنثى ثَوْرة” (العسكري، التَّلخِيص في مَعرفَةِ أسمَاءِ الأشياء، 369). وقال الرازي: “والثور من البقر، والأنثى ثَوْرة، والجمع ثَوِرة كعِنَبة” (الرازي، مختار الصحاح، ص 51) .

لكن بعض الاستعمالات الاشتقاقية أكثرُ إسعافاً، لأنها أقرب إلى الثورة بمعناها المعاصر، ومن ذلك استخدام فعل “ثار” و”أثار” بمعنى الغضب والجلَبة والهيَجان. قال ابن سيده: “ثار ثائرُه، وفار فائرُه، وهاج هائجُه: إِذا تشقَّق غضباً” (ابن سيده، المخصص، 4/80). وقال الحمْيَري: “ثَوَّره: أي أثاره. ويقال: ثوَّر فلانٌ على فلان شرًّا: أي هيَّجه” (الحميرى، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، 2/913) .

واستُعمل لفظ الثورة بمعنى العدد الكثير من الناس: “يقال: ثورةٌ من رجالٍ وثروةٌ، يعني عدداً كثيراً” (الأزهري، تهذيب اللغة، 15/82). كما ورد لفظ الثورة في الشعر أحيانا بمعنى الأخذ بالثأر، كما نجده في قول الرحَّالة المغربي ابن حبير يمدح السلطان صلاح الدين الأيوبي :

ثأرْتَ لدين الْهُدى فِي العِدى فآثرك الله من ثائرِ

وَقمتَ بنصر إِلَه الورى فسمَّاك بِالْملكِ النَّاصرِ

(أبو شامة، عيون الروضتين، 3/372-373)

وليس الغموض في الاستعمال الشائع لمصطلح “الثورة” محصورا في اللغة العربية، فقد لاحظ عالم الاجتماع السياسي كرينْ برينتونْ أن “الثورة من الكلمات التي تتصف بالغموض.” (برينتون، تشريح الثورة، ص 23) لأنها “من الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي” (تشريح الثورة، ص 24). ولذلك يحسُن أن نحرر مصطلح “الثورة” كما نستعمله في هذه المدوَّنة، رفعا للالتباس فيما يأتي من حديث في حلقات “أوراق الربيع “.

لقد أصبح مصطلح “الثورة” في اللغة العربية من أكثر المصطلحات لبسا خلال القرن العشرين، بسبب ما أحاط به من استخدامات متعارضة ومتضاربة في المعنى والدلالة .

فقد استعمله المستبدون -بسوء نية- لإضفاء الشرعية على العديد من الانقلابات العسكرية منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم .

كما استعملته الشعوب -بحسن نية- توصيفا لحروب التحرير الوطني، التي سعى العديد منها لتحرير الأوطان، وغفَل عن تحرير الإنسان، فضاعت تضحياتها، وصادر ثمراتِها قادةٌ مستبدون لا يختلفون عن المستعمرين في الظلم، وإن اختلفوا عنهم في الهوية .

فإذا تركنا جانباً الاستخدامَ الطريف للفظ “الثورة” بمعنى البقرة، فإن اشتقاقات الكلمة وظلالَها في لسان العرب تحمل معاني: الحركة العنيفة، والغضب، والجلَبة، والهيَجان، والكثرة، والإثارة، والأخذ بالثأر. وواضحٌ أن كل هذه المعاني من أعراض الثورات السياسية وتجلِّياتها .

ظهر مصطلح الثورة بمعنى التمرد السياسي أو العسكري في كتب التاريخ العربية، فكتب شيخ المؤرخين أبو جعفر الطبري عن “ثورة الناس بالحَجَّاج بالبصرة.” (تاريخ الطبري 6/210)،

واستعمل ابن خلدون مصطلح الثورة كثيرا في تاريخه، في سياق حديثه عن الانتفاضات والحروب الكثيرة في عصره وقبل عصره. لكنه لم يميِّز بين ما كان منها ذا رسالة سياسية داخلية مثل “ثورة المرابطين” (تاريخ ابن خلدون 1/200) وما كان منها مواجهة بين المسلمين وغيرهم مثل: “”ثورة المسلمين بسواحل إفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها” (تاريخ ابن خلدون 5/237). ولكنه قصد في الحالتين المواجهة التي تقف وراءها قوة اجتماعية، لا مجرد المواجهة العسكرية بين جيشين .

وفي كل الأحوال فإن لفظ الثورة في اللغة العربية لم يحمل معناه السياسي المتداول اليوم إلا في المعاجم العربية المعاصرة، حيث ورد تعريف الثورة بأنها: “اندفاعٌ عنيفٌ من جماهير الشعب نحو تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييراً أساسياًّ” (أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة 1/336). وهذا التعريف قريب من تعريفات الثورة في المعاجم والموسوعات السياسية المعاصرة باللغات الغربية.

ومن هذه التعريفات ما ورد في (موسوعة العلوم السياسية، ص 1477) التي حررها جورج توماس كوريان، وصدرت في واشنطن عام 2011. فقد ورد في هذه الموسوعة أن الثورات “تغييرات سريعة في مؤسسات الحكم، بوسائل غير دستورية، وبدعم جماعات شعبية عادة، من خلال المظاهرات، والانتفاضات المحلية، وحرب العصابات، والحرب الأهلية، والاحتجاجات الجماهيرية، أو غير ذلك من أعمال ثورية.

واعتبر ديْل يودرْ أهمَّ خصائص الثورة السياسية هو “تغيير موقع السيادة” في النظام السياسي. (ديل يودر، “التعريفات الحالية للثورة”، المجلة الأميركية لعلم الاجتماع، المجلد 32، العدد 3). وهذه ملاحظة ثمينة، لأن الثورة نقلٌ للسيادة من يد الفرد المستبد والعصبة المتحكمة إلى أيدي المجتمع، لا مجرد نقل للقيادة من يدِ فرْدٍ إلى يدِ فردٍ آخر، أو إلى أيدي قلة قليلة.

ونحن نميل إلى تعريف الثورة تعريفا معياريا بأنها: “حركةُ مغالبةٍ سياسية قوية، ذات عمق اجتماعي كثيف، تسعى لتغيير نمَط الحكم، من أجل تحرير إرادة الشعب، وتأسيس فضاء سياسي يحقق العدل والحرية، وينقل التنافس السياسي من منطق القهر والتسلط إلى منطق التراضي والتعاقد .”

فما نقصده في هذه الأوراق تحديدا هو الثورات السياسية الساعية إلى تحرير إرادة الشعوب من قبضة المستبدين، وإسناد أمرها إليها دون وصاية.

فغاية الثورات -بهذا المعنى المعياري- ليست استبدال حكام بآخرين، بل التأسيس لقيم جديدة في الحكم، تجعل الحياة السياسية أعدلَ وأنبلَ، وبناءِ فضاء سياسي مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلميا.

إن غاية الثورات الحقيقية -باختصار- هو تحرير الشعوب لا حُكْمُها، وذاك ما يميِّز الثورة عن مظاهر الانتقال السياسي العنيفة الأخرى مثل الانقلابات العسكرية. وبهذا يظهر أن الثورة ظاهرة سياسية واجتماعية مركَّبة، وأنها ليست مجرد أنثى الثَّوْر، كما تحاول أن تقنعنا به معاجمُ عربية عتيقة(1 ).

—————————–

( 1 ) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
المصدر
مدونات الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close