الجغرافيا العسكرية تحليل مواقع أهداف العدو
تمهيد:
تمثل الجغرافيا العسكرية عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية، إذ أنه من المستحيل فصل العمليات العسكرية عن ظروف البيئة الجغرافية حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية. لذا تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة العلاقة بين البيئة الجغرافية من جهة وبين الأنشطة العسكرية من جهة أخرى .
وهناك ارتباط وثيق بين الجغرافيا العسكرية والخطط الإستراتيجية الوطنية. إذ تبحث الأولى عن الخطوط العريضة، التي تحدد اتجاه القوى، والأهداف، والمصالح القومية، وتحديد أماكن النزاع الفعلي أو المحتملة، والتنبؤ بوقت ومكان الأحداث، وتهتم الثانية بإعداد، واستخدام القوة السياسية والاقتصادية للدولة، إلى جانب قوتها المسلحة في السلم والحرب لتامين الأهداف الوطنية. لذا يصعب الفصل بينهما فكل واحدة منهما تعتمد على الأخرى، تتأثر بها وتؤثر عليها، كذلك يصعب فصل الإستراتيجية العسكرية عن الشؤون السياسية، والمدنية، والاقتصادية، وذلك لأن الحرب لا تقتصر على معارك الجيوش في الميدان، بل تشمل جميع مظاهر الحياة كذلك .
الجغرافيا وعلومها:
الجغرافيا هي العلم الذي يتعامل مع التوزيع المكاني للظواهر على سطح الأرض أو على مقربة منه، وتستخدم الجغرافيا لتفسير أنماط وعلاقات الظواهر الطبيعية والبشرية مثل البشر والجوانب الاصطناعية لثقافاتهم وحيواناتهم ونباتاتهم الطبيعية والمناخ والمحيطات وأشكال سطح الأرض. وترتبط أهمية هذه الأنماط والعلاقات بأهمية المشكلة التي يُسعى لحلها .
ويمكن تقسيم الجغرافيا إلى عدة فروع، كل حسب المشكلة المطروحة، فتعنى الجغرافيا الاقتصادية بالتوزيع المكاني للمصانع والموانئ وحركة السلع والأموال بين الأماكن المختلفة، وتعنى الجغرافيا البشرية بالطريقة التي يعيش فيها الناس وبيئاتهم، كما تعالج جغرافيا المدن العلاقات بين الجوانب المختلفة من المدن، وتعنى الجغرافيا السياسية بأنماط العلاقات بين البلاد والوحدات السياسية الأخرى، وتعنى الجغرافيا الطبيعية بالمعالم الطبيعية لسطح الأرض كالأنهار والجبال والسهول والتربة وظواهر جوية كالعواصف، أما الجغرافيا العسكرية فهي ذلك الجزء من العلوم العسكرية الذي يتعامل مع خصائص منطقة العمليات بقدر ارتباطها بالقوات والمهام العسكرية. والجغرافيا العسكرية هي تطبيق لأساليب التحليل الجغرافي للمشكلات العسكرية. وتطبق الجغرافيا العسكرية في مناطق تحددها طبيعة ومهام القوات المسلحة. وتقسم إلى أربع فروع رئيسة هي:
اولا: الطبوغرافيا العسكرية:
تستخدم الطبوغرافيا العسكرية لتحديد أثر الظواهر الطبيعية والاصطناعية لمنطقة العمليات على عمليات عسكرية. وهذا يشمل حساب الظواهر الطبيعية كمعالم سطح الأرض والتضاريس وأنماط التصريف المائي والحياة النباتية والحياة الحيوانية، ومواد سطح الأرض، ويدخل في الحسبان منجزات الإنسان كالمباني والطرق والسكك الحديدية والمطارات والسدود وخطوط الأنابيب وفلاحة الأرض. ولكن لا يدخل الإنسان في الحسبان عادة في المنطقة المعنية. ويمكن أن يشمل تحليل الأرض الطقس والمناخ. وتستعمل مصطلحات أخرى غير الطبوغرافيا العسكرية لوصف استخدام الجغرافيا العسكرية، اهمها تحليل الارض وتقدير الارض واستخبارات الارض.
وتعنى الطبوغرافيا العسكرية بتوجيه المهمة، كما تعرّف منطقة العمليات طبقا للمهمة، وستختلف أهمية معالم سطح الأرض تبعا لطبيعة المهمة، وللتل والنهر على سبيل المثال أهمية مختلفة إن كانت المهمة دفاعية وليست هجومية. إن تحليل الأرض أمر ديناميكي متعدد الجوانب، فالموقف العسكري يتغير باضطراد، وستتغير وجهات النظر، وهكذا ستتغير أهمية الأرض بالنسبة للقائد، فالتغيرات في الأسلحة العسكرية والتكنولوجيا يمكن أن تغير أهمية الأرض، ويمكن للنهر الذي كان يشكل حاجزا كبيرا أن يصبح معضلة بسيطة بعد إنتاج وتحسين معدات التجسير القتالي، ويمكن لهدف كان مهملا في الماضي بسبب بعده أن يصبح ذو أهمية بعد إنتاج أسلحة بعيدة المدى. حتى الأرض نفسها تتغير بفضل ظواهر وأحداث طبيعية كانجراف التربة والزلازل. كما تتغير بالإنشاءات البشرية كالمطارات والجسور، كما تغيرها العمليات العسكرية بفعل تحركات القوات ونيران المدفعية والضربات الجوية وتدمير البنى.
العناصر العسكرية لطبوغرافيا العسكرية:
- الموانع : وهي معالم الأرض التي تبطئ أو تحد من سرعة حركة القوات الصديقة أو المعادية أثناء الاشتباكات.
- المراقبة: وهي قدرة منطقة ما على السماح أو منع مراقبة المنطقة من قبل العدو بالمشاهدة البصرية أو بالمستشعرات.
- التخفية: دور منطقة ما في تسهيل تجنب المراقبة من قبل العدو.
- الغطاء : ما توفره منطقة ما من حماية أمام صواريخ وأسلحة النيران المباشرة للعدو.
- طرق المواصلات : وتشمل الطرق بأنواعها لحركة الأفراد والآليات.
هناك عنصر أساسي في الطبوغرافيا العسكرية ألا وهو تعريف وتحليل العلاقات المكانية وسط المعالم الأرضية، فعلى سبيل المثال إذا كانت المهمة العسكرية هي الاستيلاء على تقاطع طرق فإن عدة عناصر يجب ملاحظتها : موقع التقاطع بدقة، ومسافة واتجاه هذا التقاطع بالنسبة للوحدة العسكرية التي ستقوم بالمهمة، وخصائص وميزات الأرض، والموقع النسبي لمعالم الأرض ( إن كانت تسهل أو تصعب مهمة الوحدة العسكرية المكلفة بالمهمة ) يجب إدخال مثل هذه الأمور في الحسبان، إضافة إلى أسلحة الوحدة وأفرادها ومعداتها لا لتقدير الزمن اللازم فحسب لإنجاز المهمة فحسب بل حتى إن كان بالإمكان إنجاز المهمة أصلا.
ثانيا: تحليل استراتيجية المنطقة العسكرية.
إن تحليل استراتيجية المنطقة هو تطبيق للجغرافيا العسكرية على مستوى فن إدارة العمليات، ويستخدم تحليل المنطقة لوصف الأثر الواقع على العمليات العسكرية لخصائص مسرح حرب حقيقي أو محتمل، وتحليل المنطقة يختلف عن تحليل الطبوغرافيا العسكرية، لأنه يشمل تخليل البشر وطبيعتهم وثقافتهم.
كما اهتمت الطبوغرافيا العسكرية العمليات العسكرية الفردية بينما تحليل استراتيجية المنطقة يستخدم على نطاق الجيوش، لذا فان تحليل المنطقة يحتاج وقت طويل وتخضع لمبدأ التنبؤ. لذا يعتبر جهاز الاستخبارات في القيادة الرئيسة للقوات البرية والبحرية والجوية هي المسؤولة عن تحليل استراتيجيات المناطق العسكرية.
لهذا فان تحليل المنطقة يقدم تخطيط للعمليات العسكرية في الميدان، وإن اقتضت قسوة أحوال الشتاء متطلبات خاصة للملابس العسكرية فهذا يعني إدخال ذلك بالحسبان عند الإعداد للحملة العسكرية، وإن كان غطاء الغيوم سيحد من العمليات الجوية فهذا يعني بالضرورة حساب ذلك عند التخطيط لنوع وحجم الوحدات التي ستستخدم، وإن كانت الأرض في بعض الأماكن لا تصلح لحركة الدبابات فإن ذلك سيحسب حسابه عند تنظيم القوات للقتال، كما أن وجود المدنيين سيؤثر عند القرار باستخدام أسلحة إسناد نووية أو تقليدية، ويؤثر وجود اللاجئين على حركة القوات والمؤن بل والموارد، وعليه فإن كل العناصر والعوامل السابقة تدخل في الاعتبار في تحليل المسرح.
ثالثا: الجيوبولتيك
يطلق على تطبيق الجغرافيا العسكرية على المستوى العالمي أو الاستراتيجي اسم الجيوبولتيك. ويشمل الاعتبارات السياسية والدبلوماسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التى تؤدي إلى فهم أو مدخل استراتيجي كامل.
إن جوهر الجيوبولتيك هو اعتبار عناصر حجم وشكل وخصائص أمة ما مقارنة مع أمة أخرى، وقد دوّن التاريخ أمثلة عديدة على أهمية الموقع والأرض فدولة مثل بولندا مثلا هي دولة بين قوتين عظميين لكنها دون خطوط دفاع طبيعية قد عانت من غزو متكرر، وبقيت سويسرا محايدة دون المساس بها رغم مرور المنطقة بعدة حروب كبيرة وذلك بخصائص معقلها في جبال الألب. أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت بمأمن من الغزو لبعدها عن أوروبا ولم تكن بحاجة إلا لأسطول بحري صغير في الفترة 1965 – 1917 في حين أن اليابان افتقرت للأرض الفسيحة والمواد الخام، وسعت على توفير أمنها بالتوسع نحو الصين وجنوب شرق آسيا.
تدخل الجيوبولتيك في الإعتبار التوتر القائم بين الدول البحرية القوية والدول الداخلية الحبيسة. وقدّم ألفرد ثاير ماهان فكرة القوة البحرية اعتمادا على التجربة الخاصة ببريطانيا حيث صمدت الجزر البريطانية، واستعصت على أي غزو من القارة الأوروبية، وقد حكمت بريطانيا إمبراطورية عالمية نحو 140 عاما بفعل التفوق البحري على الصعيدين التجاري والعسكري. وفي عام 1904 وصف السير هارولد ماكيندر السهول الروسية بأنها قلب أوروبا وتنبأ بأن التفوق النهائي على العالم سيكون لمن يسيطر على القلب، أما في ألمانيا وقبل الحرب العالمية الثانية فقد دعم كارل هاوسهوفر أهداف الحرب التي شنتها ألمانيا، مؤكدا أن ائتلاف ألمانيا وروسيا واليابان سيكون غير قابل للهزيمة. كان غزو هتلر للاتحاد السوفيتي عكس نصيحة هاوسهوفر سببا لقيام تحالف بين القوى البحرية ممثلة بالإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة والقوة البرية السوفيتية مما أدى في النهاية إلى هزيمة ألمانيا عام 1945. وقدّم نيكولاس سبايكمان عام 1943 فكرة أرض الحواف كمقابل لفكرة الأرض القلب وبناء على رأي سبايكمان فإن اتحادا مؤلفا من القوة الاقتصادية لأرض الحاف أي الولايات المتحدة وغرب أوروبا ودول حوض المحيط الهادي سيكون أكثر قوة من الأرض القلب في الاتحاد السوفيتي.
إن الجيوبولتيك عنصر أساسي في الفكر الاستراتيجي العسكري في عهد القوة النووية، وإن المفاهيم الجيوبولتيكية للموقع النسبي والقوة أمر هام في الإبقاء على توازن عالمي لقوة التحالفات بين القوى العظمى والقوى المتوسطة . تؤلف الأفكار الجيوبولتيكية فكرة النقاش الجاري في الولايات المتحدة الأمريكية بين المدافعين عن الاستراتيجية البحرية وأنصار استراتيجية التحالف (الدول الداخلية). وتساعد الجيوبولتيك في فهم كيفية تأثير التغيرات المستقبلية في القوى النسبية للدول على العمليات العسكرية المتوقعة .
الجغرافيا العسكرية عمليا:
تشكل الجغرافيا العسكرية جانبا من عملية التخطيط التي يقوم بها القائد. وتبدأ عملية التخطيط عند استلام أو تولي مهمة جديدة من القيادات الأعلى، وبعد أن يقوم هذا القائد بتحليل ودراسة المهمة، تكون الخطوة التالية إعداد تقدير موقف، ويشمل تقدير الموقف دراسة المهمة والقوات الصديقة والقوات المعادية وتحليل جغرافي عسكري لخصائص منطقة العمليات. وتوضع وتقيم بدائل المسالك المفتوحة لإنجاز المهمة. ويقرر القائد بناء على المسلك المفتوح ويصدر الأوامر. وتعتبر نواتج التخطيط مهام تسند للوحدات الأدنى، وباستلام هذه المهام الجديدة من قبل الوحدات الأدنى تبدأ دورة جديدة من التخطيط العسكري بما في ذلك تقديرات إضافية للموقف والتحليل الجغرافي لمناطق العمليات الجديدة.
لذا فإن الجغرافيا العسكرية تستخدم آخر التكنولوجيا الحديثة والأساليب، حيث تستخدم الأقمار الصناعية في الجيوديزيا والكارتوغرافيا، كما يستخدم التصوير الفضائي في الكارتوغرافيا وتحليل الأرض وتحليل المسرح. وتستخدم أجهزة الحاسب الآلي في إجراء حسابات عوامل الوقت والمكان ومواقع الأهداف وتكملة وإدارة وتحليل المعلومات الجغرافية. وتعتبر الأساليب الحديثة في الرياضيات والإحصاء والتحليل المكاني تطبيقا لمشاكل الجغرافيا العسكرية.
مشكلات الجغرافيا العسكرية
هناك من يرى بأن الجغرافيا العسكرية ليست ذات أهمية كبيرة في العمليات العسكرية وأن في غالبها تخدم الجيوش النظامية المالكة لأسلحة متطورة، وعلى الرغم من صحة بعض ما يقال او يكتب الا انه لا يمكن أن تكون هناك مجموعات قتالية محترفة ولا تعرف كيف تفكر الجيوش النظامية، وهذا يرجع إلى النقص العام في معرفة الجغرافيا العسكرية ووظائفها. وتوظف جميع القوات العسكرية مختلف عناصر الجغرافيا العسكرية، لكن معظمها لا يدرك أنه يستخدم الجغرافيا العسكرية.
فنادرا ما يتم تدريس الجغرافيا العسكرية كموضوع موحد. ويدرس تحليل الأرض وتحليل المناطق الاستراتيجية في المعاهد العسكرية كقسم من مساقات التعبية أو الاستخبارات، وتدرّس عناصر الجيوبولتيك في كليات الحرب. على أي حال اختفى التقدير الأساسي للجغرافيا العسكرية كموضوع موحد بإجراء التحليل المكاني.
على الرغم من أن الجغرافيا العسكرية في الماضي أثر جوهري على القتال العسكري. ولعب شتاء روسيا دورا في هزيمة نابليون وهتلر. وساعدت أشكال سطح الأرض “هضاب الكويستا” التي يمكن الدفاع عنها، والواقعة شمال باريس على إيقاف الغزو الألماني عام 1914. وأوقفت الأسيجة النباتية من تقدم الحلفاء في النورماندي، واعترض اتساع مساحة الصين المحاولات اليابانية للسيطرة العسكرية في الثلاثينات من القرن العشرين. ومكنت طبيعة منطقة الخليج التكنولوجيا من سحق الجيش العراقي بوقت قصير جدا. ومن المنطقي أن يكون للجغرافيا العسكرية أثر جوهري على القتال مستقبلاً.
خاتمة:
- إن قيمة الجغرافيا العسكرية في شمولها لتأثيرها في منطقة العمليات بإجراء وإدامة التحليل المكاني.
- إن بقاء الجغرافيا العسكرية لا يعود إلى إمكانياتها لأنها نادرا ما تُطبق من جغرافيين مدرَبين أو عسكريين يفهمون النهج الجغرافي. وحتى ذلك فإن الأفكار والمفاهيم الجغرافية هي الآن أكثر مما مضى أمر أساسي لتخطيط وإدارة العمليات العسكرية ( 1).
—————-
الهامش
( 1 ) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.