تقارير

الجيش اللبناني: الواقع والدور المرتقب

مقدمة

نشأت دولة لبنان عام 1920 بقرار من الانتداب الفرنسي ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم ما انفكت تعاني من جملة أزمات داخلية مستعصية غالبا ما تكون مرتبطة بأزمات منطقة الشرق الأوسط. انتهت معظم هذه الأزمات بتسويات، لكنها لم تصل يوما إلى حلول دائمة، ومن هنا ابتدع اللبنانيون صيغة (لا غالب ولا مغلوب) عام 1958 و اتفاق القاهرة الملتبس بين قيادة الجيش ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969. كما توصل اللبنانيون أيضا إلى صيغة الديموقراطية التوافقية في اتفاق الطائف عام 1989 الذي أعقب حربا طاحنة بين بعض وحدات الجيش والقوات السورية.

لم يكن اللبنانيون يوما على وفاق صلب بل غالبا ما توزعوا على المحاور الإقليمية والدولية، وكان ذلك التوزع يستند إلى الانتماء الطائفي والمصالح المشتركة بين الجماعات اللبنانية والدول الخارجية.

في ظل هذه التركيبة ولد الجيش اللبناني. في البدء كانت النواة: فرقة الشرق التي أنشأها الفرنسيون عام 1916 قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى واتضاح هزيمة الدولة العثمانية. تألفت تلك الفرقة من متطوعين لبنانيين وسوريين انضووا في الجيش الفرنسي وجرت تنشئتهم العسكرية وفقا للأنظمة الفرنسية. عام 1943 وفي اطار التنافس الفرنسي البريطاني نال لبنان استقلاله لكن الجيش بقي تحت السلطة الفرنسية لغاية الأول من أغسطس 1945 حيث أصبح تحت سلطة الحكومة اللبنانية.

بداية التحديات

بعد أقل من ثلاث سنوات أي عام 1948 نشبت الحرب في فلسطين وأعلن إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين وطرد القسم الأكبر من السكان الفلسطينيين إلى الدول المجاورة وبينها لبنان. شارك الجيش اللبناني في الحرب وكان من إنجازاته احتلال بلدة المالكية وفك الحصار عن جيش الإنقاذ الذي شكله متطوعون عرب لمساندة الفلسطينيين.

أصبح لدى الجيش اللبناني عدو خارجي على حدوده الجنوبية هو إسرائيل، وعبئا امنيا داخليا تمثل بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي توزعت على جميع المحافظات. هذا التفصيل تحكم بالانتشار الأمني للجيش في المناطق اللبنانية خلال أحداث استمرت منذ عام 1968 ولغاية اليوم حيث كان الوجود الفلسطيني المسلح من العوامل المؤثرة.

عام 1952 حصلت تظاهرات غفيرة في لبنان طالبت باستقالة الرئيس بشارة الخوري والذي استقال بعد أن شكّل حكومة برئاسة اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش. أشرفت الحكومة على انتخابات رئاسية بعد عشرة أيام أفضت إلى انتخاب كميل شمعون رئيسا للجمهورية. وكانت تلك المرة الأولى التي يتسلم فيها قائد الجيش منصب رئاسة الحكومة وعمليا راس الدولة بغياب رئيس للجمهورية وطرحت دورا سياسيا للجيش ما زال مطروحا بطرق مختلفة.

أول تمرد: قائد الجيش رئيسا للجمهورية

عام 1958 حدث نزاع أهلي في لبنان وتمرد على الحكومة اللبنانية بسبب خلاف بين المسلمين الذين رغبوا بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا أو التزام سياستها، فيما كان رئيس الجمهورية كميل شمعون ومعه المسيحيون يعارضون الوحدة ويطلبون الانضمام إلى حلف بغداد الموالي لبريطانيا وأميركا. ثار الزعماء المسلمون ضد حكم الرئيس شمعون وانشق عدد قليل من العسكريين عن القيادة. سجل رفض قائد الجيش فؤاد شهاب انزال الجيش ضد المتمردين تلبية لأوامر الرئيس شمعون. وكان هذا أول صدام بين قائد الجيش ورئيس الجمهورية. بعد انتهاء ولاية الرئيس شمعون في أواخر عام 1958 شُكّلت حكومة برئاسة قائد الجيش. هذه المرة اتفق الموفد الأميركي السفير مورفي مع حكومة الجمهورية العربية المتحدة برئاسة الرئيس عبد الناصر على انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية. وفعلا انتخب شهاب وكان ثالث رئيس بعد الاستقلال وأول قائد جيش يتسلم السلطة في انتخابات دستورية جاءت كتسوية لأحداث واضطرابات داخلية. تم استيعاب العسكريين المتمردين وأعيد بعضهم إلى الخدمة وتمت تسوية أوضاع الآخرين خارج المؤسسة العسكرية.

في عهدي شمعون وشهاب كان الجيش اللبناني صغير العدد، فلم يتجاوز العشرة آلاف في أفضل الأحوال لكن القوات الجوية كانت الأحدث في المنطقة ومجهزة بطائرات هنتر البريطانية وميستير الفرنسية وفيما بعد تجهز بالميراج الفرنسية وكانت الأحدث في حينه.

وقعت الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة في يونيه 1967 واحتلت إسرائيل أراض من ثلاث دول عربية على حدودها. لم يدخل لبنان الحرب ولم يتدخل الجيش اللبناني ولم يخسر لبنان أرضا. لكن تبعات تلك الهزيمة كانت خطيرة وأهمها تدفق اللاجئين من الضفة الغربية إلى الأردن. بعد هزيمة الجيوش العربية لجأ الفلسطينيون إلى الكفاح المسلح ضد إسرائيل. شهدت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسوريا بناء منظمات مسلحة. في لبنان اصطدمت المنظمات الفلسطينية المسلحة بالجيش اللبناني عام 1969 وتم التوصل إلى اتفاق بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية مصرية على تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح سمي اتفاق القاهرة.

في إبريل عام 1973 حصل صدام عسكري كبير بين الجيش وقوات منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وبعض مناطق البقاع والجنوب وجبل لبنان وتم التوصل إلى وقف اطلاق النار بعد تدخل السفراء العرب مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية.

تعاظم وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وازداد نفوذها في المناطق الإسلامية على حساب الدولة والجيش اللبناني.

 تصاعدت الخلافات الداخلية وانقسم اللبنانيون إلى مؤيد للوجود الفلسطيني المسلح غالبيته من المسلمين ومعارض وغالبيته من المسيحيين وتوسع الوجود الفلسطيني المسلح إلى خارج المخيمات وبات الفلسطينيون جزءا من الحياة السياسية في لبنان.

الحرب الأهلية: الانقسام الأول

في 13 إبريل 1975 بدأت الحرب الأهلية إثر تعرض بيار الجميل رئيس حزب الكتائب لمحاولة اغتيال، رد أنصاره بإطلاق نار على حافلة تضم عناصر فلسطينية كانت تمر في المنطقة، فيما عرف بمجزرة بوسطة عين الرمانة. امتدت الاشتباكات إلى مناطق أخرى من بيروت وضواحيها وسرعان ما انتشرت إلى معظم المناطق اللبنانية. كان المتقاتلون فريقين، الأول منظمة التحرير الفلسطينية ومعها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية وأبرزها الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي وأحزاب البعث والأحزاب الناصرية؛ وكان المسلمون عموما مؤيدين لهذا الفريق. أما الفريق الآخر فهو حزب الكتائب اللبنانية برئاسة بيار الجميل وحزب الوطنيين الأحرار برئاسة رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون وأحزاب أخرى؛ وكان عموم المسيحيين مؤيدين لهذا الفريق.

اقتصرت مهمة الجيش اللبناني على الانتشار في مناطق متفق عليها بين الفريقين المتقاتلين وحماية اتفاقات وقف اطلاق نار وفتح الطرق إلى مرفأ بيروت وإلى مطارها ولم يتمكن من التدخل بالقوة لوضع حد لهذه الحرب وإرغام المتقاتلين على الانكفاء وبدأ نفوذه يتآكل.

في فبراير عام 1976 تمرد الضابط احمد الخطيب في البقاع الغربي وأعلن تأسيس “جيش لبنان العربي” وسيطر على ثكنات الجيش والقواعد الجوية والبحرية في المناطق ذات الغالبية المسلمة التي يسيطر عليها تحالف الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية. أما المناطق ذات الغالبية المسيحية فقد بقيت وحدات الجيش ملتزمة بالقيادة الشرعية. لكن ذلك لم يمنع من انشاء وحدات ضمنها مثل “جيش لبنان” الذي قاتل ضد الفلسطينيين في مخيمي تل الزعتر وجسرالباشا و”لواء عكار” وهو مؤلف من العسكريين المسيحيين من أهالي عكار الذين بقوا في القطاع الشرقي من مدينة بيروت.

وكانت هذه المرة الأولى التي يواجه فيها العسكريون اللبنانيون الانقسام.

طرحت في الأوساط اللبنانية السبل الآيلة إلى إعادة توحيد الجيش كمقدمة إلزامية لإعادة توحيد البلاد.

عام 1976 انتخب الياس سركيس رئيسا للجمهورية وعين العماد فكتور خوري قائدا للجيش الذي عمل على توحيد الجيش تحت قيادته. لكن سلطة خوري بقيت إدارية لأن وحدات الجيش كانت تخضع لنفوذ القوة السياسية المهيمنة في مكان انتشارها.

الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وتبدل المعطيات: الانقسام الثاني للجيش

عام 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني والبقاع ووصلت إلى مشارف العاصمة بيروت ثم دخلتها. انهارت قوات منظمة التحرير الفلسطينية ولم تتصدى قوات الجيش للقوات الإسرائيلية المتقدمة لأسباب عديدة أبرزها الافتقار إلى التجهيزات العسكرية المناسبة. انتخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية واغتيل قبل ان يتسلم مهامه ثم انتخب امين الجميل. عام 1983 حصل الجيش اللبناني على سلاح وعتاد من الولايات المتحدة وأقيمت مخيمات تدريب للوحدات اللبنانية بإشراف ضباط أميركيين. في هذه الأثناء كانت القوات الأميركية تنتشر في مطار بيروت والساحل الجنوبي للمدينة والجيش الفرنسي في القطاع الغربي من المدينة. بدأت القوات الإسرائيلية بالانسحاب على مراحل من دون أن يتسنى للجيش اللبناني أن يحل مكانها. في خريف 1983 انسحبت القوات الإسرائيلية من عاليه والشوف وفور انسحابها نشب قتال بين ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية وميلشيا الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزية تدعمها قوات سورية وفلسطينية. نتج عن ذلك هزيمة ساحقة للقوات اللبنانية وتهجير عدد كبير من القرى والبلدات المسيحية و المسيحيين في البلدات المختلطة. لم يقم الجيش اللبناني باي دور لحماية السكان المدنيين ووقف القتال بين الميليشيات. في فبراير عام 1984 أعلنت الوحدات العسكرية المنشرة في المناطق ذات الغالبية الاسلامية التوقف عن التزام اوامر قيادة الجيش وبقي الوضع ملتبسا؛ أي أن الوحدات ترتبط بقيادة الجيش ولا تنفذ أوامرها. في الشهر نفسه، فبراير 1984، انسحبت إسرائيل من منطقة الشحار جنوب شرق بيروت ونشب قتال وانهزمت القوات اللبنانية ونزح المسيحيون عن قراهم. في مطلع عام 1985 وبعد مؤتمري جنيف ولوزان اللذين جمعا القوى السياسية اللبنانية عينت الحكومة العماد ميشال عون قائدا للجيش وعادت جميع الوحدات إلى الالتزام بأوامر القيادة الجديدة. في مارس 2005 انسحبت القوات الإسرائيلية من شرق صيدا وإقليم الخروب وتكررت هزيمة القوات اللبنانية وتكرر نزوح المسيحيين. أدى الاجتياح الإسرائيلي والانسحاب إلى تغيير ديموغرافي في جبل لبنان وتكريس عجز الجيش اللبناني عن حماية المدنيين رغم تسليحه الأميركي وتدريبه ومساندة البوارج البحرية الأميركية له.

انتهاء ولاية الرئيس الجميل: الانقسام الثالث للجيش

انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل في سبتمبر 1988 وفشل مجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس جديد للجمهورية. شكل الجميل قبيل مغادرته القصر الرئاسي حكومة عسكرية برئاسة العماد عون قائد الجيش وعضوية أعضاء المجلس العسكري. امتنع الأعضاء المسلمون الثلاثة من الانضمام إلى الحكومة واقتصرت الحكومة على رئيس ووزيرين. في المناطق الإسلامية بقيت الحكومة التي يتراسها الرئيس سليم الحص تمارس أعمالها وعينت اللواء سامي الخطيب قائدا للجيش فأصبح في لبنان حكومتان وقائدان للجيش كل واحد يقود الوحدات التي تقع في نطاق سيطرة القوى السياسية التي تدعمه.

حرب العراق الأولى وتداعياتها: وحدات الجيش اللبناني تقاتل بعضها

في مارس 1989 أعلن العماد عون حرب التحرير ضد القوات السورية المنتشرة في لبنان وشاركت وحدات الجيش في المناطق ذات الغالبية المسيحية بهذه الحرب وتركزت على القصف المدفعي المتبادل الذي طاول اهداف مدنية في بيروت وجبل لبنان وبعض مناطق البقاع. لم تشهد هذه الحرب أي تقدم بري أو احتلال مواقع من أي من الفريقين. توقفت هذه الحرب بعدما عقد مؤتمر الطائف الذي حضره جميع النواب اللبنانيين الأحياء وتوصل إلى وثيقة الوفاق الوطني والتي عرفت باتفاق الطائف. انتخب رينيه معوض رئيسا للجمهورية واغتيل بعد أقل من شهر وانتخب بدلا عنه إلياس الهراوي والذي سارع إلى تشكيل حكومة وتعيين العماد إميل لحود قائدا للجيش.

رفض العماد عون الاعتراف باتفاق الطائف وهذا ما أدى إلى نشوب حرب في داخل المناطق المسيحية بين الجيش الموالي للعماد عون وبين ميليشيا القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع. كانت وحدات الجيش في المناطق ذات الغالبية الاسلامية خارج هذه الحرب.

في أغسطس 1990 اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت واحتلتها، ولجأ أمير الدولة وقادتها إلى الخارج. أعلن عن تشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت وشاركت سوريا إلى جانب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. في 13 أكتوبر 1990 قامت القوات السورية بعملية عسكرية خاطفة سيطرت في نهايتها على معقل العماد عون الذي لجأ إلى السفارة الفرنسية. شاركت وحدات الجيش اللبناني بقيادة العماد لحود القوات السورية في اقتحام مناطق الجيش اللبناني بقيادة عون وحصلت مواجهات عسكرية بين عسكريين من الجيش الواحد.

العماد إميل لحود: إعادة توحيد الجيش

ما أن سيطرت القوات السورية ووحدات الجيش اللبناني بقيادة العماد لحود على المناطق التي كان يسيطر عليها العماد عون حتى بادر العماد لحود بالعمل على إعادة توحيد الجيش. تلقى لحود دعما حكوميا لبنانيا وسوريا باعتبار أن الجيش الموحد يعني بلدا موحدا. اتخذ لحود سلسلة تدابير لإعادة توحيد الجيش منها:

  • دمج الوحدات الكبرى: منذ الثمانينات ونظرا للأوضاع الأمنية والسياسية أصبحت وحدات الجيش تضم غالبية من العسكريين من طائفة واحدة في كلا المنطقتين المتنازعتين. كان لا بد من دمج العسكريين في جميع الألوية. عمل العماد لحود على سحب كتيبتين من كل لواء وضمهما للواء اخر وقد جرى ذلك في جميع الألوية بحيث أنها باتت تتألف من وحدات مختلطة.
  • دمج العسكريين داخل كل وحدة بحيث تتألف كل وحدة من عسكريين من مختلف الطوائف ومن مختلف المناطق أيضا.
  • إلغاء الطابع الطائفي والمناطقي لوحدات الجيش. منذ عقدين أصبح في أذهان العسكريين والمدنيين أن لواء في منطقة ما، هو مؤلف من سكان المنطقة وطائفتها. بعد إعادة الدمج أجرى العماد لحود تبديلا للألوية بحيث صار كل لواء يخدم في منطقة غير التي خدم فيها عقدين من الزمن. وبهذا أصبح الجيش اللبناني واحدا موحدا، وكل وحدة من وحداته تضم عسكريين من مختلف الطوائف والمناطق وهي عندما تتدخل في عمليات دفاعية او حفظ أمن يكون لبنان بأسره ممثَّلا في هذه الوحدة.

 رافقت هذه التدابير إجراءات أخرى لتجهيز الجيش. تسلم الجيش اللبناني من القوات السورية نحو 200 دبابة قديمة من طراز ت 56 ونحو 150 قطعة مدفعية من عيار 122 و130 روسية الصنع كما تسلم من الولايات المتحدة بالشراء بأسعار رمزية نحو 1,000 ناقلة جند و3,000 شاحنة و24 طائرة هليكوبتر. عكست المشاركة الأميركية السورية في تجهيز الجيش مقدار الوفاق على دعم الجيش من كلا الطرفين.

انتشار وحدات الجيش في معظم المناطق اللبنانية

عام 1991 عدل مجلس النواب الدستور اللبناني وفقا لبنود اتفاق الطائف. في الدستور القديم كان رئيس الجمهورية هو القائد الاعلى للقوات المسلحة وبعد التعديل أصبح: رئيس الجمهورية هو القائد الاعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء. مع هذا التعديل صار الجيش مرتبطا بمجلس الوزراء مجتمعا، أي ليس بشخص رئيس الوزراء ولا رئيس الجمهورية وسيكون لذلك تأثير على مهمات الجيش الأمنية والدفاعية.

 اعتبارا من مطلع 1991 ومع توحيد الجيش ودمج العسكريين وإلغاء الطابع الطائفي لوحدات الجيش قرر مجلس الوزراء نشر الجيش اللبناني في جميع المناطق اللبنانية لمؤازرة قوى الأمن الداخلي ولاستلام المباني الرسمية التي تسيطر عليها الميليشيات وضبط الممنوعات ومكافحة التهريب برا وبحرا والانتشار على الحدود الجنوبية والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية.

نجح الجيش اللبناني في توحيد نفسه وتوحيد مؤسسات الدولة وإلى حد ما توصل إلى التفاف الشعب حوله وتأييده في كل مهامه وهذا لم يحصل منذ عقدين من الزمن حين كانت كل فئة تنظر إلى الجيش كطرف في النزاعات اما بعد توحيد المؤسسة فقد حاز الجيش على ثقة مختلف الطوائف اللبنانية.كما انطلقت مقاومة لبنانية بقيادة حزب الله ضد القوات الإسرائيلية التي تحتل شريطا على الحدود الجنوبية وتمكنت عام 2000 من فرض الانسحاب الإسرائيلي من دون قيد ولا شرط من الأراضي المحتلة في سابقة تعتبر الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

التحول الكبير عام 2005

الجدير بالذكر أن القوات السورية المنتشرة في لبنان أخذت تخفف وجودها العسكري اعتبارا من عام 1996 حيث سجل انسحاب فرقة كاملة، أي نحو 15 الف جندي واعتبارا من عام 2001 نفذت القوات السورية عمليات إعادة انتشار تقلص من خلالها عديد الجيش السوري من نحو 50 ألفا إلى 14 ألفا عشية الانسحاب الأخير عام 2005.

عام 2005 اغتيل رئيس الوزراء السابق وزعيم المسلمين السنة رفيق الحريري في تفجير سيارة في بيروت وتصدع الوضع السياسي وانقسم اللبنانيون: فئة 8 آذار وهي التي تظاهرت في هذا التاريخ لشكر القوات السورية وغالبيتها من الطائفة الشيعية، وفئة 14 آذار وغالبيتها من المسلمين السنة والمسيحيين التي تظاهرت أيضا في هذا التاريخ وطالبت بانسحاب القوات السورية من لبنان علما بان الرئيس السوري بشار الأسد كان قد أعلن قبل أسبوعين، أي في 28 فبراير، قراره بالانسحاب من لبنان.

وجد الجيش نفسه امام تحدي وحدته ووحدة البلاد. وحيث إن القوى السياسية الرئيسية في البلاد لم تكن ترغب بتقسيم الجيش كما كان الحال عام 1976 و1984 و1988، فإن الجيش بقي موحدا مع عجز واضح عن تنفيذ المهمات الأمنية والدفاعية بسبب الانقسام الأفقي في البلاد.

حظي الجيش باهتمام القوى السياسية اللبنانية والدول العربية والدولية باعتباره المؤسسة الوحيدة المختلطة بين الطوائف والمناطق والتي تمارس سياسات مقبولة من جميع فرقاء النزاع والذين اجمعوا على التمسك بوحدتها أملا في أن تشكل الأساس في دعم أي حل سياسي.

حرب 2006 وأحداث 2008: وأيضا قائد الجيش رئيسا للجمهورية

عام 2006 نفذت القوات الإسرائيلية عمليات كبيرة ضد لبنان ارتكزت على ضربات جوية لاحياء الضاحية الجنوبية معقل حزب الله ودمرت 102 جسر في جميع المناطق اللبنانية بالإضافة إلى تدمير منازل عديدة في قرى قي البقاع والجنوب. حاولت إسرائيل التقدم في البر لكنها جوبهت بمقاومة عنيفة من مقاتلي حزب الله ومنعوها من التقدم داخل الأراضي اللبنانية وشكل ذلك سابقة أيضا في تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي. اجتمع مجلس الأمن الدولي وتوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال العدائية واصدر القرار 1701 الذي نص على انتشار قوات دولية بمشاركة الجيش اللبناني لتأمين تنفيذ بنود القرار 1701.

تعزز دور الجيش اللبناني في تهدئة الوضع في الجنوب وضمان انسحاب القوات الإسرائيلية والحفاظ على الأمن بالاشتراك مع القوات الدولية ومعظمها من دول الاتحاد الاوروبي.

عام 2008 وإثر اتخاذ قرار من مجلس الوزراء لوقف شبكة الاتصالات السلكية لحزب الله (والتي أعلنت لجنة فينة غراد في إسرائيل أنها كانت احد أسباب خسارة إسرائيل عام 2006)، حصلت اشتباكات بين قوات من حزب الله ومراكز تيار المستقبل الذي يقوده سعد الدين الحريري نتج عنها سيطرة حزب الله على تلك المراكز وتأزم الوضع السياسي. توجهت القوى السياسية اللبنانية إلى الدوحة في قطر وعقدت اجتماعات حوار توصلت في نهايتها إلى تفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية وتعديل قانون الانتخاب وتعيين قائد للجيش.

وفي مايو 2008 انتخب مجلس النواب اللبناني قائد الجيش رئيسا للجمهورية وهو ثالث قائد للجيش ينتخب رئيسا للجمهورية.

 الجيش في مواجهة الإرهاب في شمال شرقي لبنان

 عام 2011 اندلعت أحداث الربيع العربي في عدة دول عربية من بينها سوريا. تطورت الأحداث في سوريا ودخلت منظمات إرهابية اختلطت بالمعارضة السورية وسيطرت عليها واستوعبتها. سيطر تنظيم القاعدة في بلاد الشام – جبهة النصرة عام 2013 – على الجانب السوري من الحدود اللبنانية السورية في جبال القلمون (سلسلة جبال لبنان الشرقية ) غربي حمص. اندلع قتال بين حزب الله اللبناني وجماعة النصرة في غربي حمص وسيطر حزب الله على اكبر مدينة هناك وهي القصير.عام 2014 دخلت قوات من القاعدة/النصرة إلى جرود بلدة عرسال في البقاع الشمالي وهاجمت مراكز الجيش اللبناني المنتشرة هناك وسيطرت عليها وقتل وجرح عشرات العسكريين.عام 2015 انشق بعض عناصر القاعدة/النصرة وبايعوا تنظيم داعش وانتشروا في جرود بلدتي القاع وراس بعلبك المجاورتين لعرسال. وهكذا نشأت جبهة قتال للجيش اللبناني في شمال شرقي البلاد مع تنظيمي القاعدة وداعش. تمكن الجيش من اسر عدد من عناصر داعش في إغارات على مراكزهم في الجرود. عام 2018 أعلن الجيش اللبناني البدء بعملية فجر الجرود بالتعاون مع حزب الله وتمكنوا من هزيمة التنظيمين وتحرير الجرود. حاز الجيش على ثقة اللبنانيين واحترامهم لهذا الإنجاز الكبير كما باتت سمعته العربية والدولية ممتازة.

“ثورة” 17 اكتوبر 2019 وانفجار مرفأ بيروت

صباح 17 أكتوبر 2018 فوجىء اللبنانيون بتظاهرات صاخبة في جميع المناطق اللبنانية ترفع شعارات مكافحة الفساد وتهاجم “الطبقة السياسية اللبنانية” وتدعو إلى رحيلها. بعد أسبوع انتشرت ظاهرة قطع الطرقات من قبل الثوار وخصوصا الطرق الرئيسية المؤدية من بيروت إلى الجنوب وإلى البقاع إلى الشمال. تكرر قطع الطرق ولم يتدخل الجيش لإعادة فتحها رغم إعلان كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء سعد الدين الحريري اتصالهما بقائد الجيش وطلبهما منه فتح الطرقات. كان هناك آراء كثيرة تخشى من سقوط إصابات بين المواطنين إذا استعمل الجيش القوة. ولذلك عمد الجيش إلى محاولة إقناع الثوار بفتح الطرقات وكان ينجح أحيانا ويفشل في أحيان كثيرة.

تدهور الوضع السياسي واستقالت حكومة الحريري وشكل حسان دياب القادم من خارج النادي السياسي حكومة اختصاصيين. في 4 اغسطس وقع انفجار عنيف في مستودع نيترات الأمونياك في مرفأ بيروت نجم عنه مقتل اكثر من مائتي مواطن وجرح نحو ستة الاف ودمار شديد. استقالت حكومة دياب بعد حادثة التفجير في مرفأ بيروت. ولا يزال لبنان يعيش فراغا سياسيا سلطويا منذ اكثر من سنة.

أي دور للجيش في المرحلة الراهنة؟

تعمقت الأزمة السياسية اللبنانية وزاد من وطأتها الانهيار الاقتصادي وتراجع سعر الليرة اللبنانية وتوقف قطاعات انتاجية وخدمية عن العمل بالإضافة إلى تفشي فيروس كورونا. كل ذلك أضاف أعباء جديدة على الجيش في مهماته الأمنية في مختلف مناطق البلاد. كما أن الجيش بحد ذاته عانى وما يزال من انهيار سعر العملة وتدني القيمة الشرائية لرواتب العسكريين وللمبالغ المخصصة للتغذية وللصيانة والوقود. أوقف الجيش تناول اللحوم في وجبات الطعام بسبب غلاء الأسعار غير المحتمل. سُجلت حالات فرار جراء ضغط الأزمة الاقتصادية ولكنها بقيت محدودة وتحت السيطرة. نظمت فرنسا مؤتمرا لدعم الجيش اللبناني وهذه المرة ليس دعما سياسيا أو عسكريا بل دعم لوجستي يضمن استمرار عمل المؤسسة العسكرية، كما تلقى الجيش هبات من مواد غذائية من عدة دول. نشير إلى أن قيادة الجيش قامت بترشيد الإنفاق لتامين استمرار تحرك الوحدات والتدريب والعناية الطبية والشؤون اللوجستية الأخرى.

رتبت الأوضاع الأمنية الناجمة عن التظاهرات والتجمعات احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية أعباء على الجيش في انتشار عسكري في مناطق مختلفة واحتواء الاحتجاجات وفتح الطرقات.

دور الجيش الدفاعي

يقصد بدور الجيش الدفاعي هو قدرته على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. في هذا المجال نسجل خللا كبيرا في التوازن العسكري بين الجيش اللبناني والقوات الإسرائيلية. يحتاج الجيش اللبناني إلى حد أدنى من الأسلحة لاستخدامها في الحفاظ على سيادة البلاد. والجدير بالذكر أن الجيش تجهز كما سبق واشرنا بمعدات قديمة من سوريا والولايات المتحدة. بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005 انفردت الولايات المتحدة بتقديم الدعم للجيش. لكن التسليح كان مشروطا في أن تكون الأسلحة غير قاتلة وذلك تلبية لشرط من الكونغرس الأميركي الذي كان يخشى أن يتم استخدام الأسلحة الأميركية المقدمة للجيش ضد إسرائيل. في عام 2007 هاجم الجيش منظمة فتح الإسلام “الإرهابية” وهي من مشتقات تنظيم القاعدة والتي كانت تحتل مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان، كما ارتكبت مجازر في منطقة الشمال وكان بحاجة إلى أسلحة تدمير وقذائف مدفعية. سجل امتناع الولايات المتحدة عن تقديم الحاجات المطلوبة للجيش في ذلك الظرف الصعب. تسلم الجيش عددا من قذائف مدافع الدبابات ت56 من سوريا رغم العلاقات السيئة بين الحكومتين السورية واللبنانية وساعدته في الإسراع بإنهاء المعركة.

عام 2014 سيطرت عناصر من تنظيم القاعدة في بلاد الشام – جبهة النصرة ومن تنظيم داعش – على بلدة عرسال وجرودها وجرود القاع وراس بعلبك. هاجمت عناصر القاعدة/النصرة مراكز الجيش في عرسال وقتلت وجرحت عشرات العسكريين واستولت على بعض العتاد. عندها تغير سلوك الولايات المتحدة تجاه تسليح الجيش اللبناني. تدفقت المساعدات العسكرية واستلم الجيش قذائف مدفعية ومدافع هاوتزر وطائرات خفيفة ذوات أجنحة ثابتة وغيرها. ساعدت هذه الأسلحة الجيش على الصمود في مراكزه وفي عام 2018 هاجم الجيش بالتنسيق مع حزب الله مواقع تلك التنظيمات الإرهابية وسيطر عليها وطرد الإرهابيين منها.

لم تجهز الولايات المتحدة الجيش بوسائل دفاع جوي أو رادارات إنذار منعا من التعرض لحرية عمل القوات الجوية الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية، وأدى ذلك إلى عيب في قدرة الجيش الدفاعية.

في جانب أخر، شكل حزب الله مقاومة مسلحة ضد إسرائيل عندما اجتاحت لبنان عام 1982 وتمكن عام 2000 ومن خلال أعمال المقاومة من إرغام إسرائيل على الانسحاب من لبنان من دون قيد ولا شرط في سابقة هي الأولى في النزاع العربي الإسرائيلي. كما تمكن عام 2006 من التصدي لهجوم إسرائيلي كبير على لبنان وإفشاله.

أصبح في لبنان قوتان: الجيش اللبناني الخاضع للشرعية اللبنانية وهو كما ورد آنفا مؤلف من جميع الطوائف والمناطق، و كما ورد أيضا محدود التسليح، والقوة الثانية هي حزب الله الذي تمكن من تحقيق توازن نسبي غير متماثل مع إسرائيل بفضل ترسانته الصاروخية المتقدمة نوعا وكمّا (تتجاوز مائة الف صاروخ).

لا يمكن للجيش أن يتولى مهمات حزب الله بسبب النقص في القدرات وعدم سماح الولايات المتحدة للحكومة اللبنانية بقبول هبات لتسليح الجيش من دول أخرى منها روسيا وايران وغيرها.

توقفت الدعوات الغربية والخليجية لدعم الجيش أمام عدم تزويد سلاح للجيش قادر على مواجهة إسرائيل، وبالتالي لم يعد هناك معنى لدعوات نزع سلاح حزب الله من دون تمكين الجيش اللبناني من القيام بدوره.

الجيش والأوضاع الداخلية

تكرر الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية والعربية الخليجية دعوتها لنزع سلاح حزب الله والبعض يطرح في الكواليس استخدام القوة المسلحة مشيرا إلى الجيش اللبناني. من المهم أن نلفت النظر إلى أن حزب الله غالبيته من الطائفة الإسلامية الشيعية وأنه من النسيج الوطني اللبناني خلافا لمنظمة التحرير الفلسطينية المؤلفة من اللاجئين الفلسطينيين الذين تمكنت إسرائيل باجتياحها العسكري المدمر عام 1982 من طردهم إلى خارج لبنان. حزب الله إضافة إلى انه مقاومة مسلحة هو حزب سياسي لبناني ممثل بكتلة برلمانية وله تمثيل قوي في البلديات والمخاتير والهيئات المحلية والأندية الرياضية والنقابات العمالية والمهن الحرة، ويخوض انتخابات مع باقي القوى السياسية في كل مناسبة للفوز بالمقاعد النيابية والبلدية وغيرها. لا يمكن التعامل مع حزب الله اللبناني مثلما كان يجري التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية كما يعرض بعض الباحثين.

حزب الله كمقاومة لا يمتلك ثكنات عسكرية، وصواريخه مركزة داخل مخابىء سرية نجح حتى الآن في إخفائها عن أنظار إسرائيل والولايات المتحدة البشرية والتكنولوجية. ما زالت هذه الترسانة تشكل تهديدا ردعيا لإسرائيل حسب تصريحات القادة العسكريين والسياسيين في إسرائيل. لا يقوم حزب الله بدور امني ويترك هذه المهمة لقوات الجيش وقوى الأمن الداخلي وكل تدابيره الأمنية لحماية عناصره أو مخابئه هي سرية. لا يمارس حزب الله الظهور المسلح ولا تشاهد في لبنان مواكب مسلحة مثل تلك التي كانت للمنظمات الفلسطينية والميليشيات اللبنانية على اختلاف انواعها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

استنادا إلى سلوك الجيش الميداني والإعلامي وإلى تصريحات قيادات حزب الله ليس هناك أي خلاف بين الجيش وحزب الله وهناك لقاءات معلنة بين وقت وآخر. تدرك قيادة الجيش هذه الحقائق ولذلك لا تصغي للاصوات المحلية والخارجية التي تدعو الجيش للتدخل ضد حزب الله ونزع سلاحه. إن عملية نزع هذا السلاح معقدة وليست هجوما تقليديا ولا عملية قوات خاصة. لا تسمح تركيبة الجيش اللبناني بالتخطيط أو الإعداد لعملية ضد حزب الله لانه بذلك يستهدف مكونا لبنانيا رئيسيا ولان التجارب السابقة التي أوردناها في مطلع هذه الدراسة تظهر أخطار الانقسام الذي حصل ثلاث مرات في عقدين أي عام 1976 و1984 و1988. تحرص قيادة الجيش تماما على وحدة المؤسسة ولا تفرط بها ولا تعرضها للاهتزاز وهي تبقي الجيش قوة وطنية تنفذ قرارت السلطة الاجرائية الممثلة في مجلس الوزراء.

الجيش والأزمة السياسية الراهنة

مع تعقد الأزمة السياسية تطرح بعض الاوساط أن يستلم الجيش السلطة وأن يحل مكان السياسيين. قد يبدو هذا الطرح براقا من بعيد لكن الحقيقة والتجارب تثبت أن وضع لبنان وقواه السياسية يختلف عن الأوضاع السائدة في دول عديدة استلم الجيش فيها السلطة.

في التجربة اللبنانية عين اللواء فؤاد شهاب مرتين رئيسا لحكومة انتقالية، عام 1952 استمر لايام وانتخب كميل شمعون رئيسا للجمهورية، وعام 1958 استمرت لأيام وانتخب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية. أما المرة الثالثة، فقد عين العماد ميشال عون رئيسا لحكومة عسكرية ولم ينجح في تامين إجراء انتخابات رئاسية وتحول إلى طرف سياسي ومحارب في حرب التحرير التي شنها ضد القوات السورية ثم عارض اتفاق الطائف وشن حرب إلغاء ضد ميليشيا القوات اللبنانية. لم ينجح عون في كلا الحربين وكانت نهايته ماساوية عندما اجتاحت القوات السورية وعقله ولجأ إلى السفارة الفرنسية. لكنه استطاع ان يحشد تعاطفا شعبيا بين المسيحيين مكّنه فيما بعد لأن يصبخ الزعيم المسيحي الأقوى وأن يصبح رئيسا للجمهورية.

هذه التجارب لا تشجع على تسليم السلطة للجيش خوفا من أن يلاقي مصير حكومة العماد عون بأشكال مختلفة. وهناك أسباب أخرى وهي أن القوى السياسية الحاكمة تحظى بتاييد شعبي وليست مسقطة على السلطة. تيار المستقبل وهو أكبر قوة اسلامية سنية يحظى بكتلة نيابية وتمثيل شعبي والأمر نفسه ينطبق على التيار الوطني الحر برئاسة الرئيس عون والقوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع وحزب الكتائب وحزب الله وحركة امل والحزب التقدمي الاشتركي والحزب القومي السوري وتيار المردة. ليس سهلا اختزال هذه القوى وليس سهلا اقتلاعها وإحلال مجموعة من الضباط مكانها كما تتخيل بعض الدوائر. كما أنه لا يظهر على قيادة الجيش وسلوكها أنها تفكر بمثل هذا التفكير، فهي تنطلق في اتخاذ قراراتها من مصلحة لبنان واستقراره وامنه.

 خاتمة

يفرض موقع لبنان الجغرافي وتركيبته السكانية واقعا شديد التعقيد ومن الصعب اتخاذ قرار صائب يتعلق بهذا البلد من دون إدراك الواقع الجغرافي والسكاني وارتباطه بأزمات المنطقة والأزمات الدولية. الأولوية تكون لإنشاء دولة موحدة والحفاظ على وحدتها رغم تنافس المصالح. يشكل الجيش العمود الفقري الذي يربط مكونات هذه الدولة، وأولوية الجيش هي الحفاظ على وحدته ووحدة البلاد. عانى لبنان من حروب أهلية وإقليمية كان الجيش فيها طرفا بطريقة أو بأخرى وانتهى مع اتفاق الطائف ببناء جيش ما زال موحدا ومتينا وواجه عواصف وأزمات استطاع تجاوزها. إذا كان أربعة من قادة الجيش هم فؤاد شهاب وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون قد وصلوا إلى رئاسة الجمهورية، فإن هذا الوصول كان يعنيهم شخصيا ولا يعني المؤسسة العسكرية التي لم تصل إلى السلطة مع رئيسها.

 يبقى التزام الجيش بالدستور وبالقوانين النافذة وقرارات مجلس الوزراء، التي تمثل عادة الوفاق اللبناني، هو الأساس بالنسبة لأدائه وهو الطريق القويم الذي يحفظ المؤسسة والبلاد.

ما بعد انفجار بيروت لبنان إلى أين؟

ما بعد انفجار بيروت: لبنان إلى أين؟

الوسوم

العميد إيلي خلف

كاتب لبناني، متخصص في الدراسات الأمنية والعسكرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى