دراساتفيروس كورونا

الجيوش وجهوزيتها في مواجهة وباء كورونا

مقدمة

ظهر فيروس “كوفيد-19” المعروف باسم فيروس كورونا المستجد في الصين في ديسمبر 2019، وانتشر بفعل التقدم الكبير في حركة النقل الجوي والبري والبحري وبسرعة أكبر مما توقع كثيرون. وفي 11 مارس 2020 أفيد أن الوباء انتشر في اكثر من 110 دولة وصنفت منظمة الصحة العالمية هذا الوباء “بوباء عالمي”.

هذا التصنيف يعني أن العالم بأكمله معرض لهذا الوباء وتصبح الحكومات وأنظمتها الصحية ملزمة برفع درجة استعدادها لمواجهة العدوى وزيادة التدابير لمعالجة الحالات المرضية واتخاذ إجراءات مشددة لمكافحة الانتشار في قطاعات عديدة أبرزها الصحة والنقل والتعليم والبيئة ومن بينها أيضاً قطاع القوات المسلحة.

لغاية مايو 2021، تجاوز عدد الإصابات في العالم 150 مليوناً وعدد الوفيات 3 ملايين ونصف المليون من بينهم 33 مليون إصابة ونصف مليون وفاة في الولايات المتحدة الأميركية وحدها.

فور انتشار الفيروس بادرت السلطات الصحية والإدارية إلى فرض تدابير للمعالجة وللحد من انتشار الفيروس. فرضت بعض الدول حجراً على المصابين بالفيروس وغير المصابين أيضاً في فنادق محددة ولمدة 14 يوماً وهذا ما عقّد حركة انتقال الأشخاص في بلدان معينة وفي أوقات معينة.

وتحوّل الحجر إلى إجراء علاجي يفرض على المصاب بالفيروس الذي تسمح حالته بتلقي العلاج في منزله ويفرض كذلك على المخالطين بأن يحجروا أنفسهم لمدة 14 يوماً من أجل التثبت من عدم إصابتهم. وقد أدى ذلك إلى تعقيدات كبيرة على علاقات العمل والعلاقات الاجتماعية بما في ذلك نشاطات القوات المسلحة.

والإجراء الثاني هو الإغلاق وهو يفرض التزام السكان منازلهم واتباع إرشادات السلطات الإدارية والأمنية والصحية التي تنظم عملية الخروج المحدودة من المنازل لأسباب معيشية. الإجراء الثالث هو التباعد الاجتماعي ويعني ابتعاد كل إنسان عن الآخر مسافة آمنة تتراوح بين متر ونصف ومترين، لا تسمح للفيروس بالانتقال.

ونتج عن التباعد الاجتماعي نهاية عادات شخصية واجتماعية أهمها التقبيل والعناق والسلام بالأيدي. كما فرض التباعد الاجتماعي قيوداً على مقرات العمل والمدارس والجامعات والتجمعات الدينية والنشاطات السياسية والرياضية والترفيهية، وخلق مشكلة في وسائل النقل العام في الباصات والقطارات وحتى في سيارات التاكسي التي لا تؤمن مسافة تباعد آمنة بالإضافة إلى مشاكل خاصة بالتجمعات العسكرية على اختلاف أنواعها.

نعرض في هذه الدراسة إلى تأثيرات انتشار الوباء العالمي كوفيد-19 على الجيوش في مختلف أنحاء العالم وخاصة الجهوزية والمهام العملياتية والتدريب وتحقيق العتاد العسكري ودور الجيوش والأجهزة الأمنية في دعم السلطات الصحية والإدارية لمعالجة هذا الوباء.

المجتمعات العسكرية: تركيبتها وميزاتها

تشكل القوات المسلحة في جميع دول العالم كيانات ومجتمعات مختلفة إلى حدود معينة عن المجتمع المدني. وترتكز فكرة الجيوش أو القوات المسلحة على التجمع. قديماً كانت الجيوش تخوض المعارك بصفوف متراصة وشبه متلاصقة، ولهذه الغاية كانت ترتكز تدريباتها أيضاً على التجمع في صفوف وخطوط وقطارات ووحدات تعتبر أساسية في غرس روح الانضباط والتزام الأوامر بشكل جماعي منسق.

عندما يتطوع شاب أو شابة في القوات المسلحة، فأول مكان يلتحق به هو معسكرات التدريب حيث يجمع المتطوعون في قاعات وغرف منامة وساحات تدريب. ومن التقاليد العسكرية الاجتماع الصباحي أو الطابور كما يسمى في بعض الدول العربية. ويقف جميع المتطوعين في صفوف شبه متلاصقة كتفاً إلى كتف. وقد يتضمن الاجتماع سيراً عسكرياً وفق النظام المرصوص أو يسمى أيضاً النظام المنضم، وهو السير مسافة معينة بترتيب الصفوف لضمان انتماء الفرد الآلي إلى جماعته العسكرية.

ينتقل المتطوع بعد تخرجه من معهد التدريب إلى وحدات عسكرية متمركزة في ثكنات مختلفة الأحجام والمساحات. في وحدته العسكرية عادة يقيم المتطوع فترة في مكان العمل ثم يحصل على إجازة يذهب خلالها إلى منزله العائلي ليعود بعدها إلى مركز وحدته. في الغالب يقيم المتطوع في وحدته فترة أطول من إقامته في منزله.

تتميز المجتمعات العسكرية بالانضباط والسرعة والالتزام بأوامر الرؤساء من دون مناقشة والخضوع للقوانين والتعليمات العسكرية في اللباس والانتقال والتحية ومواعيد الطعام والنوم وارتياد مراكز الترفيه والتسلية. يؤثر هذا النظام على شخصية المتطوع حيث تتبلور مع الوقت شخصية خاصة بالعسكري تتطور إلى سلوك مختلف عن سلوك أترابه المدنيين.

التأثير العام لانتشار الفيروس على الجيوش

سجل التاريخ دوراً أساسياً للأوبئة في حسم النزاعات بين الأمم. وردت في مصادر تاريخية أن وباء الطاعون سبب وفيات أعداد كبيرة في مراحل مختلفة منها طاعون عمواص الذي ظهر في بلاد الشام بعد الفتح الإسلامي سنة 17 و18 هجرية أي 638 و639 ميلادي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب والذي ذهب ضحيته القائد الصحابي أبو عبيدة بن الجراح ونحو ثلاثين ألفاً من المسلمين وفي بعض الروايات مائة ألف. كما أوردت بعض المصادر عن انتشار الطاعون في البصرة في الفترة نفسها.

وانتشر الطاعون الذي سمي “بالطاعون الكبير” في لندن عام 1656 وأدى إلى وفاة نحو مائة الف وإلى اهتزاز إنكلترا بكاملها ولا يزال حاضراً في الذاكرة الإنكليزية.

ومن تأثيرات الأوبئة أيضاً توقف نابليون بونابرت على أسوار عكا عام 1799 بعد مقاومة عنيفة من حاميتها ومن البحرية الإنكليزية وظهور الطاعون بين أفراد الجيش فاضطر إلى العودة إلى مصر. وفي التاريخ المعاصر سجل أخطر وباء بين الجيوش وهو انتشار الإنفلوانزا الإسبانية التي أودت بحياة نحو خمسين مليوناً في عامي 1918 و1919، أي اكثر من ضحايا الحرب العالمية الأولى التي استمرت من 1914 إلى 1918.

وخلال الحرب العالمية الثانية، وبالقرب من جزيرة غوادالكانال في المحيط الهادئ، نشبت معارك بين القوات الأميركية واليابانية للسيطرة على الطريق البحري نحو أستراليا وعطلت الأمراض الاستوائية نحو ثلثي الفرقة البحرية الأولى، وأدى ذلك إلى سحب الفرقة بكاملها وتوقف الحملة الأميركية. بقيت الفرقة بوضع عدم الجهوزية لمدة أشهر طويلة.

كان اهتمام قيادات الجيوش بخطر الأوبئة شديداً في فترات الحروب وكانت تؤخذ بعين الاعتبار في التخطيط لأي معركة وباتت الأوبئة شأناً استراتيجياً في سياسات الدول وأمنها القومي.

وفي عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وردت في استراتيجية الأمن القومي الصادرة عام 2017 فقرة عن مخاطر تفشي الأوبئة على الأمن القومي الأميركي. كما ورد في تقرير إدارة الاستخبارات الوطنية الأميركية في يناير 2019 أن الولايات المتحدة ودول العالم معرضة لوباء الإنفلونزا الذي ربما يؤدي إلى “مستويات عالية من الوفيات والعجز ويؤثر على الاقتصاد العالمي ويضغط على المواد الأولية”. وفي عدة تمارين استخبارية، صنفت إدارة الاستخبارات الوطنية التهديدات المختلفة للقوات المسلحة الأميركية واعتبرت انتشار الأوبئة خطراً يتقدم على الإرهاب وعلى النزاع مع أي قوات أجنبية. (1)

سجلت في صفوف القوات الأميركية المنتشرة في كوريا الجنوبية حالة من مواجهة انتشار “كوفيد ” في داخل المواقع العسكرية، يمكن اعتبارها نموذجاً لما حصل في معسكرات عديدة في الولايات المتحدة وغيرها، منها ما أعلن عنها ومنها لم يعلن عنها لأسباب تتعلق بالأمن القومي للبلاد.

في فبراير عام 2020، أعلم قائد معسكر كامب كارول في كوريا الجنوبية جنوده وضباطه بلهجة عسكرية حازمة بأنه “تم اختراق المحيط الآمن للمعسكر”، وأوضح أن الاختراق المقصود هو تسجيل أول حالة إصابة بفيروس “كوفيد-19” في المعسكر وربما كانت أول حالة تسجل في الجيش الأميركي.

وأصدر قائد المعسكر تعليمات لجنوده هي أشبه بتطبيق عملي لما يحدث عندما تتعرض القاعدة لهجوم حقيقي، فأغلق جميع المباني والمكاتب التي استخدمها الجندي المصاب، وأعطى أوامره لانتشار فرق التطهير وبدأت عملها بدقة وسرعة في جميع أنحاء المعسكر. وأحصي جميع العسكريين والمدنيين الذين اختلطوا بالجندي المصاب وعُزِلوا على الفور. وفيما بعد تم وضع فرق فحص متخصصة على أبواب الثكنات لاكتشاف أعراض الفيروس لدى الجنود والموظفين المدنيين الذين طلب من العديد منهم البقاء في منازلهم. وتم إغلاق قاعات الرياضة وصالة البولينغ وملعب الغولف التابع المعسكر وأوقفت جميع النشاطات الاجتماعية والترفيهية.

إقامة القوات

تصدر قيادة القوات المسلحة تعليمات للوقاية من انتشار فيروس “كوفيد-19″ والتعامل مع الحالات المشتبه بها وأنظمة الحجر وإجراء فحوصات (بي سي آر” للتثبت من وجود الفيروس في الجسم أو عدمه.

تتنوع مقرات إقامة القوات حسب ظروف البلاد وانتشار وحدات القوات والثكنات والحاميات الثابتة. وأعيد ترتيب الأسرة في مهاجع الجنود بحيث تؤمن التباعد اللازم وأعيد تنظيم دخول الحمامات ومخازن السلاح وفرضت تدابير صحية حول تبادل المعدات بالأيدي خشية انتقال الفيروس. كما أعيد تنظيم ساحات الاجتماع وتم الحد من التمارين الرياضية المعتادة.

وينطبق الأمر كذلك على قاعات الطعام بحيث يتفادى الجنود الازدحام وتحدد المقاعد لكل طاولة حسب حجمها.

أما قاعات التدريب فقد أعيد النظر بتركيبتها بحسب نوع التدريب. وفي المواد النظرية يؤمن التباعد في المقاعد. أما في المواد التطبيقية التي تتضمن استخدام سلاح أو عتاد فاتخذت تدابير خاصة لكل منها.

وفي انتقال العسكريين داخل المنشأة العسكرية أو منها واليها تم تحديد عدد المقاعد وترتيبها داخل الباصات. وفرضت معظم الجيوش ارتداء الكمامة ووضعت عبوات تعقيم في أماكن عديدة تتيح للجميع تنظيف أياديهم إذا تعذر غسلها بالماء والصابون.

وتم إلغاء العديد من النشاطات غير الضرورية حرصاً على سلامة العسكريين. وفي بعض الحالات تم اختصار حضور العسكريين إلى مراكز عملهم الثابتة والاكتفاء بنسبة تؤمن تشغيل المرافق.

وفي بعض الجيوش يعمل العسكري أسبوعاً ويأخذ إجازة أسبوعاً وقبل عودته يجري الفحوصات اللازمة للالتحاق بعمله.

وتبين أن المستوصفات والمستشفيات العسكرية داخل الثكنات هي مصدر عدوى مهم لانتشار الفيروس. لذلك اتخذت إجراءات طبية صارمة إضافة إلى الإجراءات المتخذة في الثكنة أو المقر.

واتخذت إجراءات لحضور العدد الكافي للتشغيل في مكاتب القيادة والأركان والمكاتب الإدارية ومشاغل الآليات والأسلحة وغيرها وفي مرائب الآليات.

وأبرز المشاكل التي واجهت المقرات الثابتة هي اكتشاف إصابة عسكري أو مجموعة من العسكريين بالفيروس وهذا ما يحتم على السلطات القيادية والطبية كشف كل من خالط المصابين وفرض الحجر الصحي عليه في مقرات خاصة حددت لهذه الغاية.

وفي المقرات الأساسية، أي وزارة الدفاع أو قيادة الأركان وقيادة القوات تم توزيع الحضور بشكل يؤمن الوظائف المتعلقة بالأمن القومي للبلاد والتي تتطلب جهوزية كاملة على مدار الساعة.

واتخذت معظم قيادات القوات المسلحة إجراءات بموجب أوامر وتعليمات، أبرزها ما صدر عن وزارة الدفاع الأميركية بعنوان “تعليمات عن وقاية الجنود خلال جانحة كوفيد-19” (2).

في 26 مارس 2020، سجلت أول إصابة كوفيد-19 في داخل مبنى وزارة الدفاع البنتاغون، وعلى الفور أمر وزير الدفاع في حينه مارك اسبر بوقف انتقال القوات الأميركية وموظفي البنتاغون إلى خارج الولايات المتحدة لمدة ستين يوماً.

وفي 8 إبريل عام 2020، أعلن عن إصابة 3160 في وزارة الدفاع من بينهم 1975 عسكرياَ والباقي موظفون مدنيون ومتعاقدون بالإضافة إلى وفاة ثمانية عناصر.

نشرت صحيفة “الدايلي ميل” أن علماء وزارة الدفاع الأميركية ابتكروا شريحة توضع تحت الجلد تكشف بشكل مبكر وجود “كوفيد-19” إلا أن جدلاً كبيراً أحاط بهذه الشريحة إذ رفض العديد من الجنود وضعها لأنه أشيع أنها تراقب كل تحركاته وخصوصياته. كان ذلك حصل قبل اختراع اللقاح والبدء بالتلقيح ووسط جدال عالمي حول اللقاح والشريحة.(3)

القوات المنتشرة على جبهات قتال

رغم جانحة كوفيد-19 لا تزال حروب تشتعل في أنحاء عديدة من العالم منها أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا وإلى درجة أقل في غرب أفريقيا وغيرها. كما أن دولاً كبرى ما تزال تنشر قوات مسلحة خارج حدودها، ولا سيما الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وسوريا، وفرنسا في غرب أفريقيا، وروسيا في أوكرانيا وسوريا، وتركيا في ليبيا وسوريا وغيرها. كما أن دولاً عديدة تنشر قواتها المسلحة على حدودها مع دول مجاورة تشهد توتراً في العلاقة معها بين وقت وآخر.

كان لانتشار فيروس كورونا أثر واضح على العمليات العسكرية الأميركية في العراق وأفغانستان. وفي أبريل 2020 أعلن البنتاغون تعليق تدريب القوات العراقية على قتال تنظيم “داعش” لمدة ستين يوماً كتدبير احترازي. وأعادت بريطانيا جزءاً من قواتها العاملة في التدريب إلى بلادهم بعد انتشار الجائحة.(4)

أما في أفغانستان فقد اتخذت تدابير لمنع انتشار الفيروس منها وقف قدوم العسكريين إلى أفغانستان وتأخير إعادة آخرين إلى البلاد. وتم وضع الذين وصلوا قبل هذا القرار في الحجر لمدة 14 يوماً قبل إلحاقهم بوحداتهم. واتخذت تدابير لعزل العسكريين الذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بفيروس كورونا أو بالإنفلوانزا الحادة وتم نقل العديد منهم إلى مستشفيات في ألمانيا للعلاج لعدم توافر مراكز طبية للمعالجة في أفغانستان.

وفي مجال تقديم المشورة للقوات العراقية والأفغانية، تم الحد من دخول القواعد والمراكز التدريبية واعتماد وسائل تقنية الفيديو لتجنب الحضور المباشر وعدوى الفيروس.

أدى انتشار الفيروس إلى تراجع الجهوزية العملياتية للقوات المسلحة وإلى خفض عديد الدوريات والمهمات وهذا ما سمح لحركة طالبان بحرية أكثر في العمل، لأن قيادة حركة طالبان كانت لا تعير اهتماماً كبيراً بمكافحة الفيروس وكانت قواتها تقيم في الجبال حيث مقرات الإقامة متباعدة بسبب ظروف الطبيعة.

تعايشت القوات الأميركية المنتشرة في أفغانستان مع الجائحة وتلقى معظم العسكريين اللقاح وهي حالياً في مرحلة الانسحاب ومن المقرر أن يغادر آخر جندي أميركي البلاد قبل 11 سبتمبر 2021.

اليمن بين الحرب والوباء

في اليمن حيث لم تهدأ الحرب وما زالت مستمرة، انهار النظام الصحي الضعيف أصلاً وتفشت أمراض سارية مثل الكوليرا والحصبة والدفتريا. جاء وباء كورونا ليفاقم المشكلة خصوصاً أن معظم المقاتلين هم ميليشيات لا ينتظمون في مقرات إقامة وينتشرون بين عائلاتهم وباقي السكان المدنيين. ولم تتأثر عمليات “التحالف العربي لدعم الشرعية” الذي تقوده المملكة العربية السعودية، لأنها كانت تعتمد على القصف الجوي والحصار البحري والقصف المدفعي والصاروخي. لكن وتيرة هجمات الحوثيين لم تتأثر نظراً لعدم التزامهم بإجراءات الوقاية ولغياب نظام صحي فاعل في شمال اليمن بكامله. وتراكمت إصابات الحرب مع إصابات كورونا، ومع غياب الشفافية والأرقام، لم تتوفر تفاصيل دقيقة عن الإصابات.

حاليا gا تزال جبهة مأرب مشتعلة حيث يشن الحوثيون هجوماً سيطروا فيه على معظم المحافظة واقتربوا من مدينة مأرب ولم يدخلوها. ويمكن اعتبار كورونا سبباً يضاف إلى الأسباب التكتيكية والسياسية التي تؤخر الهجوم على المدينة أو تجعله متقطعاً في معظم الأحيان، وذلك بسبب تراجع جهوزية القوات المهاجمة لوقوع إصابات بالفيروس. (5)

في سوريا حيث تراجع النظام الصحي وتضرر كثيراً خلال الحرب، سجل ارتفاع كبير في الإصابات في مناطق التوتر في الشمال وخصوصاً على الجبهات بين قوات الحكومة والفصائل المسلحة المعارضة في إدلب. وقال وكيل الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إن الإصابات بكورونا زادت في بعض الأحيان ستة أضعاف وسط عدم قدرة مرافق الرعاية الصحية المتوافرة على التعامل معها.(6)

أما في باقي النزاعات وخصوصاً في ليبيا التي تتميز بمساحة شاسعة والحرب فيها لا تخضع لقواعد الحروب التقليدية، أي حشد قوات على خطوط مواجهة أو خطوط تماس داخل المدن وغيرها، فلم تسجل إحصاءات للإصابات بكوفيد-19 بين مقاتلي الميليشيات المتنازعة. كما أنه جرت اشتباكات دامية مع تنظيم داعش في وسط الساحل. لكن من الملاحظ أن وتيرة العمليات تراجعت إلى حد كبير لأسباب عديدة منها الاتفاقات السياسية ويرجح أن أحد الأسباب أيضاً انتشار كوفيد-19 وتأثيره على جهوزية القوات.

القوات البحرية خلال الوباء

تعرضت القوات البحرية في دول عديدة وخصوصاً حاملات الطائرات إلى إصابات في صفوف البحارة أدت إلى تعطيل جزئي لجهوزيتها العملياتية. وأدت الزحمة وضيق الأمكنة على متن الحاملات والمراكب الأخرى وصعوبة العناية الطبية بالمرضى والمصابين إلى اتخاذ قرار بسحب المراكب إلى أقرب مرفأ من أجل معالجة المصابين وتنفيذ إجراءات العزل.

في أبريل 2020 أظهرت نتائج الفحوصات أن أكثر من ثلث بحارة حاملة الطائرات الفرنسية الوحيدة شارل ديغول يحملون فيروس “كوفيد “. وأصدرت وزارة الجيوش بياناً جاء فيه: حتى تاريخ 14 إبريل 2020 شملت اختبارات الكشف عن كوفيد-19، 1767 بحاراً وثبتت إصابة 668 بحاراً، أدخل 31 منهم إلى المستشفى في مدينة طولون للمعالجة.

أما حاملة الطائرات الأميركية “روزفلت” التي تعمل بالطاقة النووية فقد شهدت وفاة أحد أفراد طاقمها جراء مضاعفات فيروس كوفيد-19 في جزيرة غوام في المحيط الهادئ حيث تم إجلاء قسم من طاقمها بعد انتشار الوباء فيها. وثبتت إصابة نحو 585 بحاراً على متنها بالفيروس. وأدى ذلك إلى نقل نحو أربعة آلاف بحار من حاملة الطائرات إلى منشآت في جزيرة غوام التي رست فيها السفينة بعد أن زاد عدد الإصابات على متنها.

وفي مطلع إبريل من العام نفسه، أقالت وزارة الدفاع القائد السابق لهذه الحاملة الكابتن بريت كروزيير من مهامه بعد أن وجه رسالة إلى قيادته طلب فيها الإجلاء الفوري لطاقمها بسبب انتشار الفيروس، وانتقد قيادة البحرية واتهمها بأنها لم تفعل ما يكفي لوقف انتشار هذا الفيروس على متن الحاملة روزفلت. وبعد خمسة أيام، استقال وزير البحرية في الولايات المتحدة توماس مودلي من منصبه.(7)

وإذا كانت الولايات المتحدة وفرنسا قد أعلنتا عن انتشار الوباء في قطعهما البحرية، فإن دولاً عديدة التزمت الصمت حرصاً على ما اعتبرته أمنها القومي وعدم إظهار نقاط الضعف في جهوزية قواتها المسلحة.

وبشكل عام عانت القوات البحرية في العالم من تراجع مثير للجهوزية العملياتية بسبب انتشار كوفيد-19 بين البحارة، وعادت معظم المراكب البحرية وخصوصاً حاملات الطائرات ومجموعات السفن التي ترافقها، كل إلى المرفأ المحدد لها لتتابع الأوضاع الصحية للبحارة في البر.

وفيما يشبه ما جرى في القوات البحرية العسكرية، استرعت السفينة السياحية المصرية “آية سارة” انتباه العالم. تقوم هذه السفينة برحلات سياحية بين مدينتي الأقصر وأسوان في جنوب مصر. ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية أن سيدة أميركية من أصل تايواني كانت على متن هذه السفينة وكانت مصابة بفيروس كوفيد-19 وأبلغت السلطات المصرية بالإصابة لكنها لم توقف السفينة عن العمل وقامت بعدها بأربع رحلات. أصيب 12 عنصراً من الطاقم كما أصيب عدد من الركاب السياح من جنسيات أميركية وفرنسية وهندية إضافة إلى عناصر من طاقم السفينة المصريين.

وقد أسهم انتشار الفيروس على متن السفينة إلى انتشاره في بلاد السياح في وقت لم تكن تدابير الحجر والمعالجة والاختبار قد تبلورت بعد. تسببت حادثة السفينة “آية سارة ” بمنع بعض الدول العربية دخول المصريين إليها بصورة مؤقتة. وقررت السلطات المصرية وضعها في الحجر الصحي بعد اكتشاف إصابات بين الركاب ونقل 33 راكباً و12 من أفراد الطاقم إلى المستشفى للمعالجة.

دور الجيوش في مكافحة كوفيد-19

أصبحت مواجهة انتشار فيروس كوفيد-19 الشغل الشاغل في معظم دول العالم. دفعت مواجهة الفيروس دولاً عربية وغربية إلى إعلان حالة الطوارئ وتفعيل عمل الجيوش وأجهزة الشرطة وحرس الحدود لمنع انتشار الفيروس. وأصبح هذا الفيروس ساحة قتال جديدة للجيوش والقوى العسكرية والأمنية في مختلف دول العالم. تدخلت هذه القوى لفرض نظام الحجر الصحي والإغلاق ومنع التجول والتجمع والالتزام بالقانون، وفرضت غرامات مالية على المخالفين لهذه القرارات. واستعانت بعض الحكومات بالفرق الطبية العسكرية لأعمال المعالجة وإخلاء المصابين وحجرهم.

كانت تجربة الصين الناجحة في الاستعانة بجيش التحرير الشعبي الصيني لفرض إجراءات الوقاية دافعاً لباقي الدول لاستخدام جيوشها في هذه المهمة.

في دول الاتحاد الأوروبي أصبح الجيش أحد وسائل مواجهة الفيروس. استدعت فرنسا جنودها لتطبيق حالة الطوارئ، ونشرت قوات مسلحة في المناطق المتضررة. وأعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن إقامة مستشفى عسكري في منطقة الإلزاس القريبة من الحدود الألمانية. واستعانت إسبانيا بالجيش لفرض حظر التجول، فيما قررت السلطات السويسرية تعبئة نحو 8000 جندي لمساعدة الحكومة في مكافحة انتشار الفيروس.

في إيطاليا، وهي الأكثر تضرراً بالفيروس في أوروبا، وافقت الحكومة على نشر الجيش لفرض العزل في المناطق الموبوءة. واستدعت الحكومة الجيش أيضاً للمساعدة في فرض القيود على حركة المواطنين، وتم نشر جنود في إقليمي صقلية وكالابريا في جنوب البلاد.

في ألمانيا حيث النظام اتحادي، اتخذت الولايات إجراءات لمكافحة انتشار كوفيد-19 وأعلنت الحكومة الألمانية على لسان وزيرة الدفاع انيغريت كرامب-كارنباور أن الجيش الألماني يجري استعداداته للمساعدة في جهود التعامل مع أزمة فيروس كوفيد-19 في حال تعرض المؤسسات المدنية الأخرى لضغوط تفوق طاقتها في التعامل مع انتشار الفيروس. وقالت الوزيرة “نستعد لأسوأ الاحتمالات إذا أصيب عدد كبير جداً من الناس، ولدينا الموارد البشرية للمساعدة”. ووصفت كرامب-كارنباور مكافحة فيروس “كوفيد-9” بأنه ماراثون.

واستدعت وزارة الدفاع الألمانية مئات الضباط الأطباء الاحتياطيين في القوات المسلحة وطلبت منهم المشاركة في جهود الدولة. واستعد الجيش الألماني للتدخل لحماية البنية الأساسية الحيوية وتوزيع المعدات الطبية والأدوية. ونقل موقع “شبيغل أونلاين” عن وزيرة الدفاع الألمانية قولها إن النظام الصحي التابع لمؤسسة الجيش هو شريك للنظام الصحي في الدولة. والجدير بالذكر أن نحو ثلاثة آلاف طبيب يعملون في الجيش الألماني.

في الدول العربية تدخلت الجيوش لمساندة السلطات الحكومية في إجراءات مكافحة انتشار الفيروس. في لبنان أعلنت حالة التعبئة العامة وكلف الجيش والقوى الأمنية بتنفيذ تعليمات السلطات الإدارية بمنع التجول والتجمع والتأكد من الالتزام بالقواعد الصحية.

استخدم الأردن الجيش في تطويق المدن إلى جانب اتخاذ إجراءات أمنية حول عدد من المنشآت والمؤسسات، ومنع حركة المواطنين، تطبيقاً لقانون الدفاع الذي يمنح الحكومة صلاحيات مطلقة.

ومن أهم الأدوار التي لعبتها الجيوش هو تفعيل الفرق العسكرية الطبية كما حصل في فرنسا والصين ودول أخرى، حيث تم الاستفادة من خبرات الأطباء العسكريين في التعامل مع الأوبئة وانتشارها.

بقي الحديث عن قدرة القوات المسلحة على تنفيذ المهمات المكلفة بها مثار جدل بين المواطنين كما ظهر في بعض المشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما قوات الشرطة أو القوات شبه العسكرية، مثل الدرك الملكي في المغرب، فقد أسهمت في ملاحقة مواطنين مشكوك بإصابتهم بعد عودتهم من رحلة خارج البلاد. وقد جابت دوريات من الشرطة والدرك في عديد من الدول المدن والقرى المشتبه بانتشار المرض فيها لتحديد أماكن الأشخاص المشتبه بإصابتهم، وإخضاعهم للفحوصات الطبية والتحاليل المخبرية الأولى.

أما قوات حرس الحدود في معظم دول العالم فقد راقبت القادمين إلى دولها وعملت على فرض الحجر الصحي على القادمين فور وصولهم، كما حصل في بعض الدول مثل الأردن ولبنان والإمارات وغيرها. وفي بعض الأحيان، نقل المسافرون القادمون من مختلف الدول إلى أماكن الحجر المختلفة.

الإنفاق العسكري في ظل الجائحة

خلال عام 2020، شهد العالم تراجعاً اقتصادياً مثيراً بسبب انتشار كوفيد-19 وما سببه من إغلاق في معظم المدن والمنشآت الصناعية ومراكز التجمعات. بسبب الحجر والتباعد الاجتماعي، تراجعت حركة النقل الجوي وتسبب ذلك بخسائر فادحة لكبريات شركات الطيران العالمية. طاولت الخسائر القطاع السياحي وشغرت الفنادق وغابت البرامج السياحية وأغلقت المقاهي والمطاعم والحانات والأندية. وتراجعت حركة الاستيراد والتصدير وتراجع الإنتاج الصناعي بشكل عام.

أما التراجع الدراماتيكي فكان في قطاع الطاقة فقد نتج عن تراجع الإقبال على النفط بسبب توقف حركة النقل وتوقف المصانع أن تراجع سعر برميل النفط إلى أرقام تاريخية بلغت الصفر وسعراً سالباً في بعض الأوقات. وعمدت الولايات المتحدة إلى تحفيز الاقتصاد بضخ ملياري دولار سيولة وزعت على المواطنين، والأمر نفسه قامت به كندا والاتحاد الأوروبي.

وسط هذا الجو المثير في التراجع الاقتصادي، سار قطاع التسلح عكس التيار، وبدلاً من أن يشهد الإنفاق العسكري تراجعاً مع تراجع الاقتصاد وتراجع النمو العالمي بنحو 4.4%، فوجئنا أن هذا الإنفاق قد ازداد عام 2020 بنسبة 2.4% وبلغت قيمته 1981 مليار دولار وهو الرقم الأعلى منذ نهاية الحرب الباردة.

تأتي الولايات المتحدة والصين في صدارة الدول في الإنفاق العسكري عام 2020.

وهناك عدد قليل من الدول مثل تشيلي وكوريا الجنوبية خفضت ميزانية الإنفاق على التسلح لصالح مكافحة فيروس كوفيد-19. أما البرازيل وروسيا فقد خفّضتا ميزانياتهما العسكرية قليلاً عما كان مخططاً له من قبل. ويعتقد نيكولاس شورنيغ من مؤسسة هيسين لأبحاث السلام والنزاعات أن حجم الإنفاق العسكري الذي سجل عام 2020 يعود إلى ما وصفه “صعوبة تغيير الاتجاه في وقت قصير” في قطاع الصناعة العسكرية. وقال إن معظم المشاريع العسكرية قد تم إطلاقها قبل انتشار فيروس كوفيد-19 وكان لا بد من إكمالها.

وزادت ألمانيا إنفاقها وأصبحت في المركز السابع بين الدول الأكثر إنفاقاً على التسلح بعد أن كانت تحتل المركز الثامن عام. وبحسب المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم، فقد أنفقت ألمانيا 53 مليار دولار على التسلح أي ما يساوي 1.4 % من الناتج المحلي.

وبحسب المعهد نفسه، فإن جميع الدول الثلاثين الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تقريباً زادت إنفاقها العسكري في عام 2020. ويمكن القول إن جائحة كورونا أدت إلى ظاهرة غريبة مخالفة للسياق العام وهي زيادة الاتفاق العسكري. (8)

خاتمة

من المعروف في العلم العسكري أن أسلحة الدمار الشامل هي الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. وقد سبق أن استخدمت الأسلحة البيولوجية في التاريخ بشكل تلويث مياه وأطعمة أو استخدام جراثيم قاتلة. لكن لم يسبق أن خبر العالم فيروساً انتشر بسرعة هائلة وأصاب البشرية جمعاء، وغيّر طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية وعلاقات الإنتاج كما فعل فيروس “كوفيد “.

تؤكد منظمة الصحة العالمية أن هذا الفيروس ليس من صنع مختبرات، أي أنه ليس سلاحاً بيولوجياً. لكن الجيوش تعاملت معه كما تتعامل مع هجوم منظم، واتخذت تدابير للوقاية. وتم إعداد تعليمات الوقاية من الفيروس وأعيد تنظيم النشاطات العسكرية، واتخذت تدابير للحفاظ على جهوزية القوات، وعلى مصلحة الأمن القومي للدولة في إجراءات ترتكز على حماية الأفراد من الفيروس باستخدام الثلاثية: الحجر والإغلاق والتباعد الاجتماعي، بالإضافة إلى ارتداء الكمامة. فيما بعد أصبح اخذ اللقاح إلزامياً لكل العاملين في القوات المسلحة. اخترع العلماء اللقاح وتنافست شركات تصنيع الأدوية على الاتجار به، لكن لغاية مايو 2021 لم يتم اختراع دواء لهذا الفيروس وفي حال اختراعه فإنه سوف يبسط تدابير الوقاية ويعيد كل النشاطات إلى طبيعتها.

والغريب في ظاهرة انتشار وباء كورونا أن الاقتصاد العالمي تراجع بشكل مثير وبلغت خسارة قطاع الطاقة والطيران والصناعة أرقاماً خيالية، إلا أن قطاع التسلح وحده ازدهر وزاد الإنفاق فيه، كأن الإنسان مفطور على العدوان فهو يتنازل في كل شيء إلا في أسباب القوة التي قد يستعملها للدفاع عن نفسه أو التسبب بأذى لآخرين.

الهوامش

(1) صحيفة نيويورك تايمز في 29 -2-2020 على الرابط التالي: الرابط

(2) موقع “ديفنس” على الرابط التالي: الرابط

(3) صحيفة “دايلي ميل” البريطانية على الرابط التالي: الرابط

(4) – موقع “سي إن إن بالعربية” على الرابط التالي: الرابط

(5) -موقع هيومان رايتس ووتش على الرابط التالي: الرابط

(6) موقع ترك برس على الرابط التالي: الرابط

(7) موقع قناة “دويتشه فيله” الألمانية على الرابط التالي: الرابط

(8) تقرير موقع معهد ستوكهولم لأبحاث السلام على الرابط التالي: الرابط

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى