بحوثدراسات

الحركات الإسلامية وجدلية الديني والسياسي

إعداد: جلال خشيب ـ آمال وشنان

ملخص:

لا يزال موضوع الحركة الإسلامية ينال حظا وافرا من البحث والتنقيب داخل الأوساط الفكرية العربية-الإسلامية والأجنبية على حدّ سواء، وقد طال البحث فيها زوايا عدّة، منها ما ارتبط بتأصيلاتها الفكرية أو ما تعلق بالتأريخ لها، ومنها ما ارتبط بأنماطها وآلياتها أو بعلاقتها الجدلية بغيرها من الفواعل الموجودة على الساحة الفكرية والسياسية العربية-الإسلامية.

وتحاول هذه الورقة معالجة هذه الظاهرة المتنامية في علاقتها بالدولة الحديثة، إنّها تنطلق من الماهية الأنطولوجية لمفهوم الدولة في التصور الإسلامي لتحاول تحديد الرؤية الفكرية لهذه الحركات تجاه مفاهيم سياسية معاصرة فرضت نفسها على مجتمعنا الإنساني المعاصر والمرتبطة أساسا بمفهوم الدولة الحديثة، وصولا إلى محاولة الإسهام في مساعدتها على رسم طريق سليم يمكنّها من مواجهة التحديات التّي تواجهها والتكيّف معها بسهولة من دون المساس بأصولها الفكرية القائمة عليها.

وتسعي هذه الورقة للبحث في مدى قدرة الحركات الإسلامية على المساهمة في تشكيل معالم الدولة الحديثة الراهنة في عالمنا العربي؟ وهل بإمكانها أن توائم بين ما تمليه عليها مرجعيتها الفكرية وما تفرضه البيئة السياسية من مستجدات وما تفرضه الدولة الحديثة من تحديات؟

تقديم:

قبل محاولة معرفة التصورات السياسيةالتّي تتبناها الحركات الإسلامية-المُشارِكة في العملية السياسية- لمفاهيم الدولة والأمة وكذا رؤاها الفكرية لمسألة الحكم والسلطة ينبغي الوقوف على مسألة أساسية تتعلق بكيفية تشكّل مفهوم الدولة والمجال السياسي في الإسلام، هل تمّ وفق التشريع الديني أو وفق تراكم الخبرة التاريخية؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال ترفع الكثير من اللبس الذّي يحيط بالموضوع وتفتح الباب أمام إمكان فهم مختلف لواقع العلاقة بين الدين والدولة بعيدا عن المصالح والأهواء والنزاعات، فالقارئ للنص القرآني لن يعثر في ما يخص شكل المجال السياسي ونظام الدولة على شيء، ما خلا بعض العموميات التّي تتحدث عن الشورى والعدل، على الرغم ممّا يحفل به من تشريعات مختلفة تستهدف جوانب عديدة للاجتماع الإسلامي. وغياب التشريع القرآني الصريح كنص مرجعي ضابط يحتكم إليه المختلفون في الجوانب السياسية، كان من الأسباب التّي ساعدت على تعميق الانقسام والصراع بين المسلمين –وحتّى بين الحركات الإسلامية ذاتها بأطيافها المختلفة-، لكن هذا الغياب كان واحدا من الأسباب الدافعة إلى ممارسة فعل الاجتهاد وابتكار نظم وقواعد وقوانين ليس منصوصا عليها، ويكفي دليلا على ذلك أنّ غياب ذلك التشريع لم يمنع المسلمين من إقامة دولة، ومن توسع جغرافيتها السياسية مع الفتوحات، ولا من تأسيس فقه للسياسة واكب الدولة إياّها بالتبرير والتسويغ والتنظير(1).

أولاً: السياسة الشرعية كهندسة للفعل السياسي:

قبل الخوض أيضا في إشكالية الدولة، أنطولوجيتها (كينونتها أو هويتها)، وضرورتها ونمطها المفترض حسب الرؤية الإسلامية، من الأهمية بمكان الوقوف على مفهوم “السياسة الشرعية” في الفكر الإسلامي باعتباره مفهوما مركزيا تنطلق منه أي دراسة تطال ظاهرة الحركة الإسلامية تحليلا وتفكيكا، فقد اهتم علماؤنا قديما وحديثا بفقه السياسة والحكم وساقوا لأجل ذلك مصنفات عدّة تشرح دلالاتها ومتطلباتها، فيعرفها “ابن عقيل” مُحاججا بأنّ السياسة “ما كان فعلا يكون فيه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي”.

أمّا حجّة الإسلام “أبي حامد الغزالي” فيرى بأنّها: “استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المنهجي في الدنيا والآخرة”. وعلم السياسة الشرعية، حسب الأستاذ عبد الوهاب خلاف، “يُبحث فيه عمّا تُدبّر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التّي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص” أمّا المنهج القويم لتأدية ذلك فيعبّر عنه شيخ الإسلام ابن القيم حينما قال أنّ: “الله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وإمارته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق، بل بيّن أن مقصودة إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تُرّد لذواتها وإنّما المراد غايتها والتّي هي المقاصد”.

وإذا أردنا حصر أهّم مقاصد السياسة الشرعية نجد أنّها تهدف إلى: الاهتمام بقضايا الرعية أو الناس والمجتمع، والاهتمام بمعالجة الأمور وإصلاحها، ممّا يشكل سعيا واهتماما لهموم الناس بصورتها العامة والشاملة، والاهتمام ببث التأييد وحيازة الدعم لدى الناس ودفعهم للعمل والالتزام بحسب ما يراد منهم الولاء له.

ويُلخص الدكتور العلامة يوسف القرضاوي كل لك حينما يقول أنّ: “للسياسة عند العلماء القدامى معنيان، الأول وهو عام: ويعني القيام بأمور الناس وشؤون دنياهم وفق شرائع الدين، وهو معنى الخلافة أي النيابة عن الرسول في حراسة الدين وسياسة الدنيا. أمّا المعنى الثاني: وهو ما يراه الحكام وما يصدرونه من قرارات الإصلاح للناس وواقعهم ولمقاومة الفساد والسير في طريق التقدم”(2).

إنّ الحديث عن السياسة الشرعية في التصورات السياسية للحركات الإسلامية يقودنا رأسا للحديث عن نظرتها لنمطية الحكم ومدلول السلطة في الإسلام، إذ ترى هذه الحركات أنّ الإسلام دين ونظام وهو أسلوب للحياة يجمع بين العبادة والسياسة، فالفرد المسلم لا يستطيع أن يصوغ حياته وفق ما رسم له إسلامه إلاّ إذا كان له مجتمع يؤويه وسلطة تحميه وتوفر له الأمن على نفسه وعلى دينه، لذا كانت السلطة في الإسلام أصل من أرسخ أصوله “فما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب”(3).

ثانياً: هوية الدولة في الإسلام وسِجالات السلطة والحكم:

إنّ مدلول السلطة في القرآن الكريم يعكس معاني الصلاحية والقوة السليمة الممنوحة أو المرخص بها من خلال ممارسة ذوي الحق لها، كما تؤيدها أحكام الشريعة، ويتضح من هذا أنّ السلطة في الإسلام هي سلطة ملتزمة، وتخضع لمنهجية القانون كما تمثلها الشريعة الإسلامية بشكل لا يملك الحكام معه ذريعة لمخالفتها ولا الأمّة أيضا. فالحكّام في الإسلام مقيّدون بمجموعة ضوابط وقيم أخلاقية وتشريعية والتّي كوّنت إطارا قانونيا ملزما للأمة بأسرها حكاما ومحكومين. من ذلك يتبيّن أنّ بناء المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يتّم بالوعظ والإرشاد فقط، وإنّما بقيام سلطة تصوغ المجتمع الصياغة الإسلامية المطلوبة (4).

وترى هذه الحركات أنّ الإسلام دين ودولة، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أمور الدين “كنبي” وأمور الدنيا والسياسة “كقائدٍ للأمة”، وما كان من أمر الدين كان له فيه القول الفصل، وما كان من أمر الدنيا وحِيَلِ السياسة لم يكن له فيه ذلك وتُرك للاجتهاد والترجيح والمحاججة (5).

كما ترى أنّ الإسلام يؤكد على بشرية السلطة بمعنى أنّ الطريق إلى توليها هي الشورى بين البشر والاختيار والعقد والبيعة، ويؤكد الإسلام على ذلك حينما يعتبر أنّ الحاكم ينوب عن الأمة وهو مسئول تجاهها، ويرى أنّ أمور البشر ينبغي أن تتحرك وتتطوّر ضمن محتوى قواعد عامة وضعها الإسلام كانت بمثابة المُثل العليا والوصايا الإلهية العامة التّي تقودهم للهدى والنجاة في دنياهم وآخرتهم.

لذا يمكن القول أنّ النظام السياسي الإسلامي يغلب عليه الطابع القيمي المقاصدي كما يتناوله الخطاب القرآني، والذّي يقتصر على تحديد الأطر العامة والقيم الكلية والمقاصد العليا دون التطرق إلى التفاصيل والجزئيات التّي تُركت لاجتهادات البشر وفق كل زمان وعصر، لذا لا يمكن الحديث عن نموذج إسلامي محدّد المعالم سلفا مُفصّل التفاصيل أتى به الإسلام (بمعنى النص الشرعي).

كل ذلك يدفعنا إلى طرح إشكالية أثارت كثيرا من الجدل تتعلق بطبيعة السلطة السياسية أو نمط حكم الدولة في التصور الإسلامي، أهي سلطة دينية أم مدنية؟ وهل ينبغي أن يُساهم الدين في رسم معالم الدولة؟ أم يجب إحداث القطيعة بين الدين والدولة (السياسة) لحماية الدين وصيانة السياسة؟

لقد نُوقشت جدلية الديني والسياسي بكثرة في عالمنا العربي ونتج عن ذلك جملة من التصورات الفكرية المتباينة يستند كل منها إلى مرجعيات مشتركة (النص الشرعي) ومتباينة (التجربة والتاريخ)، وقبل الخوض في هذه الجدلية المتعلقة بنمط الدولة المنشودة، ارتأينا قبل ذلك أن نحدّد تصوّر الإسلام لمفهوم الدولة في حدّ ذاتها دلالة ومدلولا.

لقد وردت في القرآن الكريم حروف كلمة دولة في قوله تعالى: “ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” (الحشر: 7)، أي بمعنى التداول والتغيير والتحويل، وقيل في تفسيرها إنّ دولة (بضم الدال أو فتحها) مصطلحان، فقيل أنّها بالضمّ تشير إلى المال وبالفتح إلى الحرب، والمعنى العام حتّى لا يقع مال الفيء في أيدي الأغنياء فيتداولوه بينهم دون الفقراء، وهو ذات معنى التغيير والتحويل. وكذلك وردت في القرآن الكريم في موضع آخر وقد استخدمت بصيغة الفعل في قوله تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس” (آل عمران، 14)، أي بمعنى نجعل الدولة والغلبة فيها لقوم وفي غيرها لآخرين.

لقد ورد مدلول الدولة في القرآن الكريم بأسماء عدّة منها:

1ـ القرية: ما جاء على لسان ملكة سبأ في قوله تعالى: “إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها” (النمل: 34)، فقد كان لسبأ صفة الدولة المنظمة، لها حكومة ترأسها ملكة قوية لها وزارة وقادة إداريون، قائمة على التشاور يتضح ذلك من قوله تعالى على لسان ملكتها: “ما كنتُ قاطعة أمرا حتّى تشهدون” (النمل: 32).

2ـ المدينة: وقد وردت في القرآن الكريم لتدل على دولة صغيرة العدد والمساحة مثل قوله تعالى في شأن سيدنا موسى عليه السلام: “ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها” (القصص: 15)، فالمقصود هنا عاصمة الدولة ومقر حكومتها.

3ـ البلدة: قوله تعالى في سياق قصة سبأ: ” لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدة طيّبة وربّ غفور” (سبأ: 15). ومن استخدامات البلدة بمعنى الدولة، قوله تعالى: “وفرعون ذي الأوتاد الذّين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد” (الفجر: 10-12). أي الذّين طغوا في مدن مصر وقراها.

لقد عرف الإسلام فكرة الدولة كشخصية مستقلة عن شخصية الحكّام الذين يعتبرون أمناء على السلطات يمارسونها نيابة عن الأمة في فترة ولايتهم، وعليه فالدولة في الإسلام نشأت من التشريع الإسلامي المستمد قواعده من القرآن والسنّة والأدلة التابعة لهما وفقا للقواعد الكلية. فإذا كانت السلطة التّي تحكم الدولة هي سلطة تقوم على التزام عقيدة التوحيد وأحكام الشرع فهي دولة إسلامية. وعليه يمكن تعريف الدولة الإسلامية بأنّها: “مجموعة من الناس يقيمون على إقليم معيّن تحكمهم الشريعة الإسلامية”(6).

إنّ الإسلام لم يجعل الدولة أصلا من أصوله الإعتقادية ولا ركنا من أركانه ولا حتّى شعيرة من شعائره الثابتة، فقد اعتبر الفقهاء بما يشبه الإجماع أنّ نظرية الإمامة من الفرعيات كما ذهب الإمام أبي حامد الغزالي وأنّها ليست أصلا من أصول الاعتقاد كما قال الإمام الجويني. ووفق الشهرستاني والقرافي ثمّة تمييز عندهما بين الدين أو الرسالة وبين الدولة أو الإمامة، فالرسول في الرسالة مبلّغ وفي الإمامة منشئ. ويحسم ابن تيمية بأنّها ليست من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان وصولا لابن خلدون الذّي يراها من المصالح العامة المفوّضة إلى نظر الخلق. كل هذا حتّى لا تصل الدولة إلى مرتبة التقديس، لكن هذا لا يعني أنّه لا ضرورة لوجودها في المجتمع، فالقرآن فرض على المسلمين من الفرائض ما لا يمكن القيام به على أتّم وجه إلاّ إذا كانت هناك دولة تتحقق في أركانها دعوة الإسلام ومقاصده (7).

وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عمارة فيما معناه أنّ القرآن الكريم الذّي لم يفرض على المسلمين إقامة دولة، قد فرض عليهم من الواجبات الدينية ما يستحيل عليهم القيام به والوفاء بحقوقها إذا هم لم يقيموا دولة، كالفرائض الدينية، إقامة الحدود، جمع الزكاة وصرفها، تنظيم القضاء، رعاية مصالح المسلمين والذود عنهم وغيرها من الواجبات (8).

ثالثاً: فلسفة الدولة في الفكر الإسلامي:

لقد أدّت القراءات المتباينة للنص الشرعي إلى تفسيرات وتأويلات متباينة أيضا بخصوص نمط الحكم المنشود والذّي يمنح بدوره شكل الدولة بين من يرى بأنّ الدولة المنشودة هي دولة دينية وبين القائلين بمدنية الدولة في الإسلام وبين الساعين باجتهاداتهم لمواكبة العصر والتمسك بالأصل فقالوا بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.

مثّل الجهة الأولى تيّار متشدّد لا يعترف إلاّ بدولة الخلافة بنمطها التقليدي، فطالما رأى في نُظم العصر كفرا بواحا، لا تتماشى مع روح الإسلام على غرار مفهوم الديمقراطية والتداول على السلطة، كما رفض مفهوم الشعب وأقرّ مفهوم الأمة، وقد منح هذا التيار لحاكم الدولة الإسلامية سلطات مطلقة وإن كان ظالما بشكل يحول بينه وبين العزل أو الثورة عليه ما لم يُظهر كفرا بواحا، كما منحت لعلماء الدين حقا حصريا في التفسير والتبرير والفهم المتعلق بشؤون الدين والسياسة بشكل يذّكرنا بمفهوم الدولة الثيوقراطية التّي سادت أوروبا في قرونها الوسطى المظلمة أين كان الحاكم ذو طبيعة إلهية (إله أو ابن إله) أو أنّه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عُرف بنظرية الحق الإلهي، ممّا يترتب على ذلك أن يرتقي الحاكم إلى منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب ، وأنّه لا يُعترض على أقواله أو أفعاله.

لقد أدّى هذا الفهم وتلك التصورات عبر التاريخ -الإسلامي والغربي-إلى خلق نماذج حكم جائرة استعبدت البشر باسم الدين وعاثت خرابا على الأرض باسم الإله، نُظم لم تقم وزنا لمبادئ المساواة بين الناس بل أقامت تمايزا بينهم على أساس الإعتقاد. وأخطر ما فيها أنّها تجعل الحاكم يتكلم باسم الله، بحيث لا تجوز مراجعته فهو يمتلك مفاتيح الحق والباطل، الخير والشر، الجمال والقبح، العدل والظلم، كما يمتلك القدرة على إعلان الحرب وعقد السلام، وصار علماء الدين ورجالاته في هذا النمط ممثلي الله وواسطته على الأرض، القابضين على الحق، محتكرين للحقيقة، فوقفوا بذلك ضدّ أي تغيير وعمدوا إلى تعطيل وسائل المعرفة العقلية والتجريبية فأصبحوا قوة رجعية تقف ضدّ التطوّر والتقدّم والحداثة (9).

ولعوامل عدّة عرفت الأمة الإسلامية صحوة فكرية في القرن التاسع عشر مسّت المدونة الفكرية السياسية الإسلامية ونخرت فيما كان يُعتقد أنّه أصل يقوم عليه الحكم والسلطان، سعى فيها جملة من المصلحون إلى استئصال الاستبداد السياسي من العقول قبل الميادين كان على رأسهم المصلح جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده.

وفيما يتعلق بنمط الحكم الذّي يقّر به الإسلام وليس السلطان يمهّد محمد عبده لمفهوم الدولة الحديثة في المجتمع المسلم حينما يقول أن: “ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين يُقرّع بها أنف أعلامهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم.

والحاكم -في الإسلام-تنصبّه الأمة، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج “ثيوقراطيك” أي سلطان إلهي، أمّا القاضي والمفتي وشيخ الإسلام، فسلطاتهم مدنية، قدّرها الشرع الإسلامي، وليس لهم أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام. فليس في الإسلام عند قوم سلطة دينية بوجه من الوجوه”(10).

لقد كانت مثل هذه الأفكار مجرد بادرة لبداية فكرية نشيطة عرفتها الساحة العربية والإسلامية عموما تناولت بالدرس والتنقيب والمقارنة، تأويلا وتفكيكا مسألة السلطة والدولة ونظام الحكم في علاقتها بالدين وما يطرحه من إشكاليات على ضوء التحديات الراهنة التّي يفرضها العصر، ابتداءً من كتابات طه حسين وانتهاءً بأطروحات محمد أركون، عبد الله العروي، نصر حامد أبو زيد، فتحي المسكيني وغيرهم ممن أُطلق عليهم برواد الحداثة العربية (11).

حيث كانت لأطروحاتهم السياسية ومحاولاتهم التنظيرية وقع كبير على الساحة السياسة العربية ونخبها الجديدة نظرا لتصديهم للمشكلات الحديثة التّي تطرحها جدليات “المقدس والمدنس”، “الدين والسياسة”، “التراث والحداثة”، “الاستبداد والديمقراطية” “الإسلام والعلمانية”. وغيرها من الإشكاليات باستخدام مناهج وأدوات معرفية غربية في البحث والتحليل في تراثنا الإسلامي ورهانات أمتنا الحديثة… مبلورين بذلك رؤية متميّزة فيما يخص شكل الدولة العربية المنشودة فيما شاع تسميته بالدولة المدنية، أو الدولة العلمانية المستوعبة لجميع الأطياف والألوان لاسيما بعد تغيّر بنية المجتمعات المسلمة حديثا من حيث التركيبة أو الفكرة أو الاتساع والتمازج الحضاري.

وينطلق مؤيدو مشروع الدولة المدنية من فكرة أنّ مصدر السلطة في الدولة هو الأمة والشعب، حيث لا تمايز ولا تمييز بين أبنائه وفئاته على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة، ويذهبون إلى أنّ كل دولة غير مدنية هي دولة بوليسية قائمة على القمع والظلم والطغيان(12)، وهي غير قادرة بسبب تكوينها هذا على احتضان الأديان والأفكار والحريات، والدول التّي تبنت فكرة مدنية الدولة حرصت على أن لا تتضمن دساتيرها دينا للدولة، بل إنّها اعتبرت الدولة المدنية علمانية في المضمون وليس في الشكل، وأنّ السياسة تجري على أساس المصلحة والتشريع، وهي في خلاصتها تعبّر عن تنوع شرائع الأمّة.

ويميّز البعض بين الدولة المدنية والعلمانية اعتقادا بأنّ الأخيرة معادية للدين، في حين تقّر الدولة المدنية حرية الأديان وتحترم اختلاف الناس في معتقداتهم وتؤمّن لهم كل ما يلزم لممارسة حرياتهم الدينية، ولكنّها لا تُفرق بينهم على أساس الدين.

ومرجعية هذه الدولة تتلخص في وجود دستور يعبّر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين باختلاف انتماءاتهم الدينية والثقافية والعرقية، حيث تقوم الدولة على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على قاعدة المحاسبة والمساءلة وتداول السلطة واكتساب الحقوق على أساس المواطنة وكفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية واحترام التعددية والتداول على السلمي الديمقراطي للسلطة عبر الانتخابات الحرة (13).

وبالرغم من النبرة الواقعية التّي يحاول أن يظهر بها أنصار هذا التيّار إلاّ أنّه يسقط بطريقة ما في طوباوية متعالية في كثير من الأحيان من خلال تجاهله للخصائص الثقافية والهوياتية التّي تميّز المجتمع الإسلامي بشكل بلغ حدّ الإقصاء النخبوي لمخالفيهم من الإسلاميين ساحبين من تحت أقدامهم شرعية الفكر عبر وصمهم بتهم الرجعية الفكرية والانغلاق، مساهمين بدورهم في تعميق حدّة الاستقطاب السياسي والفكري الذّي ينخر هذه المجتمعات وينحوا بها لتُفكر بعيدا عن همومها المعيشية ومشكلاتها اليومية كقضايا العدالة الاجتماعية والتنمية المُلّحة (14).

رابعاً: روح الحداثة وأصالة المفهوم:

لقد برزت اجتهادات فكرية تتوسط الساحة الفكرية معلنة حربها على الاستقطاب السياسي-الفكري المقيت، يتزعمها أقطاب فكرية كبيرة على رأسهم البروفيسور طارق رمضان، الدكتور راشد الغنوشي، الفيلسوف طه عبد الرحمان وغيرهم. وقد ألهمت أفكارهم قادة سياسيون كثر في العالم الإسلامي كرموز حزب العدالة والتنمية التركي الذين تمكنوا إلى حدّ كبير من الموازنة بين المدونة الفكرية الإسلامية الأصيلة من جهة وما تفرضه التحديات المعاصرة من مستحدثات من جهة أخرى.

وفي هذا الصدد يتحدث الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمان” عن توافق روح الحداثة مع روح الإسلام محاولا التنظير لما أسماه بروح الحداثة الإسلامية، من جهته يشير البروفيسور المصري “طارق رمضان” إلى أنّ هناك سبيل للتوفيق بين روح الديمقراطية والإسلام وأنّ هناك سبيل وسط يتيح للإسلاميين العرب أن يطوّروا نماذج حكم ديمقراطية مناسبة لدولهم بدلا من استنساخ التجارب الغربية بما تحمله من ثقافة ليبرالية علمانية، داعيا إيّاهم للتركيز على تحديات التنمية والعدالة الاجتماعية بدلا من الوقوع في فخ الاستقطاب السياسي المقيت بالشكل الذّي يخدم مصالح القوى الكبرى..

وقد ألهمت كتاباته جيلا بأكمله من الإسلاميين الجدد في مقدمتهم قادة حزب العدالة والتنمية التركي مثلما يذهب لذلك الدكتور “أحمد كورو” في إحدى دراساته المهمة، أنه بإمكان الحزب في الدول العربية –حسب الدكتور كورو- أن يكون ذا مرجعية دينية من دون الحاجة أن يسعى لإقامة دولة إسلامية، حيث يرى أنّ هذا الفهم سيسمح للحزب أن يشغل بأريحية موقعا بين العلمانية الإقصائية من جهة والإسلام من جهة أخرى، وفقا لهذا المنظور يمكن للأفراد والجماعات المسلمة الترويج لآرائها الإسلامية في نظام ديمقراطي من خلال العمليات التشريعية والمشاركة في المؤسسات السياسية أو القضائية والمشاركة مع المجتمع المدني ووسائل الإعلام.

فعلى سبيل المثال يمكن أن تنعكس الأخلاق الإسلامية من خلال محاربة الفساد والمحسوبية أو تعزيز العدالة، ويمكن أيضا للأحزاب الإسلامية المتنوعة ترويج فهمهم للشريعة من خلال عمليات حرة وديمقراطية، وبهذه الطريقة فإنّه ليس هناك حاجة للتسمية الرسمية للدولة باسم “دولة إسلامية” من أجل تعزيز المبادئ الإسلامية في السياسة، قبل كل شيء، هناك العديد ممّن يسمون “بدول إسلامية” تفشل في الواقع في دعم ما يتصور الكثيرون أنه “المبادئ الإسلامية” المنشودة في الحياة اليومية.

ويرى كورو أنّ نجاح حزب العدالة والتنمية التركي في ممارسة سياسات ذات مرجعية دينية دون السعي نحو إقامة دولة إسلامية يجعلها نموذجا مناسبا وحيدا للإسلاميين العرب (15).

بالمقابل بإمكان العلمانيين أن يكيّفوا خطاباتهم السياسية بالطريقة التّي لا تنال من الحساسية الهوياتية والثقافية التّي تتحكم في الوعي الجمعي لفئة عريضة من الجماهير العربية المتبنية للفكرة الإسلامية، متجنبين على سبيل المثال استخدام مصطلح دولة علمانية تعبيرا عن تطلعاتهم في إقامة دولتهم المنشودة وتعويضه بمصطلح الدولة المدنية لأنّه أخف وطأة وتأثيرا على المِخيال الجمعي للأمة، قد تبدو هذه المسألة مسألة عَرضية بالنسبة للبعض لكنّها في نظرنا تُعد قضية حساسة جدا وإلاّ لما عرفت الساحة الفكرية والفلسفية منظورا بأكمله يسمى بالبنائية يرتكز في أبحاثه على البُعد الهوياتي والثقافي للقضايا المعالجة.

كما يُركز أيضا على مسألة دور الخطاب واللغة في تشكيل الواقع، متمكنا من تجاوز المنظور الوضعي المهيمن على التحليل والمرتكز على الأبعاد المادية للقضايا المعالجة، وفي هذا الصدد يتحدث الدكتور “محمد عابد الجابري” عمّا يسميه بإشكالية “تبيئة المفاهيم” فليست كل المفاهيم المنقولة عن الغرب ضرورية أو مفيدة، أمّا المفاهيم الضرورية فينبغي تبنيها لكي تنغرس في الثقافة العربية الإسلامية، ويميّز الجابري هنا بين مفاهيم قابلة للاندماج كمفهوم “العقلانية” وأخرى غير قابلة للاندماج في ثقافتنا على غرار مفهوم “العلمانية” لأنّه مفهوم يصدم حساسياتنا الإسلامية ويتعارض مع جوهرها ولسنا بحاجة إليه –كما يذهب إلى ذلك- لأنّه لا يوجد كهنوت في الإسلام ولا كنيسة لكي نقبل بفصل الدين عن الدولة كما فعل الغرب، وهذا شيء مستحيل بحسب الجابري(16).

الإسلاميون والدولة الحديثة إلى أين؟

على مستوى الحركات الإسلامية يرى كثير من المتتبعين أنّ حركة الإخوان المسلمين في دول عربية عديدة تتجه عبر فروعها شيئا فشيئا إلى هذا المنحى، وهذا ما يبدو جليا في اجتهادات الدكتور راشد الغنوشي السياسية على سبيل المثال وما يطرحه من رؤى توافقية في تونس الجديدة ما بعد الانتفاضة، وفي هذا الصدد يرى الدكتور عبد الوهاب الأفندي أنّ تنظيم الإخوان المسلمين يُعد من أكثر الحركات الإسلامية نجاحا في الأزمنة الحديثة، ويتحدّث بدوره عن إشكالية تواجه هذا التنظيم اليوم والمتعلقة بما أسماه “بتسييس الدين وتديين السياسية”، مسجلا ملاحظة مهمة تتعلق بنزع السياسة عن الدين، معلقا على الوضع الحالي قائلا: “وإذا توافقنا أنّها مشكلة مزدوجة بمعنى أنّه لا يمكن نزع السياسة عن الدين ولا أن ينجح الدين في السياسة، فهل يمكن لمنطق “ديني” موثوق أن يُميل بحججه الكفة ضدّ استخدام الدين في السياسة؟ أنا أعتقد أنّ ذلك ممكن”. ويخلص إلى توّجه إبعاد الدين عن ساحة المساومات ليبقى واجبا دينيا، للحفاظ على نقاء التعاليم الدينية. ويرى أنّه سيكون أمرا مفيدا إذا بادر الإسلاميون إلى أخذ الخطوات الضرورية لتخفيف حدّة الاستقطاب وإزالة التهديدات المتوهمة للدين ضدّ تماسك كل من الدولة والمجتمع (17).

—————————-

الهامش

(1) عبد الغاني عماد، الإسلاميون بين الثورة والدولة، إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب، مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى 2011، بيروت-لبنان، ص: 58.

(2) محمد علي محمود صبح، إدارة الدولة في الإسلام، دراسة تأصيلية لمفهوم إدارة الدولة في الفكر السياسي الإسلامي، رسالة لنيل شهادة الماجستير في التخطيط والتنمية السياسية، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، 2011، بانلس-فلسطين، ص: 16،17،18،19.

(3) الإدارة والإمامة في حياة الجماعة أمر لازم، قال صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلاّ أمّروا عليهم أحدهم”، وقال أيضا: ” من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية”، ويقول الإمام علي كرّم الله وجهه: ” لابّد للناس من إمارة، برّة كانت أو فاجرة، فقيل يا أمير المؤمنين، هذه البرّة عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يُقام بها الحدود وتُؤمن بها السبل ويُجاهد بها العدو ويُقسّم بها الفيء”. وفي هذا الصدد يقول الشهرستاني: “لابّد للكافة من إمام ينفّذ أحكامهم ويقيم حدودهم ويحفظ بيضتهم ويحرس حوزتهم ويُنصف المظلوم وينتصف من الظالم.

(4) محمد علي محمود صبح، مرجع سابق، ص 22-23.

(5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنّما أنا بشر”.

(6) عبد الغاني عماد، مرجع سابق، ص 62-63.

(7) عبد الغاني عماد، مرجع سبق ذكره، ص: 60-61.

(8) محمد علي محمود صبح، مرجع سبق ذكره، ص 66.

(9) عبد الغاني عماد، مرجع سبق ذكره، ص: 56.

(10) المرجع نفسه، ص: 53.

(12) هنا يطرح أحد الباحثين سؤالاً: هل الدول المدنية العلمانية عندنا لم تكن دولة بوليسية قائمة على نفس الأسس؟ وللإجابة على هذا التساؤل، يرى الباحث: أنّ الدولة التّي حكمت العالم العربي لعقود طويلة باسم الوطنية تارة والعلمانية تارة أخرى لم يكن لها في حقيقة الأمر أي علاقة بالفكرة الوطنية ولا حتى بالعلمانية في جوهرها الحقيقي، فالوطنية كانت مجرد خطاب سياسي يُبقي لها شيئا من الصدقية وشرعية الوجود لدى الجماهير خاصة وأنّها تبني ذلك الخطاب الوطني على أمجاد الحركة التحررية التّي استأنفها الأجداد وإلتقفها الأحفاد الذّين أمسكوا بالسلطة في ظرف تاريخي ما مستخدمين التاريخ وشرعيته كمصدر جيّد للحصول على مزيد من الشرعية من شأنها أن تطيل مدة بقاء هذه الأنظمة السياسية، أمّا العلمانية فلا علاقة لهذه النظم بالعلمانية الحقة حيث يسود القانون وتهيكل الدولة بمؤسسات صارمة، ويُبعد الجيش عن السياسة، ويسود الحق الإنساني مثلما هو سائد في كثير من دول أوروبا ولو بدرجات متفاوتة مع بعض أوجه القصور، لأن العلمانية أيضا مجرد خطاب ذي أهداف سياسية أو حتى شخصية في بعض الأحيان.

(14) عبد الغاني عماد، مرجع سبق ذكره، ص ـ ص: 54-55.

(15) أحمد كورو، سياسة ذات مرجعية دينية بدون دولة إسلامية، هل يمكن أن يكون حزب العدالة والتنمية التركي نموذجا للإسلاميين العرب، مركز بروكنجز-الدوحة، فبراير 2013، ص: 03-04

(16) هاشم صالح، الفكر العربي ومشكلة المفاهيم، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 10 يناير 2014. الرابط

(17) رياض زكي قاسم، تقرير عن ندوة بعنوان: “مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي”، مجلة المستقبل العربي، نوفمبر 2013، بيروت-لبنان، ص: 177-178.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى