fbpx
الحركات الإسلاميةتقاريراوروبا وامريكا

الخوف الغربي من التهديد الجهادي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

منذ صعود تنظيم القاعدة، ومؤخرا داعش، أصبح مصطلح الجهاد جزءًا لا يتجزأ من الخطاب العام في الغرب حول ما يوصف بـ”الإرهاب” ويوصم بـ”الإسلام المتطرف”. ويمكن تتبُّع هذا الخطاب في أربع ساحات رئيسية، هي: الخطاب السياسي، والتغطية الإعلامية، والقواميس اللغوية، ومراكز الأبحاث.

ولمَّا كان الخطاب السياسي الغربي يتسم بالشعبوية في مجمله، والتغطية الإعلامية تهيمن عليها النزعة الانتقائية، والقواميس اللغوية متأثرةً بالسائد حينًا ومحصورة في استخدامات قليلة في الغالب الأعم؛ سيستعرض هذا البحث سريعًا النقاط الثلاثة الأولى مع وقفة موجزة مع التضخيم الإعلامي للتهديد الجهادي، قبل أن يركز على تناول أبرز مراكز الأبحاث الأوروبية والأمريكية؛ لأنها الأعمق وبالتالي تساعد أكثر في فهم العقلية الغربية.

ومن أجل ضبط المصطلحات، يستعرض البحث تعريفات: الإسلاموية والإسلاموية السائدة والسلفية والجهادية والسلفية الجهادية والفارق بين الجهاديين والإسلاميين من وجهة نظر غربية، ويرصد التأثيرات المفاهيمية على الجهادية المعاصرة، وأهمية السياق في تشكيل الحالة الجهادية في العصر الحديث، وأهداف ودوافع الجهادية ومراحل تطوُّرها كما يراها الغرب، ثم يختم البحث بعرض نماذج تجلّي الرؤية الغربية لنهاية الجهادية وأبرز الجهود والوسائل التي يلجأون إليها لمكافحة الجهاديين بالفعل أو ينصح الخبراء بتطبيقها أو تطويرها.

وذلك مقدمة تأسيسية لفهم العقلية الغربية، وتمهيد ضروريّ رأى البحث ضرورة القيام به قبل أي تحليل تفصيليّ لاحق للتغطية الإعلامية والخطاب الرسمي والتناول البحثي الغربي للحالة الجهادية؛ لأسباب سيلمسها القارئ تباعًا، وسيُشار إليها مرة أخرى في الخاتمة.

تضخيم التهديد:

يشيع استخدام كلمة “الجهاد” على نطاق واسع في أوساط السياسيين ووسائل الإعلام الغربية؛ استخدامًا يفتقر إلى الدقة في كثير من الأحيان، للدلالة على “التعصب وعداء الإسلام تجاه الغرب”.

وجزء كبير جدا من الأخبار التي يستهلكها المواطن الغربي يوميًا تتحدث عن الإرهاب في أمريكا وأوروبا، وهي التغطية التي تؤثر على نمط حياة هؤلاء الناس. على سبيل المثال، في أعقاب هجوم سان برناردينو (2 ديسمبر 2015)، قالت إحدى النساء (لم تكن قد أنجبت أطفال بعد) لصحيفة نيويورك تايمز إنها تعتزم تعليم أطفالها في المنزل مستقبلا خشية تعرضهم لإطلاق نار جماعي. وذكر رجل آخر إنه يشاهد الأفلام حاليا في المنزل بدلا من السينما العامة، وقالت أخرى إنها أصبحت الآن تتجنب الأماكن العامة المزدحمة.

باستعراض تغطية الصحف الأمريكية والأوروبية للمسائل المتعلقة بالإرهاب يتضح أن ثمة تغطية انتقائية تُصَدِّر صورة مشوهة للعالم باستخدام بيانات حقيقية. ويمكن أن تؤدي البيانات الانتقائية إلى استنتاجات سيئة وقرارات سيئة. بل في الواقع يمكن أن تكون الحقائق الانتقائية أسوأ من أي أخبار وهمية؛ لأنها يمكن أن تعطينا شعور زائفًا بالثقة أو التهديد.

تغطي/تنشر وسائل الإعلام- خاصة وسائل الإعلام الاجتماعية- مجموعة غير ممثّلة من الأحداث على أساس ما هو وثيق الصلة بالجمهور، وبالتالي يستخدم القراء والمشاهدون هذه البيانات الانتقائية لاستنتاج صورة غير حقيقية للواقع.

على سبيل المثال، إذا رصدنا عدد الوفيات الناتجة عن الهجمات الإرهابية وتلك الناتجة عن جرائم القتل، وفي المقابل تغطية صحيفة نيويورك تايمز للنوعين من الحوادث، يتضح أن عدد التغطيات التي خصصتها الصحيفة لجرائم القتل كانت مشابهة لتلك المتعلقة بحوادث الإرهاب في عامي 2015-2016، على الرغم من أن جرائم القتل أسفرت عن إزهاق المزيد من الأرواح داخل الولايات المتحدة والعالم في تلك الفترة الزمنية (1).

(من الأيسر: عدد القتلى في أمريكا- عدد القتلى حول العالم – تغطية نيويورك تايمز)

القواميس الغربية:

تشير القواميس الأجنبية إلى المعاني المختلفة للجهاد بمعناه اللغوي في العربية أو بمدلولاته الشرعية، ليشمل المصطلح ثلاث مستويات رئيسية:

– بذل الوسع الفردي على المستوى الداخلي ضد الغرائز الشخصية،

– أو على مستوى تغيير المجتمع بهدف بناء كيان مسلم،

– أو على الصعيد العسكري بالحرب ضد العدو دفاعا عن الدين.

بيدَ أن بعض القواميس المتخصصة تكتفي أحيانًا بالإشارة إلى المعنى الشائع غربيًا والمشار إليه آنفًا، وهو ما يمثل امتدادًا- غير مشهور لكنه مؤثر على الأقل في الأوساط التعليمية- للانتقائية التي تهيمن على الخطاب السياسي والتغطية الإعلامية:

يُعَرَّف قاموس كامبريدجالجهاد” في الإسلام بأنه “صراع ديني ضد الشر داخل الإنسان أو في المجتمع”، (وهو المرادف لمفهوم جهاد النفس في الإسلام) أو كـ “حرب مقدسة يخوضها المسلمون ضد الأشخاص الذين يشكلون تهديدا للإسلام” (وهو المرادف لقتال الأعداء).

لكن القاموس حين يذهب لتعريف مصطلح “الجهادي” يقول إنه: هو المسلم الذي يقاتل من أجل الإسلام، لا سيما الشخص الراديكالي (شخص ذو وجهات نظر متطرفة) الذي يؤمن باستخدام العنف لتحقيق أهداف دينية وسياسية. وهنا يتحوَّل القاموس اللغوي إلى مجرد صدى لما يردد الساسة في خطاباتهم الشعبوية أو أسيرًا للتغطية الإعلامية الانتقائية.

ويُعرَّف قاموس ميريام ويبستر “الجهاد” بأنه “حرب مقدسة تُشَنّ باسم الإسلام كواجب ديني” (قتال الأعداء) لكنه يشير إلى المعنى الآخر المتعلق بجهاد النفس أو “الانضباط الروحي”، والجهادي بحسب القاموس هو المسلم الذي يدافع عن الجهاد أو يشارك فيه.

وهو التعريف المشابه لما ورد في قاموس أوكسفورد، حيث الجهاد هو: صراع أو معركة ضد أعداء الإسلام، أو نضال روحي داخل النفس ضد الخطيئة. والجهادي هو: الشخص الإسلامي المسلح المنخرط في الجهاد.

وما بين هذا وذاك، تقف بعض التعريفات في مساحة وسط، كتلك التي أوردها قاموس  كولينز حين يعرِّف الجهادية” فيقول إنها: حركة أصولية إسلامية تفضل الجهاد دفاعًا عن العقيدة الإسلامية.

 

مراكز الأبحاث الغربية

وبعيدًا عن الخطاب السياسي الشعبوي، والتغطية الإعلامية الانتقائية، تتناول الإصدارات الأكاديمية والبحثية المتخصصة الجهاد بطريقة أكثر عمقًا، فترصد مراحل تطوره وتغيُّر معناه باختلاف الزمان والمكان حسب فهمها.

على سبيل المثال يرصد (باربر، 1992) المعاني الثلاثة الرئيسية المشار إليها في التعريفين اللغوي والشرعي لمصطلح “الجهاد”، وهو المعنى ذاته الذي يتبناه الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والتصدي له (STRAT ) باعتبار أن الجهاد قد يتعلق بإجراءات الإصلاح الداخلي أو النضال الروحي أو الدفاع عن النفس، بقدر ما يتعلق بالحرب المقدسة.

بل يزداد عمق التناول أحيانًا باستحضار “الاتحاد” الجدل الدائر بين المفكرين المسلمين أنفسهم حتى اليوم عن معنى الجهاد وأهميته، والتغييرات التي تطرأ على دلالات المصطلح بمرور الوقت ومن مكان لآخر، مثله في ذلك مثل المفاهيم الدينية والسياسية الأخرى.

أحد الأمثلة على ذلك هو كتاب “الجهاد في القرن الحادي والعشرين: القانون والمجتمع والعمل العسكري” والذي يدرس الطرق التي تغير بها مفهوم الجهاد، من جذوره في القرآن إلى استخدامه في النقاش الحالي، ويستكشف زوايا سياسية حديثة مألوفة، ويتطرق إلى قضايا القانون والمجتمع والأدب والعمل العسكري، ويحلل توجهات أولئك الذين يبحثون عن دور للدين في العالم الحديث(2).

 ضبط المصطلحات

يعترف الباحثون الغربيون بضرورة ضبط المفاهيم والتفريق بين المصطلحات التي أثبتت أنها مربكة في كثير من الأحيان، على الوجه التالي:

الإسلاموية: ظاهرة تشمل طيفًا واسعًا من السلوكيات والمعتقدات. وبشكل عام، تعتقد الجماعات الإسلامية أن الشريعة أو القيم الإسلامية يجب أن تلعب دورا محوريا في الحياة العامة. هذا التعريف واسع بما يكفي ليضم الجماعات التي تستخدم العنف مثل داعش والأحزاب السياسية الرئيسية مثل النهضة التونسي، من أجل ذلك كان من الأهمية بمكان التمييز بعناية بين أطياف الإسلاميين.

الإسلاموية السائدة: تتألف الجماعات الإسلامية الرئيسية في المقام الأول من جماعة الإخوان المسلمين والحركات المستوحاة منها. ومن سماتها المميزة: التدرج (تتحاشى الثورة تاريخيا)، وتبني السياسة البرلمانية، والاستعداد للعمل ضمن هياكل الدولة القائمة، حتى العلمانية منها. وإذا أمكن تلخيص المشروع الأساسي للإسلاموية السائدة في جملة واحدة، لكانت: التوفيق بين الشريعة الإسلامية ما قبل الحداثة والدولة القومية الحديثة، لكن هذه الأخيرة في نهاية المطاف هي التي حصلت على أفضل النتائج.

السلفية: تقوم على فكرة أن الإسلام الأكثر أصالة وصوابًا يتجسد في الأجيال الأولى الصالحة (السلف) الذين كانوا هم الأقرب مكانا وزمانا من النبي محمد. وبشكل عام، فإن السلفيين أقل ميلا نحو المشاركة السياسية النشطة من ممثلي التيار الإسلامي السائد، ويفضلون بدلا من ذلك اتباع نهج “مهادن” في الوعظ والتعليم الديني وتجنب المواجهة مع سلطات الدولة. وإن انخرط بعض السلفيين في السياسة الانتخابية، وانضوت أقلية منهم تحت لواء الجهادية.

الجهادية: تؤمن بأن الجھاد (الحرب الدینیة) التزام فردي (فرض عين) واجب علی جمیع المسلمین، ولیس التزاما جماعیا یقوم به الممثلون الشرعيون للمجتمع الإسلامي (فرض كفاية)، بحجة أن الحكام المسلمين اليوم غير شرعيين ولا يقودون أعمال العنف المبررة. وفي غياب هذه السلطة، يجادلون بأن كل مسلم قادر يجب أن يتحمل عبء الجهاد، على عكس الاعتقاد الذي كان سائدًا في عصر الخلافة. ومن الناحية اللاهوتية، انخرط المسلمون من مختلف المذاهب في الجهاد، وليس فقط السلفيين المحافظين المتشددين، ولكن أيضا الصوفية.

السلفية الجهادية: هو نهج جهادي يقترن بالالتزام بالسلفية. ويميل السلفيون الجهاديون إلى التأكيد على مآثر السلف العسكرية، ويمكن تصنيف معظم الجماعات الجهادية اليوم تحت هذا النوع، بما في ذلك تنظيمي القاعدة وداعش. وبالنسبة لهذه الجماعات، إذا اعتُبِرَ المسلمون مرتدين، فإن العنف ضدهم يصبح مشروعًا (التكفير) (3).

– يبقى مصطلح الإرهاب، وينص تعريفه الوارد في المادة 22 من القسم 2656 من القانون الأمريكي على أن الإرهاب هو “عنف متعمد بدوافع سياسية يرتكب ضد أهداف غير مقاتلة من قبل مجموعات شبه قومية أو عملاء سريين، ويهدف عادة إلى التأثير على الجمهور”.

الجهاديون والإسلاميون

من وجهة النظر الغربية، يهدف الإسلاميون إلى إعادة تنظيم الحكومة والمجتمع وفقا للشريعة الإسلامية، بينما يرى الجهاديون أن الكفاح العنيف ضروري للقضاء على العقبات التي تعترض استعادة حكم الله على الأرض والدفاع عن المجتمع الإسلامي أو الأمة ضد الكفار والمرتدين.

وإذا كان هناك معتدٍ يهدد الأمة، فإنهم يرون الجهاد حينها ليس مجرد التزام جماعي وإنما واجب فردي يجب على كل مسلم قادر، تماما مثل الصلاة والصيام.

لا يستخدم كثير من المسلمين المعاصرين مصطلح “الجهاديين” لأنهم يرون أنه يربط خطأ بين المفهوم الديني النبيل والعنف غير الشرعي، لكن الرواية الرسمية الإسلامية والمؤيدين لها يستخدمون بدلا من ذلك مصطلحات تنزع الشرعية عن هذه الأفكار والأفعال، مثل: “المنحرفون” (4).

الجهادية وأهمية السياق

يدرك الباحثون الغربيون أن الجهادية ليست حركة موحدة، بل هي شبكة فضفاضة من الفاعلين، ترتبط من خلال وجهات نظر متماثلة وتخضع لتحالفات ومنافسات متغيرة باستمرار. ومع ذلك، فإن الأسس السياسية الروحية لهذه المجموعة المتنوعة تقوم على ركيزتين أساسيتين:

– التطُّهرية (البيوريتانية) الدينية الذي روجت لها السلفية،

– البعد الملهم للإسلام السياسي/الإسلاموية.

انطلاقًا من هذا التباين، تختلف أيضًا العوامل الاجتماعية والسياسية التي تسمح للحركات الجهادية بتجنيد أتباع جدد من وجهة النظر الغربية:

– في العراق، تتضافر العناصر الفاعلة التقليدية مثل القبائل أو الجماعات العرقية مع العناصر الجهادية مثل داعش انطلاقًا من البراجماتية السياسية والاقتصادية.

– في نيجيريا، أعلنت بوكو حرام عن ولائها لتنظيم داعش على أمل الحصول على تمويل إضافي.

– كما حدث فى اليمن، تفاقم الاستقطاب على طول الخط الطائفي، وضخمته التوجهات التكفيرية لدى الجماعات الجهادية الرئيسية واستغلته لمصلحتها.

– السياق المحلي في أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب وجنوب شرق آسيا يلعب أيضًا دورًا في هذا الأمر.

– انتشار عدم المساواة والقمع السياسي في العديد من البلدان المتضررة، والشعور بالحرمان من الحقوق في أوساط الشباب المسلم داخل المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة، يمكن أن يُسهّل التعرف على الجهاديين.

– كما أن المعايير الغربية المزدوجة في التعامل مع هذه المشكلات تدفع أيضا إلى التعاطف مع الدعاية الجهادية. بموازاة تسارع قدرة هذه الحركات على نشر رسالتها مع تزايد استخدام الإنترنت، وإن كانت الصورة العامة لا تزال تشوبها بعض الضبابية.

– لا تزال الغالبية العظمى من المسلمين في جميع أنحاء العالم لديهم آراء سلبية تجاه التطرف الديني بشكل عام والمنظمات الجهادية على وجه الخصوص (5).

 

 أهداف ودوافع الجهادية

بدءًا من تعريف مصطلح “الجهاد” وصولا إلى رصد أهداف “الجهاديين”، حُمِّلَت الفكرة الجهادية بعبء ثقيل نتيجة كل من الأحداث التاريخية والممارسات العصريّة، وهو ما انعكس ليس فقط على الخطاب السياسي الشعبوي والتغطية الإعلامية الانتقائية بل أيضًا على التناول البحثي الأكاديمي الذي يتصدى له خبراء دوليون.

على سبيل المثال، يشير “الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والتصدي له” إلى أحد تعريفات الجهاد باعتباره مرادفًا لـ”التعصب وعداء الإسلام المزعوم تجاه الغرب”.

وتخلُص دراسة أجراها خبير الإرهاب توماس هيجهامر من “مؤسسة الأبحاث الدفاعية النرويجية” إلى رصد خمسة أهداف بارزة للجهاديين، يصب خامسها في الاتجاه ذاته:

– تغيير النظام الاجتماعي والسياسي للدولة.

– بسط السيادة على إقليم ينظر إليه على أنه محتل أو يهيمن عليه غير المسلمين.

– الدفاع عن الأمة ضد التهديدات الخارجية التي يشكلها غير المسلمين. وهذا يشمل الجهاديين الذين يركزون على محاربة “العدو القريب” في مناطق معينة، و”الجهاديين العالميين” الذين يستهدفون “العدو البعيد”، الذي هو الغرب في معظم الحالات.

– تصحيح السلوك الأخلاقي للمسلمين الآخرين.

– تخويف وتهميش الطوائف الإسلامية الأخرى (6).

– دوافع

يخلص الباحثون الغربيون إلى تضافر عدد من العوامل لإنتاج الظاهرة الجهادية. وبينما تلعب الأيديولوجية الدور الأبرز في تحميس بعض الأفراد للانضمام إلى الحركات الجهادية، مدفوعين برغبتهم في إيجاد معنى لحياتهم والانتماء لمجموعة، إلى جانب غضبهم من الغرب، وربما عشق المغامرة.

إلا أن هناك ظروف أخرى تمكن الظاهرة الجهادية من الازدهار، تشمل مزيجًا متقلبًا من: التركيبة الديموجرافية المتغيرة، لا سيما الموجة الشبابية، وارتفاع معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، والتطلعات الاجتماعية الأكبر المتقاطعة مع المشاكل الاقتصادية وتزايد البطالة وتعميق الشعور بالضيق السياسي أو خيبة الأمل.

وقد أصبح هذا المزيج من الدوافع الشخصية والظروف التمكينيّة أكثر قابلية للاشتعال منذ الانتفاضات العربية التي اندلعت في عام 2011، وهي دوافع متفشية في الشرق الأوسط، لكنها تختلف في السياقات المحلية. وهناك ستة ظروف تمكينية لها أهمية خاصة اليوم:

– هشاشة الدول

– الاضطراب الأيديولوجي

– مناطق الصراع

– التدخل الأجنبي

– العوامل الاجتماعية والاقتصادية

– التكنولوجيا (7).

 

 تطوُّر الحالة الجهادية

الخطوة الأولى لمواجهة التهديد الجهادي من وجهة نظر المؤسسات البحثية الغربية هي فهم أصول مصطلح “الجهاد”، وتطوره الديني والسياسي: من الجهاد بمعناه التراثيّ (أنواع مختلفة من الجهود دينية الطابع) إلى الجهادية (أيديولوجية حديثة)، حتى أصبح الصراع المسلح الديني هو التفسير الأبرز لهذا المصطلح اليوم بين المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.

وتعزو بعض المؤسسات الفكرية الغربية أصول الجهادية المعاصرة كأيديولوجية ثورية حديثة إلى الحرب ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وعلى الرغم من أن ذلك الصراع كان متجذرًا في أوساط المجاهدين الذين يحملون مفهومًا محافظًا للجهاد (أي الدفاع عن بلد مسلم ضد الغزاة)، إلا أنه تطور لاحقا إلى حرب كاملة بالوكالة على أسس إثنية وطائفية، بمشاركة كبيرة من قوى خارجية (يقصدون باكستان بمساعدة من الولايات المتحدة) والمجندين من جميع أنحاء العالم الإسلامي.

وعلى الرغم من أن مرور الزمن أدى إلى تغيُّر طبيعة وهدف الصراع تغيُّرًا كبيرا، بما يتجاوز حدود الجهاد التقليدي، إلا أن المنظور الشرعي الديني لا يزال قائمًا، حتى أن معظم الغربيين يرون أن السردية الجهادية تضع الإسلام في مواجهة أبدية مع أعدائه، الذين يجب أن يُهزَموا بأي وسيلة ضرورية.

في الوقت ذاته، لا تعتبر الحركات الإسلامية التي استندت في وقت ما إلى فكرة الجهاد بالضرورة منظمات جهادية من وجهة النظر الغربية. على سبيل المثال، تلتزم الجماعات المسلحة أمثال حزب الله في لبنان وحركة حماس الفلسطينية بفهم أكثر تحفُّظًا للجهاد، بينما تنظر إليهما الجماعات الجهادية مثل القاعدة وداعش بعين العداء: حزب الله بسبب أصوله الشيعية، وحماس بسبب اشتراكها في هياكل الحكم البشرية والتي تحتم مكافحة الجماعات الجهادية.

وقد تطورت الجهادية بشكل كبير وصادم للمراقبين الغربيين منذ هجمات 11 سبتمبر، وانتشرت الحركات والقادة والأهداف والتكتيكات وساحات العمليات بطرق لم يتصورها أحد في عام 2001.

في المقابل، حشد المجتمع الدولي قوة لم يسبق لها مثيل ضد مجموعة من الجهاديين، وكانت النتائج متباينة: أنفقت الولايات المتحدة وحدها تريليونات الدولارات- على الحملات العسكرية والاستخبارات وإنفاذ القانون والأمن الداخلي والدبلوماسية- لمواجهة الجهادية، وكانت النتيجة قتل مائة شخص داخل الولايات المتحدة بين عام 2001 وأواخر عام 2016، بينما ظل التهديد الجهادي قائمًا.

وبينما ركزت الجهادية في البداية على الإطاحة بالنظم المحلية، إلا أنها وسعت جداول أعمالها تدريجيا لتشمل الأهداف فوق الوطنية أو العابرة للحدود. وإن تحول التركيز قصير الأجل بالنسبة لبعض المجموعات مرة أخرى صوب الأهداف والاستراتيجيات المحلية.

ومع تضاعف عدد الجماعات الجهادية المحلية؛ أصبح للظاهرة الجهادية الآن نماذج متعددة، وإن كان داعش والقاعدة لا يزالان يمثلان التنظيمين الرئيسيين على مستوى العالم.

 

– مراحل التطور

يستخدم الأكاديميون الغربيون مصطلح “جهادي” منذ التسعينات وعلى نطاق أوسع منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، كوسيلة للتمييز بين الإسلاميين السنة العنيفين وغير العنيفين.

تطورت الجهادية عبر مراحل متعددة منذ ظهورها في أواخر السبعينيات، يلخصها معهد السلام الأمريكي (وهو منظمة أسسها الكونجرس في عام 1984 بهدف منع وحل النزاعات الدولية العنيفة وتعزيز الاستقرار بعد الصراع والتحولات الديمقراطية وتوطيد السلام) فيما يلي:

المرحلة الأولى (البداية)؛ اتسمت بظهور العقائديين أمثال سيد قطب داخل السجون المصرية، ولم يكن جميعهم سلفيون، لكنهم جميعا عززوا الخطاب “التكفيري” العنيف بحسب الرؤية الغربية التي ينعكس صداها بوضوح على الخطاب الرسمي العربي.

المرحلة الثانية (التلاقح البيني)؛ تميزت بظاهرتين: طرد الإخوان من الدول العربية وعملهم أو تعليمهم في السعودية أو الكويت، ما أدى إلى تزاوج بين الفكرة السلفية والنشاط السياسي للإسلاموية الإخوانية. لكن معظم الغربيين يدركون أن قيادة الإخوان رفضت نهج قطب، وبالتالي يرون أنهم لا ينضوون الآن تحت عباءة الجهاديين.

في الوقت ذاته، تزايدت النزعة السلفية في أوساط الأيديولوجيات والحركات الجهادية الأخرى في الثمانينيات والتسعينات، وبدأ استخدام التكتيكات العنيفة يندمج مع الأيديولوجية الدينية، وما فتئ العديد من الجهاديين يصرون على أن الفكرة السلفية فقط هي المشروعة، وهو موقف وضعهم في خلاف مع الإخوان.

المرحلة الثالثة (السببية)؛ بدأت بتحفيز الأحداث التاريخية للأفكار السلفية، بما في ذلك الغزو السوفييتي لأفغانستان من 1979 إلى 1989 وحرب الخليج الأولى في 1990-1991 عندما تمركزت مئات الآلاف من القوات الأمريكية في المملكة العربية السعودية.

المرحلة الرابعة (التحقق)؛ تميزت بشن هجمات جريئة مثل 11 سبتمبر، وظهور الجهادية كتهديد أمني كبير يواجه العالم الغربي. والتطورات الحالية هي بنت هذه المرحلة وإن اختلفت في مستوى العنف وطبيعة الأدوات واتساع رقعة المواجهة (8).

 

 كيف تنتهي الجهادية؟

أنفقت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات على مكافحة الإرهاب والأمن الداخلي والشراكات الأمنية وحملات مكافحة التمرد على مدى العقد والنصف الماضيين. إلا أن الجهاديين ما زالوا يسيطرون على مساحات واسعة من العراق وسوريا، واستعادوا زمام المبادرة في أفغانستان، وفتحوا فروعًا جديدة في ليبيا والهند، وشنوا هجمات ناجحة في باريس وبروكسل وأورلاندو ونيس.

بيدَ أن تدابير الأمن الداخلي الناجحة نسبيا في الولايات المتحدة جعلت من السهل على الأمريكيين أن يتغافلوا عن وجود جماعات جهادية أكثر تشن هجمات أكثر على جزء كبير من العالم أكثر من أي وقت مضى. ورغم مرور 16عشر عاما من الهجمات على نيويورك وواشنطن في عام 2001، لا يمتلك الأمريكيون إجابة على السؤال: كيف تنتهي الجهادية؟

بدلا من تصميم نهج يناسب كل منطقة وفقا لظروفها، انزلقت إدارتي بوش وأوباما إلى خليط غير فعال مكون من خيارين: حل توفيقي يمكن أن يقوض المنطق الاستراتيجي، على حد قول الخبير ريتشارد بيتس.

يضيف: “صحيح أن التوفيق بين التفضيلات المعارضة هو مفتاح النجاح في السياسة، لكنه طريق الفشل في الاستراتيجية العسكرية. فالقادة السياسيون يميلون إلى حل النقاشات السياسية حول ما إذا كانوا سيلجأون إلى استخدام القوة على نطاق واسع أم لا باختيار تدابير نصف عسكرية، لكنها لا تخدم أهدافا استراتيجية على الإطلاق.

فالحل التوفيقي بين الاحتواء والتراجع لا يحقق استثمار الخيار الأول ولا طموح الثاني، بل يخلق نسخة مكلفة وغير فعالة من الاحتواء. والحل ليس تطبيق نصف تدابير في كل مكان، بل الالتزام الكامل باستراتيجية معينة عندما تحتم الظروف اللجوء إليها، بحسب الدكتور بول ميلر، المدير المساعد لمركز كليمنتس للأمن القومي التابع لجامعة تكساس في أوستن.

خلال الحرب الباردة، احتوت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي في أوراسيا، لكنها دفعت التأثير السوفييتي إلى التراجع في أمريكا اللاتينية وأفغانستان في الثمانينيات. واليوم، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتبع نهج التراجع في إفريقيا وجنوب آسيا، وتمارس الاحتواء حيث تكون المخاطر والاستثمار المطلوبين مرتفعا كما هو الحال في الشرق الأوسط.

هذه ليست “حربًا على الإرهاب”، كما ادعى بوش، ولا جهدًا لمكافحة “التطرف العنيف”، كما أصرت إدارة أوباما، لأن كلاهما ينطوي على تشوه مفاهيمي يتجاهل أن الجهاديين يمكن العثور عليهم أيضا في صفوف المتمردين وتجار المخدرات والأساتذة والعمال بل والمسؤولين الحكوميين. ذلك أن الجهادية ظاهرة ثقافية وسياسية بقدر ما هي ظاهرة عسكرية.

تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية كبرى ضد الجهادية في مجملها، في جميع أنحاء العالم؛ وهذا يعني استراتيجية مصممة خصيصا لميادين القتال المختلفة التي يجب خوض حرب فيها.

إن محاربة الجوانب العسكرية للجهادية في جميع أنحاء العالم فقط، كاستراتيجية احتواء، هي وصفة لنجاح تكتيكي بلا نهاية دون تحقيق انتصار استراتيجي. هذه الاستراتيجية المصممة خصيصًا لكل منطقة هي النهج الوحيد الممكن في إطار القيود المالية والعسكرية” (9).

 

– الأدلة وليس الخوف

في وقت مبكر من عام 2002، قال المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، سيرجيو فييرا دي ميللو: إن الاستراتيجية الأفضل والأوحد لعزل الإرهاب وهزيمته هي احترام حقوق الإنسان، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتعزيز الديمقراطية، ودعم سيادة القانون. وبعدها بعام، قال كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة: إن ردود الفعل على الإرهاب يجب أن تدعم حقوق الإنسان التي يهدف الإرهابيون إلى تدميرها.

برغم ذلك لا يزال عدد كبير جدا من الاستجابات الحالية للإرهاب حول العالم تستند إلى الغرائز التي تقودها السياسات الشعبوية، وهي تفاعلات يحذر أنطون دو بليسيس عبر معهد الدراسات الأمنية من أنها ستؤدي في النهاية إلى زيادة التهديد، ومقاومتها تتطلب شجاعة سياسية ورغبة في تبني الأدلة.

بدلا من الحروب والحروب المضادة، طالب دو بليسيس باستخدام الأدلة، وليس الخوف، لمكافحة الإرهاب، قائلا: نحن بحاجة إلى عدد أقل من الصقور والمزيد من الدعاة إلى التنمية الاجتماعية والعدالة وحقوق الإنسان. ولأن الخوف يستفز الغرائز الإنسانية (القتال أو الهروب)، فإنه يؤدي إلى سياسة سيئة وأيضًا ممارسة سيئة، إذ يدفع باتجاه إجراءات قد تؤدي إلى تخفيف الأعراض على المدى القصير، لكنها تؤدي إلى نتائج عكسية على المدى الطويل (10).

حتى الفريق الذي يرى أن الولايات المتحدة حققت انتصارات ملموسة في العقدين الماضيين: قتلت أسامة بن لادن، وخفضت نشاط تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان، وضربت تنظيم الدولة في العراق وسوريا، فإن أنصار هذا الرأي يعترفون في المقابل بأن أمريكا لا تزال تواجه معضلة مستمرة: ربما تكون واشنطن أضعفت بعض التهداديات الجهادية الرئيسية، مثل تنظيم القاعدة الأم، إلا أنها مكنت آخرين من الانتشار والتحول في ثوب تُوِّجَ في نهاية المطاف بظهور داعش.

ويؤكد الدكتور جاكوب أوليدورت، وهو مستشار خاص لسياسة الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأمريكية، أن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن إعلان النصر ضد الإرهاب الجهادي؛ لأن أهدافها لا تزال غامضة ولا تزال المشكلات التي تواجهها تواصل التطور.

باختصار، يرى أولديورت أن الطريقة الأكثر فعالية لهزيمة الجانب الأكثر تحديا وصعوبة من التهديد الجهادي اللامركزي اليوم هو عدم مواجهته مباشرة، بل الهجوم بقوة على البيئة التي يزدهر فيها. يتعلق الأمر بمعالجة التربة التي تنمو فيها الأعشاب الضارة، وليس قطع الأعشاب واحدا تلو الآخر (11).

 

 جهود ووسائل مكافحة الجهاديين

– رصد توجهات المسلمين الأمريكيين

تُجرى مؤسسات استطلاع الرأي الغربية مسحًا دوريًا بهدف تتبع التغيرات التي تطرأ على آراء الشباب المسلمين، وبالتالي رصد الشرائح الأكثر عرضة لخطر التطرف.

على سبيل المثال، تلقت وزارة الامن الداخلى الأمريكية نتائج استطلاع أجري عبر الإنترنت خلال الفترة ما بين 29 مارس  و11 أبريل 2017، وشمل 207 شخصًا يعتقد أنهم شريحة ممثلة للسكان المسلمين في الولايات المتحدة، وخلصت نتائجه إلى أن المسلمين الأمريكيين الذين يتبنون آراء متطرفة يشعرون بمزيد من الاغتراب والاكتئاب.

شملت الأسئلة آراء المشاركين حول تنظيم الدولة، والصراع السوري، وأزمة اللاجئين السوريين، وتشير النتائج إلى أن المسلمين في الولايات المتحدة لا يزالون يحملون آراء سلبية جدا حول التفجيرات الانتحارية وتنظيم داعش، ولا يزالون يفضلون السماح للمزيد من اللاجئين السوريين بالدخول إلى الولايات المتحدة (12).

– توقُّع الضربة القادمة

يجتمع المحللون ومسؤولو المخابرات دوريا لتوقع ما يمكن أن يفعله الإرهابيون غدا: هل سيهددون بإحداث دمار شامل باستخدام الأسلحة النووية أو نشر أوبئة عالمية باستخدام مسببات الأمراض المصممة؟ هل سيلوثون المدن بالقنابل القذرة؟ هل هم بارعون في مجال التكنولوجيا لدرجة تخريب شبكات الكهرباء أو غيرها من البنى التحتية الحيوية عن طريق الإنترنت؟

هل هم قادرون على إطلاق نبضات الكهرومغناطيسية قادرة على تدمير الإلكترونيات، والحد من المجتمع المعتمد على التكنولوجيا الحديثة كما في فيلم ماكس ماكس؟ هل يستطيعون إسقاط الطائرات بصواريخ يدوية الصنع أو قنابل مصغرة مخبأة في أجهزة كمبيوتر محمولة أو ربما مزروعة جراحيا؟ هل سيهاجمون الحشود في الملاعب بطائرات بدون طيار تحمل قنابل يدوية أو جمرة خبيثة أو مسحوقًا أبيض فقط لإثارة الذعر القاتل؟ هل يشن الأفراد المتعصبون موجة دهس للمشاة بالشاحنات، أو ينفذون هجمات بدائية أخرى، من شبه المستحيل منعها؟

كل هذه السيناريوهات نوقشت علنًا، على افتراض أن المحللين إذا استطاعوا التفكير فيها فإنها لابد وخطرت على بال “الإرهابيين” الذين يملؤون الإنترنت بطموحاتهم التي تناطح السحاب. وبعض هذه الافتراضات واقعية، وبعضها الآخر يدعم العملة الرامية إلى تعزيز الشعور بالخوف بين الشعوب. على سبيل المثال، حذر وزير الأمن الداخلى الأمريكي جون كيلى من أن الأمريكيين إذا عرفوا ما يعرفه هو بشأن الإرهاب فإنهم “لن يغادروا منازلهم”، وهى رسالة مزعجة قادمة من جنرال في البحرية يحمل أربعة نجوم.

 

4 طرق للتنبؤ بالهجمات

مع الوضع في الاعتبار أن مصطلح الإرهاب يستخدم كمرداف للجهاديين في كثير من الأحيان وفق القاموس الغربي، من المفيد رصد الطرق المختلفة التي يستخدمها المحللون الغربيون لمحاولة استشراف مستقبل التهديدات الإرهابية:

الطريقة الأولى؛ هي النظر إلى الاتجاهات داخل الحالة الإرهابية نفسها وتتبع إلى أين يمكن أن توصل، لكن الاستقراء لا يعمل دائمًا.

الطريقة الثانية؛ هي محاولة التنبؤ بحالة الشؤون العالمية ودراسة كيفية تأثير ذلك على مسار الإرهاب.

النهج الثالث؛ هو النظر في كيفية استغلال الإرهابيين للتكنولوجيا الجديدة. بعدما فات المحللون في الماضي استشراف المستقبل في ضوء انتشار الإنترنت، أصبحوا اليوم أكثر تحسبًا لمستقبل استخدام الإرهابيين للطائرات بدون طيار وإنترنت الأشياء.

النهج الرابع؛ هو محاولة التفكير بعقل الإرهابيين، واستحضار سيناريوهات من الهجمات المتوقعة في المستقبل. لكن غالبا ما يساء فهم الاحتمالات على أنها تنبؤات.

 

صعوبة التوقع

حتى أبرز الخبراء، مثل بريان مايكل جينكينز المستشار البارز لرئيس مؤسسة راند البحثية، ينصحون بالتواضع حين استعراض المتوقع بشأن مسار الإرهاب في المستقبل، نظرا لتجارب الخمسين عاما الماضية.

لكنه يتوقع في الوقت ذاته أن تظل منطقة الشرق الأوسط مسرحا رئيسيا للقلق بالنسبة للولايات المتحدة خلال هذا العقد، وستلجأ واشنطن بشكل متزايد إلى القوة العسكرية للرد على الهجمات على مشاة البحرية الأمريكية في لبنان، والقبض على الخاطفين الإرهابيين الهاربين من مصر، وردع المزيد من الدعم الليبي للهجمات الإرهابية التي أزهقت أرواح الأمريكيين.

يرجح جينكينز أيضًا أن تستمر الصراعات الحالية في الشرق الأوسط والمناطق المتاخمة لشمال إفريقيا وغرب آسيا وأن تبقى المصدر الرئيسي للتهديد الإرهابي، ما يؤدي إلى تشابك سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط والإرهاب بشكل لا ينفصم (13).

 

ابتكارات علمية

الإطار الجديد الذي وضعه باحثون من جامعة بينجهامتون يستطيع فهم السلوكيات الإرهابية المحتملة في المستقبل من خلال التعرف على الأنماط المتبعة في الهجمات السابقة.

يركز المقترح الجديد على تحديد الأنماط المفيدة للهجمات لفهم السلوكيات وتحليل الأنماط والروابط في النشاط الإرهابي والتنبؤ بتحركات الإرهابيين في المستقبل واكتشاف السلوكيات الإرهابية المحتملة وأخيرًا منعها.

باستخدام بيانات أكثر من 150 ألف هجوم إرهابي بين عامي 1970 و2015، طوَّر المشروع إطارا يحسب العلاقات بين الهجمات الإرهابية (أي: وقت الهجوم ونوع السلاح، إلخ) ويحدد سلوكيات الإرهابيين وفقًا لهذه الروابط.

في هذا الإطار، هناك مرحلتان رئيسيتان:

(1) بناء شبكات من خلال إيجاد صلات بين الأحداث

(2) استخدام نهج كشف موحد يجمع بين بنية الشبكة المقترحة ونهج التعرف على الأنماط (14).

 

– دورات تدريبية متخصصة

تشمل الجهود التي تبذلها المؤسسات الغربية تقديم دورات متخصصة لموظفي إنفاذ القانون ومسؤولي المدارس وقادة المجتمعات المحلية لفهم التطرف العنيف ومعرفة كيفية مواجهته، استنادًا إلى أحدث البحوث والموارد، بالتعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات البحثية الأكاديمية.

تقدّم المراكز البحثية المتخصصة هذه الدورات التدريبية دون تحميل المتدربين أي تكلفة، بفضل التمويل المقدم من الوزرارات الحكومية، وهي تشمل أيضًا مجموعة واسعة من الأنشطة المجتمعية التي تهدف إلى تعزيز مرونة المجتمع وتحسين مشاركته في الجهود الوقائية لمكافحة التطرف العنيف (15).

 

– تفعيل الشعب

تسعى الحكومات الغربية، بمساعدة بعض مراكز الأبحاث المستقلة ظاهريًا، إلى استدعاء أفراد الشعب إلى هذه المعركة ضد الجهادية، وتحميل المواطنين “بعض المسؤولية عن أمنهم الشخصي وأمن مجتمعاتهم؛ حتى يصبح كل فرد شريك في المسؤولية، وشريكٌ أيضًا في الفشل”، على حد قول سكوت ستيوارت، محلل الشؤون الأمنية في ستراتفور.

مبررات هذا الاستدعاء الشعبي كثيرة، وبعضها منطقي وإن كانت تستغل بصورة سيئة لصالح أهداف سياسية غير بريئة. ولا تفوِّت المؤسسات البحثية والمنابر الإعلامية الغربية فرصة لترسيخ ضرورة هذا التوجُّه.

على سبيل المثال، حين تناول “ستيوارت” صعوبة مواجهة هجمات الذئاب المنفردة، قال: “ليس واقعيًا أن نتوقع من الحكومة أن تكشف كافة المؤامرات، وتنجح في إحباطها (قبل حدوثها)” ولأن “هناك عدد هائل من الجهات الفاعلة المحتملة، وعدد مماثل من الأهداف المعرضة للخطر”، كان تفعيل الشعب منطقيًا من وجهة نظره (16).

هل تمثل هذه الدراسات وجهة النظر الرسمية؟

رغم أن أبحاث هذا الاتحاد تحظى بدعم وزارة الأمن الداخلي DHS ومكتب البرامج الجامعية في مديرية العلوم والتكنولوجيا، يشدد الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والتصدي له START على أن الآراء والاستنتاجات الواردة في أبحاثه هي آراء شخصية للمؤلفين ولا ينبغي تفسيرها على أنها تمثل بالضرورة السياسات الرسمية، سواء كانت صريحة أم ضمنية، التي تتبعها وزارة الأمن الداخلي الأمريكية.

 

نقص في الدراسات

رغم عشرات الدراسات والأبحاث والاستطلاعات والتحليلات الغربية التي تناولت التهديدات الجهادية، لا تزال المؤسسات البحثية الأمريكية تعاني من ثغرات في الجانب البحثي ذي الصلة.

على سبيل المثال، يرى الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب والتصدي له (STRAT ) نقصًا في الجهود المكرسة لدراسة كيفية تأثير طول فترة عملية التخطيط، وتعدد المشاركين، وحجم النشاط السابق، على نجاح أو فشل المؤامرات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية.

ويشدد على ضرورة عدم الاستناد إلى الحكمة التقليدية وحدها لتفسير الظواهر المتعلقة بالهجمات المسلحة، ففي حين يشير الاعتقاد السائد مثلا إلى أن فترة عملية التخطيط كلما كانت أقصر والأنشطة التحضيرية كلما كانت أقل؛ كانت فرص القبض على مرتكبيها أقل وبالتالي يزداد معدل النجاح، فإن نتائج الدراسات الحديثة تشير إلى أن مشاركة المزيد من العناصر في عملية التخطيط يزيد أيضا من احتمال النجاح (17). كما يوصي بإجراء المزيد من البحوث حول العوامل التي تسهم في شعبية الفيديو الجهادي؛ من أجل تحديد الفيديوهات التي يحتمل أن تكون ضارة قبل انتشارها بصورة فيروسية (18).

 

خاتمة

هذا البحث في مجملة ليس سوى مقدمة تأسيسية لفهم العقلية الغربية، وتمهيد ضروريّ كان ينبغي القيام به قبل أي تحليل تفصيليّ للتغطية الإعلامية والخطاب الرسمي والتناول البحثي الغربي للحالة الجهادية.

فكما أوضحت السطور السابقة، هناك قاموس خاص وضعه الباحثون الغربيون تختلف مصطلحاته بدرجات متفاوتة مع المعنى السائد في العالم العربي سواء على المستوى التاريخي أو المعاصر. وبدون الوقوف على هذه المعاني، وتوضيح هذه الفروق؛ لن يتسنى بدقة تحليل الخطاب الغربي أو تقييم الخطط المقترحة لمواجهة التهديد الجهادي.

وتخلُص هذه المقدمة إلى أن التخوُّف الغربي من التهديد الجهادي عميقٌ لدرجة بذل كل هذه الجهود وتكريس هذه المؤسسات واستدعاء هؤلاء الخبراء لمحاولة فهمه وتحليله واستشراف مستقبله، حتى أن تقرير مؤسسة التراث المتعلق بالشرق الأوسط في مؤشر عام 2017 لرصد التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة حول العالم، يؤكد على أن “الإرهاب الإسلامي الراديكالي بأشكاله المتعددة لا يزال هو التهديد العالمي الأكثر إلحاحا لسلامة وأمن المواطنين الأمريكيين في الداخل والخارج، ومنطقة الشرق الأوسط الكبير هي مصدر معظم الجهات الفاعلة التي تشكل هذا التهديد”.

على نطاق أوسع، يلخّص تقرير مؤسسة التراث المخاطر التي تواجهها الولايات المتحدة والأمريكيون في الخارج إلى نوعين، أولاهما وثيق الصلة بموضوع هذا البحث: (1) تهديدات إرهابية من جهات فاعلة غير حكومية مثل القاعدة التي تستخدم المناطق غير الخاضعة للرقابة في الشرق الأوسط كقواعد لتخطيط وتدريب وتجهيز وشن الهجمات. (2) تهديدات إرهابية من الجماعات التي تدعمها الدول مثل حزب الله، وتهديد الصواريخ البالستية المتطورة من إيران.

لكن هذه الجهود على كثرتها وعمقها تعتريها إشكاليتين: (1) التأثُّر بالمناخ العام الشعبوي والانتقائي العدائي ضد الإسلام والانطلاق من بعض الأفكار التي تحتاج أصلا إلى مراجعة (2) التركيز على سبل المواجهة (الناعمة أو الخشنة) على حساب مراجعة الذات، اللهم إلا بعض الأصوات الخافتة التي تلفت النظر إلى الخطأ الذي وقع فيه الغرب ولا يزال بسياساته التدخلية ونهجه العدائي.

صحيحٌ أن الخبراء الغربيون يتمتعون بما يكفي من التواضع العلمي للاعتراف بالثغرات البحثية التي تنقص جهودهم الرصينة، لكن المتأمِّل لمجمل هذه المقترحات يجدها تركز في معظمها على سبل المواجهة، بعدما فرغوا- بزعمهم- من فهم التهديد وتشخيص الحالة، ولم يتبقى سوى تقييم الجهود المبذولة حتى الآن، وانتقاء أنجع السبل للمواجهة.

وفي ظل هذا التحفُّز الواضح والهلع المبثوث في جنبات المجتمعات الغربية نتيجة الهجمات المتقطعة تارة والتغطية الإعلامية الانتقائية باستمرار والتصريحات السياسية المغرقة في الشعبوية؛ يصعب أن تجد الأصوات العاقلة آذانا مصغية لا على صعيد الشعوب فضلا عن مستوى صناع القرار.

ورغم هذه التفصيلات الدقيقة التي حرص البحث على استعراضها بإسهاب من بطون مراكز الأبحاث ومؤسسات الفكر الأوروبية والغربية والتي تفرِّق بين أطياف الإسلاميين وتتوغل في عمق التاريخ الإسلامي؛ إلا أن هذا لم يمنع من وضع الإسلام نفسه- ولو ضمنيًا- في مرمى الاتهام بالإرهاب والتطرف والعداء للغرب، وجعل أتباعه هم مصدر التهديد رقم واحد، ومنطقة الشرق الأوسط التي تضم أبنائه هي منبع الشر التي ينبغي الاحتياط لما يخرج منها.

في المقابل، لا يشجع واقع العالم الإسلامي على تغيير هذه الصورة النمطية والخوف المتفشي في الغرب، بل تغذيه الاضطرابات المبثوثة في الدول ذات الأغلبية المسلمة والهجمات العشوائية التي تضرب الغرب في عقر داره بين الفينة والأخرى فتمنح المتعصبين من الساسة والمفكرين فرصة للاستدلال على صدق رؤاهم ودقة توقعاتهم.

والحقيقة أن الجهود الرسمية التي تبذلها الدول العربية تصب في مصلحة ترسيخ هذا التوجُّه الغربي، فلم يعد صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب والترويج للاعتدال بنسخته الرسمية العربية المتوافقة مع أحكام الشريعة الغربية، حتى أطبق الخناق من ناحيتين: الغرب المتحفِّز والشرق المهزوم. وعمليًا، يكاد الخط الفاصل بين ما يوصفون بالإسلاميين المتطرفين والمعتدلين حتى بالمقاييس الغربية يختفي في ظل صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتراجع الربيع العربي وترسيخ أقدام الثورات المضادة بقيادة ما يسميه الإسرائيليون محور الاعتدال، وهي المقدمات التي ترشح تفاقم مشاعر الخوف وزيادة وتيرة المواجهات(1 ).

 

المصادر:

(1) Dalal, Nemil. (2017, Jan) How Media Fuels Our Fear of Terrorism. Priceonomics.

(2) The United States Institute of Peace. (2016, Dec) Twenty-First Century Jihad: Law, Society and Military Action

(3) Hamid, Shadi and Dar, Rashid. (2016, July) Islamism, Salafism, and jihadism: A primer. Brookings.

(4) What is jihadism? (2014, Dec). BBC.

(5) European Parliamentary Research Service EPRS. (2015, May) Understanding jihad and jihadism.

(6) Hegghammer, Thomas. jihadi salafis or revolutionaries.

(7) The United States Institute of Peace. (2016, Dec) The Jihadi Threat 5: Drivers of Extremism.

(8) The United States Institute of Peace. (2016, Dec) The Jihadi Threat 1: The Future of Extremism.

(9) MILLER, PAUL. (2017 Sep)  HOW DOES JIHADISM END? CHOOSING BETWEEN FOREVER WAR AND NATION BUILDING. War on the Rocks.

(10) – DU PLESSIS, ANTON. (2016 Sep) Use evidence, not fear, to counter terror. The Institute for Security Studies (ISS).

(11) Olidort, Jacob. (2017, March) Bureaucracy and Jihadism. THE CIPHER BRIEF.

(12) – National Consortium for the Study of Terrorism and Responses to Terrorism. (2017, Aug) U.S. Muslims with Radical Opinions Feel More Alienated and Depressed.

(13) – Jenkins, Brian Michael. (2017, June) Can We Predict Where Terrorists Will Strike Next?.

(14) Phys.org (2017, March) Researchers can predict terrorist behaviors with more than 90 percent accuracy.

(15) National Consortium for the Study of Terrorism and Responses to Terrorism. (2017, March) START launches new training course on understanding and preventing radicalization to violence and violent extremism.

(16) البشبيشي، علاء. (2017، مارس) مناخ القلق الدائم.. الخادم المخلص لأجهزة الاستخبارات .

(17) “Temporal Sequencing, Incident Sophistication, and Terrorist Outcomes“, the National Consortium for the Study of Terrorism and Responses to Terrorism (START).

(18) – A case study of radicalization offers implications for CVE.

————————-

الهامش

( 1 ) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close