fbpx
سياسةالسياسات العامة

الدبلوماسية المصرية: الوضع الراهن وآفاق التغيير

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة:

كانت وزارة الخارجية المصرية على اختلاف مسمياتها أحد مظاهر ممارسة الدولة المصرية لسيادتها في المجال الدولي وأحد مظاهر تكون السلطة السياسية التي هي شرط أساس لفكرة الدولة بجانب الإقليم والشعب، ففي عهد محمد على وكحاجة ضرورية للترويج لاقتصاده ورؤيته لمصر عالميا من ناحية ولإثبات استقلاله عن الدولة العثمانية من جهة أخرى فقد أنشأ محمد علي “ديوان الأمور الإفرنكية”، لم تكن الوزارة حينئذ مؤسسة متكاملة بالمعنى الحديث للكلمة وإنما كانت مجرد إحدى الدواوين التي أنشأها محمد على لتنظيم علاقاته داخلياَ وخارجياً، وكانت تعنى أساسا بالشئون المتعلقة بالتجارة والمبيعات وكانت مهامها تنحصر بشكل رئيسي في النظر في المسائل المتعلقة بمعاملة الأهالي و التجارة.

بعد نهاية فترة حكم محمد على، استمر هذا التنظيم دون تعديلات كبرى وأصبح ” ديوان الخارجية ” واحدا من بين أربعة دواوين رئيسية في الدولة تحددت وظائفه في منع الرقيق ومتابعة المعاهدات الدولية والمطابع الأوروبية والمحلية، ارتبط ذلك أساساً بحجم الوجود الأوروبي في مصر في عهد الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل، بسبب حالة الانفتاح الواسع على أوروبا وما تمتع به الأوروبيون من امتيازات في تلك الفترة. وقد ظل الأرمن يسيطرون على ديوان الخارجية، وعلى المناصب الكبرى فيه حتى أواخر القرن التاسع عشر.[1]

وطيلة فترة صعود الحركة الوطنية المصرية منذ الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي لمصر في ثمانينات القرن التاسع عشر والذى قام بإلغاء نظارة الخارجية بالتوازي مع إلغاء السيادة العثمانية على مصر وفرض الحماية البريطانية عليها في أواخر عام 1914 تزامنا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وإبان ثورة 1919 أيضا وصعود وهبوط معركة الاستقلال المصري عن الاحتلال البريطاني من جهة والدولة العثمانية من جهة كانت عودة وزارة الخارجية المصرية كمظهر من مظاهر سيادة واستقلال الدولة المصرية أحد المطالب الرئيسية على أجندة هذه الحركة الوطنية، كان التفاوض حينا على حجم وطبيعة التمثيل المصري في الخارج أو التمثيل الأجنبي في مصر بدا هذا واضحا في تصريح فبراير 1922 ومعاهدة 1936، وحينا آخر على سلطة مصر في إرسال واستقبال الوفود والدفاع عن مصالحها بعيدا عن التاج البريطاني ومصالح عملائه في الداخل.

ويمكن الحديث عن مدرسة الدبلوماسية المصرية بشكلها الحالي كامتداد لوزارة الخارجية المصرية التي كانت ضمن التشكيل الوزاري في مارس 1923 وكان يتولاها أحمد حشمت باشا إذ منذ ذلك التاريخ عرفت مصر وزارة للخارجية بدأت في التطور التدريجي وصولا للهيكل الحالي، وعرفت مصر سياسة خارجية تحاول الانعتاق من الاستعمار رغم قوته وسطوته وكونها محتلة احتلالا مباشرا.

تهدف هذه الورقة لدراسة وتحليل وتتبع تطورات الدور الخاص بجهاز الدبلوماسية المصري قبل وبعد الثورة، وتتناول هذه الدراسة البحث في معنى أن تكون دبلوماسية دولة وليست دبلوماسية نظام، في مفهوم ومعنى الدور للدبلوماسية سواء في صنع أو تنفيذ السياسية الخارجية، هل يحكم هذا الدور رؤية وتوجه واتجاه لجهاز الدبلوماسية المصرية أم أنهم مجرد موظفين مدنيين يخضعون لتوجيهات وتوجهات النظام؟ وذلك عبر النقاط التالية:

الدبلوماسية المصرية الميراث والتأثير في السياسة الخارجية:

يؤسس منظرو العلاقات الدولية لدور وزارة الخارجية باعتبارها مناط تنفيذ سياسة الدولة في المجال الخارجي والتي تعبر عن مدى وأبعاد سيادة الدولة، لكنها أيضا تشارك بصورة فاعلة في عدة أنشطة مثل قرارات إنشاء وتطوير أو تعيلق وتجميد وقطع العلاقات مع الدول والوحدات الدولية الأخرى، قرارات تقديم معونات عسكرية ومدنية وإنشاء صناديق ووكالات التنمية والانضمام لمعاهدات واتفاقات دولية وعقد المواثيق ومساندة الدول الصديقة في بعض المواقف وقرارات التدخل أو عدمه في أزمات دولية معينة.[2]

إن وزارة الخارجية في الدول المستقرة ذات النظم السياسية الديمقراطية هي ساحة لتبادل الآراء حول المصلحة الوطنية وتعريفها وعلاقتها بالقيم والدين وتأثرها بالشارع، ومهمة الدفاع عن النظام السياسي القائم هي مهمة هامشية في برامج تلك الوزارات ومدارس التفكير الدبلوماسي المرتبطة بها فنجد توافقا واختلافا بين العديد من وزراء الخارجية ورؤساء الدول ورغم ذلك تستطيع وزارة الخارجية أن تبرهن على وجهة نظر جهازها الدبلوماسي وتقنع مؤسسة الرئاسة والمؤسسات الشريكة في عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية به في كثير من الأحيان أو قد يختار وزير الخارجية الاستقالة حال شعوره بأن أراء وزارته وتوجهاتها مختلفة كليا عن الرئاسة أو أن الأخيرة تحاول سلب وزارته مساحات التأثير الطبيعية لها.

بل في الكثير من الأحيان تبدو وزارة الخارجية مفرخا للكوادر السياسية المنافسة على رئاسة الدولة هذه المسألة واضحة جدا في نظم مثل النظام الأمريكي ونظام الحكم في المملكة المتحدة، ففي العقدين الأخيرين وحدهما وأثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان وزراء الخارجية إما منافسون أقوياء على الرئاسة في السابق أو وزراء خارجية قبل المنافسة ففي 2004 كانت المنافسة فيها بين جون كيري الديمقراطي الذي أصبح وزيرا للخارجية في 2013 وجورج بوش الابن وفي الانتخابات الأمريكية 2008 كانت هيلاري كلينتون المنافسة القوية لأوباما في ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة والتي فاز بها أوباما وعينت هيلاري كلينتون لاحقا وزيرة للخارجية من 2009-2013، ثم كانت منافسة لترامب في الانتخابات الرئاسية 2016، وفي مارس 2018 وعلى أثر خلاف حاد في إدارة ترامب بين الرئيس ووزير خارجيته، في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة عددا من القضايا الشائكة فيما يتعلق بسياستها الخارجية، ومن بينها كوريا الشمالية وإيران، أقال الرئيس ترامب وزير خارجيته ريكس تيلرسون وعين مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايك بومبيو بدلا منه.[3]

أيضا كان التنافس على رئاسة حزب المحافظين ومن ثم رئاسة الوزراء البريطانية بين وزيري خارجية وهما جيرمي هانت وبوريس جونسون وفاز الأخير بخطاب شعبوي يسعى للخروج من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن إذن كان التنافس بين وزيري خارجية وعلى قضية وأجندة ترتبط بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية وبالتحديد علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، وهي القضية التي أسقطت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، وبهذا تتضح تزايد أهمية السياسة الخارجية وشخوص وتوجهات القائمين عليها في الاستقرار السياسي المحلي وكذلك في العلاقات الدولية.

لا تبدو مصر استثناء في هذا ففي ظل الصراع من أجل الاستقلال في العهد الملكي احتفظ سبعة من رؤساء الوزراء بمنصب وزير الخارجية مثل عبد الخالق ثروت، عبد الفتاح يحي، وعلي ماهر، وحسن صبري، ومصطفى النحاس ومحمود فهمي النقراشي، وكان منصب وزير الخارجية كما في حالة النقراشي الذي كان وزيرا في حكومتي أحمد ماهر قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، وكذلك إبراهيم عبد الهادي الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة إسماعيل صدقي ثم تولى رئاسة الوزراء لاحقا.[4]

عقب ثورة يوليو 1952 شهدت البلاد اتجاها عاما نحو تزايد تغلغل العسكريين في الأجهزة المدنية، وأصبح الجيش هو السند الحقيقي للسلطة الجديدة، فتم تعيين اللواء (علي نجيب) وزيرا مفوضا من الدرجة الأولي في سوريا، واللواء أركان حرب (محمد إبراهيم سيف الدين) وزيرا مفوضا من الدرجة الأولي في الأردن، والفريق (عزيز علي المصري) سفيرا بوزارة الخارجية ثم وزيرا مفوضا من الدرجة الأولى في الاتحاد السوفيتي، عارض رجال السلك الدبلوماسي تعيين رؤساء البعثات الدبلوماسية من خارج السلك، وكانت حجتهم أن الدبلوماسية في القرن العشرين أصبحت مهنة متخصصة تحتاج إلى كفاءة وتدريب وإلمام باللغات الأجنبية والمشاكل الدولية والشئون الاقتصادية، وهي أمور يصعب استيعابها على العناصر غير المتدرجة في العمل الدبلوماسي.[5]

وشهدت الخارجية موجة من الاستقالات لكن الملاحظة هنا أن الاعتراض لم يكن على شخوص هؤلاء الضباط بل على أصولهم الطبقية إذ كيف تتحول الوزارة من سيطرة الطبقة الأرستقراطية إلى الطبقة الوسطى أو الطبقات الفقيرة؟ باعتبار أن أصول الضباط الأحرار لم تنحدر من عائلات ارستقراطية أو كبار ملاك، بل كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة من أبناء الموظفين وأثرياء الفلاحين أصحاب الملكيات المتوسطة باستثناء قلة منهم كانت من أبناء الشرائح الفقيرة.

لكن على هامش هذا الصراع الطبقي حاولت وزارة الخارجية تحويل العمل الدبلوماسي لعمل فني لا يمكن إخضاعه للعسكر وتجلى ذلك في قيادة أحمد فراج طايع الذي عين وزيراً للخارجية في حكومة محمد نجيب الأولى وذلك في السابع من سبتمبر عام 1952، إلا أنه لم يكمل في المنصب سوى ثلاثة أشهر فقط، ليقدم استقالته في التاسع من ديسمبر عام 1952، وذلك احتجاجاً على تدخل مجلس قيادة الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، في اختصاصاته وتعيين بعض السفراء أثناء أدائه لمهمة خارج البلاد، ورغم محاولات الرئيس الأسبق محمد نجيب عدوله عن الاستقالة إلا أنه رفض كل تلك المحاولات.[6]

ورغم أن هذا الصراع لم يكن ليحسم لصالح ذاتية المؤسسة على حساب ذاتية سلطة الحكم الجديدة ممثلة في مجلس قيادة الثورة إلا أنه يشير إلى محاولة جادة من الوزارة لإرساء بعض القواعد فيما يتعلق بتنظيمها الداخلي ودورها في النظام السياسي الجديد لكن لا يمكن النظر إليه بعيدا عن ذاتية المؤسسة وإن فضلنا ذاتية المؤسسات على ذاتية الأشخاص باعتبارها أكثر اقترابا من مفهوم مؤسسات الدولة الحداثية.

وفي عهد السادات شهدنا ترسيخا لمبدأ كون وزارة الخارجية ومدرسة الدبلوماسية المصرية مؤسسة دولة وليست مؤسسة نظام أو فرد تدافع عنه فلقد استقال ثلاثة من مدرسة الدبلوماسية المصرية المحنكين من وزراء خارجية مصر في أقل من عامين احتجاجا على سياسة السادات وطريقته في إدارة ملف العلاقة مع الكيان الصهيوني كأهم قضية للسياسة الخارجية في ذلك الوقت ففي الفترة من نوفمبر 1977 إلي ديسمبر 1978 شهدت مصر حالة من الرفض والسخط الشديد في أوساط الدبلوماسيين والنخبة السياسية فاستقال الوزير إسماعيل فهمي في 17 نوفمبر 1977 قبل زيارة السادات للقدس بيومين، وتبعه بعد ساعات قليلة استقالة محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية، استمر مقعد وزير الخارجية شاغرا لفترة ، إلى أن تم تعيين محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية والذي استقال بدوره في 16 سبتمبر 1978، قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بيوم واحد، وروى هؤلاء الوزراء نقدا حادا لسياسة السادات الخارجية في مذكراتهم.[7]

لكن يمكن القول إن احتجاج هؤلاء الوزراء على سياسة السادات ليس على التوجه العام للسياسة الخارجية نحو اعتبار السلام هو الخيار الوحيد بقدر ما كان الاعتراض على ذهاب السادات منفردا إلى السلام وبعيدا عن أي تنسيق أو موقف عربي موحد، وتوقعهم لما يمكن أن يترتب على هذه السياسة من عزلة مصرية كبيرة وهو ما حدث لاحقا.

وكنوع من معاقبة وزارة الخارجية على مواقف وزرائها من اتفاقية كامب ديفيد تم حرمان وزارة الخارجية من العديد من الأدوار الأساسية التي كانت من مهامها تاريخيا مثل مهام التمثيل الثقافي التجاري، كانت تلك الفترة مشحونة بسبب الاختلاف مع السادات حول السلام مع إسرائيل، وكان موقف السادات سببا في عدم وجود دبلوماسي يقبل بكرسي الوزارة، ولكن تمت تغطية هذا الأمر بصورة مؤقتة من خلال تكليف رئيس الوزراء مصطفى خليل بالقيام بأعمال وزارة الخارجية خلال تلك الفترة، كما تم استحداث وزارة الدولة للشؤون الخارجية وتعيين بطرس غالي فيما بعد ليكون وزيرا لهذه الوزارة.

لكن الثابت من استقالات هؤلاء الوزراء هو موقفهم من الصراع العربي الإسرائيلي والذي ينبع من رؤى مدركة للأمن القومي المصري رسخت عبر قرون بأن خط دفاعه الأول خارج حدود مصر وتحديدا في الشام الذي يشمل بطبيعة الحال سوريا وفلسطين ولبنان والأردن، ومن ثم كانت اعتراضات هؤلاء على ذهاب السادات للسلام منفردا منبعها مصلحة قومية مصرية وإدراك لأن في الذهاب بهذا الاتجاه منفردة فإن مصر تضيع نتائج الحرب وتضيع دورها الإقليمي وتحد نفسها باتفاقيات مجحفة بحقها وبحق الفلسطينيين وأطراف الصراع العربي الإسرائيلي الأخرى.[8]

في عهد مبارك شهدت وزارة الخارجية عملية إعادة تنظيم واسعة، فقد تم تعديل قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي للمرة الأولي منذ حوالي 30 عاما، كما استمر الوضع الخاص بالتخوف من دور قوي لوزارة الخارجية في الملفات الإقليمية المتعلقة بالسلام مع إسرائيل أو العلاقات المصرية العربية أو حتى المصرية الأفريقية وما يتعلق منها بالقضايا الاستراتيجية كالمياه جعلت من التأكيد على مسألة تقليص أدوار وزارة الخارجية مسألة ذات أولوية فكان القانون رقم 45 لسنة 1982 ينهي تبعية التمثيل التجاري لوزارة الخارجية ويلحقه بوزارة الاقتصاد ثم لاحقا بوزارة التجارة والصناعة وهو الوضع الذي لا يزال ساريا[9]، وبالتالي حرمت وزارة الخارجية من تبعية قرابة 52 مكتبا للتمثيل التجاري،[10] ويمكن إدراك طبيعة هذا العقاب لوزارة الخارجية في ظل اقتصاد يعتمد على الخارج في العديد من أنشطته الإنتاجية ويستورد معظم احتياجاته من السلع الوسيطة ويندمج بسرعة كبيرة وبطريقة غير محسوبة في الاقتصاد العالمي، ويتزايد اعتماده على مصادر التمويل الدولية من قروض ومنح وتحويلات عاملين في الخارج وسياحة وخدمات باضطراد إلى الحد الذي يحيله اقتصادا ريعيا أو على أقل تقدير فهو اقتصاد تحتل الموارد الريعية فيه وزنا نسبيا كبيرا في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي.

ومع ذلك فقد برز نجم الوزيرين عصمت عبد المجيد 1984-1991، وعمرو موسى والذي ظل وزيرا لخارجية مبارك 10 سنوات من 1991-2001، وكلاهما انتقل لرئاسة الجامعة العربية في ظروف سياسية عصيبة فالأول شهد الغزو العراقي للكويت والثاني شهد أحداث 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق وصولا لانفجار موجة الثورات العربية، وأثناء توليهما الوزارة حاولا رسم خطوط فاصلة بين الرئاسة ووزارة الخارجية المصرية ولعل هذا مناط الشعبية التي حظي بها عمرو موسى وكانت شفيعا له لدى الشارع المصري بعد الثورة.

الوضع الراهن للدبلوماسية المصرية بعد الثورة:

شهدت السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة وفي فترة المجلس العسكري اضطرابا شديدا في الرؤية والسلوك مع تفاقم الأزمات المحلية وتزامن الثورات العربية فبينما كان العالم العربي في قلب موجة تغيير كانت سياسات المجلس العسكري تتحدث عن الاستقرار والاحتياج لكافة الأطراف الدولية لخلق حالة استقرار وترى أننا في منطقة مأزومة، وظل المجلس العسكري وشباب الثورة منهمكين في القضايا الداخلية وأهملت السياسة الخارجية ولم نشهد أية محاولة لبلورة سياسة خارجية جديدة تتلاءم مع الأوضاع المتغيرة في المنطقة، بل تم الإبقاء على وزير خارجية مبارك الأسوأ والذي ساهم في تقزيم مصر في منصبه لفترة تقارب الشهر بعد تنحي مبارك، وكانت هناك حالة تجاهل للخارج وإنكار تأثيراته كأحد المحددات الهامة لمسار الثورة باعتبار السياق الإقليمي والدولي معطاة تمثل البيئة المحيطة بالثورة وأن الثورات تقوم أساسا لأسباب داخلية.[11]

ولكن بتعيين السيد نبيل العربي وزيرا للخارجية شهدنا محاولة لاستعادة مساحة تأثير خاصة بوزارة الخارجية وبعيدا عن التوجهات التقليدية المحافظة للمجلس العسكري والمؤكدة على الالتزام بكافة الاتفاقيات والالتزامات الدولية، وبدأنا نلحظ خطابا مختلفا بعض الشيء حول ضرورة مراجعة اتفاقيات كامب ديفيد وأنها غير مقدسة وأنها قابلة للتغيير وفقا لنصوصها ولن تعوق دور مصر الإقليمي وكذلك اتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل والعلاقة مع إيران والموقف من القضية الفلسطينية[12]، وكانت هذه التصريحات بمثابة توجه جديد لوزارة الخارجية المصرية التي رأت في الثورة فرصة لاستعادة الملفات التي سلبها إياها نظام مبارك لصالح المخابرات العامة.

انتقل العربي إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وأحدث فرقا في موقف الجامعة من الثورات العربية رغم الانقسام العربي بشأنها إلا أنه وفي ظل الموقف المصري والسياق الثوري العام استطاع أن يصدر قرارا عربيا بتسليم مقعد سوريا بالجامعة لممثلي الثورة السورية في مايو 2013، لم يترشح العربي لفترة ثانية في الأمانة العامة للجامعة العربية. أي أننا شهدنا محاولة لتطوير مدرسة الدبلوماسية بعد الثورة ومحاولاتها للتأقلم مع المساحة المتاحة للحركة في عهد المجلس العسكري ومحاولة مجاراة الرأي العام الذي أصبح ضاغطا باتجاه تغيير العلاقة مع إسرائيل والموقف المصري من قضايا تصدير الغاز لها ومن العلاقة بقطاع غزة وكذلك النقد الذي كان موجها للموقف من إيران باعتباره تبعية للخليج.

وفي فترة الدكتور مرسي يونيو 2012 يونيو 2013 تمتعت وزارة الخارجية تحت قيادة الوزير محمد كامل عمرو بمساحة للحركة في ملفات سد النهضة واسترداد الأموال المصرية المهربة للخارج ومحاولة طمأنة حكومات الخليج بشأن النظام الجديد للحكم لكن رغم الإشارات الجيدة التي كانت ترسلها الخارجية عبر وسائل الإعلام لم تتحسن العلاقات المصرية الخليجية وخاضت الإمارات والسعودية حملات دعائية ضد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن النظام الجديد استطاع أن يبني شبكة دعم إقليمي جديدة متمثلة في العلاقة القوية مع قطر وتركيا والعراق وليبيا وهي الدول التي مثلت القروض والوعود بالمنح والاستثمارات القادمة منها أملا في ترسيخ النظام الجديد لكن لم يصمد هذا النظام أمام المشكلات المتوارثة وأمام الأزمات الداخلية وسوء استغلال المجال العام من قبل المعارضة والإخوان وهو ما أفضي للحكم العسكري المباشر الحالي.

وفيما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013 أسندت الوزارة إلى نبيل فهمي لمدة عام قضاه الرجل في محاولة الترويج لشرعية الحرب على الإرهاب وكأننا عدنا إلى عالم 2001 ولمحاولة فك تجميد عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي، وترديد خطاب مصر تحارب الإرهاب في نفس الوقت لذي يفترض بها تعبئة مزيد من الموارد عبر جلب السياحة والاستثمارات، ثم خلفه سامح شكري وكلاهما حولا الوزارة لمنصة للردح ومكاتب سكرتارية للأجهزة الأمنية فقد مثلا عودة لسياسة استقدام السفراء في واشنطن للوزارة مباشرة، وهو المنهج الذي ساد عهد مبارك، وتسيد خطاب الحرب على الإرهاب هذا حركة الخارجية المصرية بشقيها المدني والعسكري وصاحب هذا حملة إعلامية ضخمة وممنهجة لترسيخ هذا الخطاب في الداخل ومحاولة نقله للعالم في محاولة لمواجهة انتقادات حقوق الإنسان باعتبار ما تقوم به السلطة من قمع لكافة الأصوات المعارضة لها هي انتهاكات الضرورة مع ترويج إماراتي وسعودي وصهيوني لهذه الخطابات، وانبرت الخارجية المصرية في إعادة تشكيل الدور المصري في المنطقة من مدخل أمني بحت لا قدرة لها عليه بدت معالم انكشافه عبر الانتقادات التي وجهت إلى مشاركتها الضعيفة في التحالف العربي في اليمن.[13]

وعلى خلفية هذه الاختيارات المطيعة فقدت الوزارة معظم الملفات فقد أنشئت وزارة الهجرة لتسحب ملف المصريين في الخارج من الوزارة كما أسندت ملفات المياه والعلاقات الإقليمية لأجهزة المخابرات العامة والحربية التي يسيطر عليها السيد عباس كامل مدير مكتب السيسي في نفس الوقت الذي جرى فيه تعديل قانون السلك الدبلوماسي لصالح مزيد من السيطرة الأمنية على العاملين به بمنعهم من النشر أو الحديث لأي من وسائل الإعلام دون تصريح وبتكريس تدخل وزارة الدفاع والداخلية بتعيين أفراد أمن بالسفارات وإدخال تعديلات على نظام الترقيات تتيح للرئيس اختيار درجات وظيفية عليا دون التقيد تماما بالأقدمية ودرجات أدني بنسبة 20% بعيدا عن نظام الأقدمية.[14] وبذلك تبقى للوزارة فقط مهام التمثيل في المنظمات الدولية والتمثيل الشكلي في القنصليات والسفارات والخدمات القنصلية وأعمال المراسم والاحتفالات والتي بدأت تؤل لمقاولين وشركات خاصة، أيضا فإنه ورغم بروز قضايا كبرى للسياسة الخارجية مثل قضية غاز شرق المتوسط وقضية تيران وصنافير وقضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واحتدام أزمة المياه فإن كل هذه القضايا لم تستتبع استقالة واحدة في صفوف وزارة الخارجية، بل ورأينا تصرفات غير دبلوماسية بالمرة مثل إلقاء ميكروفون قناة الجزيرة عدة مرات على الهواء مباشرة من قبل وزير الخارجية وبعض المسئولين المصريين،[15] وأصبحت وزارة الخارجية محط سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد فشلها في الملفات الهامة واستغلالها في الترويج لعملية بيع وتنازل عن جزر مصرية، وانتقلت الوزارة من ذاتية المؤسسة إلى ذاتية الشخص ممثلا في الرئيس.

ثمة إشكالية تتمثل في عدم تناسب النمو الكبير في أعداد المصريين في الخارج ودورهم كمنقذ حقيقي للاقتصاد المصري بعد الثورة والنمو البطيء والثابت في أعداد الدبلوماسيين المعينين لخدمتهم، وهو ما يسهم في ضعف التواصل وسوء تقديم الخدمات القنصلية وإنهاك عدد محدود من الموظفين في التعامل مع ملايين في الأحوال العادية أو أثناء عمليات التصويت بالانتخابات والاستفتاءات التي نجمت عن دسترة حق المصريين في الخارج بالتصويت وإبداء الرأي في الاستفتاءات كمكتسب لثورة 25 يناير 2011.

استنزاف القدرات الدبلوماسية في الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه:

واجهت وزارة الخارجية تحديات عدة فيما بعد الثورة حيث واجهت أزمة الدفاع عن تخبط المجلس العسكري في إدارة السياستين الداخلية والخارجية ثم تردي الأوضاع الاقتصادية التي استتبعت سياسة تعبئة موارد إقليمية ودولية، ثم وضعت في اختبار التعامل مع رئيس من خارج دولاب الدولة ومن خلفية دينية تنظيمية بصورة نمطية محلية ودولية وإقليمية مشوهة إعلاميا، ثم دخل النظام السياسي في عدة أزمات كان على وزارة الخارجية شرحها وتبريرها سواء ما تعلق منها بالحوادث الكبرى الداخلية أو تطورات الأوضاع في دول الربيع العربي ووصولا لاختبار مدى قدرة الدبلوماسية المصرية وأدواتها في التغلب على التصور الدولي عما حدث في الثالث من يوليو 2013 والاشتباك مع توصيف ما حدث “ثورة أم انقلاب” ثم الاشتباك والصراع مع شبكة علاقات نظام الدكتور مرسي؟ ثم معركة توصيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية ثم العمل كمندوبي شركات استثمارات يهدفون لجذب مزيد من الاستثمارات لكن لا تأتي تلك الاستثمارات.

ففيما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013 أنهكت وزارة الخارجية إذ شهد النظام الجديد أزمة شرعية عبر المستويات الثلاث للشرعية فالمجتمع السياسي ذاته أصبح منقسما حول ما يجري والنظام السياسي الناجم عن الثورة وإن لم يكن ثوريا أصبحت مخرجاته ومكتسبات السياق الثوري مهددة وشخوص من سيتصدرون المشهد في هذه المرحلة غير معروفة التوجهات ودور المؤسسات الرئيسية للسلطة محل خلاف، كما كان هناك أزمة دولية حادة حول حقيقة ما يجري في مصر وهل هو ثورة أم انقلاب عسكري كما كانت معظم الصحف الدولية تصفه[16]، لكن وقع على عاتق وزارة الخارجية والمؤسسات السيادية مسئولية تحويلها من شرعية الثورة إلى شرعية الحرب على الإرهاب وحفظ الاستقرار باستغلال التوترات الإقليمية المرتبطة بتطورات الأوضاع في ليبيا وسوريا واليمن، وهي الشرعية التي تلازم النظام الحالي إلى الآن[17]، وهو الأمر الذي استنفذ مجهودات الخارجية المصرية والرئاستين الجديدتين للوصول لنقاط اعتراف دولية بشرعية هذه الترتيبات سواء باعتبارها ثورة أو امتداد لثورة أو باعتبارها أوضاع أمر واقع لكنه لا يخلو من انتقادات حادة للنظام سواء بانتهاكات حقوق الانسان أو بالتوجه نحو الديكتاتورية[18]

تحولت مدرسة الدبلوماسية المصرية في ظل السياق السياسي العام المضطرب إلى بوق إعلامي للنظام الهش في المجال الدولي، صحيح أنها مع غيرها من المؤسسات السيادية كالمخابرات العامة والحربية استطاعت تأمين دعم دولي بجهود مضنية للنظام الجديد باستغلال شرعية الحرب تلك لكن وزارة الخارجية أنهكت في تحويل السياسة الخارجية المصرية لسياسة تعبئة موارد لصالح الحاكم الفرد، وهو الأمر الذي أفقدها دورها لصالح أجهزة المخابرات الحربية والعامة التي اجتمعت في يد اللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي ما يعني تحول الخارجية لسكرتارية تنفيذية لمكتب الرئيس، يبدو هذا واضحا في فقدان ملف المياه لصالح المخابرات العامة.[19]

صادفت تحركات وزارة الخارجية ومؤسسات النظام السيادية ظرفا إقليما موات فقد كان الدعم السياسي والاقتصادي الخليجي المعلن لهذه التحركات وصل لمرحلة غير مسبوقة من التنسيق والتعاون بين الخليج ونظام الحكم في مصر إذ أن السعودية سارعت لتصنيف الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية في 7مارس 2014[20]، كما اتخذت السعودية والإمارات والبحرين لاحقا موقفا من قطر ربما أقوى من الموقف المصري بسبب استضافتها لرموز الإخوان المسلمين وإتاحة الفرصة لهم على منابرها الإعلامية فسارعت الدول الثلاث بسحب السفراء من الدوحة في بيان يدور في مجمله حول موقف قطر مما جرى في مصر بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013 وهو القرار الذي اتخذ عقب اتفاق الرياض.[21]

ومثلت حاجة النظام المصري لدعم دولي كبير ظرفا موضوعيا لتكريس سياسة تعبئة موارد إقليمية دون هدف تنموي محلي واضح، وبينما لا توجد بيانات رسمية دقيقة تفصل بين عناصر المنح والمعونات والقروض فإن ما تم الإفصاح عنه من قبل السيسي المرشح الرئاسي في آخر تلك الفترة أن مصر تلقت مساعدات خليجية قدرها بأكثر من20 مليار دولار وفق ما أعلنه السيسي نفسه في مقابلة تلفزيونية خلال الحملة الانتخابية[22]، وهي المساعدات التي غلب عليها طابع القروض وكان للإمارات النصيب الأكبر فيها والتي أثارت جدلا واسعا حول تأثيراتها على مصر وتوازن القوى الإقليمي وما إذا كانت لإنقاذ مصر من الانهيار كما كان يروج أم هي مساعدات لإتمام الإطاحة بحكم الإسلاميين وإخماد موجة الربيع العربي بإلحاق دولها بقطار تبعية لامتناهية للمانحين والمقرضين الإقليميين.[23]

لقد وجدت الخارجية نفسها في مأزق الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه إذ طلب منها أن تشرعن انقلاب عسكري في قارة عانت معظم دولها من هذه الانقلابات وما تبعها من مجازر وتصفيات جسدية للخصوم لعقود فاستهلكت أكثر من عام ونصف لإعادة مصر للاتحاد الإفريقي، ثم وجدت نفسها مضطرة لشرعنة الحرب على فصيل سياسي وتحويله من طرف في السلطة إلى جماعة إرهابية في أقصر وقت ممكن وبأوامر عسكرية في نفس الوقت الذي يفرض عليها فيه تحسين السياحة والاستثمارات الأجنبية وجلب مزيد من القروض والمنح والمعونات، لم يكن من الممكن عصيانها دون دفع ثمن باهظ، لتستفيق على خبر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية والتي تنازل النظام بموجبها عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، وما تبعها من احتجاجات كبيرة نسبيا وهجوم واسع على المؤسسات السيادية واهتزاز شرعية الجيش كمحتكر للوطنية في مواجهة الإرهاب أو المؤامرات الكونية على الدولة المصرية، لكن ثمة تساؤلات يمكن أن تثار حول الرضوخ الكامل لهذه المؤسسة برغم تاريخها الذي شهد استقالة محمد فراج طايع في عز مجد حركة الضباط الأحرار في السلطة وبعد تعيينه بشهور اعتراضا على التدخلات العسكرية في التعيينات كما أوضحنا سابقا، وكذلك استقالات وزراء خارجية السادات ومستشاروه للشئون السياسية احتجاجا على تفاصيل تنازلات ربما أقل خطورة من الناحية السياسية من عملية التنازل عن جزر مصرية تحول مياه محلية لممرات دولية وتغير الوضع الاستراتيجي في البحر الأحمر لغير المصلحة الوطنية المصرية التي يعتبر الدفاع عنها من صميم عمل ودور وزارة الخارجية المصرية.

العسكرة: أبعاد السيطرة الأمنية والعسكرية على مفاصل وزارة الخارجية:

كما أشرنا سابقا ففي العهد الناصري احتفظ العسكريون بوزارة الخارجية أطول فترة ممكنة فقد تولى محمود رياض القادم من المخابرات الحربية وزارة الخارجية 12 عاما منذ 1964وحتي 1972، وخرج منها إلى الأمانة العامة للجامعة العربية كتقليد متبع بتولي دولة المقر لرئاسة الجامعة، ولئن كان هذه السيطرة للعسكريين تقلصت في عهدي السادات ومبارك إلا أنه يمكن رصد وتتبع تمدد النظام الأمني والعسكرة مجددا في وزارة الخارجية من خلال العديد من الأدوات سواء عبر تغليب الأمني على ما عداه في اختبارات الالتحاق بالسلك الدبلوماسي والقنصلي، أو الملتحقين من الجهات الأمنية بالوزارة أو تعيين المقربين من الأجهزة الأمنية بالجهاز الدبلوماسي أو عبر ابراز دور الدبلوماسية في الدفاع عن مقولات أمنية وإعلاء القضايا الأمنية عما سواها.

تبدو مسألة الالتحاق بوزارة الخارجية معقدة بعض الشيء لكن الثابت فيها أن العامل الأمني والعائلي يتحكم في العملية برمتها، وتبدو مظاهر السيطرة الأمنية في عدة جوانب أن وزارة الخارجية تسمح لكل حاملي شهادات البكالوريوس أو الليسانس بالالتحاق بها، ومن ثم فإنها تسمح من ضمن ما تسمح بدخول خريجي الكليات العسكرية والشرطية، ويبدوا هذا الأمر غريبا ومربكا بعض الشيء إذ أن قانون الكليات الشرطية والعسكرية يفرض على الملتحقين بها الخدمة بجهاز الشرطة أو الجيش لمدة 10 سنوات قبل تقديم استقالاتهم ترك الخدمة ودفع كلفة التعليم بها كاملة فكيف يلتحق هؤلاء إذن.

الإجابة على هذا إما أن هؤلاء أبناء الطبقة الحاكمة ممن يملكون الوساطة والنفوذ لأبنائهم ليدخلوهم الكليات العسكرية والشرطية بالإضافة لامتلاكهم كلفة ترك الخدمة مقابل وضع اجتماعي أفضل في منظومة الحكم والأجهزة السيادية، أو أن هناك آلية ما غير معلومة لإلحاق هؤلاء بالعمل الدبلوماسي، وليست هذه الظاهرة جديدة بل إن محمد نجيب يشير في مذكراته إلى أن أخيه علي نجيب والذي كان ضابطا بالجيش حتى 1952 التحق بوزارة الخارجية وعين سفيرا لمصر بسوريا.[24]

لم يتوقف الأمر عند ثورة يوليو وما سبقها من سيطرة شبكة العسكريين على الوزارة بل في قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي رقم 45 لسنة 1982 الذي أصدره مبارك تم تقنين التحاق الحاصلين على الكليات العسكرية بالسلك الدبلوماسي والقنصلي إذ تشير المادة 5 من الباب الثاني الفصل الأول بشأن شروط التعيين في السلك الدبلوماسي في الفقرة السادسة منها ” أن يكون حاصلا على مؤهل عال من إحدى الجامعات المصرية أو ما يعادله أو على شهادة أجنبية معادلة أو على مؤهل عال من إحدى الكليات العسكرية المصرية”[25] ورغم التعديلات التي أدخلت على القانون في عام 2009 بالقانون رقم 69 لسنة 2009 إلا أن هذا الشرط ظل ثابتا بنفس النص.[26] بل إن اللائحة التنفيذية للقانون 45 لسنة 1982، والتي لا تزال سارية تكرس عسكرة وزارة الخارجية وسفاراتها وقنصلياتها في الخارج عن طريق ندب ضباط الصف بالقوات المسلحة للعمل كحراس في البعثات الدبلوماسية حيث تنص المادة 31 مكرر من لائحة شروط الخدمة في وظائف السلكين الدبلوماسي والقنصلي على أنه “يجوز ندب ضباط الصف بالقوات المسلحة للعمل كحراس في البعثات التمثيلية لجمهورية مصر العربية في الخارج لمدة تحدد بقرار يصدره وزير الخارجية بعد الاتفاق مع القائد العام للقوات المسلحة ويُمنح الأفراد المنتدبون بالإضافة إلى مرتباتهم الأصلية المرتبات الإضافية المقررة لراتبهم بمكاتب وزارة الحربية بالخارج”[27]، وعندما يكون رئيس الدولة قادم من القوات المسلحة مباشرة ولا يثق إلا برجالاتها ويتعامل معها باعتبارها حزبه السياسي ومناط ثقته وولائه هنا يمكن تخيل حجم هذه السيطرة للعسكريين على مفاصل العمل الدبلوماسي والقنصلي، كما أنه وحتى في الأحوال العادية فإن هذا التقنين لالتحاق العسكريين بالسلك الدبلوماسي والقنصلي غير منطقي خاصة في ظل وجود التمثيل العسكري والملحقين العسكريين بالخارج.

وثمة أزمة متكررة مرتبطة بمسألة الالتحاق بالسلك الدبلوماسي القاصر على أبناء الصفوة في مصر، هذه الأزمة تتعلق بأن هناك خطابا مراوغا يعطي بعض الأمل الزائف لأبناء الطبقة الوسطى والفقراء ليتقدموا للامتحانات، والعجيب أن هذه الامتحانات لا تعلن نتيجتها ولا يعرف النتيجة سوى الثلة المختارة بمعايير أمنية وطبقية، يمكن التدليل على هذا بعشرات الأمثلة لمتقدمين متفوقين ومنضبطين ولم يتم قبولهم بالوزارة وليس أدل على هذه السياسة المتبعة من قضية عبد الحميد شتا الذي رفضته امتحانات التمثيل التجاري رغم أنه نجح في كل الاختبارات التحريرية، ومن بعدها الشفوية، وحاز على المركز الأول على منافسيه.[28]

والتعامل مع الامتحانات بهذه الطريقة يثير مزيدا من الشكوك حول جدية ومصداقية الامتحانات ذاتها كألية للاختيار وحول اللجان القائمة على الامتحانات الشفوية التي لا تعدو أن تكون تمثيلية لمحاولة إظهار جدية عملية الاختبارات، فلا يعرف المتقدم نتيجة تفصيلية أو مجملة وحتى نتيجة الناجحين لا تعلن كما لو كانت سرا من أسرار الأمن القومي في حين أن العديد من دول المنطقة حولنا والتي تتهم بالسيطرة القبلية على مفاصل السلطة تعلن هذه النتائج بتفاصيلها.[29]

وإذا كان نظام الامتحانات في مرحلته التحريرية والتي لا تعلن نتائجها أيضا عادلا إلى حد ما حيث يخضع لتقييم أكاديميين متخصصين في موضوعات الامتحان فإن نظام الامتحان الشفوي لا يخضع لأية معايير موضوعية سوى الأهواء الشخصية للجنة التي تتكون من مساعدي الوزير الذين هم مسؤولون معه عن الأوضاع المتردية للوزارة ولا يوجد معيار محدد لنظام الأسئلة؟ ولا طريقة واضحة في إعلان النتيجة؟ وبالتالي تبقى النتائج في أيدي الأجهزة الأمنية.[30]

وفي عام حكم الرئيس مرسي بدت محاولات جادة من قبل العديد من أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية لمأسسة دور وزارة الخارجية وتوسيع دوائر استشارتها للمتخصصين في العديد من الملفات وذلك عبر توسع أنشطة الوزارة والمجلس المصري للشئون الخارجية وانفتاحه على كافة التيارات السياسية، إلا أن تصدير جماعة الإخوان المسلمين لشخصية السيد عصام الحداد واستحداث منصب مساعد الرئيس للشئون الخارجية لتعيينه به، كمدير للعلاقات الخارجية لنظام الدكتور مرسي كان محل حساسية من قبل بيروقراطية وزارة الخارجية كما كان محلا للنقد من قبل المعارضة المصرية في إطار الحملة المبالغ فيها التي كانت تتحدث عن أخونة الدولة المصرية، رغم أن الإخوان لم يكونوا يشكلون أكثر من ثلث الفريق الرئاسي.[31]

كما أنشأت مؤسسة الرئاسة المنتدى المصري للسياسة الخارجية، وشهدت مصر تحركات خارجية مكثفة للرئاسة في كافة دوائر الحركة،[32] وربما تم قراءة كلتا الخطوتين من قبل المؤسسات التقليدية ذات النفوذ في عملية صنع السياسة الخارجية كالمخابرات العامة ووزارة الخارجية باعتبارهما خطوتين عدائيتين وتنذران بسحب البساط من تحت أقدامهما، ورغم محاولات البعض التهويل في دور عصام الحداد في صنع السياسة الخارجية في هذا العام إلا أن وزير الخارجية نفسه قد رد لاحقا على هذه الافتراضات بأن وجود عصام الحداد كمساعد للعلاقات الخارجية للرئيس السابق محمد مرسي، لم يتعارض مع موقعه كوزير للخارجية، وإن اتصاله كان مع الرئيس السابق بشكل مباشر، أنه لم يكن يسمح لأحد بالتدخل في سياسة مصر الخارجية[33].

وعلى الرغم من محاولات إثبات وجود علاقة سرية بين الإخوان وواشنطن من قبل المعارضة المصرية حينها باستغلال الثناء الأمريكي على دور مصر في وقف العدوان على غزة خلال شهر نوفمبر 2012، أو باستغلال تصريحات هيلاري كلينتون الإيجابية عن تقبل الاخوان المسلمين كشريك في السلطة في مصر فإن هذا الثناء انتهى سريعا مع تعديلات مرسى الدستورية وما أعقبها من أحداث قصر الاتحادية، فلم يحدث أن التقى الرئيس مرسي بأوباما رغم محاولات عدة لترتيب اللقاء، وكان أهم ما شهده ملف العلاقات بين الدولتين اجتماعا تاريخيا يوم 4 ديسمبر 2012 حين اجتمع الرئيس أوباما بالدكتور عصام الحداد مستشار رئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية، ووفقا للبعض كان مثيرا للدهشة صدور بيان غير معتاد من السفارة المصرية في واشنطن تم توزيعه على الصحفيين المصريين يبرز خبر مقابلة الحداد وأوباما[34]

تعززت مساعي عسكرة وزارة الخارجية بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013، بحيث أصبحت وزارة الخارجية مسرحا لتغييرات هيكلية واسعة ففي مطلع عام 2014 بدأت هذه التغييرات بإبعاد جميع السفراء والملحقين والمستشارين الذين تم تعيينهم في عهد الإخوان بعد نشر شائعات عن انتمائهم للجماعة أو تعاطفهم مع ثورة يناير، ثم تفاقمت الظاهرة بتولي الوزير الحالي سامح شكري منصبه والذي قام بعملية إبعاد منظمة وتدريجية للدبلوماسيين والموظفين الإداريين المشكوك في ولائهم للنظام، اعتمدت بشكل أساسي على التحريات الأمنية.[35]

وبدأ استراتيجية تغيير العقيدة المهنية للسلك الدبلوماسي المصري من جذورها، وذلك عبر إخضاع الناجحين الجدد في امتحانات السلك الدبلوماسي والقنصلي بالإضافة للمرشحين للترقيات لتأهيل أمني، يتمثل في إخضاعهم لدورات تأهيل في أكاديمية ناصر العسكرية، وبمعسكرات مغلقة يحاضر فيها مسؤولون بوزارة الدفاع وعدد من الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، لمدة ستة أشهر تشمل شرحا للمفاهيم العسكرية والأمنية المرتبطة بالحرب على الإرهاب وحروب الجيل الرابع وجعل ولائهم للقيادة العسكرية، وهو البرنامج المسمى التأكيد على الهوية الوطنية كما يتضح من دليل معهد الدراسات الدبلوماسية لسنة 2018، وهو البرنامج الذي تفوق عدد ساعاته الدراسية مجموع كافة الساعات الدراسية للبرامج الأخرى التي يقدمها المعهد.[36]

محاولات الانعتاق: الدبلوماسية الشعبية في مواجهة الأمننة أية فعالية

إذا كان البعض يرى أن السياسة الخارجية تتمثل في العمل الحكومي الرسمي من أجل تحقيق المصالح الوطنية والقومية للدول باستخدام مجموعة من الأدوات والآليات لصنع وتنفيذ هذه السياسة وتجسيدها خارج الإطار المكاني لهذه الدول، وأداتها الرئيسية الدبلوماسية باعتبارها أداة سياسية تتصل بعملية صنع السياسة وتنفيذها وتقديم المشورة بشأن السياسات وعملية التمثيل والتفاوض وتقديم الخدمات القنصلية وإعداد التقارير والتحليلات الاستراتيجية لمواقف الأطراف الدولية من التحركات الخارجية للدولة، فإن تطور وسائل تواصل الدول والشعوب وتعقد العلاقات الدولية وتشابك الداخلي والخارجي فرض على الدبلوماسية الرسمية الحاجة إلى أطراف أخرى من أجل تعزيز دورها في تنفيذ السياسة الخارجية وإدارة العلاقات الدولية، ومن هنا ظهرت الدبلوماسية غير الرسمية أو الشعبية أو دبلوماسية المسار الثاني ودبلوماسية المنظمات غير الحكومية، وهي تشمل مجمل التحركات التي يقوم بها فواعل من غير الدول كالشخصيات العامة وناشطي المنظمات والمبادرات غير الحكومية وقيادات الأحزاب وجمعيات رجال الأعمال واتحادات الكتاب والمفكرين ومراكز الفكر والأكاديميين خدمة لأهداف السياسة الخارجية لبلدانهم.[37]

وتمثل الثورات لحظة فارقة لمراجعة أهداف وأدوات السياسة الخارجية ودوائر الحركة والانتماء في المجال الدولي، فالثورات تسعى بشكل أو بآخر لهدم نظام قديم وتأسيس نظام جديد، لكن تشير الدراسات أن النظم الثورية تظل في أحيان كثيرة “حبيسة الماضي وخاصة في مجال السياسة الخارجية في ظل محددات النظام الدولي والوضع الإقليمي والدولي الذي تتحرك فيه الدولة ولا تستطيع تغييره، فضلا عن التزامات النظام السابق القانونية والتحالفات السياسية والعسكرية وعلاقات الصداقة التاريخية، كل ذلك يعطي سياسة الدولة الخارجية بعد الثورة مباشرة قدرا من الاستمرارية لكن الثورات الكبرى الناجحة استطاعت إحداث تغيير قوي في سياستها الخارجية بل والنظام الدولي.[38]

بعد ثورة 25 يناير 2011 بدا أن هناك أفقا لتوسيع دائرة صنع وتنفيذ وتقييم السياسة الخارجية وبدأت في الظهور العديد من الدراسات والأدبيات الناقدة لسياسات النظام السابق وتقزيمه لدور وزارة الخارجية بالتوازي مع تقزيمه لدور مصر الإقليمي، وبدا أن هناك دور شعبي داعم لهذا الدور سواء عبر الدبلوماسية الشعبية المحدودة الممثلة في الوفود التي قام بعضها بالسفر لأثيوبيا في محاولة لحلحلة أزمة العلاقات مع أثيوبيا وفتح صفحة جديدة معها عقب فترة استعلاء مباركي على دول حوض النيل، كان ذلك بعد شهور قليلة من تنحي مبارك حيث زار الوفد الشعبي المكون من رؤساء أحزاب وشخصيات عامة وبعض شباب الثورة أثيوبيا في 29 أبريل .2011[39]

كما زار الوفد الشعبي السودان في 6 مايو 2011 ويبدو أن مستوى من التنسيق بين وفود الدبلوماسية الشعبية الوليدة ووزارة الخارجية بدأ يتبلور سواء بتقديم التقارير الخاصة بالزيارات لوزارة الخارجية أو التنسيق مع الوزارة قبل الزيارات وهو ما ظهر بعيد زيارة أثيوبيا وقبيل زيارة السودان وقد أسفرت هذه الجهود وذلك التنسيق حينها عن قرار البرلمان الإثيوبي تأجيل التصديق على الاتفاقية الإطارية لحوض النيل، المعروفة ب”اتفاقية عنتيبي” لحين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مصر، وأتاح ذلك الفرصة لقيام مجموعة من المهندسين والخبراء المصريين والسودانيين بدراسة مخاطر مشروع سد الألفية الإثيوبي وتقييمه فنيا لمعرفة مدى تأثير إنشائه على مصر.[40]

أيضا نشطت الدبلوماسية البرلمانية خلال أدوار انعقاد البرلمان الأول والأوحد للثورة المصرية الذي تم حله لاحقا، فقد شهدنا تحركات دبلوماسية مكثفة لأول برلمان يعبر عن اختيارات الشعب المصري ومن ثم لجان برلمانية نشطة ولجنة شئون خارجية قوية، تمثل ذلك في النشاط البرلماني المكثف فيما يتعلق بالشئون الخارجية سواء من حيث الدعاوى لمراجعة بعض الاتفاقات الدولية أو متابعة الأموال المصرية المهربة للخارج، تقديم النائب عصام سلطان مشروع قانون لاسترداد هذه الأموال، وتقديم النائب وحيد عبد المجيد بطلب إحاطة لوزير الخارجية يتهم فيه الوزارة بالتراخي في التحرك في هذا الملف.[41]

ويبدو أن الثورة قد انعكست على السياسة الخارجية المصرية وعلى رؤية وزارة الخارجية المصرية لطبيعة العلاقة مع إسرائيل في السنوات الأولي للثورة منذ فبراير 2011 إلى يونيو 2013، قد جاءت تصريحات وزير الخارجية المصري السيد نبيل العربي في ذلك الحين تؤكد التحليل السابق بشأن العلاقات المصرية الإسرائيلية في أكثر من تصريح له بأن بنود كامب ديفيد ليست مقدسة وأنها قابلة للتغيير ولن تعوق دور مصر الإقليمي [42] وهذا يعكس توجها جديدا للسياسة الخارجية المصرية تجاه القضايا الأساسية المطروحة عليها منذ زمن، هذا التوجه يقوم على محاولات إعادة الفهم للاتفاقات الدولية وكذلك التقدير الجيد للمواقف والأوضاع الداخلية والإقليمية مع الالتزام بالاتفاقات الدولية، وربما هذا التوجه لم تتضح ملامحه بشكل كبير للجميع في ذلك الوقت وإن كانت مثل هذه التوجهات تعبر في الأغلب عن وزارة الخارجية كمؤسسة سياسية تسعى لاستعادة دورها الذي سلبته إياها الرئاسة المصرية فيما قبل الثورة لصالح جهاز المخابرات العامة.

لكن التراجع الذي حدث في هذه الرؤية وذلك الدور كان كبيرا ومثل انعكاسا للمناخ السياسي العام حيث انفراد رأس النظام العسكري الحاكم بعملية صنع السياسة الخارجية ومحاولة التغول على وزارة الخارجية في بالاشتراك في تنفيذها حينا وأحيانا أخرى بتدمير علاقات إقليمية بالدعم العسكري المباشر لأطراف ضعيفة وغير قادرة على السيطرة كما في حالة حفتر في ليبيا، أو استضافة أطراف معادية للاتفاقات السياسية التي تمت في دولة جوار حيوي كالسودان إذ يستضيف النظام المصري رموز الحركات المسلحة السودانية الرافضة للاتفاق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، وتحول مصر من داعم للثورات العربية لمخرب لها، كل ذلك سلب وزارة الخارجية أية أدوات للتأثير فيما يفترض أنه دورها الرئيسي، هذا السياق حول الخارجية من الدفاع عن ذاتية المؤسسة في وجه الإخوان المسلمين إلى ذاتية الرئيس نفسه في ظل نظام عسكري تنسحق أمامه أية معاني للمؤسسية، وأصبحت الدبلوماسية الشعبية وأدوات الدبلوماسية العامة المختلفة تدور في فلك النظام الحاكم وتم تقييد حركة الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تقوم بدور حقيقي في الدفاع عن مصالح مصر خارجيا وداخليا.

ويمكن القول أن أنماط محاولات وزارة الخارجية المصرية لتغيير دورها والإسهام في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية المصرية أسفرت عن تغير محدود في السياسة الخارجية المصرية كنتاج لتفاعل عوامل اقتصادية سياسية في فترة المجلس العسكري واستمرار ما يسميه البعض نموذج الاتفاق التابع لمركز النظام الدولي،[43]وذلك باستمرارية التأكيد على التزام النظام الجديد بالوفاء بالالتزامات والاتفاقات الموقعة من قبل النظام السابق مع محدودية رد الفعل تجاه التغيرات الكبرى في المنطقة والمرتبطة بالثورات العربية، ثم في المرحلة التالية في عهد الرئيس مرسي شهدنا محاولة منقوصة من قبل الرئاسة لمأسسة السياسة الخارجية وللخروج من نمط الاتفاق التابع بجهود مكثفة تجاه الأزمة السورية وتطورات الثورة الليبية، وشهدنا تحولا محدودا بحدود تدفق الاستثمارات والمعونات والمنح، باتجاه محاولة لبناء تحالف بديل لتحالفات النظام السابق بالاتجاه لقوى إقليمية في النظام الدولي مثل تركيا وقطر والعراق وليبيا لاعتبارات الاحتياج المحلي لمصادر التمويل الدولية مع اتاحة هذه المحاولة لوزارة الخارجية انتزاع مساحة حركة جيدة في عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية.

عقب إفشال هذه المحاولة شهدنا تراجعا كبيرا لدور وزارة الخارجية حيث تحولت مصر برمتها إلى تبعية شبه مطلقة للأطراف في النظام الإقليمي العربي وليس مركزه أو مركز النظام الدولي بحيث أصبح الموقف المصري بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013، من الأزمات الليبية والسورية واليمنية متوافق إلى حد كبير مع الموقف الإماراتي السعودي ومتوقف عليهما، وهو أمر مفسر باستراتيجية العلاقات الاقتصادية بين مصر وهذه البلدان سواء بعوامل المساعدات الإنمائية أو العمالة المصرية بالخارج أو التبادل التجاري والسياحة، والارتباط الشديد والبنيوي هذا أثر على مسار الثورة برمته إذ صعب مهمة تشكيل تحالف بديل او طمأنة دول الجوار، ومثل ذلك ردة للسياسة الخارجية المصرية باتجاه العودة إلى نمط تطويع السياسية الخارجية المصرية بفجاجة لصالح النفوذ السعودي الإماراتي المتصاعد بقوة في الشرق الأوسط.[44]

خاتمة

إن الثورات بقدر ما تحمل من التحديات للهياكل والمؤسسات والأفكار والتوجهات والممارسات القائمة وقت حدوثها فإنها تحمل العديد من الفرص إذ تعظم الثورات ما يمكن تسميته برأس المال التفاوضي للحكومات ما بعد الثورات، وإذا كانت الثورة المصرية قد خلقت حالة لا يقين بشأن من يقف معها ومن ضدها من القوى الإقليمية فإنها فتحت أفاقا لتغيير شبكة علاقات النظام القديم، لكن هذه الآفاق لم تستغل جيدا ما حول الإطار الإقليمي المضاد للثورات لفاعل كبير في الداخل المصري، استطاع هذا السياق الإقليمي بفوائضه المالية وفي ظل غياب سياسة خارجية تحمي الثورة المصرية أن يساهم بشكل كبير في تغيير النظام السياسي برمته.

السياسة الخارجية سياسة عامة أيضا ولا يصح أن تصبح مجالا خالصا لباحثي ومهتمي أحد فروع العلاقات الدولية فقط، وهي أحد أهم عناصر السياسة العامة للدولة وحماية مصالحها في المجال الإقليمي والدولي، وتتزايد أهمية هذا العنصر بتزايد حركة المواطنين المصريين خارج البلاد وفي بلد كمصر يمثل المقيمين في الخارج قرابة 10% من حجم السكان وهم يعولون قرابة أربعين مليونا في الداخل وتعتمد بشكل كبير على الخارج في إطار النموذج الاقتصادي الرأسمالي العالمي السائد، بصيغة الاتفاق التابع إن عبر استثمارات أو قروض أو منح ومعونات أو تحويلات أو واردات وصادرات، تصبح الدبلوماسية والسياسة الخارجية أهم عناصر الاستقرار السياسي للنظام وأحد أهم أدوات تعبئة الموارد لتحقيق التنمية في كافة المجالات.

لا يمكن التعويل على الدبلوماسية المصرية في خدمة أية أهداف ثورية دون إحداث مراجعة حقيقية لوضع السيطرة العائلية على هذه المؤسسة ودون إحداث تغيير جذري لآليات الدخول إلى السلك الدبلوماسي والقنصلي والترقي داخلهما، وضرورة الإعلاء من قيمة التقارير السياسية والاقتصادية والفنية للدبلوماسيين في الترقية بديلا عن التقارير الأمنية التي تعتمد على التقييم بناء على الولاء للنظام كوسيلة للترقية.

تتمثل الحلول المؤقتة لإصلاح المؤسسة على بعض التدابير العملية كتطعيم المؤسسة بكوادر مؤهلة من خارجها سواء من المتخصصين في السياسة الخارجية أو الهجرة والقضايا الاقتصادية التي تتعلق بالعمالة المصرية في الخارج وآليات تطوير التعامل مع هذه القضايا مع التأكيد على أهمية تدريب هؤلاء لفترة من 6 أشهر إلى سنة قبل تولي مهامهم أو فتح أعمار القبول بالمؤسسة بحيث تسمح لفئات من حاملي شهادات الماجستير والدكتوراه في تخصصات قريبة من عمل وزارة الخارجية بالدخول والمساهمة في تغيير الوضع القائم وتحسين درجات التخصص والمؤسسية وبالتالي تدعيم الدور الفعال للوزارة.

لا يعقل ألا يكون من بين أكثر من 35 وزيرا تعاقبوا على وزارة الخارجية أي وزير متخصص في السياسة الخارجية أو العلاقات الدولية أو حتى العلوم السياسية بشكل عام، ناهيك عن تدهور المستوى الفكري والتعليمي لقيادات الوزارة وقطاعاتها في الفترة الأخيرة وعدم إيلائها الأهمية المناسبة لرفع مستويات تعليم أبنائها بل وتخيير بعضهم بين العمل أو استكمال رسائل الماجستير والدكتوراه في تخصصات لها علاقة بمجال وظيفتهم.

إن الفرص المتاحة لأي تغيير محتمل لأدوار وأدوات الدبلوماسية، يجب أن تأخذ في الاعتبار وضع الدبلوماسية المصرية الحالي في منظومة صنع وتنفيذ السياسة الخارجية باعتبارها مجموعة سكرتارية أو عبيد للمأمور ومنفذين لتوجهات الفرد الحاكم الأوحد مع هامش ذاتية سلبية للمؤسسة باعتبارها جزء من طبقة وشبكة مصالح أكبر، وعليها التفكير من الآن في الفرص الممكنة لتغيير هذا الدور وتوجيهه في الاتجاه الصحيح لتكون مؤسسة دولة قادرة على المساهمة في صنع وتقييم وتقويم ما تنفذه من سياسات، الأمر الذي يخدم المصالح العامة المصرية ويشعر المصريين في الداخل والخارج أن مصالحهم ممثلة فيما يصدر عن هذه المؤسسة من بيانات وأفعال في المجال الدولي.

في التحليل الأخير فإن الأدوات الدبلوماسية لا تعمل في فراغ وإنما ترتبط بالإطار العام الذي توضع فيه السياسة الخارجية وما يسمح به من تأثير للرأي العام والخبراء والعوامل الاقتصادية المحلية قوة وضعفا على عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية ومن ثم لا يمكن تصور مؤسسة قوية لصنع السياسة الخارجية دون إطار من مشروع تنموي حقيقي تنعكس أثاره على الجميع ويعطي نموذجا يمكن تسويقه خارجيا، وبديل ذلك هو استمرار تصدير خطاب الأزمات الممتدة والحرب على الإرهاب والاحتياجات المحلية لتعبئة موارد لمواجهة الأطراف السياسية المناوئة للنظام، حتى ولو كلف ذلك تبعية مفرطة للأطراف وليس لمركز النظم الإقليمية والدولية [45].


الهامش

[1] موقع وزارة الخارجية المصرية، تاريخ إنشاء وزارة الخارجية، http://bit.ly/2On231S

[2] إسماعيل صبري مقلد، السياسة الخارجية: الأصول النظرية والتطبيقات العملية، القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2013، ص100.

[3] بي بي سي عربي، ترامب يقيل وزير خارجيته تيلرسون ويعين بومبيو بديلا له، بتاريخ 13/3/2018، https://www.bbc.com/arabic/world-43388164

[4] محمد الديب، وزارة الخارجية المصرية تحت الاحتلال، السيادة والسياسة والمكانة، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2019، http://bit.ly/2LYNmAq

[5] مكتبة الإسكندرية، الحوادث التي انعكست على الخارجية المصرية، ص 6، http://bit.ly/2ofByAM

[6] صالح عمر، أحمد فراج طابع..أول وزير خارجية لمصر بعد ثورة يوليو.. استقال بسبب «عبد الناصر»، موقع المصريون، بتاريخ 23/7/2017، http://bit.ly/31KRbyK

[7] حسن عصام الدين، ثلاثة وزراء خارجية استقالوا بسبب تقرّب السادات من إسرائيل… ماذا رووا في مذكراتهم؟، موقع رصيف 22، بتاريخ 15/10/2015، http://bit.ly/33dTieM

[8] موقف وزارة الخارجية المصرية من الصراع العربي الإسرائيلي وتطوره خاصة بعد 3 يوليو يحتاج إلى ورقة منفصلة، ربما نعمل عليها مسقبلا إن شاء الله.

[9] للاطلاع على نص قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي رقم 45 لسنة 1982 يمكن زيارة الرابط التالي: http://bit.ly/2AUaN81

[10] يمكن مراجعة موقع التمثيل التجاري المصري، http://www.ecs.gov.eg/EcsOffics

[11] نادية محمود مصطفى، السياسة الخارجية المصرية والثورة: دراسة في تأثير الأبعاد الخارجية 25/1/2011-30/5/2011، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، ص8-9، http://bit.ly/2MkJ7yg

[12] وزير الخارجية: بنود كامب ديفيد قابلة للغيير وإيران ليست عدوا، جريدة الشروق المصرية، عدد 793، الاثنين، 4 /4/ 2011، ص3

[13] مدحت ماهر، السياسة الخارجية المصرية في عام بعد 3/7/2013، في حولية أمتي في العالم، العدد 12 بعنوان عامان على تحولات الثورة المصرية (يونيو 2012-يونيو 2014)، متاح بموقع مركز الحضارة للدراسات السياسية، بتاريخ 7/6/2015، http://bit.ly/2IzXhuo

[14] محمد نابليون، «الشروق» تنشر نصوص تعديلات قانون السلك الدبلوماسي المعروضة على مجلس الدولة، موقع جريدة الشروق بتاريخ 30/8/2016، http://bit.ly/2VzZmMh

[15] الجزيرة مباشر، شاهد: كلاكيت ثالث مرة.. مسؤولون مصريون يحاربون ميكروفون الجزيرة، بتاريخ 5/4/2018، http://bit.ly/2OuePf1

[16] Michael Birnbaum, In Egypt, long road to military coup, July 5, 2013, https://goo.gl/oFyKs8

[17] محمود عبدالرحمن، الخرباوي»: نسعى لمنح «السيسي» شرعية الحرب على الإرهاب، موقع استوديو الدستور، بتاريخ 21/2/2018، https://goo.gl/93zik6

[18] THANASSIS CAMBANIS, Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, Foreign Policy, MAY 22, 2015, https://goo.gl/7dtJMU

[19] عمر سمير، الثورة والسياسة الخارجية المصرية: دراسة في الاقتصاد السياسي الدولي، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2018، صـ205.

[20] العربية نت، السعودية: حزب الله والإخوان وداعش جماعات إرهابية، بتاريخ 7/3/2014، https://goo.gl/MXTpkH

[21] العربية نت، لماذا سحبت دول الخليج الثلاث سفرائها من قطر؟، بتاريخ 5/3/2014، https://goo.gl/MwdNdK

[22] يمكن مشاهدة الحوار الكامل للمشير السيسي في قناة سي بي سي مع الإعلاميين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، بتاريخ 7مايو 2014، والحديث حول المساعدات العربية تحديدا في الدقائق 11-14 بعد الساعة الثانية من الحوار، متاح على موقع يوتيوب على الرابط التالي: https://bit.ly/2Qx2chn

[23] سهام أشطو، المليارات الخليجية: دعم أم تقييد لمصر؟، موقع قناة دويتشه فيلله بالعربي، بتاريخ 6/6/2014، https://goo.gl/6vaid7

[24] محمد نجيب، كنت رئيسا لمصر، القاهرة: المكتب المصري الحديث، ط1، سبتمبر 1984، ص14.

[25] للاطلاع على نص قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي رقم 45 لسنة 1982 يمكن زيارة الرابط التالي: http://bit.ly/2AUaN81

[26] للاطلاع على نص القانون 69 لسنة 2009 الخاص بالسلك الدبلوماسي والقنصلي يمكن زيارة موقع وزارة الخارجية المصرية، http://bit.ly/2ofJSRc

[27] للاطلاع على نص لائحة شروط الخدمة في وظائف السلكين الدبلوماسي والقنصلي يمكن زيارة موقع وزارة الخارجية المصرية، http://bit.ly/2ofJSRc

[28] حسين قاسم، عبدالحميد شتا.. حلم دبلوماسي اغتالته “اللياقة الاجتماعية”، دوت مصر، بتاريخ 6/4/2015، http://bit.ly/2IwdxfH

[29] ففي لبنان تنشر النتائج على موقع مجلس الخدمة المدنية، http://bit.ly/321Jy7l

[30] محمود المملوك، تحقيق صحفي بعنوان “لماذا لا تعلن “الخارجية” نتائج امتحانات “السلك الدبلوماسي”؟”، موقع اليوم السابع، بتاريخ 17/11/2008، http://bit.ly/30USxG7

[31] سمر الجمل، 7 شخصيات من مكتب الإرشاد و«الحرية والعدالة» يمثلون «ثلث» فريق مساعدي ومستشاري الرئيس: «الإخوان» تشارك بـ7 لاعبين فى «فريق مرسى» الرئاسي، موقع جريدة الشروق بتاريخ 28/8/2012، http://bit.ly/35pg2KS

[32] جمال نصار، التجربة السياسية للإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة يناير: الدور والتأثير وآفاق المستقبل، مجلة رؤية تركية، السنة السادسة العدد الأول، صـ149-150، http://bit.ly/2IxHZGl

[33] صفاء صفوت، كامل عمرو: منصب «الحداد» لم يتعارض مع موقعي..ولم أسمح بالتدخل في سياسة مصر، موقع جريدة الشروق، بتاريخ 23/9/2013، https://goo.gl/cRVzr1

[34] محمد المنشاوي، خلفيات لقاء السيسي وأوباما، موقع جريدة الشروق، بتاريخ 26/9/2014، http://bit.ly/2OsmmuR

[35] موقع خطوة، تغيير عقيدة السلك الدبلوماسي المصري وعسكرة تأهيل الملتحقين بالخارجية، بتاريخ 4/8/2017، http://www.5otwaa.net/news/1315

[36] وزارة الخارجية، معهد الدراسات الدبلوماسية، دليل معهد الدراسات الدبلوماسية 2018، ص13 http://bit.ly/35mOKou

[37] منيرة بودردا، دور الدبلوماسية غير الرسمية في تنفيذ السياسة الخارجية، رسالة ماجستير غير منشورة، الجزائر جامعة قسنطينة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2009، ص32-35، http://bit.ly/2VtG3Ei

[38] Fred Halliday, Revolution and World Politics: The Rise and Fall of the Sixth Great Power (Hong Kong: Macmillan Press Ltd., 1999), pp. 140-156.

[39] موقع جريدة المصري اليوم، بمشاركة شباب الثورة: وفد «الدبلوماسية الشعبية» المصري يصل إلى إثيوبيا، بتاريخ 29/4/2011، https://www.almasryalyoum.com/news/details/128534

[40] جمعة عبد الله، وفد «الدبلوماسية الشعبية» يطلع العربي على نتائج رحلة إثيوبيا ويزور الخرطوم الجمعة، موقع جريدة المصري اليوم، بتاريخ 5/5/2011، https://www.almasryalyoum.com/news/details/129839

[41] الجزيرة نت، برلمان مصر يفتح ملف الأموال المنهوبة، بتاريخ 3/2/2012، http://bit.ly/2IC342p

[42] جريدة الشروق المصرية، عدد 793، الاثنين، 4 من أبريل 2011

[43] زينب عبد العظيم، الاقتصاد السياسي لسياسة مصر الخارجية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية 1981-1991، رسالة دكتوراه، القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسيةـ جامعة القاهرة، 1994، منشورة في مركز دراسات الوحدة العربية ط1، 1997.

صـ42-58.

[44] جميل مطر، الثورة المصرية: الخلفيات والبدايات، مجلة المستقبل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 385، صـ86.

[45] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close