ترجمة
خالد أحمد – أحمد مولانا
تمهيد
في إضافة نوعية للمكتبة العربية، يقدم المعهد المصري للدراسات، ترجمة حصرية لدليل الحكومة الأميركية لمكافحة التمرد”، الصادر عام 2009، الذي ساهمت الإدارات والوكالات التالية في صياغة مشروع مسودة دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد: وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وزارة العدل، وزارة الخزانة، وزارة الأمن الداخلي، وزارة الزراعة، وزارة النقل، مكتب مدير المخابرات الوطنية.
وقاد صياغة هذا الدليل مكتب الشؤون (السياسية – العسكرية) بوزارة الخارجية بمساهمة رئيسية من ديفيد كيلكولن (مستشار خاص لوزير الخارجية لمكافحة التمرد)، ومات بورتر (لفتنانت كولونيل في المارينز الملكي بالمملكة المتحدة)، وريت كارلوس بورغوس (كولونيل بالجيش الأمريكي).
وتمت إتاحة الدليل إلكترونيا، عن مكتب الشؤون السياسية العسكرية- يناير 2009، بتوقيع كل من كوندوليزا رايس (وزيرة الخارجية الأميركية) وروبرت غيتس (وزير الدفاع) وهنريتا فور، مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
ونحن في المعهد المصري للدراسات، إذ نقدم هذه الترجمة الحصرية، لهذا العمل المهم والكبير، نؤكد على كامل حقوق الفكرية للجهات الأصلية التي أصدرت التقرير، وكذلك حقوق الملكية الفكرية للنسخة العربية للمعهد المصري، على أن يكون هذا العمل خطوة نحو طريق ممتد لمزيد من الجهود في هذا السياق.
الفصل الثاني: مكونات استراتيجية مكافحة التمرد
لتحقيق الفاعلية يجب ان يتعامل المسئولون المشاركون في حملات مكافحة التمرد مع أمرين ضروريين على قدم المساواة، وهما: العمل السياسي والعمليات الأمنية، مع الاعتراف بأن التمرد هو في جوهره صراع سياسي مسلح وأن العمليات الأمنية الفعالة- وإن لم يكن من المحتمل أن تحقق النجاح بنفسها- هي شرط مسبق لإيجاد حل سياسي.
توفر العمليات الأمنية- التي تجري دعما لاستراتيجية سياسية بالتنسيق مع أنشطة التنمية الاقتصادية، والمتكاملة مع الحملة الإعلامية: الأمن البشري للسكان، وتحسن الوضع السياسي والاقتصادي على الصعيد المحلي. فمن شأن ذلك أن يزيد من قبول المجتمع للحكومة، مما سيزيد من الدعم الشعبي لحملة مكافحة التمرد. ولذلك فإن مهام مكافحة التمرد تشمل مكونات إعلامية وأمنية وسياسية واقتصادية، وكلها مصممة لدعم الهدف العام المتمثل في إنشاء وتعزيز السيطرة على البيئة المحلية، ثم نقل السيطرة إلى سلطات محلية فعالة وشرعية.
ويهدف الرسم في الصفحة السابقة إلى مساعدة صانعي السياسات على تصور تفاعل مكونات مكافحة التمرد من خلال توضيح الوظائف الرئيسية لإطار العمل الشامل لمكافحة التمرد. ويستند هذا النهج إلى النظرية التقليدية لمكافحة التمرد، ولكنه يتضمن أيضا أفضل الممارسات التي برزت من خلال الخبرة المكتسبة عبر العديد من العمليات المعقدة خلال العقود الأخيرة.
فهذا الرسم هو أداة للتصور وليس قالبا للعمل. والمقصود منه أن يوضح لصانعي السياسات ومنفذي البرامج أين تتناسب جهودهم مع استراتيجية أو حملة مكافحة التمرد، بدلا من إخبارهم بما يجب القيام به في حالة معينة (فهي مساعدة للتعاون وليست خطة عملياتية). وترتبط هذه المهام ببعضها البعض في المقام الأول من خلال المعلومات التي تشكل أساس الجهد وتتكامل معه كله، لتحقيق الهدف المشترك للحملة والمتجسد في تحقيق مهمة السيطرة.
المعلومات:
المعلومات هي الأساس لجميع الأنشطة الأخرى، وهي التي توفر الروابط التي تسمح للعناصر الوظيفية المنفصلة أن تتعاون كوحدة متكاملة. ويُعد جمع المعلومات وصياغتها وتخزينها ونشرها أمرا حاسما، لمساهمته في تشكيل الوعي والفهم بطبيعة الصراع لدى جميع الأطراف الفاعلة.
يمكن تقسيم تدفق المعلومات في مكافحة التمرد إلى تلك المعلومات التي نود أن تستوعب من أجل تحديد نهجنا أي المعرفة، والمعلومات التي نود نشرها من أجل التأثير على السكان. وفي الوقت نفسه نهتم بإعاقة تدفق المعلومات للجماعات المتمردة؛ سواء من جهة جمع المعلومات الاستخباراتية أو قدرتهم على التأثير.
المعرفة:
يجب أن تستند القرارات في جميع مستويات مكافحة التمرد، على فهم مفصل وواع ببيئة التمرد. إذ لا يمكن أن تكون استراتيجية مكافحة التمرد أفضل من درجة الفهم الذي تستند عليه. وتشمل المعلومات المطلوبة لتوليد هذا الفهم نطاقا أوسع كثيرا من المواضيع التي تقع عادة تحت كنف الاستخبارات العسكرية.
ففي الحرب التقليدية يحتاج صناع القرار غالبا لمعلومات استخبارية عن العدو، ولكنهم يحتاجون بالمقام الأول في حملة مكافحة التمرد إلى معلومات استخبارية عن السكان. ولذلك يجب أن تتضمن معلومات الاستخبارات الخاصة بمكافحة التمرد الخصائص المميزة للنظم المختلفة في الدولة، بما في ذلك المعارف السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبنية الأساسية والمعلوماتية والبيئية.
على المستوى الاستراتيجي: من المطلوب فهم العوامل السكانية الكامنة خلف التمرد، ومراحل تطوره، والإصلاحات اللازمة لمعالجة أسبابه، ومدى استعداد الحكومة المتضررة وقدرتها على إجراء تلك الإصلاحات وتداعيات التدخل الأجنبي.
على المستوى العملياتي: من المطلوب والضروري فهم نقاط القوة ومواطن الضعف في استراتيجية المتمردين، ونقاط القوة والضعف لدى الحكومة المستهدفة، واحتياجات السكان، وردود الفعل المتواصلة على درجة نجاح الجهود الجارية لمكافحة التمرد.
على المستوى التكتيكي: من المطلوب فهم هوية المتمردين الناشطين وشبكاتهم وخدماتهم اللوجستية وقدراتهم ونواياهم. كما أنه من المفيد جدا أن نفهم آراء واهتمامات المدنيين غير المقاتلين والأمور التي تثير تعاطفهم من أجل التأثير عليهم، واكتساب المزيد من المعلومات الاستخباراتية، وعزل المتمردين.
إن جميع أشكال جمع المعلومات الاستخباراتية لها دور في مكافحة التمرد، ولكن تاريخيا أسهمت المعلومات الاستخباراتية المستقاة من مصادر بشرية (تشمل المدنيين والعملاء والأسرى والمسلحين التائبين) في تحقيق أكبر قدر من النجاح.
أحد أبرز نقاط الضعف الحساسة التي تعاني منها العمليات المشتركة تتمثل في الفشل في إدارة وتبادل الخبرات والمعلومات. وينطبق هذا بصفة خاصة على “مكافحة التمرد” التي يعد خلالها (الأساس المشترك للفهم) بمثابة مفتاح التعاون الفعال.
التأثير: يتطلب العمل الفعال لمكافحة التمرد تشكيل آراء معينة بين العديد من الفئات السكانية المختلفة عبر مجموعة من الرسائل والإجراءات لكل من:
الأمة المتضررة: فإن الهدف الأساسي من التأثير في مكافحة التمرد هو بناء الثقة في الحكومة مع الحد من مصداقية وتأثير المتمردين. لهذا ينبغي أن تدعم جميع الإجراءات والرسائل هذا الهدف.
سكان الولايات المتحدة: عندما تتدخل الولايات المتحدة تدخلا مباشرا لدعم الدولة المتضررة، فإن التكاليف المالية والبشرية غالبا ما تكون مرتفعة وممتدة لفترة طويلة. وبالتالي سيكون التفهم والدعم في الولايات المتحدة أمرا أساسيا إذا ما أريد للأمة أن تظل منخرطة في الصراع لفترة كافية كي تحقق تأثيرا حاسما.
البلدان المجاورة: إذ تعتمد العديد من عمليات التمرد على ملاذات آمنة في البلدان المتاخمة للدولة المتضررة. وقد يُعطي الملاذ عن طيب خاطر، أو قد يكون خارج سيطرة حكومة الجوار، وحتى في الدول غير الديمقراطية والمناطق غير الخاضعة لأي سلطة حكومية، غالبا ما ستظل هناك مزايا تنتج من الجهود المبذولة للتأثير على السكان.
دول التحالف: لأنه تنادرا ما يكون العزم السياسي عبر ائتلاف مكافحة التمرد ثابتا على الدوام. ويجب أن يدرك صناع السياسة في الولايات المتحدة الصعوبات التي سيواجهها بعض أعضاء الائتلاف في الحفاظ على استمرارية الدعم الشعبي لمشاركتهم.
مجتمعات الشتات: كما سبقت مناقشته، يمكن لمجتمعات الشتات أن تلعب دورا هاما في دعم أو مقاومة عمليات التمرد. فالتأثير الإيجابي هنا يمكن أن يدر أرباحا.
إنه من النادر أن يكون الفصل الكامل للرسائل بين هذه المجموعات السكانية المختلفة أمرا ممكنا، ويلزم وجود درجة عالية من التنسيق للسماح بتكييف الرسائل مع الجماهير المختلفة دون تناقض. فيجب أن تستمد استراتيجية التأثير من مجموعة من السرديات الاستراتيجية التي ينبغي أن تُستمد منها جميع الرسائل والإجراءات. وستكون روايات الحكومة المتضررة والدول الداعمة مختلفة ولكنها مكملة لبعضها البعض.
يجب أن تعالج الرسائل والإجراءات: الدوافع الأيديولوجية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية التي تؤثر أو تولد شعورا بالمصلحة والهوية المشتركة بين السكان المتضررين وأصحاب المصلحة الدوليين. وعليهم أيضا أن يواجهوا أيديولوجية المتمردين من أجل تقويض دوافعهم وحرمانهم من الدعم الشعبي والملاذين (المادي والافتراضي). وعند القيام بذلك، ينبغي أن يسعى مكافحو التمرد إلى كشف التناقضات في الدوافع (بين الأيديولوجيات المختلفة أو بين الأيديولوجيا والمصلحة الذاتية) الموجودة داخل صفوف شبكات المتمردين.
كما أنه لتعزيز شرعية الحكومة المتضررة، ينبغي تنسيق الرسائل الموجهة إلى السكان تنسيقا وثيقا مع مسؤولين متخصصين. ويجب أن تكون الموضوعات والرسائل بسيطة لا تُنسى، ويجب أن يتردد صداها بين السكان. وهذا يتطلب فهما تفصيليا لبيئة العمل التي يجب تحديثها باستمرار، ويلزم إجراء تحليل مفصل للجمهور المستهدف من كل مجموعة سكانية على حدة، واعتماد أدوات قياس فعالة وجديرة بالثقة لتقييم مدى نجاح الرسائل، وإعادة تقييمها إن لزم الأمر.
ويتم تسليم الرسائل جزئيا من خلال الأنشطة الإعلامية، وبشكل أكثر عمقا ومصداقية من خلال الآلاف من التداخلات اليومية بين السكان والحكومة وقوات الأمن. فكل عمل في مكافحة التمرد يرسل رسالة، مما يعني أن الكلمات والأفعال يجب أن تكون متزامنة.
إن الرسائل لا ينبغي أن تكون معسولة أو ملفقة، بل يجب أن تستند إلى الحقيقة وتعكس رغبة حقيقية من جانب الحكومة المتضررة في إجراء إصلاحات حقيقية تلبي احتياجات شعبها.
وبما أن الفشل في الوفاء بالوعود عادة ما تكون له نتائج عكسية للغاية، لذا يجب على المسؤولين توخي الحذر في تقديم الوعود، ومتابعة تنفيذ الوعود السابقة بهدف تحقيق أو تجاوز مستوى توقعات السكان.
صراع المعلومات: إن تدفق المعلومات (الاستخبارات والتأثير) مهم للمتمردين كما هو مهم لمكافحة التمرد. فيجب أن تسعى حملة مكافحة التمرد إلى الحد من المعلومات الاستخبارية المتاحة للمتمردين من خلال استخدام التجسس المضاد والخداع، وحيثما أمكن بفصلهم ماديا عن الجماهير. وبالمثل فإن قدرة المتمردين على ممارسة النفوذ يجب أن تقيد بالفصل البدني، وبالمواجهة المسبقة والآنية لرسائلهم.
إنه من الممكن أن تكون أنشطة التأثير (الإجراءات والرسائل) أنشطة استباقية أو مجرد رد فعل. وتوفر الاستباقية مزية ذات تأثير كبير، لأن الانطباع أو التقرير الأول عن الحدث الذي يصل إلى عدد من السكان سينتشر في كثير من الأحيان على نطاق أوسع، وسيكون في وقت لاحق أكثر مقاومة للروايات الأخرى. ويقوم المتمردون الأكثر فاعلية في هذا المجال بتصميم عمليات كاملة لزيادة تأثيراتهم الفكرية. فمكافحة التمرد الناجحة تتطلب نهجا للتأثير مُعد مسبقا، خلاقا وخصبا في ترويج الرسائل.
وما سبق يوضح أن التصدي لرسائل المتمردين يتطلب عنصرا تفاعليا في أنشطتنا التأثيرية. فالسرعة هي جوهر المسألة. وبالتالي كلما طالت مدة إطلاق الرد أو التكذيب أو الرسالة المضادة، كلما أصبحت أقل أهمية وفاعلية. وبشكل تراكمي فبغض النظر عن أيهما كان بطل الرواية (المتمردين أو مكافحي التمرد) فإن الأسرع في معالجة دورة الرسائل ستكون له مزية كبيرة في الفوز بالتأثير.
سيحدث بعض التأخير من قبل مكافحي المتمردين لأنهم في حاجة إلى إجراء تحقيقات حول الأحداث وتقصي الحقائق (وهي عقبة يُعفى منها المتمردون في أغلب الأحيان). وبالرغم من ذلك فإن الرد المتحفظ هو -بوجه عام- أفضل من الصمت. لكن التأخير الناتج من الإجراءات البيروقراطية هو ما يصعب تبريره.
إن حساسية الوقت لعمليات التأثير وتفاعلاتها تتطلب استخدام مكافحي التمرد لتفويض السلطات، والفهم الشامل من قبلهم للوضع، وتوافر درجة من تحمل المخاطر على امتداد سلسلة القيادة في تشابه قوي للمفهوم العسكري لدورة (راقب – وجه – قرر – نفذ) ونظرية النهج الموجه نحو المهمة.
الأمن:
في سيناريوهات مكافحة التمرد كثيرا ما يُستخدم مصطلح الأمن للإشارة إلى درجة تمكن الحكومة من قمع نشاط المتمردين في منطقة ما. ومع ذلك فإن مفهوم الأمن البشري هو مقياس أكثر تعقيدا لا يمكن قياسه إلا من خلال تجميع التصورات الفردية عبر المجتمع. فالشاغل الأهم هو غياب العنف البدني، ولكنه يشمل العوامل الأخرى ذات الصلة كالحفاظ على القوانين وحماية حقوق الإنسان وحرية ممارسة النشاط الاقتصادي والسلامة العامة (الحرائق والإسعاف وما إلى ذلك) والصحة العامة (مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي وما إلى ذلك).
إن التركيز على الأمن المادي ليس بالضرورة مؤشرا على أن المفهوم الأوسع للأمن البشري ليس مهما، بل هو أكثر إلحاحا. وينبغي أن تكون الحالة النهائية لتوفير الأمن البشري داخلة في الجهود الأوسع نطاقا والرامية إلى تحسين مستوى الحكم وصولا إلى المستوى المحلي.
ويجب ألا تقتصر جهود الأمن المادية كثيرا على تعزيز القوات العسكرية وقوات الشرطة في البلد المتضرر. بل ينبغي أن يكون بناء القدرات جزء من عملية أوسع لإصلاح القطاع الأمني، حيث يتم فيها تطوير النظام برمته، فيتضمن ذلك: المؤسسات المدنية التي تشرف على قوات الأمن وأجهزة الاستخبارات والإطار القانوني ومؤسسات العدالة (خدمات الادعاء، والقضاء والسجون) التي تنفذها. ومن المهم بصفة خاصة، أن يمتد الشعور بالمسؤولية والمساءلة المدنية إلى المستوى المحلي وأن يكون جميع عناصر الأجهزة الأمنية محل ثقة لدى السكان.
إن أخذ هذا الرأي الأوسع نطاقا للأمن مفيد جدا للبلدان المشاركة في مكافحة التمرد، لأنه يربط بين الحد من العنف وتحسين العديد من المسائل الأكثر أهمية بالنسبة للسكان. والواقع أن فاعلية إصلاح القطاع الأمني (وخاصة إصلاح قطاع العدالة) قد تعالج العديد من المظالم التي أدت في البداية إلى تأجيج التمرد.
وينبغي أن تجري عملية إصلاح القطاع الأمني بطريقة متوازنة ومتسلسلة بعناية، وإلا فإنها قد تكون ذات عواقب سلبية غير مقصودة. وعلى سبيل المثال: فإن التحسن الكبير في قدرة الشرطة لن يؤدي إلا إلى الفساد إذا ظل النظام القضائي منحرفا بطبيعته ولا يحاكم الأشخاص المعتقلين. وقد يكون هناك ميل للشرطة إلى أن تقيم العدالة بيديها في شكل عمليات قتل خارج نطاق القانون. وبالمثل فإن زيادة القدرات العسكرية والكفاءة قد تزيد من خطر القيام بانقلاب عسكري إذا لم تكن آليات الرقابة المدنية قائمة، إذ يعتبر الجيش الحكومة فاسدة أو غير فعالة. فنقرر مرة أخرى: إن الفهم السليم للسياق أمر بالغ الأهمية.
إنه في العديد من الديمقراطيات المستقرة، تكون القوات العسكرية مسئولة بالدرجة الأولى عن الدفاع ضد التهديدات الخارجية في حين أن الشرطة مسئولة عن الحفاظ على القانون والنظام الداخليين. ومع ذلك، فغالبا ما تنشأ حالات مكافحة التمرد لأن الشرطة غير قادرة على الحفاظ على النظام (سواء أكان ذلك من خلال الافتقار إلى القدرة، أو كان من ضعف الكفاءة، أو الفساد، أو المحاباة) ومن ثم يكون التدخل العسكري ضروريا في أغلب الأحيان.
إن إعادة البناء السريعة لجهاز الشرطة أمر مرغوب فيه للغاية، لأنه يعزز من اعتبار المتمردين كمجرمين بدلا من اعتبارهم كمقاتلين من أجل الحرية، ويُبرز التزام الحكومة بدعم الإطار القانوني في زمن السلم. ومن غير المرغوب فيه أيضا أن يقوم الجيش بدور كبير جدا في تقديم الخدمات المدنية المحلية لأن ذلك قد يخل بتوزيع السلطة داخل الحكومة ويزيد من خطر الانقلاب العسكري.
إن للحكومة الأمريكية قدرة كبيرة من خلال وزارة الدفاع على تطوير القوات العسكرية للدولة المتضررة. لكن قدرة الولايات المتحدة على المساعدة في مجالات أخرى مثل إصلاح القطاع الأمني، محدودة حاليا بسبب ضعف إمكانات الانتشار للمساعدة في أعمال الشرطة والقضاء وصياغة القوانين، وقد تتمكن بلدان أخرى داخل الائتلاف من تقديم مساهمة كبيرة في هذا المجال.
تطرح المناطق غير الآمنة تحديات خاصة أمام العديد من الجهات الفاعلة الأكثر قدرة على معالجة أوجه القصور السياسية والإنمائية، ولكن هذا لا يعني أن ترسيخ الأمن يجب أن ينظر إليه كمقدمة ضرورية للنشاط الاقتصادي والحكم، بل ينبغي تطوير الأمن والجهود الاقتصادية والسياسية في وقت واحد. والمصطلح الشائع “نظف- سيطر- ابن” مفيد جدا، ولكنه ربما يُفسر على أنه تسلسل جامد أكثر من أنه مصطلح نافع جدا وضروري دائما .
الاستراتيجية السياسية
الاستراتيجية السياسية هي المهمة الرئيسية في مكافحة التمرد، لأنها توفر إطارا للمصالحة السياسية والإصلاح والتعبئة الشعبية وبناء القدرات الحكومية، بحيث تنظم حوله جميع البرامج والأنشطة الأخرى. وبصفة عامة فإن التقدم المحرز في حملة مكافحة التمرد يعتمد على الاستراتيجية السياسية التي يدعمها. وإذا كانت الاستراتيجية السياسية غامضة أو غير واقعية أو تفتقر إلى الدعم من أصحاب المصالح المحليين أو الدوليين، فمن غير المحتمل أن تنجح الحملة أيا كانت كفاءة برامجها الفردية.
تركز الاستراتيجية السياسية الفعالة على تعزيز كفاءة الحكومة وقدرتها على الاستجابة – وأن ينظر إليها على أنها تستجيب- لاحتياجات شعبها. وبحكم التعريف، فإن الحكومة التي تواجه التمرد ستتطلب درجة من تعديل السلوك السياسي (الإصلاح السياسي الموضوعي ومكافحة الفساد وتحسين الحكم) من أجل معالجة المظالم التي أدت إلى اندلاع التمرد بنجاح في المقام الأول. وقد تكون الدول الداعمة قادرة على المساعدة في هذه الإصلاحات.
وحيثما تمنع البيئة الأمنية الوكالات المدنية الأمريكية من العمل بحرية، فقد يُطلب من الجيش الأمريكي تقديم دعم واسع النطاق للجهود السياسية والاقتصادية والحكومية. وسيكون هذا هو الحال أثناء مرحلة “فرض السيطرة” في كل حملة من حملات مكافحة التمرد، وفي كثير من الحالات سيكون الوضع كذلك طوال الحملة.
يعتبر التفاوت في قبول المخاطر والاختلال الكبير والدائم في الموارد بين الوكالات المدنية والعسكرية حقيقة من حقائق الحياة التي يجب على المسؤولين وصانعي السياسات التخطيط لها وفقا لذلك.
الوظيفة الاقتصادية والتنموية
تشمل الوظيفة الاقتصادية والإنمائية في مكافحة التمرد: الإغاثة الإنسانية الفورية وتوفير الخدمات الأساسية مثل المياه الآمنة والصرف الصحي والرعاية الصحية الأساسية والمساعدة في سبل كسب العيش والتعليم الابتدائي فضلا عن البرامج طويلة الأجل لتطوير الهياكل الأساسية لدعم الزراعة والصناعة، والأنشطة التعليمية والطبية والتجارية. وتشمل أيضا الجهود الرامية إلى بناء القدرة الاستيعابية للاقتصادات المحلية، وتوليد إيرادات حكومية ومجتمعية من النشاط الاقتصادي (وقد يكون الكثير منها سابقا غير مشروع أو غير رسمي).
قد تكون المساعدة في إدارة الموارد والهياكل الأساسية الفعالة بما في ذلك تشييد البنية التحتية الرئيسية ذات أهمية حاسمة لجهود مكافحة التمرد. ويجب أن تتناسب مع رغبة الحكومة المتضررة في إجراء الإصلاحات الرئيسية، والقدرة على استيعاب الدعم، والقدرة على إدارة نتائجها.
إن المبدأ الأول لمعظم وكالات التنمية يتمثل في ضمان ألا تؤدي أنشطتها إلى أي ضرر، وأن تنمي فوائد مستدامة في المناطق المعنية، وهي تسعى إلى ضمان تحقيق ذلك من خلال تقييم عميق لملابسات الموقف، ثم تطبيق أدوات إدارة البرنامج، كي توفر التقديرات والإصلاحات المطلوبة بشكل مستمر. ويعرض سيناريو “مكافحة التمرد” تحديات خاصة أمام الاضطلاع بالنشاط الاقتصادي والإنمائي. فمثلا:
الأمن: غالبا ما يكون هناك ارتباط جغرافي بين المناطق التي ينشط فيها المتمردون والمناطق الأكثر حاجة إلى التنمية.
وقد يستهدف المتمردون وكالات التنمية والمنظمات غير الحكومية على وجه التحديد، مما يحد من قدرتها على العمل بشكل مستقل ويزيد من اعتمادها على القوات العسكرية للقيام بهذا الدور.
النطاق الزمني: غالبا ما يسعى مكافحو التمرد إلى إحداث تحسن سريع وواضح في نوعية الحياة والفرص الاقتصادية في المناطق التي تنفذ بها عمليات أمنية تهدف لقمع نشاط المتمردين. والغرض هو أن يرى السكان فائدة واضحة من سيطرة الحكومة. لكن المشاريع السريعة الأثر عادة ما تفتقد لعمق التقييم الذي يسبق البرامج المدروسة بروية، وبالتالي فقد تكون أكثر عرضة للعواقب غير المقصودة. كما أنها تعطي إحساسا أقل بالتفاؤل الاقتصادي والالتزام طويل الأجل من جانب الحكومة المتضررة ومؤيديها الدوليين.
المساواة: يمكن للمساعدات الأمريكية أن تؤثر في بعض الأحيان على زعيم محلي أو عنصر سكاني معين. بيد أن تقديم المساعدة إلى أي جزء من السكان يمكن أن ينظر إليه على أنه تفضيلي وتمييزي من جانب جماعات أخرى، وقد يؤدي في الواقع إلى تفاقم التوترات الطائفية أو الإقليمية أو القبلية الكامنة. ويصدق ذلك بوجه خاص عندما تكون التنمية مستهدفة بالفعل من أجل التأثير السياسي.
فمع أن استخدام التنمية لشراء الولاء قد يكون فعالا على الفور في الحد من العنف، إلا أنه على المدى الطويل قد يعزز الفساد، ويقلل من مصداقية الحكومة المتضررة ومؤيديها الدوليين. فينبغي تخصيص موارد التنمية بطريقة متوازنة ويجب ألا يُنظر إليها على أنها مكافأة على السلوك السيئ.
الفساد: إن حاجة مكافحة التمرد لبناء مصداقية وفاعلية الحكومة المتضررة قد تقتضي توجيه موارد التنمية من خلال وزارات الحكومة. بينما تتسم الحكومات التي يندلع ضدها تمرد غالبا بانتشار الفساد داخل أروقتها، وبالتالي قد تعتبر غير صالحة للتعامل مع المساعدات المالية الأمريكية، ولكن تجاوز تلك الوزارات قد يؤدي إلى إضعافها أكثر، لذا ينبغي تنفيذ تدابير وقائية من الفساد في إطار برنامج أوسع لتنمية القدرات البشرية، وإن كانت غالبا ما تستغرق فترة زمنية طويلة كي تصبح فعالة.
الحساسية قد تكون ضرورية في تعريف الفساد في سياق الثقافات الأخرى أو الأعراف المعمول بها، وبالمثل ينبغي اتخاذ قرار بشأن متى أو ما إذا كان ينبغي محاولة التغيير بعناية، وموازنة التأثير من حيث كل من إمكانات النجاح، والنتائج المرجوة.
الرقابة: غالبا ما تقوم المنظمات غير الحكومية بنصيب كبير من النشاط التنموي في سيناريوهات مكافحة التمرد، لكنها لن تهتم دائما بكل شكل من أشكال التوجيه من الدولة المتضررة أو من المسئولين الأمريكيين المتدخلين، وهذا يقلل من قدرة مكافحي التمرد على توقع ومنع العواقب غير المقصودة لنشاط التنمية.
السيطرة:
تسهم الوظائف الأربع (المعلوماتية والسياسية والأمنية والاقتصادية) في تحقيق الهدف العام المتمثل في تمكين الحكومة المتضررة من السيطرة على بيئتها. ويعني ذلك القدرة على احتواء نشاط المتمردين (وتيرة العمليات ومستوى وشدة العنف، ودرجة عدم الاستقرار التي يولدها) بحيث يدعم السكان الحكومة ضد المتمردين على المدى الطويل، مع الإشارة إلى أن هذه المعادلة قد تختلف من مجتمع إلى آخر.
إن التقدم في السيطرة ضمن حملة مكافحة التمرد غالبا ما يتطور عبر ثلاث عمليات متداخلة: البناء والدعم والنقل (أو الانتقال):
1- بناء السيطرة: خلال المراحل الأولية تسعى الحكومة التي تقوم بمكافحة التمرد إلى فرض سيطرتها على البيئة. وهذا يتطلب السيطرة على التضاريس والبنية التحتية الرئيسية، وأصول الإنتاج الاقتصادي، وحركة السكان والموارد وتدفق المعلومات. وفي المراحل الأولى ستكون هناك دائما حاجة إلى اللحاق بالمتمردين الذين اكتسبوا سبق المبادرة، وحققوا دعما شعبيا، وقوضوا الحكومة. ولأن السكان غالبا ما يخشون من المتمردين، فإن استخدام القوة (عمليات الأمن النشطة أو القاتلة لتصفية أو القبض على المتمردين) تمثل سمة هامة من سمات هذه المرحلة من الحملة.
فمن المعتاد أنه عندما يرى السكان المتمردين يخسرون معاركهم ضد الحكومة، ويرون مقتل أو القبض على قادة المتمردين الذين كانوا في الماضي يخوفونهم، فسوف يبدأ دعم السكان يتغير تدريجيا ليصطفوا خلف الحكومة. غير أن فرض السيطرة لا يتطلب الهزيمة العسكرية للمتمردين فحسب، بل يتطلب أيضا تهميشهم سياسيا وتوفير المنافع الاقتصادية والحكومية للسكان من أجل الحد من جاذبية المتمردين.
2-التوطيد: بعد فرض السيطرة في منطقة واحدة، تسعى الحكومة إلى توسيع نطاق سيطرتها وترسيخها (من الناحية الجغرافية والديموغرافية والوظيفية). وهذه المرحلة هي عادة أطول مدة، وتدوم سنين أو حتى عقودا. وفي مكافحة التمرد، فإن السيطرة على التجمعات والمراكز السكانية أكثر أهمية من السيطرة على الأراضي. فيتطلب توطيد السيطرة استبدال شبكات المتمردين بشبكات مؤيدة للحكومة، واستئصال خلايا المتمردين السرية وتفكيك بنيتهم التحتية، والقضاء على هياكل الحكم غير المشروعة، وإزالة النشاط الاقتصادي غير القانوني الذي يدعم المتمردين.
إن المؤشر الرئيسي للنجاح في تلك المرحلة يتمثل في درجة السيطرة الحكومية في كل منطقة وليس في مستوى العنف الذي يمارسه المتمردون، حيث إن درجة العنف تنخفض غالبا في مناطق سيطرة الطرفين، وتزداد في المناطق المتنازع عليها.
هذه المرحلة تنطوي على تدخل عسكري لكنه أقل كثيرا مما كان في المرحلة الأولى، فالجيش يتابع بدون تدخل في حين أن الشرطة والاستخبارات والحوكمة والمعلومات والبرامج الاقتصادية تتولى زمام المبادرة، بالتوازي مع عمل القادة السياسيين على حل المظالم الرئيسية وحشد الدعم الشعبي لإنهاء التمرد.
وكثيرا ما تندلع في هذه المرحلة أعمال عنف من قبل المتمردين، أو يقومون بعمل استفزازات واسعة النطاق، أو يرتكبون فظائع، تهدف إلى عرقلة توطيد سيطرة الحكومة. وبالتالي فإن المسرح بأكمله (أو أجزاء منه، مما سبق أن تم تطهيرها بالفعل) قد تسقط مجددا تحت سيطرة المتمردين.
يجب أن تدار عملية التوطيد بعناية للاحتراز من البطء الشديد (والذي يؤدي إلى الإحباط الشعبي وسقوط المناطق الرئيسية في يد المتمردين) أو التقدم بسرعة كبيرة (والذي يؤدي إلى إرسال قوات أمن محلية غير ملائمة في مرحلة مبكرة أو اعلان مرحلة انتقالية مبكرة قبل أن تتم السيطرة بالكامل).
وفي الحملات الأميركية لمكافحة التمرد، ينبغي تحقيق التوازن بين ميل المسئولين إلى تسليم السلطة لقيادة محلية منتخبة، وبين احتياجات السيطرة على المنطقة حتى يتمكن هؤلاء القادة من مباشرة مسئولياتهم وفق منظومة عمل مستقرة.
3-انتقال السلطة: يستخدم مصطلح (انتقال السلطة) لوصف كل من: نقل السلطة من الدولة المتدخلة إلى الدولة المضيفة، وأيضا تسليم السلطة من القوات العسكرية الوطنية إلى السلطة المدنية المحلية (وهي خطوة أساسية في تطبيع البيئة وإنهاء التمرد). وعلى الرغم من أن المرحلة الانتقالية قد وُصفت أخيرا في هذا التسلسل النظري، فإن الانتقال يحدث في جميع مراحل الحملة، حيث تصبح للهياكل المدنية للسكان المحليين شرعية وفاعلية ومصداقية كافية.
وفي التدخل سيعتمد الجدول الزمني الخاص باستراتيجية انسحاب القوة الخارجية اعتمادا كليا تقريبا على المعدل الذي تُبنى من خلاله القدرات المحلية، وإبرازها على أنها فعالة تحوز المشروعية. وهذا يتطلب قدرا كبيرا من الوقت والموارد ويجب التخطيط له بعناية منذ البداية، كما يتطلب نمط وتسلسل هذه العملية بصيرة كبيرة، وهي من أصعب القرارات التي يتعين على المسؤولين توجيه حملة مكافحة التمرد للقيام بها. ومن أمثلة ذلك حملات مكافحة التمرد التي أتاحت خلالها التقديرات السيئة (أو عمليات الانتقال المتسرعة) الفرصة لعودة المتمردين. وعلى النقيض من ذلك، فإن الانتقال البطيء جدا قد يصعب من القدرة على إدراك دلائل التقدم الملموسة مما يؤدي إلى فقدان الدعم السياسي المحلي للحملة. كما أنه يخاطر بخلق ثقافة تبعية تتضاءل عبرها الرغبة في الحكم الذاتي.
العلاقة بين المهام: إن الحفاظ على توازن رشيق ومرن بين المهام الرئيسية لمكافحة التمرد أمر صعب ولكنه مهم للغاية. فعلى سبيل المثال يمكن لبرامج المساعدة الاقتصادية ذات الوجود الأمني غير الكافي أن تخلق ببساطة مجموعة من الأهداف الرخوة للمتمردين. كما يمكن للمساعدة الأمنية في غياب القيادة السياسية الكفؤة والرقابة أن تتسبب في نشوء جماعات خارجة عن سيطرة الحكومة أكثر قوة وتسليحا. وعلاوة على ذلك، ففي حين أن العمل قد يقع ضمن مهمة واحدة، فإنه غالبا ما تكون له آثار فورية على المهام الأخرى. فيجب إدماج الجهود لأن من المستحيل الفصل بين آثارها وكثيرا ما تكون مكملة لبعضها البعض. ويتطلب الحفاظ على التوازن بين المهام نظاما متكاملا لإدارة النزاعات (يمكن أن يستند إلى نظام لجان مشتركة أو نموذج قيادة متكامل، أو تحالف استشاري أو مجموعة من التدابير) التي تشكل الاستراتيجية الشاملة لمكافحة التمرد، وتنسق أنشطة الوكالات الرئيسية (المدنية والعسكرية والدولة المتضررة، والخارج / والائتلاف).3 .
————
الهامش
1 – المقصود أن ضعف القدرة الأمريكية على إصلاح القطاع الأمني ناجم عن النقص في الموارد من قبيل ضعف الكفاءات البشرية.
2 – أي قد يظنه البعض معبرا عن التسلسل الزمنى بينما في الحالة أعلاه يمكن تنفيذه بشكل متزامن.
3 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات